نظرة إلى اقتصاديات السياسة والحرب والعمل العام


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4439 - 2014 / 4 / 30 - 15:02
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

قبل الثورة كان النظام الأسدي يتحكم بالمواد السورية العامة، وبعدها صار يتلقى دعما ماليا من إيران والعراق يغذي به آلة حربه، فضلا عن الدعم العسكري الروسي. وربما كان الإسلاميون يمولون أنشطتهم من مشاريع خاصة، أكثر من تلقيهم عم قوى إقليمية، لكنهم اليوم طيف متنوع ومتنازع، تمول مجموعاته نفسها من قوى إقليمية وممولين خواص إقليميين (شبكات خليجية أساسا)، ومن استيلاء جهاديين بينهم على موارد عامة في عام 2013. بالمقابل، اليوم كما أمس يفتقر طيف مجموعات المعارضة غير الإسلامية إلى أية موارد مالية مهمة، تمكنه من القيام بعمله على نحو ملائم.
كان شح الموارد المالية مشكلة مُقعِدة للمعارضين اليساريين أيام حافظ الأسد، إلى درجة أنه حتى المعوزين من المعتقلين السياسيين قلما تلقوا هم أو أسرهم دعما ماليا يعيلهم في ظروف صعبة. ولم يتغير الأمر في سنوات الابن، وإن تكن شرائح أعلى قليلا (مثقفون، طبقة وسطى تجارية، أصحاب مهن علمية) دخلت ميدان العمل العام، وتقدر على العموم على إعالة نفسها، لكن ليس إلى حد تأمين الكفاية لكادر عمل عام أوسع.
تفجرت المشكلة مع الثورة، واضطرار ألوف أو أكثر من الطيف المعارض غير الإسلامي إلى الخروج من البلد. كيف يعيش هؤلاء في غياب موارد مالية خاصة بهم؟ يتدبر قلة منهم أعمالا يعيشون منها محافظين على استقلاليتهم، لكن قطاعا غير قليل منهم ينال دخلا من العمل في هيئات المعارضة السياسية التي لا تمول نفسها بنفسها، بل تتلقى المال من جهات إقليمية ودولية، وقطاع آخر من العمل في منظمات غير حكومية متنوعة جدا، غربية في أكثرها. والمشكلة في الحالين هي الانفصال الشاسع لهؤلاء الناشطين العامين عن عالم العمل والإنتاج، وعدم تحكمهم بشيء من عملية إنتاج وتوزيع الموارد التي يعتاشون منها. التحكم يقع بيد الطرف الداعم، ولهذا اعتباراته السياسية المتغيرة.
يشغل أصحابنا موقعا طرفيا كمستفدين أخيرين من سلسلة من العمليات الاقتصادية لا نفاذ لهم إلى أي من حلقاتها السابقة. يجري "الوحي" بالمال من "غيب" محجوب، ومن المشكوك فيه أن يسائل الموحى إليهم هذا الغيب عن حركة أمواله. موقعهم الطرفي لا يؤهلهم لذلك. ولهذا المال تأثير ريعي مخرب، من حيث ما يميز الدخول الريعية من انفصال القيم المادية عن القيم المعنوية، وما يتصل بالمسؤولية واحترام العمل والترابط بين الجهد والدخل، وبين الكفاءة والمكافأة، ومن حيث أن الناس يغيرون أنفسهم وفي علمية الإنتاج التي يغيرون فيها الأشياء، فيما تؤدي المداخيل الريعية إلى ركود النفوس وتعفِّنها.
وليس المهم أن يكون للجهات الممولة أجندات خاصة بها، إذ يتواتر ألا يكون لها من أجندة غير تعميم نموذجها، أو إعادة نسخ نفسها في عادات وتوقعات المتعاونين معها، المهم ما يخلقه تلقي هذا المال الموحى به من سلبية واعتماد، وفقدان للاستقلال السياسي والفكري. لا يأخذ ذلك بالضرورة شكل تبعية مباشرة، لكن قد يأخذ شكل عطالة عن التفكير، وفقدان الحرية الداخلية والقدرة على المبادرة، والتصرف على نحو محافظ جدا بما لا يشوش على الوضع الذي تكون الموارد المالية مضمونة فيه.
وغير تضيق هامش الاستقلالية يفسر عدم التحكم بالموارد المالية الواقع الملاحظ مرار وتكرارا، المتمثل في تشتت طيف المعارضة غير الإسلامية، وتعذر تشكيلها لقطب سياسي مؤثر. فإذ هي لا تعتمد على موارد ذاتية، ولا تسيطر على شيء من عمليات تحريك الموارد التي تستفيد منها، فإن مجموعاتها المختلفة تتحرك في مدارات متباعدة. حتى واقع أننا لا نستطيع تعريفها إلا بالسلب، معارضة لا إسلامية، يشير إلى تآكل في الهوية والدور والاستقلالية، يتغذى بقدر كبير من عيشها على موارد من غيرها. وهو ما أظهره للعيان وفاقمه شرط الشتات الراهن.
قد يظهر تشتت هذا الطيف اللاإسلامي في صورة تباينات إيديولوجية نابذة أو خصومات سياسية، لكنه في الجذر يحيل إلى مواقع منفعلة في الطرف الأقصى، المستهلك، من سلاسل اقتصادية لأطراف مختلفة. الانقسامات التي لا تنتهي في بيئة المعارضة السورية غير الإسلامية، وتلفيع هذه الانقسامات باعتبارات عامة مجردة، يحيلان بصورة أساسية إلى موقع المعارضة السلبي من حركة الموارد المادية. بالعكس، كلما كان الناس أكثر قربا من عمليات الإنتاح المادية وأكثر تحكما بها، طوروا مقاربات فكرية وسياسية أقل مثالية، وأكثر عملية. الريع، عقاريا كان أم استخراجيا، يتوافق مع مثاليات دينية ودنيوية. ولعل ما يشبه ذك ينطبق على حال الطيف الإسلامي المتسع اليوم، فضعف التحكم بالموارد وتعدد الجهات الداعمة ربما يلقي ضواء على تخاصم بعض مجموعات الإسلاميين فيما بينها، وتكفيرها لبعضها، وصولا إلى الحرب فيما بينها.
وإذا كان يقال أحيانا إن هناك مجموعات مقاتلة تحافظ على مواقع للنظام حولها كي تستمر في قتالها وطلب دعم من جهات مانحة، فهذا يلقي ضوءا على تحول الصالاع إلى "بزنس" مُجزٍ، بما يتسبب في تطاول الصراع وجعله ممتنعا على الحسم. وإذ يستمر النظام في حربه اعتمادا على مال إيراني وعراقي، وعلى سلاح روسي، وعلى مقاتلين إيرانين ولبنانيين وعراقيين وغيرهم، فمن أين سيشعر بالضرورة الاقتصادية والبشرية للتسوية و"الحل السياسي"؟ يستطيع أن يحارب سنوات تطول، ما دام وقود حربه يأتيه من الخارج. بل إن له ميزة واقعية في هذا الشأن، وهي أن الجهات الداعمة له موحدة المسعى، خلافا لحال داعمي أية أطراف منازعة له. ثم إذا كان هناك من يتلقون رواتب شهررية بألوف الدولارات في إطار "الإئتلاف" وغيره، أو على هوامش الثورة والصراع السوري، فكيف سيعملون على تغير هذا الوضع أو تقصير أمده؟
هذا ينال كثيرا من الصفة الثورية للصراع، ويجعل انتهائه رهنا بقوى إقليمية ودولية متنازعة، مثلما تماديه اليوم رهن بها. ملمح أساسي في وضعنا اليوم هو افتقار البلد إلى قوة سياسية تعتمد أساسا على موارد محلية، وتتحرك وتنشط في وسط قريب من عالم العمل والإنتاج. وما سبق قوله عن انهيار الإطار الوطني للصراع السوري (في "الحياة"، 17/10/2013) في وقت ما في صيف 2012، يتأسس على عدة اعتبارات من أهمها الصفة الخارجية للموراد المالية لغير طرف في صراعنا.
ومن غير المتصور أن يتشكل قطب ديمقراطي وتحرري في سورية دون أن يوفر لنفسه موارد ذاتية ويتحكم بمدخلات ومخرجات أنشطته العامة، تمويلها بصورة خاصة. لا تتشكل قوى تحررية بموارد خارجية وريعية.