|
ثمرَة الشرّ : القِبلة ، القلب
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2463 - 2008 / 11 / 12 - 08:05
المحور:
الادب والفن
لا ضيمَ بعدُ أيها القلبُ الندُّ ! لا مباحات . ووشيُ إسمكَ هُوَ أمرٌ جَدُّ ، زاغ َ عن أمر ٍ لهْو ٍ إلى نوباتٍ نبوّات هذيانات ، مُنزهة عن كِهانة سِحْر أو شِبهَة شِعر !ِ لا منامات .
*** في فيءِ " قاسيون " ، جبل الخليقة ، الأول ، عندَ أعتاب مقام " مولانا النقشبندي " القدسيّ ، الغامض . هنا ، في الجادّة العليا من الحيّ ، المُعرّفة بنعت " حارَة الشراكسة " ؛ أين بيت قريبتكَ الحسناء ، الشقراء ، الذي كانَ بمثابَة قِبْلة الحبّ ، الأوّل . كان مألوفاً لعينيكَ ذلك النوع من الحُسن ، المُميّز ، المُتجلي لهما عياناً ؛ الحسن النادر حقاً ، الأوروبيّ الخصال ، والمتواشج بإسم أبناء الملّة الغريبة ، القفقاسيّة الجذور ، المُقيمين في جوارنا . آثرَ الأسلافُ هَجرَ مواطنهم الجبليّة ، العصيّة ، نكوصاً قدّام زحف الفرسان القوزاق ، المشهورين بالقسوة والوحشيّة . كان ذلك في أواخر القرن التاسع عشر ، إثرَ فشل ثورتهم الكبرى على روسية القيصرية . الباب العالي ، الذي دأبَ آنذاك على التحريض ضدّ عدوّته تلك ، التقليدية ، ما لبثَ أن تكرّمَ على أولئك النازحين ، التعسين ، ببقعة أرض خصيبة في برّ الشام ، مركونة بجوار " جبل الشيخ " ـ كأنما بغيَة تذكيرهم بفردوسهم ، المفقود . قدَرُ النزوح ، على ما يبدو ، كانَ مُتأثلاً التاريخ الشركسيّ : من القوقاز ، مروراً بالشام ، وإنتهاء بالولايات المتحدة الأمريكية . وإذاً ، كان على هؤلاء أن يُمضوا قرناً آخر ، في مضاضة الحسرة والأمل ، قبل أن يضربوا رحالهم ، مُجدداً ، في أرض اخرى . ثمة ، عليهم كانوا أن يُجلدوا بسياط الحنين لمَواطنهم الرخيّة ، المُفتقدّة ، في " الجولان " . اُجبروا على النزوح ، هذه المرّة ، عقبَ معركةٍ مهزلة ، دُعيْتْ تشنيعاً بـ " حرب الأيام الستة " . وعلى أيّ حال ، فبنات الشراكسة كنّ يستأثرنَ ذلك الجمال الخلوق ، الموسوم ؛ بما أنّ كلّ منهنّ مُترفلة ، غالباً ، بإشعاع مُبهر من سحنة ناصعة ، مُتناسقة التقاسيم ، محفوفة بهالة كثيفة من شعر ذهبيّ ، مُسترسل حتى رابية الكفل . شذورُ السبائك ، المُذهّبَة ، كانت مُتناهيَة ً ثمة في تلك الحارَة ؛ في بيت العمّة بالذات ، المُحتبي بحنوّ وحميميّة حضورَ حفيدتها ، " سوزان ". كنتَ هنا إذاً ؛ في بيت الإحرام هذا ، المنذور لربّة الحُسن ، والمعتادَة عَتبة بابه الإصغاء لوقع خطوكَ ، المُراهق ، المُتماهل والحثيث في آن .
*** فيضٌ من الفتنة ، فادحٌ ، كان يفورُ من جام الفضة ، المُشكّل قوام قريبتي هذه ، التي تكبرني بعام واحد . إشكالُ الرحيل ، المُصاحب ولادة فتاتنا ، الفاتنة ، كان من نتيجته أن سُجّلتْ ، إعتباطاً ، كتوأم لشقيقها " بروكا " ، المُماثل لي في السنّ . إستقرّت الأسرة هنا ، أخيراً ، بعدما تمّ نقل ربّها ، المُساعد في الشرطة ، من أحد مخافر " درعا " ، المدينة الجنوبية ، إلى سجن " القلعة " ، الدمشقيّ . كان أبي ، في واقع الأمر ، قد وسّط صديقاً له ، مُعتبَراً ، في موضوع نقل إبن أخته هذا ؛ هوَ من سبقَ له أيضاً أن تعهّده طفلاً ، إثرَ وفاة والده . هذا الأخير ، يرقدُ مُسجّىً منذ ما يزيد عن الستة عقود ، في تربة " مولانا " ، المُشرفة على الحيّ من تل عال ، مواتٍ ؛ في قبر رخاميّ ، مشهودٍ بعلامة أبيات من الشعر الكرديّ ، منقوشة على شاهدته بالأحرف اللاتينية ، من نظم " آبو " ؛ أستاذه ومربّيه في نادي " كردستان " ، الثقافيّ . بدوري ، رأيتني أتعهدّ هذه الزهرة الغضة ، المُجتلاة ألوان الحُسن ، والمحوّطة بعوذةٍ حاميَة ، زرقاء اللون . كان عمري لا يكاد يتجاوز الدزينة من السنوات ، لحظة وقوع بصري على قريبتي " سوزان " ، الحسناء . أضحَيتُ مُغرماً بها ، مَحموماً ، منذ المرّة الأولى تلك ؛ لما زرتُ مع أهلي بيت أسرتها ، القديم ، في " درعا " . عام آخر ، على الأثر ، وصارتْ خطواتي على دِربَةٍ بالمَسلك الأثير ، المؤدي لبيتهم الجديد ، في الجادّة العليا من الحارَة ، بعدما انتقل " خلّو " ، إبن العمّة ، إلى الشام . هنا ، في محجّ الحبّ هذا ، كنتُ أجدُ إحتفاءً مُعتبَراً ، رائعاً ، من لدن الأسرة ، الكريمة ، كبيرها وصغيرها على السواء . زياراتي لبيوت الآخرين في العائلة ، ، كانت نادرة على كلّ حال ، في سني تلك ، الحدَثة : فخصلة اللؤم ، المُقيتة ، كانت من الأوصاب العضال ، غيرَ المُحتملة ، في أعضاء معظم أولئك الأقارب . هذه الخصلة ، المُعرّفة بالحِرْص والبُخل في لسان العرب ، كانت عمّتي أيضاً مُبتلاة بها . إنها ولا ريب من مُفارقات عائلتنا ، الأكثر عجباً ؛ حتى أنّ مثالَ جدّي لأمي ، كانَ الأمضى سطوعاً في مغزاه . فهذا الرجلُ ، الموسِرُ الوَجيهُ ، إشتهرَ في حياته بالجود والسخاء حدّ التهوّر ، بينما أنّ صيتَ الشحّ ، الشديد ، كان عليه أن يلتصقَ أبداً بإسم شقيقته ، الوحيدة ، التي كانت تصغره عمراً .
*** حينما جازَ لسعدي الإلتقاء ، ثانية ً ، بالقريبة " سوزان " ، كانت في سنّ زهرةٍ يانعة ، أفغتْ حُسناً وعبقاً . إلى ذلك ، ضافرَ من هذه الفتنة ، الساحرَة ، شخصيّة ٌ ذاتَ حضور طاغ ، آسر حقاً . ربما أنّ جمالها ـ في نظر البعض ، على الأقل ـ ما كانَ مثالياً تماماً ؛ هيَ القصيرة القامَة نوعاً ، والمُبتلاة مذ الطفولة بأعراض تساقط شعر الرأس ، بسبب خوفٍ شديد ، طاريء . بيْدَ أنني طفقتُ مُخلصاً ، دائباً ، على مَحضها نظرة العابد ، المُتولّه ، إلى ربّة للحبّ والحُسن والسناء . في صورتها ، إنطبعتْ بعضٌ من ملامح تلك الفتاة ، الريفيّة ، ذات الشعر الأحمر ؛ شريكة تجربة العمر الأولى ، الجنسية : فضلاً عن الشعر ، ذي المعدن الثمين ، كان ثمّة نمشٌ خفيف ، مُحبّب ، شائعٌ تحتَ العينيْن اللوزيتيْن ، الرائعتيْن ، وصولاً لأرنبة أنفها المُستقيمة ، الدقيقة ، وكذا وجنتيْها المُتورّدتيْن ، المُعافتيْن . إلا أنّ شغفي ، المعروف ، بالأفلام السينمائية ، حضّ ذاكرتي بإستمرار على إستدعاء صورة " كاترين دونوف " ، الممثلة الفرنسية ـ كشبيهةٍ لقريبتنا هذه ، الجميلة . بالرغم من شخصيتها القويّة ، المؤثرة ، فإنّ لمعة طفوليّة ، بريئة ، سطعَتْ دوماً في هيئة ومسلك " سوزان " ، سواءً بسواء . حديثها ، كان بشكل خاص متأثلاً طبيعتها هذه ، الموصوفة . إذ ذاك ، كانت عيناها الواسعتان ، المُضيئتان ، تجوسا خللَ عينيّ مُحدّثها ، فيما عباراتها تنهمرُ ـ كأمواهِ نهر عذبٍ ، مُتدفق . مظهَرٌ من الحريّة ، في شخصيّة قريبتنا هذه ، الحسناء ، كانَ عليه أن يطغى على كلّ ما عداه من صفاتٍ لديها . بدورها ، كانت أمّ " سوزان " ، الشابّة بعد ، فائقة الفتنة ، وتشبه نجمات السينما الهوليوودية ، الكلاسيكية ؛ وتحديداً ، " آفا غاردنر " . من ناحية اخرى ، فهذه المرأة ، المونقة بالحُسن والظرف واللطف ، كانت تفارقُ سلوكَ حَماتها في كلّ شيء ، تقريباً ؛ فما كان غريباً ، والحالة كذلك ، أن تعتمدَ على دعم رجلها ، في المُماحكات اليوميّة ، المُمضة ، مع العجوز تلك ، الرهيبة .
*** ـ " هل أصبّ لكَ قدحاً ، من النبيذ ؟ " تسألني " سوزان " ببساطة ، فيما بسمتها الألِقة تشعّ على شفتيْها الرقيقتين ، المُزهرتين . للمرة الأولى ، ولا ريب ، أتذوّق هذا الشراب الربانيّ ، المزّ الطعم . خدَرٌ مُبهم ، لذيذ ، شملَ أوصال بدني جميعاً ، إثرَ تناولي قدَحيْن من النبيذ ، البيتيّ الصنع . كنا عندئذٍ في منزلهم وفي حجرة عمّتي ، المحدودة الحجم ؛ الحجرة ، غير المُتناسبة بطبيعة الحال مع حجم تأثير صاحبتها ، الخطير ، في حياة الأسرة . هذه الأخيرة ، لحسن حظنا ، ما كانت موجودة في البيت يومذاك ؛ هيَ العجوز المُتزمّتة ، العسرة الخلق ، غير المُتهاونة مع المُحرّمات وأفانينها . " خلو " ؛ إبن عمّتي هذه ، كانَ إذاً رجلاً مُتحرراً ، بسيط الخلق ، ورثَ بعضَ صفات أبينا ، المُتنوّر ، الذي ربّاه وأنشأه مذ أن كان بعد طفلاً يتيماً . بالمقابل ، فالإهتمام المُثابر ، الحميم ، المتأثل معاملة والد " سوزان " لي ، مُحالٌ ربما لحكاية يتمه تلك . وبقريبنا هذا ، العطوف ، إرتبط أيضاً كشفي الأول ، الخمريّ ، العائد للأعوام السالفة ، التي كانت تحبو على العتبَة العتيدة ، الفاصلة بين بابيْ الطفولة والمراهقة : كان ذلك أثناء حفل ختان " جوامير " ؛ حفيد عمنا الكبير . والده ، ما كان سوى " الأستاذ حسين " ؛ المُستطير المَقام في الحارَة ـ بوصفه مديراً لمدرستها ، الإبتدائية ، وكذا عضواً بارزاً في الحزب الحاكم . عددٌ من رفاق حزبه العرَب ، المعروفين ، كانوا ثمة أيضاً ، يشنف كلّ منهم أذنه مطروباً بالأغاني الكردية ، العذبة ، بصوت " الياس يوسف " ؛ الفنان السريانيّ الأصل ، القادم من إقليم " الجزيرة " في الشمال السوريّ . هذا الحفل ، الصاخب ، كان معقوداً هناك إذاً ، في باحَة بيتنا ، السماويّة ، وفي حديقته أيضاً ، الواسعة ، تتخلله الإطلاقات النارية ، الكثيفة . وأتذكرُ ما كان من رَشفي ، بين كلّ فرصةٍ سانحة وأختها ، من تلك الأقداح المهملة في المطبخ ، المُترَعة قليلاً أو كثيراً بالعرَق ، الحارق . " ماذا تفعل عندكَ ، بابا ؟ " ، فجأني عند ذلك صوتُ " خلو " وكنتُ أهمّ برفع أحد أقداح المُسكرات لفمي . ولكنه لم ينهرني ، أو يُعاتبني حتى . فما عتمَ أن إستطردَ القول بلسان ، ثقيل : " أريدكَ أن تتوجّه لعمّنا ، كيما تجلب من لدنه شيئاً من الطلقات لمسدسي " . كان يقصدُ العمّ ، المُهاب ، الذي سبق وحجّ توّاباً لبيت الله ، الحرام . ما أسرعَ أن كنتُ في حضرته ، المُخيفة ، مقدّماً له طلبَ إبن أخته ذاك . " أغرب من وجهي ، في الحال ! ألا لعنة الله عليه وعلى صحبه ، أجمعين ! " ، صاحَ العمّ بوجهي حانقاً ومُتسخطاً .
للسيرة بقية ..
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السّهلة ، المُمتنع 4
-
السّهلة ، المُمتنع 3
-
السّهلة ، المُمتنع 2
-
ثمرَة الشرّ : السَّهلة ، المُمتنع
-
جَمرة المتعَة والألم 5
-
جَمرة المتعَة والألم 4
-
جَمرة المتعَة والألم 3
-
جَمرة المتعَة والألم 2
-
ثمرَة الشرّ : جَمرة المتعَة والألم
-
جادّة الدِعَة والدّم 4
-
جادّة الدِعَة والدّم 3
-
مَراكش ؛ واحَة المسرّة
-
جادّة الدِعَة والدّم 2
-
مَراكش ؛ ساحَة الحُبّ
-
نزار قباني ؛ نموذج لزيف الدراما الرمضانية
-
لن تطأ روكسانا
-
مَراكش ؛ مَلكوت المُنشدين والمُتسكعين
-
فلتسلُ أبَداً أوغاريتَ
-
ثمرَة الشرّ : جادّة الدِعَة والدّم
-
برجُ الحلول وتواريخُ اخرى : الخاتمة
المزيد.....
-
فنانو مسرح ماريوبول يتلقون دورات تدريبية في موسكو
-
محاكمة ترامب.. -الجلسة سرية- في قضية شراء صمت الممثلة الإباح
...
-
دائرة الثقافة والإعلام الحزبي تعقد ندوة سياسية في ذكرى النكب
...
-
كراسنويارسك الروسية تستضيف مهرجان -البطل- الدولي لأفلام الأط
...
-
كيت بلانشيت تدعو السينمائيين للاهتمام بقصص اللاجئين -المذهلة
...
-
المتسابقة الإسرائيلية في مسابقة -يوروفيجن- ترفض عرضا من وزار
...
-
محاكمة ترامب.. -الجلسة سرية- في قضية شراء صمت الممثلة الإباح
...
-
مصر.. فنانة مشهورة تشتكي للشرطة من -إزعاج- السودانيين
-
-تشريح الكراهية-.. تجدد نزعات قديمة في الاجتماع الحديث
-
مهرجان كان السينمائي: فيلم -رفعت عيني للسما- وثائقي نسوي يسر
...
المزيد.....
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
المزيد.....
|