أنماط الاعتقال السورية من وجهة نظر الأهالي


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4634 - 2014 / 11 / 15 - 13:19
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

تجارب السورريين في الاعتقال والتغييب كبيرة وممتدة على جيلين، بما يكفي لمحاولة تصنيفها، ولاستخلاص دلالات سياسية منها، ولأصدار حكم أخلاقي بشأنها. يعتمد التصنيف المقدم هنا على موقع ذوي المعتقلين ومعرفتهم بمصير أحبابهم المغيبين.
ولا ريب أن من شأن تجميع منظّم للمعلومات وتحليلها أن يؤسس لتصنيف أدق من هذا التصنيف الأولي، المعتمد على الخبرة الشخصية.
نمط الاعتقال الأول هو التوقيف من قبل جهة معلومة والحجز في مكان معلوم، أو يُعلم بعد وقت قصير، مع إمكانية مبدئية لزيارة الأهالي للمعتقلين، لكن دون إجراءات قضائية فورية تتلو الاعتقال. كان هذا حال المعتقلين اليساريين في سنوات حكم حافظ الأسد. اقترن نمط الاعتقال هذا بالتعذيب التحقيقي، وبدرجة أقل بالتعذيب العقابي بعد التحقيق. لكن المجهول الكبير هنا هو موعد الإفراج عن المعتقلين، إذ يمكن أن يطول أمد البقاء في السجن سنوات طويلة، أكثر من أحد عشر عاما في حالتي الشخصية بين كثيرين آخرين. وهو ما يجعل الاعتقال جريمة بحق الأهالي، وليس بحق المعتقلين وحدهم. جريمة لأن المعنيين دون استثناء لم يرتكبوا جرما يُحبسون عليهم عاما واحدا. من اعتقلوا بعد إحالتنا إلى محكمة أمن الدولة في ربيع 1992 مثلوا بعد وقت قصير أمام تلك امحكم الاستثنائية. هذا بالطبع يخفف من قلق الأهالي. لكن كان شائعا ألا يفرج عن المعتقل عند إنهاء سنوات حكمه.
يتمثل النمط الثاني في الاعتقال من جهة معلومة، ويكون المعتقلون في مكان معلوم أو غير معلوم، ودون إمكانية الزيارة. هذا كان حال المعتقلين الإسلاميين في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته. اقترن هذا النمط بالتعذيب التحقيقي الأشد، وبالتعذيب الانتقامي المستمر طوال سنوات الاعتقال التي امتدت أحيانا عشرين عاما أو أكثر. والعذاب النفسي للأسر ليس أقل. وقد وقع من بين معتقلي الإسلاميين الألوف قتلى، إن من جراء المرض والتعذيب، أو لأنهم أعدموا، وهذ دون إعلام أسرهم في كل حال، ودون تسوية ما يترتب على ذلك من مسائل قانونية واجتماعية.
ثالث أنماط الاعتقال تقوم به جهة غير معلومة، لكنها عامة، "الدولة"، ويُحتجز المعتقلون في مكان غير معلوم، ودون إمكانية الزيارة. هذا ينطبق على أكثر معتقلي الثورة منذ ربيع 2011. لا يعرف الأهالي الجهاز الأمني أو الميليشياوي الذي اعتقل فردا أو أفرادا من الأسرة، وقد يطرقون أبواب أجهزة متنوعة، تنكر كلها وجودهم عندها. كان مثل هذا يحصل في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته حتى بخصوص المعتقلين اليساريين، لكن كان ينجلي الأمر عموما بعد وقت لا يطول كثيرا.
اليوم، أثناء الثورة لا يُعرف مكان اعتقال أكثر المعتقلين، وليس دائما تعرف بالضبط الجهة التي اعتقلتهم. منهم مثلا الطبيب محمد عرب المعتقل منذ ثلاث سنوات، وعبد العزيز الخير ورفيقيه منذ أكثر من عامين، وفائق المير وجهاد أسعد محمد منذ أكثر من عام، وناصر بندق المعتقل في شباط من هذا العام، وغيرهم كثيرين. وكان هذا حال وائل حمادة وقت اعتقاله من قبل جهاز المخابرات الجوية عام 2011.
المشترك في الأنماط الثلاثة السابقة أن النظام هو فاعل الاعتقال، وإن لم يكن معلوما دوما أي وكالات من وكالاته القمعية هي الفاعل المباشر.
بعد الثورة السورية وخروج مواقع من سيطرة النظام، انكسر احتكار النظام للعنف والسلاح، وظهرت أشكال جديدة من الاعتقال ومن فاعليه.
ونميز هنا أيضا بين ثلاثة أنماط أو أربعة. أولها، اعتقال تقوم به جهة معلومة، تشكيل عسكري أو "قضائي" ("هيئات شرعية")، قلما يحوز استقلالا فعليا عن التشكيلات العسكرية، ويكون المعتقلون في مكان معلوم من قبل الإهالي، مع إمكانية الزيارة. ويتعلق الأمر غالبا بموقوفين جنائيين. ولا نعلم مثالا واحد عن معتقلين لأسباب سياسية عند أي من السلطات الكثيرة القائمة اليوم في الأرض السورية، تتيح لهم الزيارة والدفاع القانوني المستقل.
ثانيا، هناك حالات تكون الجهة الخاطفة معلومة، ولا يندر أن تقود ضغوط، مسلحة أحيانا، أو وساطات أو مفاوضات، إلى الإفراج عن المخطوفين بعد حين يطول أو يقصر. هناك غير حالة معلومة في هذا الشأن في الغوطة الشرقية.
وكيان داعش طليعي في هذا الصنف من الجرائم، لكن لا يعلم مكان المعتقلين، ولا تتاح الزيارات لأهاليهم، ولا تتوفر عن أوضاعهم ومصيرهم أية معلومات. هذا حال عبدالله الخليل وفراس الحاج صالح وابرهيم الغازي والأب باولو دالوليو ومحمد نور مطر واسماعيل الحامض وغيرهم كثيرين.
على أن أشهر أنماط الاعتقال هنا هو الخطف من جهة غير معلومة (لا تعلن مسؤوليتها عن الفعل)، وتحبس المخطوفين في مكان غير معلوم، دون إتاحة معلومات عن المختطفين. هذا حال سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي المختطفين منذ أكثر من 11 شهرا في دوما في الغوطة الشرقية. وهذه جريمة بحق أهالي المخطوفين بقدر ما هي جريمة بحق المخطوفين أنفسهم. وهي من جهة ثانية جريمة مستمرة ومتجددة كل يوم من حيث أننا، ذوي المخطوفتين والمخطوفين، لا نعلم شيئا عن مصيرهم. لدينا ترجيحات قوية، بل قطعية، عن الجناة، لكن هؤلاء مستمرون في الإنكار والتعتيم التام.
ونستخلص من هذا العرض الوجيز ثلاثة نتائج.
أولا، بما أننا عشنا مع الاعتقال والتعذيب والتغييب طويلا، وتشكلت من هذه التجارب حياة وموت جيلين منا، فلعله ليس هناك حقول للمعرفة أولى بالاهتمام لدينا من "علوم" السجن والتعذيب والخطف والقتل (في شأن القتل، أحيل إلى مقالتي: أنماط الموت السورية، مصنفة حسب القاتلين: http://therepublicgs.net/32725)، أعني التفكير في هذه القضايا ببنيتها الخاصة، وبدلالاتها الاجتماعية والسياسية، والفكرية، وليس فقط من زاوية حقوقية.
وفي المقام الثاني نلحظ أن انكسار احتكار "الدولة" للعنف يمكن أن يكون ثوريا، وقد كان لبعض الوقت في سورية، وعلامته توجيه السلاح حصرا ضد النظام المعتدي ولمصلحة المجتمع الثائر، ويمكنه أن يكون لا ثوريا أو تدميريا، ويغلب أن يكون كذلك حاليا، حيث العنف موجه ضد المجتمع أساساً. وما يفتح أبوابا لتفكير أكثر جذرية أن عنف "الدولة" لم يكن يوما عنفا عاما، مجردا عن حيثيات المعنّفين ومنضبطا بقواعد عامة. لقد كان عنفا ملموسا، انتقاميا، ممتزجا بالكراهية، وطائفيا في الغالب.
وأخيرا، ليست قضايا الخطف والتعذيب والاعتقال والقتل قضايا سياسية عادية، نتناولها سريعا ونستخلص منها بعض الدلالات، ثم نمضي لشأن آخر. إنها مؤشرات حاسمة على أننا نوغل في الهمجية، وبتسهيل إقليمي وعالمي، وشراكة إقليمية عالمية. ومن هذا الباب تقول هذه القضايا شيئا سيئا عن سورية، وتقول شيئا بالسوء نفسه عن العالم.