لم اكن اعرف ان الروائية اللبنانية المقتدرة هاديا سعيد هي نفسها الكاتبة الصحافية هاديا حيدر التي كنت اقرأ لها قبل ثلاثين سنة ، حتى قرأت شيئا عن روايتها المتميزة ( بستان احمر ) فأشتقت الى معرفة المزيد عنها ، وبقيت منذ زمن طويل اتابع ما تقّدمه في القسم العربي من البي بي سي باذاعة لندن من تعليقات نقدية بارعة على القصة وقد جذبتني تعبيراتها الرائعة وظننت انها عراقية ، ولكن قراءتي لكتابها الاخير: " سنوات من الخوف العراقي " الصادر عن دار الساقي العام 2004 .. جعلني اقترب جدا من مذكراتها المؤلمة في سنواتها الصعبة كأديبة بيروتية كانت ابنة " النهار " الغراء ! عاشت ردحا من حياتها في بغداد ، وغدت تتناصف حياتها بين لبنانيتها الوديعة وبين عراقيتنا الصاخبة بحكم اقترانها بالشاعر العراقي جليل حيدر ( الاخ غير الشقيق للسياسي العراقي المعروف عزيز الحاج ) منذ اكثر من ثلاثين سنة وقد انجبت منه سومر وحيدر . ويعد كتابها الاخير سجلا حافلا عن اصعب مرحلة من تاريخ العراق المعاصر .. عندما تحدثت عن عراق السبعينيات على عهد الرئيس احمد حسن البكر ونائبه صدام حسين ، وهي مرحلة سيئة جدا على عكس من يريد صبغها بالالوان الزاهية .
سنوات الخوف .. الوان الرعب
نعم ، كتبت السيدة هاديا تاريخها للسنوات 1972 – 1978 ، اي انها عاشت ست سنوات جد حافلة بالبؤس والخوف داخل العراق ولتسحب معها كتلة من المعاناة ترافقها عبر كل هذي السنين ولم تهدأ ابدا حتى الان ! كانت هذه اللبنانية المتمردة ولما تزل عاشقة للعراق والعراقيين برغم كل المحن والمرارات وبرغم كل التعاسة وسنوات الخوف السود .. لقد بقيت وفيّة مخلصة للعراق والعراقيين بحيث لم أصدق وأنا اقرأ كتابها ان هاديا من طينة عربية مألوفة ، فهي استثناء حقا بحملها صفات انسان بمعنى الكلمة ! وهنا ، لا اريد ان اكتب مقالة عادية عن كتاب غير عادي .. برغم صغر حجم كتابها الاخير ، لكنه سفر بحاجة الى تأويل وشرح وتحليل . فاذا كنت في مقالي هذا اكتب مجرد تعريف وتشخيص عنه وعن صاحبته اللبنانية القديرة التي ابارك لها جهدها من اجل كتابة تاريخ حيوي لالام العراقيين على العهد الدموي الاسود ، فأنني اعد ان ثمة دراسة معمقة وتحليلية سافكك من خلالها نص هذا السفر المختزل المشحون باحداث ومعلومات وافكار ومشاعر وانطباعات واخبار واسماء .. لا يمكن لأي عراقي او عربي ان يمر على عنوان كهذا من دون قراءة ما تحتويه مضامينه الخصبة .
لعل اهم ما يلفت النظر في سنوات خوف هاديا ، ان كتابها هو تاريخ حقيقي لمرحلة اساسية ورهيبة مرعبة من حكم البعثيين العراقيين . وان صفحاته تختزن معلومات شاهد عيان عربي حقيقي كتبها من خلال معايشته لها يوما بيوم ! وانه لا يقتصر على سرد معلومات واحداث سياسية يابسة ، بل انه سفر تنطق صاحبته ببراعة في وصف العراقيين ومجتمعهم وحياتهم ومشاعرهم وسماتهم وصفاتهم واهتمام فوق العادة بالمرأة العراقية وبالمثقفين العراقيين وبالاتجاهات السائدة على ايام السبعينيات . ويصل الامر بالكاتبة ان تقّدم اشبه باعترافات كمن كان في سجن رهيب لازمه الرعب سنوات طوال وهو يكتب بمشاعر حقيقية ليست مزيفة او مستعارة ابدا . انني عندما احكم على الكتاب وصاحبته كناقد ومؤرخ عراقي متواضع من نفس الجيل وعاش المأساة نفسها في داخل العراق وخارجه ، فأنني ادرك ما الذي اقوله عمن كتبت معاناتها الحقيقية . وعليه ، فان كتاب هاديا هو نداء حقيقي لكل العرب في ان يقفوا ولو لمرة واحدة الى جانب معاناة العراقيين التي لم يعان من رعبها اي شعب في هذا الوجود على مدى اربع وثلاثين سنة !
البراعة في تصوير الحقائق
ان براعة هاديا في اسلوبها الروائي قد أوصلت معلوماتها كما لو انها مجسّدة على ارض الواقع . أقرأ فصول كتابها الخمسة وقد ادهشتني قدرتها في فهم العراق والعراقيين ، ولن يفهمه ويفهمهم الا النوادر من البشر ! وانا اقرأ في كتابها مذ انطلقت مع المقدمة التي كتبها لها الاخ امير الطاهري على اجود ما يكون التقديم وخصوصا عندما وصف وصولها عروس لبنانية في مطلع العشرينيات الى بغداد التي كان العالم كله يتطلع الى ان تكون حاضرة للدنيا مع امكانات العراق الهائلة وثقافة المجتمع المتميزة .. وأنا أقرأ الفصل الاول ، عرفت مأساة الانسان في العراق منذ الاسطر الاولى عندما اطبق الرعب من جراء تبعيث العراقيين وجعلهم ارقاما في حساب لعبة شطرنج بالية يتلاعب به لاعبون سخفاء ومتخلفون وبدائيون ومتوحشون .. ليغدو العراقيين بعد ذلك مجرد وقود حروب دموية مرعبة مع تصفيق غير مبرر لسياسات غبية من قبل اعلاميات عربية مأجورة ! وأنا أقرأ كيف ارجعتني هاديا الى سنواتي الاولى وبدأت تحفر في ذاكرتي اشرطة تاريخ مخضب بالعنف والدم .. ورجعت اهتز من رعب تلك الايام السوداء عندما حّلت حفلات الاعدامات في الشوارع وذابت اجسدة عشرات من خيرة رجال العراق في احواض الاسيد .. وافتعلت جرائم ابو طبر كمشروع مدبلج مبيّت من قبل السلطة في تأسيس الخوف ! كم تمنيت على هاديا ان تصف لنا ما الذي كان يفعله ابو طبر عندما يهاجم عائلات العراقيين الامنين في بيوتهم ويقطع اوصالهم وهم احياء ثم يختفي ! وماذا عن خلق الازمات الاقتصادية الخانقة وطوابير تقف على قارعة الطريق من اجل كارتونة بيض او دجاجة مذبوحة فاسدة او قنينة غاز او اطار لعجلة سيارة .. !! من الذي خلق ازمة اللحوم المسمومة ؟ من الذي رّوع الناس بمظاهر لم يألفوها ؟ كل ذلك جرى في عهد احمد حسن البكر .. ان هاديا سعيد تحكي عن نفسها المعذبّة وتجربتها المريرة ولكنها بنفس الوقت كانت تعّبر في حكاياها عن آلام كل عراقي عاش مأساة وطن وعهد أسود في عهد رئيس بليد ونائب متوحش ! ولقد اثبتت الايام وستثبت في قابل تفاهة ما كانوا يسمونه بمنجزات ثورية وقومية عندما وصلت الانتاجية العراقية الى الحضيض وعندما ولدت جبهة وطنية مخادعة لا ثوابت مبدئية فيها وعندما تم التوقيع على حكم ذاتي مزّيف للاكراد وعندما تم التأميم من خلال صفقة مؤامرة سياسية خبيثة ستكشف الايام قذارتها !
رسم اعماق الخوف وسايكلوجيته
الحق يقال ان هاديا سعيد كانت فنانة بارعة في رسم اعماق معينة من طبيعة الخوف وسايكلوجيته القاسية عند العراقيين والذين لهم جميعا أعماقهم الاخرى من احزان اخرى ومخاوف اخرى ستكشف عنها مذكرات اناس آخرين من عراقيين وغير عراقيين . واقول : صحيح ان الكاتبة كانت تعيش اجواء الجبهة الوطنية التي انبثقت ايام البكر بين البعثيين الحاكمين والشيوعيين والاكراد .. الا ان هاديا لم تكتب لنا عن قطاعات وفصائل سياسية عراقية اخرى سواء كانت قومية ( حركية وعارفية وناصرية وبعثية يسارية .. ) وليبرالية من انصار الحكم الملكي واسلامية ( سواء كانت اخوانية او شيعية ) وما كانت تعانيه من اشرس الجلادين .. ربما لا تعرفها هاديا ولكن أشد ما اعجبني في كتابها تصويرها البارع لعالم الخوف وصفحات الرعب الذي اكتشفت فيه امكانات بارعة وربما متوارثة للعراقيين عندما يتكلمون قصة كاملة بعيونهم ، او عندما يتبادلون قصة كاملة برموز واشارات لا يفهمها في هذا الكون غيرهم ! او عندما تصل قدراتهم في الاختفاء والتسلل او الهرب الى خارج الحدود .. او عندما تصل درجة اظهارهم عكس ما يبطنون ! نعم ، كتبت هاديا أنواعا مأساوية من الخوف ، ولكنها بالوقت الذي أعلنت للعرب وابناء العروبة ان البعث في العراق هو الاستثناء المرعب عن كل تجارب الحكم في العالم ، فقد كانت صادقة على اشد ما يكون الصدق . دعونا نقرأ ما كتبته بمصداقية لا يحس طعمها الا العراقيون .. تقول : " لقد كنت أحد الذين عاشوا نوعا ( مخففا ) من الخوف داخل الجمهورية وخارجها ، مع اني لست عراقية ، فهل هو الشعار الخفي بأنها أمة عربية واحدة ، في الخوف والقهر ؟ لكن من يقول لي ان ما حدث في العراق يحدث في كثير من البلدان العربية ، سأظل اقول له : لا وأكررها : لا . لا . لا . فقد عشت في أكثر من بلد عربي .. وعرفت ووعيت معنى الحدود والرقابة والتضييق ، لكن عهود العراق دموية وفجة ومريعة ، فليس هناك بلد عاش كل من فيه خراب النفس والذرية والارث كما عاشته بيوت بغداد ، وليس هناك بلد ابيحت فيه كميات من الدماء وعدد من الرقاب والاوصال المقطوعة كما حدث في العراق ، وليس هناك بلد عرف قهر الخوف وذل الصمت مثل العراق .. " ( ص 68-69 ) .
ولكن هاديا راحت تدافع عن صديقاتها العراقيات : صحفيات وكاتبات كن قد اشتركن في ماراثون الرعب من خلالهن وازواجهن .. او ان واحدة منهن على الاقل كانت تمثّل تمثيلا بارعا دور المظلومة ! واشارك هاديا انها ذكرت أسماء عراقيين اعرف كم كانوا نظيفين وقد دفعوا ثمنا باهضا في الدواخل العصيبة من وجودهم .. وعندما تتكلم هاديا وهي ابنة ميدان الصحافة ، فأنني ادرك تماما كم في هذا الميدان من موبقات هي تدركها أكثر مني بحكم المهنة وضغوطاتها المؤلمة .. وقد نجحت بنقد الرقابة وتصنيف الكاتبات العراقيات اللواتي كن اغلبهن تابعات للسلطة ، بل مواليات ومصفقات لها . لقد دخلت هاديا في مسامات العراقيين وتعاطفت مع آلامهم وخبرت الوانهم وقيمهم الانسانية وكرمهم وسخائهم وطقوسهم الاجتماعية والدينية من دون ان تعطي مثالا واحدا على سيئاتهم التي يصمهم بها بعض خصومهم العرب .. وهي بين هذا وذاك ، لم تدهش بخصوماتهم وتنوع ثقافاتهم وذكائهم وخصب اساليبهم وطبيعة علاقاتهم .
وأخيرا : ماذا اقول ؟
ان السبعينيات العراقية كانت مرحلة سياسية خطيرة من حياة العراق والعراقيين والتي سطا فيها السيد النائب على اقدار العراق ومقدرات العراقيين ولم يسلم منه حتى رفاقه من البعثيين بدءا بمصرع سلسلة وزراء وقياديين بعثيين : عبد الكريم الشيخلي ومرورا بشاذل طاقه ووصولا الى مهرجان الموت لعدنان حسين وجماعته في العام 1979 عندما تولى صدام حسين رئاسة العراق ليكمل اشواطه المرعبة . وآخر ما يمكنني تسجيله – هنا - بأن هذه المقالة سوف لن تروي الغليل ابدا .. ان لم تكن مقدمة نوعية لما ستجده مني هاديا من وقفة مطولة خصوصا وانني قد سجلت على هوامش كتابها من تعليقاتي السياسية وشروحاتي التاريخية المقترنة بالوثائق التي سانشرها لاحقا .. تحية مني لهذه المذكرات وصاحبتها التي تحملّت من العراق ما لم تكن بحاجة الى حمله في حياتها .. ولكنه قدرها في ان تكون جزءا منّا ومن وجودنا نحن العراقيين لتعبر عن صفحة مؤلمة من تاريخنا المرعب وسنوات الخوف العراقي الحقيقية .