ما بعد انتخابات ما بعد الثورات (تونس أولاً)... وتحديات اليسار


داود تلحمي
الحوار المتمدن - العدد: 3531 - 2011 / 10 / 30 - 18:17
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

كما كانت تونس سباقة في افتتاح عصر الثورات الشعبية العربية الجديد والإطاحة بالنظام الإستبدادي في مطلع العام 2011، كانت هي أيضاً السباقة في تنظيم أول إنتخابات تعددية حرة بعد الثورات، وذلك عبر إجراء إنتخابات المجلس الوطني التأسيسي يوم 23 تشرين الأول/أكتوبر 2011، بمشاركة شعبية واسعة وحماسة ملحوظة من المواطنين التوانسة لإنجاز هذه العملية في أفضل الظروف الممكنة، في محطة مهمة وتاريخية هي، من زوايا عدة، الأولى من نوعها في المنطقة العربية.
صحيح أن لبنان كان يتمتع بمستوى عالٍ من حرية التعبير ويشهد إنتخابات تعددية حرة خلال العقود الماضية، لكنها كانت تخضع لسقف النظام السياسي الخاص للبلد، المحكوم منذ استقلاله في العام 1943 بالتوازنات بين مكوناته الدينية والمذهبية المتعددة، وفي حالات عدة، بالتدخلات الخارجية، سواء من قبل دول عربية أو غير عربية، بعضها كان له أو ما زال امتدادات سياسية داخل لبنان، أو من خلال عمليات التمويل والضغوط السياسية الممارسة على أوساط وقوى وشخصيات محلية تشارك في العملية الإنتخابية. ورغم ذلك كله، بقي لبنان لسنوات طويلة ظاهرة فريدة من نوعها في المنطقة العربية. وإن كانت دول عربية أخرى عدة قد شهدت إنتخابات تعددية، متفاوتة الحرية، في مراحل مختلفة من تاريخها، إنتهى بعضها بتدخلات من الجيش أو بانقلابات عسكرية أو إنقلابات قصر أدت الى إلغاء نتائج الإنتخابات، وبقي بعضها الآخر محكوماً بطبيعة النظام القائم ومحدودية الحريات فيه، حيث الصلاحيات غير الواسعة للهيئة التشريعية والصلاحيات الأوسع، بالمقابل، لمراكز القرار الفعلي، سواء رأس السلطة التنفيذية، الملكية أو الجمهورية، أو المؤسسات النافذة والمتحكمة في القرار، مثل الجيش وأجهزة المخابرات.
وقد أحسن التوانسة بعد ثورتهم المبادِرة، التي افتتحت موجة واسعة من الثورات والحراك الشعبي في أنحاء المنطقة العربية، وحتى خارجها، باختيار البدء بانتخابات المجلس التاسيسي المكلف بإعداد الدستور الجديد للبلد. فالدستور هو الذي سيحدد ما إذا كان النظام الجديد سيعتمد الصيغة الرئاسية أو الصيغة البرلمانية أو صيغة مختلطة، حيث تتقاسم الرئاسة والهيئة التشريعية السلطات والصلاحيات. وعلى هذا التحديد تجري الإنتخابات اللاحقة المتوقعة للهيئة التشريعية وللرئيس بعد إقرار الدستور الجديد.
وبالرغم من وجود بعض السلبيات ونقاط الضعف، وهو أمر طبيعي في سياق تجربة جديدة وأولى من نوعها في البلد، إلا انه من الإنصاف الإقرار بأن الإنتخابات التونسية الأخيرة كانت مثيرة للإعجاب على أكثر من صعيد، سواء من خلال المشاركة الواسعة للقوى والتيارات السياسية والشخصيات المستقلة ذات الإتجاهات المتنوعة في الترشح، أو من خلال كثافة الإقبال الشعبي على الإقتراع، أو من خلال كفاءة وجدية عمل الهيئة المشرفة على العملية الإنتخابية، أو من خلال السلاسة الواسعة التي تم التعاطي بها من قبل كافة مكونات الشعب مع نتائج الإنتخابات، بإستثناءات محدودة جداً. وبمعزل عن طبيعة هذه النتائج، التي يمكن أن تسرّ البعض وتزعج البعض الآخر، إلا ان من الطبيعي اعتبار ما جرى في تونس خطوة نوعية في تاريخ البلد وفي مسيرة مجمل المنطقة العربية على طريق ترسيخ تقاليد جديدة تقوم على احترام كرامة المواطن وحقوقه الأساسية في التعبير عن رأيه وخياراته السياسية والإجتماعية واختيار من يمثله إنطلاقاً منها، وبالتالي المشاركة في توجيه دفة البلاد، بعد أن بقي القرار لعقود طويلة حكراً على شخص واحد أو مجموعة محدودة من الأشخاص.

محدودية نتائج التيارات اليسارية ليست نهاية المطاف، والتحديات الأكبر قادمة

والمهم الآن أن تتواصل الأمور بنفس السلاسة والتوافق الواسع، وألا يعود شبح التدخلات غير الديمقراطية، الداخلية والخارجية، في محاولة للحؤول دون مواصلة الشعب التونسي لمسيرته الملهِمة لبناء نظامه الجديد، القائم على التعددية الفكرية والسياسية والحريات الديمقراطية واحترام حقوق المواطنين الأساسية، والعمل على بناء صيغة متطورة للنظام الإقتصادي الإجتماعي في البلد تقترب من توفير أقصى درجة ممكنة في هذه المرحلة من العدالة الإجتماعية لكافة المواطنين، وخاصة أولئك منهم الذين عانوا من الظلم والإستغلال والفقر والبطالة في المراحل السابقة، والذين يرمز إليهم ويلخّص معاناتهم شهيد الثورة التونسية الأول، محمد البوعزيزي.
ولا شك ان القوى التي تضررت من النجاحات الأولى للثورة ستواصل العمل على إعاقة هذه المسيرة ووضع العصي في دواليب عربتها: وقد رأينا خلال هذه الإنتخابات بعض القوائم، القليلة، التي كانت تشكل امتداداً للنظام السابق والطبقات الملتفة حوله وخياراتها العامة، وهي قوائم، أو قائمات كما يقولون في تونس بشكل أدق لغوياً، لم تحقق على أية حال نتائج بارزة. واختارت الأغلبية الساحقة من المواطنين بشكل أساسي من رأت فيهم معارضين متماسكين للنظام السابق ولسياساته وممارساته.
وكما سبق وذكرنا في مقال نُشر قبل فترة وجيزة من الإنتخابات، من الطبيعي أن تختار قطاعات واسعة من المواطنين رموزاً وتيارات معروفة لديها أو صاحبة فكر معهود وقريب من تقاليد ومرجعيات المجتمع التاريخية. ولذلك لم يكن فوز حركة النهضة، ذات المرجعية الإسلامية، بالمرتبة الأولى من حيث حجم الأصوات والمقاعد في المجلس مفاجئاً، إلا بالحجم الذي اتخذه هذا الفوز: فقد كانت التوقعات واستطلاعات الرأي عشية الإنتخابات تقدّر أن تحصل الحركة على ما بين 25 و30 بالمئة من الأصوات، في حين حققت، حسب الإعلان الرسمي للنتائج، زهاء الـ 40 بالمئة من مقاعد المجلس، وربما نسبة شبيهة من الأصوات إذا ما تم جمع أصوات كل الدوائر والولايات التي تم تطبيق التمثيل النسبي في إطارها.
من جانب آخر، كانت القوى التقدمية واليسارية تتوقع نتائج أفضل لها، وفق ما كانت تظهره استطلاعات الرأي وتقديرات المراقبين. وهو ما يشمل أيضاً تلك القوى والتيارات اليسارية الجذرية، أي تلك المعارضة مبدئياً واستراتيجياً لحتمية استمرار النظام الرأسمالي بكل الظلم والإستغلال الذي يحمله، والتي لم تحقق نتائج مرضية، حيث حصلت على عدد محدود من المقاعد في المجلس التأسيسي. هذا فيما حقق بعض قوى يسار الوسط نتائج أفضل بعض الشيء. وبعض هذه القوى الأخيرة من المحتمل أن يشارك في التشكيلة الحكومية الجديدة التي ستقودها حركة النهضة كأكبر أحزاب المجلس المنتخب. فيما ستلتزم، على ما يبدو، قوى وشخصيات اليسار الجذري بدور الرقابة ومتابعة عملية صياغة الدستور الجديد وضمان طابعه الديمقراطي الشعبي المتقدم، بأقصى ما هو متاح بحكم موازين القوى.
وهناك ضرورة، بالطبع، لدراسة أسباب محدودية النتائج هذه، وهو ما سيقوم به بالتأكيد كل من التيارات والقوى اليسارية المعنية. مع العلم بأن هذه الجولة كانت بالنسبة لمواطني تونس تجربة أولى من نوعها، بعد عقود طويلة من الكبت وغياب الحريات والتعددية الحقيقية. حيث من الواضح أن غالبية المقترعين في هذه الجولة يقومون بهذه المشاركة للمرة الأولى في حياتهم، كما صرح عدد واسع منهم، وبعضهم من المسنين، في مقابلات مع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة.
وكما ذكرنا في المقال السابق المشار إليه، فإن هذه النتائج الأولى لن تكون نهاية المطاف بالنسبة لهذه القوى اليسارية ولمجمل الخارطة السياسية التونسية، التي تحتاج الى بعض الزمن للتبلور بشكل شبه مستقر. ومن المتوقع أن تساهم جولات الإنتخاب اللاحقة، بدءً بانتخابات الهيئة التشريعية الجديدة التي ستنبثق عن الدستور الجديد، والتي من المحتمل أن تجري خلال عامٍ أو أكثر قليلاً، في بلورة هذه الخارطة السياسية للبلد بشكل أفضل، من خلال تمثيل تطلعات ومصالح مختلف مكونات الشعب وتياراته وخياراته المستقبلية الأطول مدى.
ومرة أخرى، نحن بصدد مرحلة بناء وطني ديمقراطي في البلد تتطلب تركيزاً على مهمات ترسيخ الحريات الديمقراطية، والتخلص من التبعية، وبناء إقتصاد وطني قوي مفتوح على التطور والنمو، يلبي مصالح وتطلعات كافة قطاعات الشعب، وخاصة قطاعات الشغيلة الذين يعملون بجهدهم الجسدي والذهني في شتى مجالات الإنتاج، في المدن والأرياف، في الزراعة والصناعة وقطاع الخدمات ومجالات التعليم والثقافة والإنتاج العلمي.
ومن هنا أهمية دور التيارات اليسارية كصمام أمان لضمان إنصاف هذه الأغلبية الكبرى من الشعب، وفي الوقت ذاته ضمان الحريات والتعددية وترسيخ التقاليد الديمقراطية التي تضمن مشاركة المواطنين في القرار وفي الرقابة على مراكز القرار والإنتاج، بحيث يخدم النظام الجديد مصلحة الشعب كله، وليس قلة قليلة منه، كما كان حال الديمقراطية الأثينية القديمة، وكما هو حال الصيغ العصرية المطورة من "ديمقراطية الأسياد" هذه، والتي تجعل قلة من أصحاب الثروات تتحكم في قطاعات الإنتاج كما في وسائل الإعلام والتأثير وفي آليات عمل النظام السياسي وتمويل الحملات الإنتخابية لتضمن بقاء المجموعات الحاكمة موالية لمصالح هذه الطغمة المالية- الإقتصادية المسيطرة، كما هو الحال حتى الآن في بلد يقدّم نفسه كـ"نموذج للديمقراطية" و"حامل لرايتها" في العالم مثل الولايات المتحدة الأميركية.
***
هي مهمة كبيرة وتاريخية تقع على عاتق شعب تونس المقدام، كما ستقع على عاتق شعب مصر الكبيرة والمؤثرة في عموم المنطقة العربية، بعد أن ينجز شعب مصر انتخاباته التعددية في 28 تشرين الثاني/نوفمبر والأشهر اللاحقة. وكل مواطني المنطقة العربية يترقبون باهتمام ما سيجري في هذين البلدين الرائدين، وخاصة أولئك المواطنين الذين لا زالوا يرزحون تحت وطأة بطش وقمع الأنظمة الإستبدادية الفاسدة، المتمسكة بتلابيب سلطتها وامتيازاتها وثرواتها غير المشروعة. وهي أنظمة لا زالت تعاند واقع تطور الوعي الشعبي في بلدانها وترفض استيعاب حقيقة ولوج عموم المنطقة مرحلة تاريخية جديدة تستعيد فيها الشعوب دورها ومكانتها في تقرير مصيرها ومستقبلها ورسم سياسات بلدها بما يحقق مصالح وتطلعات كل المواطنين، وليس فقط مصالح القلة المحدودة من بيروقراطية الدولة الحاكمة والقطاعات الإقتصادية المرتبطة أو المتحالفة والمتداخلة معها. وهذه القطاعات هي، في معظم الحالات، قطاعات ذات طابع طفيلي فاسد ومرتبط بالمصالح الخارجية.
ولا يمكن التغطية على هذا الواقع المأزوم والمتردي بشعارات طنانة رنانة لم تعد تخدع المواطنين ولم تعد تغطي على الأسباب الحقيقية للبؤس والإفقار والحرمان والفاقة التي يعانون منها. فالوطنية هي قبل كل شيء احترام كرامة المواطن وحقه في العيش الحر الكريم وفي المشاركة في تقرير مصير وطنه والرقابة على أولئك الذين يفوضهم هو، وليس أحد غيره، بإدارة شؤون البلد وضمان مستقبل مواطنيه.