تركيا في مخيلة السوريين: ملجأ، معبر، أم مقام؟


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4282 - 2013 / 11 / 21 - 20:24
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الرجل الخمسيني الذي وصل لتوه برفقة ابنه الشاب يريد أن يقيم في اسطنبول، قبل أن يستقدم زوجته وأبناءه الأصغر من مصر التي أجبر على مغادرتها. بدا هذا خيارا غريبا لرب أسرة من خمسة أولاد وأمهم. فمدن الجنوب التركي مثل كِلِّس والريحانية وأورفة وعينتاب هي الخيار الأنسب للسوريين في غير مخيمات اللجوء، لأنها أقل غلاء، وتتوفر فيها خدمات معقولة، ومدراس غير بعيدة للأولاد، وفرص العمل التي تتوفر بصعوبة فيها هي أصعب بعد في المدينة العملاقة.
لكن كان ظاهرا أن الرجل يفكر باسطنبول كمحطة مؤقتة نحو ألمانيا أو السويد، "الحلم الأوربي" للاجئين سوريين كثيرين. حاولنا إقناعه، وبيننا ناشطة ألمانية مطلعة ومتعاطفة، بأن حلمه يرجح أن ينقلب إلى كابوس إن استطاع الوصول إلى أوربا، ولم يغدر به مهرب يستولي على ألوف من الدولارات ادخرها او اقترضها لهذه الغاية. هناك اليوم "بزنس" كامل لتهريب السوريين إلى بلغاريا أو اليونان أو ألمانيا، وهناك قصص تتكاثر عن خداع أولئك السوريين الباحثين عن حياة جديدة.
بدا الرجل مقتنعا، لكن دون رضا.
يفكر سوريون كثيرون بتركيا كمعبر أو جسر إلى أوربا. غير اللاجئين المقيمين في المخيمات، قليلون يفكرون في البلد الجار كمقام أنسب لحياة معقولة ولأي دور محتمل في الشأن العام السوري. في واقع الأمر تركيا بلد أهم من أن يكون معبرا بين بلد نفر منه وبين أوربا يحلم بها أكثرنا. وللبلد القريب ميزات بديهية لا نظير لها. أولها القرب الجغرافي ومجاورة أربع محافظات سورية. وثانيها قرابة ثقافية تحد من شعور سوريين مختلفين عن بعضهم بالغربة: التركماني يتدبر أمره بسهولة، والكردي يجد أكبر مجموعة كردية في العالم في هذا البلد، والعلوي يجد بيئة مرحبة في أنطاكيا واسكندرون، وبيئة متفهمة ومتعاطفة عند عموم العلويين الأتراك، والسني السوري يجد نفسه في "بلد مسلم"، والعلماني يجد نفسه في دولة علمانية.
ربما يلمس السوريون ضيقا بهم من أتراك يقارب ما كان سوريون كثيرون يشعرون به من ضيق حيال اللاجئين العراقيين قبل سنوات قليلة، ضيقٌ تحركه اعتبارات اجتماعية واقتصادية (ارتفاع إيجارات السكن، ازدحام وسائل النقل في بعض المدن، منافسة لاجئين سوريين لعمال أتراك...)، ودرجة من اختلاف الطباع والعوائد، لكن هذا الضيق لا يبلغ حد العنصرية والتعالي الأوربي.
تركيا تشبهنا ولا تشبهنا في الوقت نفسه. لا يشعر السوري، خلافا للخليجي على الأرجح، بغربة كبيرة في مهد الامبراطورية العثمانية السابق، ويجد فيها مجتمعا منفتحا واقتصادا يزدهر وحياة مدينية أكثر تنظيما بكثير من سورية. قبل الثورة كانت تركيا بلدا يسير إلى الأمام اقتصاديا وتكنولوجيا وتعليميا وسياسيا واجتماعيا، بينما تسير سورية إلى الوراء.
هناك بالطبع الحاجز اللغوي، وقلة متكلمي لغات أجنبية بين عموم الأتراك. وهو ما يوفر فرصة نادرة لعدد أكبر من السوريين لأن يميزوا أنفسهم بشيء إيجابي.
غير أن الفارق الكبير يتمثل بلا شك في النظام السياسي. مما تيسر لي ملاحظته في الأسابيع الفائتة أن الحكم في تركيا يعتمد بدرجة متسعة على الرقابة والضبط والتحكم غير المباشر، الذي يؤازره حضور مرئي ومباشر للقوة القمعية في مواقع استراتيجية من المدن. حزب العدالة والتنمية يحكم تركيا أو يسيء حكمها، على ما يقول طيف متنوع من معارضيه. الأمر ليس كذلك في سورية. نظام الأسرة الأسدية لا يسيء حكمنا، بل هو يملكنا، يتعامل مع السوريين كأتباع أو أقنان. ليس لدينا في سورية نظام حكم، لدينا نظام ملك إن جاز التعبير. ويعتمد "نظام الملك" السوري التقنيات الأكثر بدائية في التحكم بالبشر والمجتمع والموارد، ويتوسع في القتل والتعذيب للسيطرة المباشرة على الأتباع. بينما تبدو تركيا أقرب إلى تقنيات الجيل الثاني من القمع إذا أمكن القول، تقنيات المراقبة والانضباط والاحتواء، على نحو ما حللها ميشيل فوكو قبل أربعة عقود. لا حرية ممكنة في "نظام الملك"، بل هو تهديد مستمر لحياة الأتباع، بينما حريات مواطني تركيا، وليس حياتهم، هي المهددة من "نظام الحكم" التركي.
ليس الأمر كذلك دوما في تركيا، لا يزال يقتل أشخاص في احتجاجات سياسية. قتل 7 أشخاص صيف هذا العام في الاحتجاجات التي انطلقت من ساحة تقسيم. هذا عدا المشكلة الكردية التي تتفجر بعنف دموي بين حين وآخر. لكن يبدو أن الاتجاه العام يسير نحو صيغ القمع المجردة واللاشخصية وغير المباشرة.
وهذا بالضبط ما يجعل تركيا بلدا مثيرا من وجهة نظر سورية (وعربية). هذا بلد يشبهنا، ويتغير. ليس غيرنا كثيرا مثل بلدان الغرب التي يفرط تفكيرنا بالانشغال بها، لكنه يتغير بصورة تعود بمنافع على عدد أكبر من سكانه، ويوفر شروط حياة معقولة لنسبة أعلى أيضا.
من هذا الباب يمكن لمعرفة أكبر بتركيا أن تكون شيئا مفيدا جدا لفهم بلدنا ذاته، ولتمرس أفضل بمشكلاتنا العملية التي يحتمل أن تشبه مشكلات تركية أكثر مما تشبه مشكلات أوربية وغربية. هذا فوق أننا حيال بلد مهم، جدير بأن يعرف لذاته.
وقد يكون من الآثار الجانبية المهمة للثورة والصراع السوري هذه الموجة الكبيرة من اللجوء السوري في تركيا، وما يحتمل أن يترتب عليها من تعارف واختلاط، وتعلم. ربما يتجاوز عدد السوريين في تركيا اليوم مليون شخص، وفي مدن مثل كِلِّس تسمع العربية كل حين، من قبل من هم عرب في الأصل، أو من قبل قادمين كثيرين من سورية، مثل ذلك في عينتاب التي قد يتجاوز السوريون فيها ربع مليون، ولا يشعر السوري بالغربة في اسطنبول التي تقيم فيها أيضا جالية سورية كبيرة. ويشكل هذا الوضع مناسبة لظهور صفات السوريين السلبية: العيش متجاورين، وباختلاط محدود بالمجتمع الأوسع حولهم. ربما يوفر ذلك قدرا من الشعور بالحماية لجالية غريبة، لكنه يحول دون معرفة أوسع بالمحيط. قلة هم السوريون الذي يبذلون جهدا جديا لتعلم اللغة التركية.
وهو ما لا يساعد فيه أيضا وضع السوريين المقلقل في تركيا: فالحكومة ترحب بهم كـ"ضيوف" لا كلاجئين، وهو ما يعني أنه ليس لهم مكانة قانونية معترف بها، ولا حماية لهم من تقلبات سياسية محتملة. وبعد ما جرى لهم في مصر إثر الانقلاب العسكري على حكم الإخوان يرتاع أكثر السوريين في تركيا من احتمال تغير سياسة الحزب الحاكم، أو حلول طاقم سياسي جديد محله.
هذا لا يشجع سوريين لا يشعرون بالأمان على التفكير بتركيا كمقر قبل العودة المأمولة إلى ديارهم.