عندما سمعت بوفاة البروفسور البرت حوراني قبل احد عشر عاما، والتي تصادف اليوم ذكراها العاشرة، دمعت عيوني حزنا عليه لأن له عليّ اكثر من دالة علمية لا يمكنني نسيانها ابدا. فضلا عن محبته لي كواحد من عشرات الباحثين الشباب العرب الذين مروا عليه على امتداد سنوات حياته الاكاديمية الخصبة في كلية سانت انتوني العريقة بجامعة اوكسفورد البريطانية. ولقد عُدّ هذا الرجل واحدا من ابرز المستشرقين البريطانيين في القرن العشرين وكان له من نتاجه العلمي ومحاضراته الاكاديمية ثروة معرفية لا تقدر بثمن نظرا الى ما امتاز به هذا الاستاذ الذي احكم قواعد المنهج واثرى حياة العلم بالعديد من الكتب والدراسات المرموقة ذات الطابع الحيادي، وكان يتصف بالامانة العلمية وبعد النظر والهدوء، والتفكير العميق الجاد فضلا عن رؤيته النفاذة في قياس الاحداث التاريخية والسياسية وتقويم الشخوص واحكام النتائج.
ولقد انبعث كل هذا وذاك من خصوبة منبتة واتساع ميادين امكاناته وقوة تربيته الاولى وتعليمه المبكر. وهو لا يخفي اعتزازه بالعروبة التي يمت اليها بنسب، الى خصوبة اشهر السهول العربية في بلاد الشام وسهل حوران الذي كانت شهرته منذ عصر الرومان.
اذكر محاضراته وكم كنت اود ان يطول الوقت لاستمتع بما يحدثنا به! لقد كان العام 1977 نقطة فاصلة في حياتي كوني تعرفت بهذا الانسان الرائع والمفكر اللامع. وازدادت معرفتي به وعلاقتي معه طوال السنوات الماضية وكان يطالبني دوما بنسخة من مخطوطة ثمينة نادرة استطعت الحصول على صورة منها من مكتبة الاوقاف العامة بالموصل بواسطة احد الاصدقاء وارسلتها اليه، وعندما التقيت به قال: لقد اسديت لي خدمة لن انساها ابدا، فمنذ زمن طويل ارغب في اقتنائها ولم استطع! في حين استطعت ان احصل على نسخ منها في مكتبات اخرى من العالم.
مسيرة حياته
عاش البرت حوراني 78 سنة، بين 1915 -1993 ولقد ولد في مانشستر في 31 آذار 1915 والده فضلو وامه سميه حوراني اللذان هاجرا من مرجعيون المعروفة اليوم في جنوب لبنان. درس في مدارس انكلترا وانخرط في كلية مجدلين Magdalene بأوكسفورد ودرس في اروقتها العام 1933 بعد ان قرأ الفلسفة والعلوم السياسية والاقتصاديات، ثم تخرج في العام ،1936 وسافر الى الشرق الاوسط حيث قرأ العلوم السياسية على مدى سنتين في الجامعة الاميركية ببيروت. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، التحق البرت بالمعهد الملكي للشؤون الدولية ببريطانيا وفيه عمل برفقة، وتحت اشراف وتأثير، كل من المؤرخ العالمي فيلسوف التاريخ الشهير آرنولد توينبي والمستشرق البريطاني الشهير السير هاملتون غيب.
كذلك خدم البرت كمحلل في دائرة ومكتب الوزير البريطاني المقيم في القاهرة خلال العامين 1943 - ،1945 وعمل باحثا رئيسيا وكاتبا في المكتب العربي، وفيه ساعد جدا في مد يد العون للقضية العربية في اللجنة الانكلو - اميركية لمتطلبات الغوث، والتي جعلته يزور فلسطين العام .1946 بعد ذلك صرف بقية حياته في المسائل الاكاديمية. وفي العام ،1948 كان قد تقدم للالتحاق في كلية ماجدولين بأكسفورد وبعد ذلك بثلاث سنوات، عيّن محاضرا للتاريخ الحديث للشرق الادنى والاوسط في جامعة اوكسفورد واصبح بعد ذلك رئيسا لمركز دراسات الشرق الاوسط في كلية سانت انتوني بالجامعة. كان استاذا ممتازا فخريا في العديد من الجامعات بأميركا والشرق الاوسط وتسلم جوائز تكريمية عدة وشهادات تقويمية ممتازة.
تأثير اعماله العلمية
لقد كان تأثير البرت حوراني كبيرا كواحد من ابرز العلماء البريطانيين في القرن العشرين، درست على يديه اعداد كبيرة من الباحثين والطلبة في دراسات الشرق الاوسط، والذين لم تزل تحضرهم جميعا ذكراه الرائعة في قلوبهم ومشاعرهم. لقد نشر في العام :1946 سوريا ولبنان، وفي العام 1947 الاقليات في العالم العربي، وفي العام 1962 نشر كتابه الكلاسيكي الذي درسته اجيال عدة: الفكر العربي في العصر الليبرالي 1789 - ،1939 والذي نشر في طبعتين وبنشرتين مختلفتين، وفي العام ،1991 اصدر بعد سنوات طويلة من العمل المضني كتابه الرائع المتميز: تاريخ الشعوب العربية والذي يعتبر واحدا من امهات المراجع الحية المتميزة والغنية بمضامينها في تاريخ الشعوب العربية وثقافاتها، وهو الكتاب الذي اثار ضجة كبرى على جانبي الاطلسي وكتب عنه واثنى عليه كل من: كارل براون وروبرت ايرون وتوماس ليبمان وليلى فواز وسيار الجميل اذ قمت بنشر مقالة مختزلة عنه في "الايكونوميست". وكم كنت اتمنى ان تعتني به الثقافة العربية عناية من نوع خاص، ويصدر كتاب عنه بالعربية او يعتني بذكراه واحد من مراكز البحوث والدراسات العربية، ولكن هذا لم يحدث مع الاسف باستثناء ترجمته وطباعته من دون اي تأثير ثقافي واعلامي عربي!!
اعماله ومؤهلاته: علامات فارقة
كان البرت خلال المرحلة 1946 - 1993 قد نشر ثمانية كتب وحقق سبعة كتب اخرى كما نشر اكثر من 150 مقالة علمية واكثر من مئة عرض تحليلي لأبرز الكتب المرجعية. ومن بين تلك المقالات المهمة: الاصلاحات العثمانية وسياسات النبلاء التي نشرها العام 1968 واعاد نشرها في .1981 وهي المقالة التي كنت قد تلقيتها على يديه والتي انبثقت من افكارها ونتائجها فلسفتي لتاريخ العرب الحديث والتي ضمنتها مشروعي البحثي في تكوين العرب الحديث في اجزائه الثلاثة. وتكمن فكرة حوراني في ان اجيالا عدة كانت تشكل سلالة من السياسات المستلهمة عن النبلاء والزعامات والشيوخ القدماء، وان اجيالا عدة من المؤرخين انتقلت اليها تلك الروح السياسية والاجتماعية في تاريخ الشرق الاوسط الحديث. ان معظم اعمال البرت حوراني كانت تشع بعمق من خلال التقديرات التي يقدمها المثقفون في كل تقاليدهم ومشروعاتهم في كل من الشرق الاوسط والغرب. وقد شكل هذا الرجل علامة فارقة في تقدم الدراسات التاريخية وخصوصا من خلال عناياته بالحياة الاجتماعية لمختلف الحضارات والثقافات، وكان بدا لي ولجمهرة اخرى من طلبته وزملائه واصدقائه انه كان يتفهم بكل دقة وحدة الاساليب في تغير الافكار او في تصفيتها من خلال الاوعية الثقافية المختلفة والتجارب التاريخية. كان يبر طلبته وطالباته ويختار بشكل خاص من يجعلهم في صحبته اذ له اعتباراته في هذا المجال.
لقاء رائع لن انساه في بودليان الجديدة
كان ذكيا وباحثا اصيلا وماهرا واكتشف افكارا ورؤى عدة في حياة الشرق الاوسط من خلال تجاربه العلمية في تاريخ المنطقة. كان يحتفظ بذكريات خصبة عن بعض من عمل معهم او التقى بهم. كان يعتز بنخبة من ابناء الشرق الاوسط، ولم يقبل عنده الا من يتخيل فيهم الذكاء وقوة الارادة والاصول العالية. ولذا اتهم انه يقرّب ابناء العوائل والاسر العربية العليا اليه. وهو اول من درس الاقليات وشؤونهم وحقوقهم المهضومة في التاريخ الحديث للشرق الاوسط فضلا عن دوره في تأسيس دراسات معمقة في التاريخ الحديث للشرق الاوسط والقائمة على اسس اقتصادية راسخة. ولا انسى انه قدمني شخصيا الى المسز جين ريد في مكتبة بودليان الجديدة التي كثيرا ما يؤثر اخذ كوب من الشاي معها. وفي احد الايام اجتمعنا في احدى غرف تلك المكتبة العريقة على شكل "سيمنار" وكنت في زيارة لأوكسفورد العام 1987 مع لفيف من طلبته القدماء وزملائه. وتحدث البرت حوراني باسهاب رائع عن تحولات التاريخ مع نهايات القرن العشرين وتوقع حدوث هزات كبرى في العالم وخصوصا ما يتعلق بأفول العالم الاشتراكي ومتغيرات الاقتصاد العالمي واستقطاب الولايات المتحدة الاميركية وتفاقم ازمات الاعراق والاصول والاقليات في العالم ومتغيرات جذرية في الشرق الاوسط... وقد حدث كل ما توقعه الرجل في كل تسعينات القرن العشرين وتوفى قبل ان يرى ما حل بالعالم في مانهاتن يوم 11 ايلول 2001! وما حل بالنظام السابق لصدام حسين في العراق يوم 9 نيسان 2003!
رحيله
توفى البرت حوراني في اوكسفورد يوم 17 كانون الثاني .1993 لقد امضى هذا الرجل الالمعي والبحاثة المنهجي والمفكر الحقيقي الى رحابه، ولكنه لم يزل حيا معنا من خلال اعماله العلمية ومن خلال ما خلقه من تقاليد منهجية اكاديمية في كليات سانت انتوني وعند طلبته وايضا من خلال مشاركاته الشخصية في ترسيخ مناهج علمية عدة ارتبطت باسمه. ويشعر بالفخر كل من حادث البرت حوراني وتتلمذ على يديه او زامله واستفاد منه علما بأن ثمة اناس عربا وخصوصا من دكاترة مؤرخين يكرهونه شخصيا ولكنهم يحترمونه علميا بسبب ادعائهم عدم افساحه المجال لهم للاستفادة منه واغتيابه بعد ذلك فهو عارف بالناس وخبير بقراءة وجوههم واحساسه بمعرفة معادنهم! اذ له نظرة ثاقبة في معرفة الناس وكشفه مقدراتهم ليس العلمية والفكرية فحسب، بل حتى الاخلاقية والادبية والاجتماعية. ولقد أسست جائزة باسم البرت حوراني ومن هنا ننادي من اجل حفظ تراثه وتأسيس ما يبقى ايضا حافظا لمجده ليس في بريطانيا فحسب، بل في الشرق الاوسط الذي خسر عمره في دراساته والبحث فيه من اجل ان يبقى اسمه خالدا ومستمرا ضمن تقاليدنا الثقافية في المنطقة وليكن اسمه دليلاً لنخبة العلماء من الاجيال القادمة.