لم يفاجئني نبأ صدور قرار مجلس الحكم الانتقالي بصدد الغاء قانون الاحوال الشخصية في العراق .. ابدا ! لأنني توقعت واتوقّع المزيد من حدوث اخطاء وخطايا جسيمة يرتكبها المجلس الموقر . لقد ظهر واضحا للعيان بأن اغلبية اعضاء مجلس الحكم لم يعرفوا ابدا كيفية التعامل مع فن الادارة ولعبة السياسة واحترام الدين واستقلال القضاء .. انهم لم يدركوا ابدا كيفية التعامل وبحذر شديد مع هذه الفترة الانتقالية التي ليس من حقهم فيها ان يمارسوا ابدا تشريع القوانين باسم السلطة التشريعية .. فهم اجهل الناس كما يبدو بحقيقة ومعنى تلك السلطة التي تقف على رأس هرم الدولة الذي يجمع كل المؤسسات ، ولا يمكن لسلطة تشريعية مؤقتة ان تشّرع القوانين من دون مناقشتها بعد طرحها على الشعب من خلال ممثليه في مجلس النواب ليوافق عليها مجلس الشيوخ او الاعيان ثم يصادق عليها رئيس الدولة او ملك البلاد ! فتنشر في الجريدة الرسمية لينفذها مجلس الوزراء باعتباره سلطة تنفيذية ( = الحكومة ) ..
القوانين القضائية المدنية الموحّده
ان القوانين القضائية المدنية في البداءة والجزاء والصلح والجنايات والتحقيقات والاحوال الشخصية ، ليست من مسؤولية لا مجلس الحكم ولا مجلس الوزراء ولا حتى اكبر رأس في البلاد ! انها من مسؤولية السلطة القضائية التي تعتني بها لجان خاصة على مستوى من الكفاءة والعلم تكّلف بدراسة ما يستوجب تشريعه ، ليناقش ويصادق عليه او يعاد من جديد لصياغة اولوياته وقرائنه ! اما اذا قيل بأن العراق يمر بفترة انتقالية وهو بحاجة الى سن وتشريع قوانين ، فهي في اغلبها سياسية وامنية واجتماعية واقتصادية .. ومع كل ذلك لا يمكن لمجلس الحكم ان يجعلها موضع التنفيذ من دون موافقة اكبر رأس في البلاد ، والمعروف ان بريمر هو حاكم البلاد وحاكم العراق الفعلي ان صح التعبير .
ان ما اقدم عليه مجلس الحكم من اصدار قرار مرقم بـ ( 137 ) ومؤرخ يوم 29 /12/ 2003 هو عمل خارج عن القانون ! علما بأن القرار الذي جاء موقّعا من قبل السيد عبد العزيز الحكيم هو مجرد ورقة جاء فيها ان المجلس : قرر الغاء قانون بالكامل للاحوال الشخصية التي تخص مصير كل المجتمع العراقي .. وبذلك حقق المجلس العتيد مقولة الرئيس السابق صدام حسين عندما عّرف القانون بقوله : انه " مجرد اورقة نكتب فيها .. " ! وهذا ما لا يمكن ان تتوقّعه ملايين العراقيين رجالا ونساء عندما يقرر مجلس الحكم بورقة تتضمن بضعة اسطر انه قرر تغيير كل منهج المجتمع العراقي ومقوماته في ما يخص اثمن القيم الانسانية التي اعتادها العراقيون منذ عشرات السنين .. وكان المطلوب تطويرها نحو الاحسن من خلال اصدار تشريعات وقوانين جديدة تثري ولا تلغي ، تزهر ولا تدّمر .. خصوصا وقد دخل العالم كله حقبة جديدة من التاريخ لا يمكن لأي عاقل ان يمشي الى الامام وعيونه الى الوراء .. وعلينا ان نسأل اعضاء مجلس الحكم الموقرين ان كانوا فعلا من الرجال المتمكنين الذين قد تمرسوا في علومهم وفنونهم ومهروا في معرفة القوانين العراقية وادركوا – وهذا هو الاهم – طبيعة المجتمع العراقي وفهموا تاريخه .. ان يجيبوا على اسئلة لا اول لها ولا آخر ، ومنها : هل يدركون حالة العراق الامنية اليوم ، فهل هذا هو وقت الاحوال الشخصية ؟ وهل تكون الاحوال الشخصية من اولويات اهتماماتنا كي نسرع باصدار قرار يخّصها لوحدها وكأنها هي التي وقفت لتدمّر العراق ؟ وهل يمكنكم يا اعضاء مجلس الحكم الموقرين ان توافقون على ان تبقى قوانين العراق في محاكم الصلح والبداءة والجزاء والجنايات مدنية صرفة كالتي يحتاجها العراق اساسا .. وتركضون الى الاحوال الشخصية لتغيرونها وتجعلونها اسلامية بجرة قلم ؟
بنيويات المجتمع العراقي ومستلزماتها
هذه الاحوال الشخصية المسكينة التي كانت ولم تزل من اضعف واوهى القوانين في العراق وهو بحاجة الى ابقائها وتطوير بنودها بما يخدم تطور المجتمع وبنيوياته وتعدديته وتنوعاته فضلا عن احترام دور المرأة ومنحها المزيد من الحقوق .. لقد انصف الزعيم عبد الكريم قاسم ( رحمه الله ) الاحوال الشخصية في العراق .. فالواجب تطويرها نحو الافضل لا ارجاعها الى حيث ما يقرره المتخلفون والملالي من التباينات والاختلافات والتمذهبات التي لا اول لها ولا آخر ! هل انتم تدركون طبيعة المجتمع العراقي واهمية القوانين المدنية بالنسبة اليه ماضيا وحاضرا ومستقبلا ! هل تدركون يا اعضاء مجلس الحكم الموقرين ان العراق فيه على امتداد تاريخه مشكلات المجتمع والارض والري المعقدة التي لا يمكن حلها الا من خلال قوانين مدنية وتشريعات تتجدد مرحلة بعد اخرى .. وهذا ما شرعّته اغلب الدول والانظمة السياسية التي حكمت في العراق على امتداد ليس مئات السنين ، بل الاف السنين !
هل يدرك اعضاء مجلس الحكم الموقرين بأن العراق لابد ان يحافظ على بنيوياته الاهلية والمدنية التي لا يمكن تفتيتها باستخدام الدين وزجّه في كل التعقيدات الاجتماعية وخصوصا في العراق الذي لا يتحمل تشريع قوانين تفكك المجتمع لا توحده ، وتفسخ علاقاته لا تربطه .. واقولها كلمة للتاريخ بأن العراق لا يمكن ان يتقدم الى الامام مهما اوتي من فرص وثراء من دون قوانين تحكمه منذ ان ولد كاول منظومة مدنية وحضارية في التاريخ .. فليس من المعقول ان تتفوق عليه مجتمعات اخرى تطور قوانينها وتعتني بمجتمعاتها وتفهم تواريخها .. ونحن نبحث لنا عن مجرد ورقة نكتب فيها قرار رقم ( 137 ) ونصدرة بسرعة خارقة قبل ان تنهي سنة 2003 حياتها بيومين .. وكأننا احرزنا نصرا مؤزرا ! ان افجع ما يمكننا تخّيله ان يقف على سّدة الحكم اناس – مع احترامي لهم - لا يعرفون قيمة بلدهم ولا يفكرون في موازين مجتمعهم ، ولا يؤمنون بما هو غير متناقض .. فالمشروع النهضوي الحضاري العراقي الجديد لا يمكنني تخيّله في ظل اصدار قرارات من هذا النوع البليد ! ورب سائل او معّلق يسألني او ينهرني قائلا : لماذا اعترض اليوم على الحكام الجدد ، ولم اعترض على قرارات صدام حسين سابقا ؟ والجواب واضح تمام الوضوح بأن المرحلة انتقالية من عراق استبدادي تسّيرة مجرد ( اوركه نكول بيها ) الى عراق جديد تسّيّره ( مؤسسات تنبثق عنها تشريعات ) .. فاذا لم اعترض وغيري على كل ما يفعله هذا الحاكم او ذاك ، فلم نكن قد دخلنا بعد مرحلة التغيير ، فالتغيير ليس انهيار النظام السابق وسقوط الطاغية ، وانما يعني : كيفية نهوض عراق متطور يمتلك مؤسساته المدنية ويحترم الدين ولا يجعله مجرد ورقة يستدعيها من اجل موضوع معين ويهملها لمواضيع اخرى ! انني اتحدى اعضاء مجلس الحكم الموقرين الذين اصدروا هذه الورقة التي كتب فيها قرار رقم ( 137 ) بأن يكون باستطاعتهم الغاء قوانين البلاد المدنية الاخرى التي عاشت عليها اجيال كاملة منذ ارسائها حتى اليوم ..
قرار كالصفر على الشمال
ان القرار الذي اصدره مجلس الحكم الانتقالي مجرد فقاعة سوف تتبدد بعد ايام لأن ليس هناك عاقلا واحدا في هذا العراق الكبير يقبل على نفسه ان تتعمق ادوات التخلف بخلق ما يساعد على استخدام الطائفية والمذهبية والقبلية والجهوية في البلاد ، فيصبح لكل مذهب قانونه ولكل طائفة شرعتها ولكل قبيلة طريقتها وانه يخلق مشكلات اجتماعية جديدة لا حصر لها في كل مجالات الاحوال الشخصية ، فلنسأل : كم هو جميل ان يقترن الشيعي بسنّية والعكس صحيح كما جرى منذ مئات السنين ، فأي قانون يتبعه الملالي في ذلك ؟ واذا ما مات شيعي عراقي وزوجته سنّية ، فكيف ستقسّم تركته عليها وعلى اولادها .. ومثل هذه الاسئلة والتوقعات تنسحب على الطلاق واموال القاصرين والترمّل .. والخ من الامور ، فهّل فكّر هؤلاء الاخوة في مجلس الحكم الانتقالي بتداعيات ما يريدون تكريسه في العراق الذي نسمّيه اليوم بالعراق الجديد ؟ دعوا الاحوال الشخصية في العراق كما كانت تسير ولا تثيرونها نعرات وحزازات ومشكلات يا رجالات العراق المحتل ! واستطيع ان اضيف لاعلمكم بأن الحاكم المدني في العراق المستر بول بريمر سوف لن ولم يوافق على قراركم !
وانني اناشدكم : ماذا دهاكم ؟ وماذا جرى لكم ؟ ان تخلقوا لنا في كل يوم مشكلة جسيمة والعراق يحتاج الى ما هو اهم مما تطرحونه وتناقشونه وتقررونه .. فعودوا الى صوابكم قليلا ، وانصحكم انه اذا كانت تصريحاتكم غير موزونة ولا معتدلة ولا واقعية .. فلتكن قرارتكم موضوعية وارتكازية واستراتيجية تعتني بما هو اساسي فيما يخص سياسة واقتصاد وامن المجتمع .
ما المطلوب عمله ؟
وعليه ، لابد من قيامكم بالغاء ما كنتم قد قررتموه ورفض القرار المرقم ( 137 ) الصادر يوم 29 / 12 / 2003 لما فيه من اجحاف بحقوق الانسان والمرأة والمجتمع عموما . ولقد سمعت بأن جمعيات ولجان وكتل سياسية عراقية قد رفضت قراركم وليس هناك اي قبة برلمانية تحاسبكم لتقول لكم وجها لوجه بأن قراركم في الالغاء هو تمييز واغتيال لحرية المرأة وخنق ارادة المجتمع وتكبيل للحريات والوقوف ضد حقوق الانسان. كان يتعين على مجلس الحكم اصدار قرارات تكفل وتحترم حقوق الانسان والحريات الاساسية للجميع دون اي تمييز على أساس العرق او الجنس او الدين او الانتماء السياسي. وان القرار قد الغى بجرة قلم كيف ينظم العراق قانون الاحوال الشخصية في ما يخص : الحياة الاسرية وحقوق المرأة في قضايا الزواج والطلاق والمهر والنفقة والرضاعة والحضانة والارث فيما يقضي القرارالجديد بسحب المسؤولية عن هذه القضايا من المحاكم الرسمية وتخويلها لرجال الدين ورؤساء العشائر الامر الذي اعتبر خطوة الى الوراء خاصة مع نجاح تطبيق القانون طيلة العقود الاربعة الماضية. وفي ما يلي نص القرار الذي اثار الجدل والاستياء في كل انحاء العراق :