إرهاب أعمى، ومحاربة إرهاب حولاء!


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4592 - 2014 / 10 / 3 - 13:27
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

في الأشهر الباكرة للثورة السورية، كان متواترا أن يأخذ معارضون ومستقلون على النظام اعتماد "الحل الأمني" في مواجهة الاحتجاجات الشعبية السلمية المتسعة. يتضمن هذا النقد الصائب أنه لا يمكن لحل مثمر للمشكلات السورية إلا أن يكون سياسيا، مبنيا على إعادة نظر واسعة في بنية النظام السياسي وصيغ توزيع السلطة والثروة في البلد. مثل ذلك يمكن قوله اليوم عن حملة الأميركيين وحلفاء لهم على داعش. يستثمر الأميركيون في فائض قوتهم، فلا يشعرون بضرورة معالجة الجذور السياسية والاجتماعية التي تولدت عنها داعش، ولا يعملون على إدراج هذه المواجهة في إطار استراتيجية أوسع، تساعد في فتح أفق مغاير للسوريين بعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف من الصراع.
السيد أوباما يساعد نفسه في عدم الفهم والفشل في بلورة سياسة ملائمة حين يسهب في الكلام على صراع سني شيعي، يبدو له من طبائع الأمور، بدل الكلام على صراع اجتماعي وسياسي في سورية، وعلى أوضاع استئنائية في لاعدالتها في البلد وفي الإقليم ككل، وعلى نظام إرهابي دعا حلفاءه الطائفيين لمشاركته قتل محكوميه.
يجردنا هذا الرجل القوي من قضية عادلة، من كل ما يتصل بالعدالة والحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، حين ينسب صراعنا إلى تخاصم مذهبي قديم لا معنى له. الواقع أن ما هو قديم ولا معنى له هو مناهج تفكير المؤسسة الأميركية، ومنها منهج "إدارة الأزمات" الذي يفترض أننا، في "الشرق الأوسط"، أولاد أشقياء وغير عقلانيين، نتقاتل لأسباب تافهة وغير عقلانية، تخلو من أبعاد قيمية وأخلاقية، وغاية ما يُطلَب، تاليا، هو وقف القتال واستعادة الاستقرار على يد جهة قوية ما، حاكم عسكري أو عصبية نافذة، تنالان دعم "الغرب".
لكن هذا المنهج اللاأخلاقي هي أحد جذور صعود العدمية في منطقتنا. يسحب الناس ثقتهم من العالم، ويتطلعون إلى تدميره، حين يجدون من يتكلمون على القانون والاعتدال والعدالة في العالم متطرفون وأنانيون ومتسلطون. داعش نتاج لعالم غير عادل، بقدر ما هي نتاج اللاعدل المحلي (ونتاج مرض في الإسلام فاقمته هذه الأوضاع المديدة غير العادلة). إنها وجه الجنون في مجتمعات معنّفة ومشوشة المدارك.
ولذلك فإن معالجة ناجعة توجب، فضلا عن مواجهة العصبة المجرمة بالقوة، طي صفحة الأوضاع الخارقة في لا عدالتها في البلد، متمثلة بالحكم الأسدي (ومعالجة مرض الإسلام).
أنحدر من مدينة الرقة التي تسيطر عليها المنظمة الإرهبية، ولم أسمع أحدا يأسف على تعرض مراكزها للقصف الأميركي، لكن لم أسمع أحدا أيضا لا يتعجب من مواجهة تنظيم إرهابي فاشي قتل الألوف ويعتقل الألوف، والسكوت على نظام إرهابي فاشي قتل أو تسبب في قتل فوق 200 ألفا من السوريين، وفي تهجير نصف محكوميه (فوق 10 ملايين) من ديارهم، منهم فوق 3 ملايين خارج البلد، وقصفهم بالسلاح الكيماوي مرارا، وقتل منهم 1466 في ليلة واحدة، ولديه صناعة قتل منظمة في "غولاغاته"، يحتمل أن أكثر من 15 الفا كانوا ضحاياها حتى اليوم (11 ألفا حتى آب 2013). يصدر التعجب عن "ازدواج المعايير"، لكنه يترافق مع الخشية من انتشار أوسع للمزاج العدمي الذي تتولد عنه داعش وأشباهها، وتاليا تعزيز الداعشية في البيئات السنية السورية التي تعرضت لعدوان مستمر خلال 42 شهرا، من وراء تقليم أغصان شجرة داعش بتكنولوجيا الحرب الأميركية المتفوقة.
عبر هذا النهج الذي يرى بعين واحدة، يحصد الأميركيون داعش بأسلحتهم، لكنهم يزرعون الداعشية بسياساتهم.
تعزز الحملة الأميركية التي تستهدف حصرا المناطق التي لم يتوقف النظام عن قصفها المزاج الطائفي السني أيضا. لا يزال الأميركيون يعتبرون حزب الله اللبناني منظمة إرهابية، وهو متدخل علانية في سورية منذ عام ونصف على الأقل، فكيف، باسم مواجهة الإرهاب، يواجه تشكيل إرهابي ويُسكت على آخر؟ هل يخوض الأميركيون حربا أخرى لمصلحة إيران؟
ثم أن استهداف "جبهة النصرة" في الحملة مناسب جدا لداعش وللنظام، ويضعف التمايز النسبي الذي أظهرته النصرة لمصلحة تشكيل داعش المفطر التطرف.
ومنذ الآن أسكتت الحملة الأميركية الأصوات الإسلامية المعادية لداعش، وحتى أصواتا علمانية، وأدانت الحملة مجموعات عسكرية كانت قبل قليل تواجه داعش عسكريا. لا أحد يريد أن يكون في صف حملة تتجاهل الإرهابي الأساسي.
ما يفعله الأميركيون وأتباعهم في الحملة الراهنة هو إلحاق القضية السورية، وهي في الأصل صراع ضد الطغيان وتطلع إلى الحرية، بـ"الحرب على الإرهاب". ما يعني جعل تطلع السوريين إلى التخلص من نظام قاتل بندا ثانويا على أجندة يتحكم بها الأميركيون. فوق أن هذا غير عادل وغير إنساني، فإنه ليس في سجل "الحرب على الإرهاب" غير تحطيم بلدين أو ثلاثة حتى اليوم. لا شيء يشجع على التقليد.
لا يغير من ذلك تدريب الأميركيين لمقالتين سوريين "معتدلين" لمواجهة داعش. هذا ينزع من السوريين قضيتهم الأصلية، استعادة ملكية وطنهم من سلالة قاتلة دعت محتلين إجانب لحماية حكمها، ويصنع أتباع لأميركا يتبعون أجندة متمركزة حول حاجاتها وليس بحال حول حاجاتنا السورية.
والأرجح أن بشار الذي يجهد نفسه منذ نحو شهرين لقصف مناطق تسيطر عليها داعش، قاتلا كثيرا من المدنيين، بأمل أن يلحقه الأميركيون بحربهم، مزدوج المشاعر حيال هذه الحرب: فهو القاتل المتمرس الذي يستهدف الأقوياء قاتلا أقل شأنا وأحدث ظهورا منه، وهذا خبر طيب له؛ لكنه ربما يخشى أن يشفع الأميركيون، وقد صاروا اللاعب الأكبر في سورية، حربهم يوما بشيء سياسي، وأن يكون رأسه هو هذا الشيء السياسي. الرجل الذي جمع بين تفاهة لا تحد وشر لا يحد مستعد لكل شيء من أجل رضا الأقوياء. وليس في تاريخ الأقوياء المعاصر ما يشجع المرء على الأمل بأنهم لن يعيدوا تأهيل قاتل عام، أو يمنحونه الحصانة على طريقة علي عبدالله صالح في اليمن كي يكف عن قتل المزيد.
بعد هجمات 11 أيلول الإرهابية في أميركا ميز أسامة بن لادن بين إرهاب محمود تماسه منظمته وإرهاب مذموم يرفضه. يبدو أن الأميركيين أيضا يميزون بين إرهاب مذموم قتل موطنين أميركيين، وإرهاب ليس مذموم كثيرا، إن لم يكن محمودا، قتل 200 ألف سوري! فإذا كان إرهاب داعش أعمى، فإن محاربة الأميركيين وأتباعهم للإرهاب حولاء في أحسن تقدير.
طوال ثلاثة سنوات ونصف، ونحن في سورية ننظر إلى سياسة الأميركيين حيال بلدنا بذهول، محتارين بأي الصفتين هي أجدر: غبية أم شريرة؟ أم بهما معا؟
متهافتة في كل حال.
لقد أضعفت هذه السياسة على الدوام الثقة بمبادئ الديمقراطية والحرية والمساواة، والمجموعات المعتنقة لها، وذلك لمصلحة طغم إجرامية أو إسلاميين متشددين.
تواجهنا ثلاثة قوى باطشة، نظام الإرهاب الأسدي والإسلاميون المتشددون والأميركيون المتعجرفون، ونُسأل: لماذا أنتم ضعفاء؟!