أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محيي هادي - الأساطير العبرية و علاقتها بأساطير أخرى















المزيد.....



الأساطير العبرية و علاقتها بأساطير أخرى


محيي هادي

الحوار المتمدن-العدد: 1910 - 2007 / 5 / 9 - 04:32
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



ملاحظات أولية

(1) إن الذي دفعني لكتابة هذا الموضوع هو أن الأساطير القديمة التي لبست برقع الدين لا تزال تؤثر تأثيرا قويا على أفكار مجتمعاتنا و أرى رجال الأساطير الدينية لا يزالون يمسكون بزمام الأمر و الوعي و التفكير الديني للكثير من أبناء شعوب منطقتنا. و أصبح الفرد في هذه المجتمعات لا يتنافس على كيفية صناعة هذه الآلة أو تلك لكي تخدم مجتمعه أو يبحث عن طريق لصناعتها، بل أصبح الفرد يجسد الاسطورة أو ينتظر مجيء المهدي المنتظر لكي يقضي على الآخرين الذين لا يعجبه فكرهم، وعلى أيدي المهدي ينتظر إعلان فناء هذا العالم و نهاية البشرية على الأرض. و على طريق مشابه يسير الإرهابيون و أصبح الارهاب هو الوجه الذي تظهر عليه شعوبنا و تقدمه إجراما خالصا لبقية البشر. و إذا كان الذي يريد أن يخلصه المهدي من عذاب الدنيا ثم القضاء عليها فإن النذل الإرهابي ينتحر فيقتل نفسه و يقتل الآخرين طلبا في أن تلاقيه حورية عوراء من الجنة فاتحة له ذراعيها.

(2) إن كتابتي لموضوع الأساطير، هذا، ستعتمد اعتمادا كبيرا على كتاب (الأساطير العبرية-سفر التكوين) الذي ألفه الكاتب روبرت غريفز بمساعدة كاتب آخر: رافائيل باتاي. إن لروبرت غريفز باع طويل في البحث عن الأساطير فقد ألف كتاب بديع عن الأساطير الأغريقية، كما و أنه ألف كتبا أخرى من بينها (أنا كلاوديو) الذي أصبح من أشهر المسلسلات التلفزيونية.
إن كتاب (الاساطير العبرية) لـ -غريفز- يبحث عن هذه الأساطير في سفر التكوين من التوارة فقط.

(3) قد يظن القارئ، المتشدد في "تدينه"، عند قراءته لهذا الموضوع، أن هناك شيئا يشكك في اعتقاده الديني الموروث بدون تدقيق و تمحيص، فلهذا أنصحه أن يقرأ ما أكتبه بشيء من التروي و الهدوء أو يترك القراءة مباشرة.

(4)إن الأسماء التي لم أعثر على مرادفها في اللغة العربية سأكتبها بأحرف عربية بلفظ أسباني، ثم و في حاشية الصفحة سأكتب الكلمة المعنية بأحرف لاتينية، و آمل أن يكون باستطاعة الموقع الناشر لهذا الموضوع أن يعرض حاشيات الصفحات.

(5) قد يجد القارئ الكريم أخطاء مطبعية أو نحوية، وهذه الأخطاء لن أعير لها أية أهمية ما دام القصد مني هو الفكرة و فهمها. أما إذا أراد قارئ ما تعلم النحو و القواعد فما عليه إلا أن يستنجد بكتب القواعد و الإملاء و بكتب اسطورة الأدب الرفيع و غيرها حيث يجد فيها ما يريحه.
و في هذا المجال أذكر مثلا، له علاقة بهذه الفقرة، كتبته د. أمال محمد، التي سآتي على ذكرها لاحقا، عن الآية القرآنية: ("فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى"، أنه "اختلف القراء في قراءة قوله: "ماذا ترى؟" فقرأته عامة أهل البصرة و المدينة و بعض قراء أهل الكوفة "فانظر ماذا تَرى؟" بفتح التاء، بمعنى: أي شيء تأمر؟ أو فانظر ماذا تأمر؟ و قرأ ذلك عامة أهل الكوفة "ماذا تُرى؟" بضم التاء بمعنى: ماذا تشير؟ و ماذا ترى من صبرك أو جزعك من الذبح؟")
و الحقيقة أننا لو عرضنا كلمة "انظر" على أهل الشام لسمعنا الكثير منهم يقرأها: "انزر"، بحرف الزاء او الزاي، على الرغم من أن قصدهم هو الظاء..

منبع الأساطير الاسلامية و المسيحية

لا يمكن لأحد أن ينكر التأثير الكبير و العميق للاساطير العبرية في |أفكار و ثقافة الملايين من المسيحيين و المسلمين، و إذا جعل المسيحيون التوراة جزء من كتابهم المقدس، و هو العهد القديم لإنجيلهم، فإن المسلمين يعتبرون التوراة هو ذكر الله. و قد وصلت الحالة إلى المسلمين لأن يجعلوا أنبياء اليهود –يعقوب و موسى مثلا- و ملوكهم –دافيد أو داود- و كهنتهم –هارون-، و غيرهم، قدوة لهم، و أصبحوا يسمون أولادهم باسماء يهودية، لا بل أن هؤلاء الأنبياء قد أصبحوا في نظر المسلمين معصومين من أية زلة أو خطأ، فالأنبياء اليهود معصومون على الرغم من أن اليهود يعترفون بأخطاء أنبيائهم و لهذا يطلبون من الرب (يهوه) العفو و الغفران لأنبيائهم و لأنفسهم.

تذكرني حالة استيعاب المسلمين، لشخصيات عبرية و جعل الآلاف منهم مقدسين عندهم، بما حدث لصديق أسباني. إذ أن هذا الصديق وعندما بدأ خدمته العسكرية الإجبارية كان يحيي في أيامه الأولى تحية عسكرية كل شخص له بدلة غير مدنية يمر أمامه في المعسكر، حتى أنه كان يسلم على الفراشين و عمال التنظيف بتلك التحية العسكرية، و هو لا يعلم من هم هؤلاء الذين يحيهم بهذا الانضباط العسكري. و قصة صديقي تنطبق على المسلمين إذ أنهم اتخذوا آلاف الشخصيات اليهودية و جعلوها أنبياء لهم... و يضيع المسلم عند ما يريد أن يعد هؤلاء الأنبياء و المقدسين اليهود.

إن ديانة المسلمين و المسيحيين هي استمرار للديانة اليهودية التوحيدية، و قد ساهم هؤلاء مساهمة فعالة و قوية في الدعاية المجانية للديانة اليهودية و أصبحوا بوقا لها، لا بل أن المسلمين العراقيين قد اشتركوا في طمس معالم ثقافتهم السومرية و البابلية، و غيرها من معالم الحضارة القديمة.

سرقة الأساطير و الإجهاض على الثقافة

و لا تؤثر الاساطير العبرية في أفكار الملايين المذكورة فقط بل و أيضا فقد ساهمت مساهمة فعالة في خنق و قمع ثقافات و أساطير شعوب أخرى تم التغلب عليها و اكتساح أراضيها، و سُـرقت أساطير شعوب أخرى فحرِّفت و غُيرت أسماءها و دُونت لتصبح و كأنها اساطير عبرية حقيقية خالصة. فأتنابشتهم السومري أصبح نوحا، و اسطورة طوفان أتنابشتم أصبحت اسطورة الطوفان الكوني باسم نوح النبي، الأب الثاني العبري للبشرية حسب الاسطورة العبرية. و مثلما فعل العبريون في تحطيم رموز عبادة شعوب أخرى قام المسلمون و المسيحيون أيضا بنفس العمل، فمسيحيوا الامبراطورية الرومانية قد حطموا الرموز الدينية الأغريقية-الرومانية القديمة، ثم جاء بعدهم كاثوليكيو محاكم التفتيش ليقضوا على كل من لا يتفق مع أفكارهم، و أما المسلمون فقد حطموا الرموز العربية القديمة التي كانت موجودة قبل انبعاث الاسلام، فتحطيم أصنام الكعبة مثلا على ذلك، و لم تكن هذه الأصنام إلا جزء من ثقافة عربية سابقة. و على طريق التهديم و التحطيم قام السعوديون، و بعد أن سرقوا اسم شبه جزيرة العرب و وضعوه باسمهم، و يقومون في تحطيم تاريخ و ثقافة شعوب شبه الجزيرة العربية، كما قام طالبان أفغانستان بتهديم تماثيل بوذا. و على نفس الطريق يسير ارهابيو السلف الطالح المرسلون من قبل السلطات السعودية الوهابية بالعمل على تهديم مساجد المسلمين العراقيين و أماكن عبادة تابعي الأديان العراقية الأخرى.

القرآن مليء بالأساطير العبرية

بين المدة و الأخرى يظهر لنا واحد من الذين وصفهم القرآن بـأنهم "أشد كفرا و نفاقا" و هو يحدثنا بحديث ينسبه إلى النبي محمد عن طريق أحد أصحابه يلعن فيه هذا اليهودي فيصفه بالقرد، و يلعن فيه ذلك المسيحي فيصفه بالخنزير و هلمجرا، و يظهر لنا آخر يحتج على كثرة وجود الإسرائيليات في كتب المسلمين و أن هذه الاسرائيليات دخلت إلى الاسلام عن طريق هذا اليهودي الذي أعلن اسلامه مجبورا أو عن طريق ذلك المسلم الذي كان أبوه يهوديا أو عن طريق شخص ثالث آخر، على دين مغاير. ثم يتحدث بأن المؤرخ الفلاني قد نقل الاسرائيليات دون فحص و تمحيص و لهذا يجب ألا يعتبر هذا المنقول جزء من الاسلاميات. و في الواقع أنه من الافضل، على أي شخص يريد الاطلاع على الاسرائليات، الذهاب مباشرة إلى القرآن ليجد فيه الاسرائيليات و هي تطغي عليه. و لن يتعب أبدا في العثور عليها.

لقد أصدر المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية في وزارة الأوقاف المصرية كتابا ألفته د. آمال محمد عبد الرحمن تحت عنوان "الاسرائيليات في تفسير الطبري" بينت فيه كثيرا مما اسمته بالاسرائيليات التي دخلت في الدين الاسلامي عن طريق المؤرخ و المفسر للقرآن، الطبري. و الحقيقة أنها لو قرأت في المئات من كتب المؤلفين المسلمين لوجدت الشيء نفسه، و ربما أكثر. و الظريف في أمر المؤلفة أنها سارت على طريق من يريدون طمس ثقافة الآخرين و جعلت "الموافق لشريعتنا قد أصبح بعد إقرار الإسلام من –الإسلاميات-، لأن الاسلام نسخ ما قبله"، و هكذا سارت د. آمال على طريق "ما كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ". فابراهيم هو مسلم عند المسلمين، و يهودي عند اليهود، حتى و لو جاء اليهود و المسلمين بعده بقرون عديدة، أو كان له دينا آخرا.
و الغريب في هذا الكتاب الصادر من وزارة الأوقاف المصرية أنه يحسب "أن الإسرائيليات قد دخلت في غفلة من المسلمين إلى تراثهم و تفاسير قرآنهم..." !!، ثم تكتب مؤلفته لتناقض نفسها: "و الاسرائيليات كثيرة و متشعبة حيث يتحدث القرآن عن بني اسرائيل كثيرا." فهل دخلت الاسرائيليات في غفلة إلى القرآن الذي يتحدث عنها كثيرا؟

ثم أن الكاتبة المصرية تعطي رأي ابن خلدون في أسباب تفشي الإسرائيليات، و ترجعها إلى: (1)العامل الاجتماعي الذي يتمثل في تغلب البداوة و الأمية على العرب. (2)الروح الفضولية لدى النفس البشرية. (3) العامل الديني الذي يرجع إلى عدم ارتباط هذه المرويات الاسرائيلية بالأحكام مما سهل و سوغ روايتها و تلقيها. لكن الكاتبة ذكرت أحد الأحكام المقتبسة من التوراة الإسرائيلية في موقع آخر من كتابها، إذ كتبت أن البخاري روى في صحيحه مرفوعا إلى ابن عمر "أتى النبي برجل و امرأة، من اليهود قد زنيا، فقال لليهود ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخم وجوههما، ونخزيهما. قال: "فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين". فجاءوا فقالوا لرجل ممن يرضون: يا أعور، اقرأ. فقرأ حتى انتهى إلى موضع فيها، فوضع يده عليه. قال: "ارفع يدك". فرفع يده فإذا فيه آية الرجم تلوح. فقال يامحمد، إن عليها الرجم و إنّــا نكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما".. يظهر من هذا الإقتباس أن النبي محمد كان عارفا بالتوراة و أنه كان يسير على أحكامها، أو على أحكام جزء منها.

إن د. أمال، التي طبعت لها كتابها وزارة الأوقاف المصرية هي مثل، لا غير، للملايين من المسلمين الذي يرتوون بمياه الديانة العبرية و يتغذون باساطيرها، لكنهم ينكرون ذلك و يحاولون التملص من ذلك، لا بل أن الكاتبة كتبت في مقدمة كتابها الآية (79) من سورة البقرة: " فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ". و يمكن تطبيق بيت الشعر التالي على من يرتوي من صحون مياه العبريين ثم يبصق عليهم، بل في وجوههم، و بيت الشعر هو:
أعلمه الرماية كل يومٍ........فلما اشتد ساعده رماني.
أو كما نقول العراقيون:
علمته يرمي سهام حلو المعاني،
لمن تعلم زين صدني و رماني.

الاساطير دستور المؤسسات الدينية

تمثل الاساطير قصصا مؤثرة و مثيرة تستعملها المؤسسات الدينية كدستور يمكن بواسطتها نشر العادات و التقاليد و الطقوس الدينية، حيثما تواجدت، و إجراء التعديلات عليها بين الحين و الآخر. و يستعمل دارسو الأساطير كلمة –ميثولوجيا- الأغريقية المصدر ليشيروا بها إلى ذلك العلم الذي يدرس الاساطير.
إن المترجمين الحرفيين للكتب الدينية المقدسة لدى اليهود و المسيحيين و المسلمين المؤمنين بالله كإله واحد، لا يعترفون بل ينكرون بأن هذه الكتب تحتوي على اسطورة ما، و في هذا يمكن أن يكون لديهم بعض الحق و لكن في إتجاه معين، إذ ان أغلبية الأساطير تتكلم عن الآلهات، ذكورا كانت أم إناثا، التي تتدخل في شؤون الانسان، و كل اسطورة تفضل إلاهها على إله آخر من منافسيه، بينما الكتب الدينية المذكورة، و من بينها التوراة، تعترف فقط بإله واحد شامل متسلط.

كتب مكتوبة قبل التوراة

إن كل الوثائق المتعلقة بالأديان التوحيدية العبرية التي سبقت التوراة، أو العهد القديم، قد لحقها الضياع أو حذفت بطريقة متعمدة. فمن هذه الوثائق نجد:
* كتاب حروب يهوه (كتاب حروب الرب).
* كتاب العادل (سِـفر ياشر).
و هذان الكتابان هما على شكل قصص حماسية ملحمية عن مسيرة الاسرائيليين في الصحراء و احتلالهم لأرض كنعان. و في قراءة أجزاء مختصرة مذكورة من العهد القديم (العدد -14/ 21-، يشوع -10/13 -، و 2 صاموئيل 01/18 -) يمكننا أن نرى بأن هذه الكتب كانت مكتوبة بالنمط الشعري العبري القديم.

أما د. آمال محمد عبد الرحمن فإنها تذكر أن سفر ياشر هو (كتاب المستقيم أو سيفر هاياشار) و أنها اقتنت طبعة من هذا الكتاب صدرت في اسرائيل عام 1984م و أشير على غلافه أن الطبعة الأولى لهذا الكتاب كانت عام 1925م. و قد حاولتُ، أنا، البحث في الانترنيت عن كلمة هاياشار فلم أعثر عليها إلا مرة واحدة فقط ترجعني إلى كتاب د. آمال.

* هناك كتاب ثالث مصنف في سبعة أجزاء، حسبما يُعتقد، بأمر من يشوع، يصف أرض كنعان و مدنها (يشوع 18/9) .
* كتاب سلالة آدم الذي كان يقدم وصفا مفصلا عن الأجيال العشرة الأولى منذ آدم إلى نوح.
* كتاب يهوه أو (سِـفر الرب) (أشعيا 34/16 ) الذي من المحتمل أنه كان يتحدث عن حيوانات اسطورية.
* و هناك أيضا كتب أخرى مذكورة في الانجيل، ككتاب أعمال سليمان و ملوك اسرائيل و أبناء ليفي، تحتوي على الكثير من الاشارات الاسطورية.

ما بعد الانجيل

و تكثر الوثائق المقدسة التي كتبت بعد الانجيل، فخلال الالف عام بعد الاتفاق على الانجيل كقانون كهنوتي رسمي، قام اليهود في اوربا و أفريقيا و آسيا بالكتابة بشكل مكثف و خصب، و كانت هذه الكتابات تشرح مرة القانون الموسوي (نسبة إلى النبي موسى) و مرة أخرى كانت عبارة عن تعليقات تاريخية أو أخلاقية أو نوادر و حكايات أو مواضع حول نصوص انجيلية. و في كلا الحالتين كان الكتاب يقحمون موادا اسطورية، فالاسطورة قد خدمت دائما و بشكل و اضح و جلي القوانين السرية و الطقوس و العادات الاجتماعية.
و جدير بالذكر أن العهد الجديد للإنجيل كان قد كتب معظم أجزاءه باللغة الأغريقية بايدي يهود ناطقين بهذه اللغة.

علاقة أساطير عبرية بأساطير أخرى

و على الرغم من أن كتب الانجيل تعتبر مكتوبة بوحي إلهي و يجب أن تمحى أية شائبة يمكن أن تشرك بالإله الواحد فإن الكتب الأخرى كانت تتعامل بشيء من السماح. فهكذا فقد سمح للكثير من الاساطير المحذوفة للظهور بين سطور تفاسير الانجيل، كالمرداشيم (جمع مرداش) . ففي سفر الخروج، مثلا، نقرأ أن الخيول و العربات التي كانت تحمل جنود فرعون قد لاحقت أبناء اسرائيل و دخلت في وسط البحر وراءهم (الخروج 14/23 )، و حسب المدراش مِـخيلتا فإن الله قد اتخذ شكل فرس في شهوة مما أدى بفحول الخيول المصرية لملاحقتها إلى وسط الماء. فإذا كانت الإلهة هي ديميتر الأغريقية برأس فرس قد أغرقت عربات الملك بلوبة بواسطة هذه الحيلة فإنه يمكن أن يُقال عنها بأنها اسطورة أغريقية مقبولة، إلا أن الأمر يختلف عند قارئ المدراش المؤمن، فالقصة بالنسبة له ما هي إلا تعبير مجازي بديع يصف التطرف الذي يصل إليه الله لكي يحمي به شعبه المختار. أما بالنسبة للساذج فإنه يعتبر الحدث حقيقة وقعت في ذلك الحين مثله مثل ثعبان موسى.
إن الإنجيل بذاته يقدم نماذجا من ثروة أساطيره الفنية الضائعة، و في كثير من الأحيان يكون التلميح لها بشكل موجز لا يمكن الشعور بها. فقليل من الذين يقرأون، مثلا، " و كان بعده شمجر بن عنات فضرب من الفلسطييين ست مئة رجل بمنساس البقر وهو أيضا خلّص إسرائيل" (القضاة 3/31)، يمكنهم أن يعطوا علاقة لأم شمجر مع إلهة الحب الدموية الأوغارتية، الحسناء عناة ، التي على شرفها اقتبس اسم – عناتوت -، مدينة الكاهن (النبي) إيرميا. إن اسطورة شمجر لا يمكن إعادتها على الرغم من أن بطلها كان يجب أن يرث الحماس الحربي من أمه العذراء، و إن عصا الثيران التي هزم بها الفلسطينيين كانت، و بدون شك، هدية من أبي عنات، الإله الثور إيل.
و مهما كان الأمر فإن سفر التكوين يحتوي على أوصاف جزئية للإلهة القديمة مقنعة برجال أو بنساء أو بملائكة أو بوحوش أو بشياطين. فحواء، التي يصفها سفر التكوين على أنها زوجة آدم، معروفة لدى المؤرخين على أنها الإلهة هبا ، زوجة إله العاصفة الهيتي التي امتطت عارية ظهر أسد، و أنها تحولت إلى الإلهة هبه زوجة هراقلس عند الأغريقيين. و كان هناك ، في أورشليم في فترة تل العمارنة في القرن السادس ق م، أمير اسمه عبد هبا (عبد حواء). إن الإلهة ليليت (أو ليليث) التي سبقت حواء كانت قد استبعدت بشكل كامل من كتاب التوراة المقدس على الرغم من أن سفر يشوع قد ذكرها كاحدى سكنة خرائب موحشة. و حسب الروايات المدراشية عن الفسوق الجنسي فإنه يظهر أنها كانت إلهة الإخصاب و أنها ظهرت تحت اسم ليلاك في قصيدة- كلكامش و شجرة الصفاف- أحد النصوص الدينية السومرية.
و هناك إشارات سبقت الإنجيل حول الملاك –شمائيل-، المكنى بالشيطان، الذي ظهر للمرة الأولى في التاريخ بأنه الإله الرب لمملكة سمال، مملكة هيتية-آرامية صغيرة تقع إلى شرق حرّان. و هناك إله آخر اختفى من الاسطورة العبرية، وهو الإله راهاب أو (راحاب) أمير البحر، الذي لم يستطع النجاح بتحديه يهوه إله اسرائيل، بنفس الطريقة التي تحدى بها الإله الاغريقي بوسيدون أخاه، القادر على كل شيء، زيوس . و طبقا لسفر أشعيا فإن يهوه قد قتل راهاب بسيف. إن هناك آلهة أوغارتية معبودة مثل بعل زبوب أو زبول كان قد استشارها ملك اسرائيل أخزيا في عقرون . (الملوك الثاني 1/2 و ما بعده). و بعد بضعة قرون اتهم الجليليون عيسى المسيح بأنه كانت لديه علاقات مع –أمير الشياطين راهاب-.

و هناك سبعة آلهات كواكبية، مقتبسة من بابل و مصر، يُحيى ذكراها في أذرع المينوراة أو الشمعدان اليهودي المقدس. لقد أصبحت الآلهات السبعة متحدة في إلهة واحدة مهمة في أورشليم بنفس الطريقة التي حصلت للهليوبوليتان و للبابليين و للدروئيديين الغاليين و لإيبيريي طرطوشة. و تظهر في كتب الإنجيل التاريخية إشارات إزدراء و تحقير لآلهات القبائل المعادية، التي أذلها الله، كالفلسطيني داجون و كموش إله موآب و ملكوم إله بني عمون. وعن طريق المؤرخ فيلون البيبلوسي ، المولود عام 42 م، عُرف أنه كانت لداجون قدرة كوكبية. و أيضا فإن إله سفر التكوين، في نصوصه الأولية، لم يكن في الامكان تمييزه عن أي إله قبلي آخر صغير.

أدوار آلهات الأساطير

إن الآلهات الأغريقية، الذكور أو الإناث، كانت تقوم بأدوار مسلية أو دراماتيكية في الوقت الذي تحيك فيه المكائد و المؤامرات من أجل مصلحة أبطالها المُفضّلين، و سبب ذلك لأن هذه الأساطير الأغريقية ظهرت في المدن-الدول المختلفة و التي كانت تتذبذب في علاقاتها بين الصداقة و العداء فيما بينها. أما الأساطير العبرية فإنها أصبحت أحادية الجانب و تمركزت بشكلٍ احتكاري في أورشليم. إن الأبطال في الاسطورة الإنجيلية يظهرون مرة و هم يمثلون ملوكا، و مرة أخرى يمثلون سلالات، و مرة ثالثة يمثلون قبائلا مستقلة تجمعت لتكوِّن التجمع المتحد أو الفيدرالية الإسرائيلية، و إن آلهتهم المحلية لم تكن بالضرورة آرامية العِرق على الرغم من أن راهبهم كان آرامياً. و يمكن فقط أن نقول أن موسى، في جزء من اسطورته، كان شخصية فردية تاريخية. إن ما نجد من أن كل واحد من أبناء يعقوب، ماعدا يوسف يتزوج، كما يقال، من شقيقته التوأم يدل على أن الأرض كانت تتوارث بواسطة الأم على الرغم من أن الحكم فيها كان أبويا. أما—دينا، أو دينة-، الإبنة الوحيدة ليعقوب التي ولدت بدون توأم شقيق، فيجب أن تُفهم على أنها كانت قبيلة شبه أمومية داخلة في كونفدرالية اسرائيل. إن رواية سفر التكوين لاختطافها من قبل شكيم و تفسير المدراش لزواجها من سليمان يجب أن تُفهم في الاتجاه السياسي لا الشخصي.

و تظهر في سفر التكوين اشارات أخرى لثقافة أمومية قديمة، فمثلا أن من حق الأم تسمية أبناءها بالإسم الذي تختاره، و لا يزال العرب يطقبون هذه الثقافة ، و إن الزواج هو أمومي-محلي و فيه يعيش الزوجان مع عائلة الزوجة، " لذلك يترك الرجل اباه و امه و يلتصق بامراته و يكونان جسدا واحدا" (تكوين 2/24). إن هذه العادة الفلسطينية نجدها مذكورة في زواج شمشون مع دليلة في سفر القضاة، و يشرح السبب الذي قام به ابراهام الآرامي ، الذي دخل إلى ارض فلسطين مع عصابات الهكسوس في بداية الألفية الثانية ق م، بامر خادمه أليزر لكي يذهب إلى أقربائه من أبيه في حرّان و يطلب منهم امرأة لتصبح زوجة لابنه اسحاق، بدلا من أن يتخذ للإبن زوجة كنعانية و بهذا يكون مقبولا عند عائلتها. إن ابراهام كان قد طرد أبناءه، من جواريه، (كاسماعيل من هاجر)، لكي لا يشاركون إسحاق في الإرث. و هذا النوع الأمومي من الزواج كان هو السائد في الاساطير الأغريقية البدائية، وقد أشار أحد كتاب أساطير إلى أن أوديسيوس كان هو الأول الذي ترك هذه العادة التقليدية في الزواج فحمل زوجته بنلوبه من أسبارتا إلى إتاكا و أضاف الكاتب: إلا أنها رجعت إلى أسبارتا بعد طلاقها.
و من الممكن رؤية القوة التي كانت تتمتع بها الآلهات أثناء فترة المملكة اليهودية إبتداءً من الإدانة التي قام بها تابعو إيرميا ضده إذ حمّلوه سقوط مملكة يهوذا بسبب عدم إخلاصه لـلآله عنات، و كانوا يهتفون "لنعبد مرة أخرى ملكة السموات مثلما فعل آباءنا قبلنا".

القادة اليهود و الأساطير

إنه يجب على كل حاكم يُصلح المؤسسات القومية، كما فعل أشعيا، أن يحرر ملحقا للدستور القديم أو يضع آخرا جديدا، و هذا يعني تلاعبا أو صياغة جديدة للأساطير. إنه من الواضح أن دولة يهوذا، التي كانت تقع بين مصر و آشور و كانت تريد الحفاظ على استقلالها السياسي، كان عليها أن تعلم شعبها انضباطا دينيا أكثر صرامة و شدة و تدربهم جيدا على استعمال السلاح. و إلى ذلك الحين كان الأغلبية من العبريين قد اعتنقت العبادة الكنعانية السمحاء التي كانت فيها الآلهات الأناث يقمن بالدور الأساسي و كان الملوك هم أزواجهن. إن هذه العبادة كانت جيدة في زمن السلم الا أنها لم تكن تنفع في تقوية مقاومة اليهود في وجه الجيوش المصرية أو الآشورية الغازية. لقد كانت هناك مجموعة صغيرة، صغيرة و لكنها قوية، تقودها مجموعة الأنبياء و كان أعضاءها يلبسون ملابس الرعاة تشريفا لإلهم القروي. إن هؤلاء الأنبياء قد انتبهوا إلى أن الأمل الوحيد في الاستقلال القومي الاسرائيلي هو في اعتناقهم ديانة التوحيد المتسلط و كانوا يعارضون دائما عبادة الآلهات في الغابات الكنعانية المقدسة. أن سفر التثنية المكتوب أيام الملك أشعيا كان يمنع الطقوس الكنعنانية و من بين هذه الطقوس: الدعارة و الانحراف الجنسي و كل أنواع عبادة الأصنام. و بتحول العرش الملكي الداودي تم إشراك هذا الرأي جميع المهجرين إلى بابل. و هكذا و عندما قام الحاكم زوروبابل بإعادة بناء معبد يهوه لم يجد أحدا ينافسه. لقد أصبح، بعل و عشتار و عنات وبقية الآلهة في حكم الأموات عند اليهود الذين عادوا من بابل.
إن سفر التكوين له علاقة قوية مع قائمة الأساطير الأغريقية و الفينيقية و الهيتية و الأغارتية و السومرية، و غيرها، مما جعل المتدينون اليهود و المسيحيون يوافقون على أن سفر التكوين قد أعيد به النظر لأسباب أخلاقية، و قد تكون إعادة النظر فيه في القرن الرابع ق. م و ما بعده. إن اسطورة حام (كام) كانت في زمن ما سابق مشابهة للمؤامرة التي قام بها أبناء الإله الأغريقي- كرونوس-، زيوس و بوسيدون و هادس، ضد أبيهم، إذ أن الإبن الاصغر زيوس كان هو الوحيد الذي تجرأ على إخصاء الأب و في النتيجة تحول ليصبح ملك السماء. و لكن إخصاء نوح بواسطة ابنه حام قد ألغي من سفر التكوين قبل هذه الجملة: " فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير" (تكوين 9/ 24). إن النسخة المنقحة، و هي عبارة عن قراءة أخلاقية لإحترام الاب من قبل الأبناء، تدين حام و تعاقبه على أن يكون عبدا لاخوته الكبار بسبب رؤية أبيه عاريا.
إلا أن المنقحين الانجيليين لم يعطوا أية أهمية لأجل تنظيف كل ذكر في صالح تضحية البشر و لا عبادة الترافيم الصنمية. إن مهرجان الحانات و هوعبارة عن احتفال كنعاني بمناسبة قطوف العنب لا يمكن أن يُلغى و لكنه ينظف فقط من المجون الجنسي ويحول إلى احتفال عبادة للإله الأعلى، رابطين به استعمال الاسرائيليين للخيام في الصحراء. و على الرغم من كل ذلك فإن خفة النساء جعلت رجال الدين المتقشفين مشغولي البال. و بشكل مشابه فإن مهرجان الخبز الكنعاني تحول إلى احياء ذكرى الخروج الاسرائيلي من مصر.

التدهور المستمر للمرأة في الأساطير

هناك شأنا من الشؤون الاساسية في الأساطير الأغريقية ألا و هو التدهور المستمر للنساء، إذ تحولن من أشخاص مقدسة إلى ممتلكات شخصية. و بشكل مشابه فإن يهوه (الرب) يعاقب حواء لأنها كانت السبب في سقوط الرجل. و لأجل إخفاء الجوهر الإلهي الأصلي لحواء، و معنى اسمها –أم كل الأحياء- الموجود في سفر التكوين، فإن كاتبي الاسطورة العبرية و صفوها و كأنها تكونت من أحد اضلاع آدم، و هذه حكاية تعتمد على كلمة "تسيلا" الذي تعني "ضلع" أو "تعثر". و جاء آخرون ليصروا على أن حواء تكونت من ذيل آدم المسنن. إن الأغريقيين أيضا جعلوا المرأة مسؤولة عن تعاسة الرجل، فتبنوا حكاية هسيودوس حول صندوق باندورا ، إذ أن زوجة أحد التيتان تركت الصندوق مفتوحا فتركت المجال لكي تخرج منه الأمراض و الشيخوخة و العيوب. و جدير بالذكر أن نلاحظ أن اسم باندورا التي تعني "كل المواهب" كان في زمن سابق لقب للإلهة الخالقة.
إن الأساطير الأغريقية تصف اللعنات و المحرمات التي كانت جارية المفعول حتى بعد ألف عام، فالجحيم الأغريقي كان يحتوي على أمثلة عن مجرمين عوقبوا بسبب تناولهم الطعام المحرم، كما حصل لتنتالوس ابن الإله زيوس ، أو ما حصل للدانيدس بسبب قتل أزواجهن، أو بسبب محاولة إغراء آلهة كما حصل لـ -بيريتو-.

الأساطير العبرية و التفاصيل الدينية المؤثرة

و لكن الأغريقيين لم يقوموا بتفسير أساطيرهم بتفاصيل دينية مؤثرة مثلما تشير اسطورة ابراهام إلى محاولته لنحر ابنه اسحاق في اليوم الأول من تشرين، عندما يقوم بنو اسرائيل بالنفخ في قرون عجول للتذكير بشفقة إله إبراهام و التضرع إليه طالبين العفو عن خطاياهم. أو ما يقومون به من نحر جَدي في يوم الغفران الذي هو يوم لإحياء ذكرى خداع أبناء يعقوب، آباء اسرائيل، لأبيهم عندما لوثوا قميص يوسف ذا الأكمام الطويلة –أو دثاره الكبير- بدم جدي. و على الرغم من أن اسطورة اسحاق لها ما يشبهها في محاولة الملك الأغريقي أتامانت للتضحية بابنه –فريكسو- قربانا للإله زيوس، هذه التضحية التي توقفت بوصول هراقلس و ظهور خروف إلهي. أن الخروف قد موّن الجلد الذهبي، ذلك الجلد الذي يبحثون عنه –آرغوناوتات (أبطال أغريقيون) جاسون- بمرور الزمن. إن سفر التكوين يقدم اسطورة التضحية ويعتبرها حقبة مهمة في التاريخ العبري.

الأساطير العبرية و الدعاية السياسية

و كذلك فإن الأساطير الأغريقية لم تكن قد استخدمت من أجل الدعاية السياسية. إن قصة المعاملة السيئة التي تعرض لها عيسو على يد أخيه يعقوب قد أكملت بعدئذ بالنبوءة: بأنه في يوم ما سيكسر نير العبودية التي وضعه يعقوب على رأس عيسو –و هذه مادة أضيفت بعدئذ لتبرير انتفاضة قام بها الأدوميون ضد دولة يهوذا أثناء حكم الملك –يورام- "الشر في عيني الرب" (الملوك الثاني 8/18)- إن حكاية النبوءة قد اتخذت معنى جديدا عندما قام الرومان بتتويج -هيرودس- السيء، أحد الأدوميين، ملكا على اليهود: إن أدوم قد تحولت حينئذ إلى مرادف لروما، و أن علماء الدين اليهود نصحوا لكي لا ينتفض شعبهم بالسلاح و أن يطلبوا العفو، بصبر و تسامح، نيابة عن جدهم الأعلى يعقوب بسبب المعاملة التي عامل بها أخاه –عيسو- .
لقد كان يُعزى إلى الأبطال الاسرائيليين حضورا تاريخيا كاملا بل و معرفة مسبقة لقانون موسى، و يمكن أن نفهم من هذا أن من يحقق عملا وقورا في النصوص المقدسة يحدد بواسطته مصير نسله أبد الدهر. و هكذا عندما يُحضِّر يعقوب لقاءه بأخيه عيسو و يقسم أهله وأغنامه إلى ثلاث مجموعات و يبعث معهم الهدايا و يترك مسافة بين مجموعة و أخرى، ما هو إلا إشارة تحذير لنسله ليتخذوا الإحتياط ضد الظرف الأسوأ. و حسب المدراش فإن يعقوبَ قد دعا "أيها الرب: عندما تسقط المحن على أبنائي أرجوك أن تترك مسافة بينها مثلما فعلت أنا". إن - وصايا الأجداد الإثنى عشرة- ، غير الكنائسية، تعزو إلى هؤلاء الأجداد تنبأ و معرفة سابقة للتاريخ القادم.

تبرير الأعمال المشينة

إن اسطورة يعقوب تبين خلافا آخرا بين المواقف الدينية الأغريقية و العبرية، فيعقوب يسرق من خاله لابان خرفانا و نعجات بتغيير ألوانها و هكذا فإن البطل الأغريقي آوتوليكوس يقوم بنفس الفعل, و يظهر أن هاتين الاسطورتين نابعتان من نفس المنبع الفلسطيني: إن آوتوليكوس كان لصا مكارا و محتالا ليس إلاّ، و لكن يعقوب باسمه الجديد، اسرائيل ، كان يجب أن يتحول إلى سلف صالح لجميع اليهود، و الحيلة التي قام بها لسرقة خاله لابان قد أصبحت مبررة بالقول بأن لابان قد خدع يعقوب مرتين، وبدلا من أن يعمل سحرا اعتياديا على الحيوانات التي يملكها الآخرون، كما فعل آوتوليكو، فإن يعقوب يشترط على خاله اللون و يحدد خاصيته بواسطة الاستعمال المدروس للتأثيرات التي تحدث على الجنين قبل الولادة. إن هذا المثل يعني أن اليهود يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ضد مضطهديهم، و لكن فقط من خلال استعمال الطرق الشرعية، شرعيتهم بالطبع!.

و لا تُستخلص استنتاجات أخلاقية من مآثر الأبطال الإغريق إلا إذا كان هناك تحذيرأ ضد هوى القدر. فبينما كان تدمير –ترويا - قد حمّل جميع القادة الأغريق من ذوي الأهمية، سوء الحظ فقط،‘ –و بعض المحاربين الشهيرين من الجيل السابق، كـ-تسيو - و –بلـروفونت - لاقوا مصيرا تعسا ضحايا لعقاب إلهي، نجد ابراهام و اسحاق و يعقوب و يوسف قد ماتوا موتا طبيعيا بعد أن أكملوا أعوام حياتهم، ثم اجتمعوا بشرف مع أسلافهم.إن هذا التضاد يتضح أكثر عندما نتذكر قصة يوسف و زليقة ، زوجة العزيز بوتيفار ، و هي اسطورة مطابقة لاسطورة بلـروفونت وزوجة أبيه. لقد حالف الحظ الأنبياء العبريين، فـ -حنوك - و إلياس، مثلا، قد صعدوا مباشرة إلى السماء، بينما الأغريقي الإلهي –تيريسياس- فإنه تنبأ المصير القاسي لـمدينة -تيباس- و قد مات بشكل مخزٍ وهو يهرب بطريقة غيرمشرفة. وعلى الرغم من أن يوسف الذي أنقذ شعبه من الوحش المصري ،أي من حكم فرعون، كان عليه أن يطلب العفو عن أحد الأخطاء الشخصية في جبل –بساغ- و عندما توفي يوسف بكي عليه بكل التشريفات من قبل شعب اسرائيل ثم دُفن من قبل الله نفسه، نجد في المقابل-أديبوس- الذي أنقذ شعه من الوحش التباني، و أن مولده يُشابه مولد يوسف، كان قد مات مُهجراً تعيسا تلاحقه لعنات الحق الامومي.

ارستقراطية الاساطير الأغريقية

و بعيدا عن التناقض الواضح فيما يتعلق بتلقي الثواب عن فضيلة ما فإن الفرق الرئيسي بين الأساطير الأغريقية و العبرية هو في كون الأولى ملكية أو ارستقراطية، و لهذا يُفسر وجود مؤسسات دينية محددة في مدن-دول معينة، مرؤوسة بواسطة رهبان يزعمون النزول من صلب الأبطال أو الآلهة الملائمين لهم. إن البطل أونسله فقط، يمكنهم ان يأملوا بحياة آخرة هنيئة في الجزر السعيدة أو في حدائق جبل أوليمبوس . أما أرواح العبيد و الغرباء على الرغم من الحياة المثالية التي كانوا عليها فإنهم مدانون على السكن في قاع التارتاروس المظلم، و هو يطيرون إليه بشكل أعمى كخفافيش تهز أجنحتها.
و على عكس ذلك فإن يهود الكنيست الذين اتبعوا قانون موسى، فأي كان مسكنهم أو محل ميلادهم أو وضعه الاجتماعي، فهم يتمتعون بالمملكة السماوية التي تبزغ من رماد العالم الحاضر. إن الأغريق لم يخطوا أبدا أية خطوة ديمقراطية كهذه الخطوة، و لو أنهم يستثنون من معرفة الأسرار، (ضمان الفردوس لكل المبتدئين)، ذوي السوابق و هكذا يبقى القبول في الفردوس محتكرا على الأحرار.

إن الأساطير الأغريقية هي وثائق دستورية تسمح لقبيلة معينة من نسل –برسَـيَوس أو بلوبه أو كادميوس أو غيرهم- أن تحكم أراض معينة و يكون ذلك دائما بعد أن تُرضي الآلهات المحلية بقرابين و رقصات و مواكب دينية، إن الاحتفال السنوي بهذه الطقوس يقوي من سلطتهم.
أما الأساطير العبرية فهي بشكل رئيسي وثائق دستورية ذات طابع قومي، فاسطورة ابراهام هي لتأكيد امتلاك أرض كنعان و الزواج الأبوي المحلي، و إن اسطورة يعقوب هي لأجل التصديق على أن شعب اسرائيل هو شعب الله المختار، و أما اسطورة حام فهي لشرعنة العبودية و امتلاك العبيد. و هناك أساطير أخرى تدعم القدسية العالية لجبل صهيون مقابل أماكن العبادة المنافسة في الخليل و شكيم (نابلس). إن بعض الكتاب المتأخرين كانوا قد كتبوا من أجل حل المشاكل اللاهوتية الجدية، كأصل الشر في الإنسان، فآدم، الجد الأعلى للإنسانية حسب الاسطورة العبرية، كان قد خُلق من قبل الرب يهوه على شكله و صورته و أعطيت له الحياة بروح الله ذاته. إن آدم كان يجوب الأرض متشردا بسبب جهله و ابنه قابيل قد أجرم و قتل عن عمد. و هناك أسطورة تجعل من قابيل ابن زنا وُلِد نتيجة العلاقة بين الشيطان و حواء.

العامل المؤقت و العامل الدائمي في الاسطورة

إن الاسطورة الأغريقية، أحيانا، لا تعير أهمية إلى العامل المؤقت، فهكذا فإن البعض يقولون أن الملكة هيلينا التي حافظت على جمالها لمدة عشر سنوات أثناء حصار –ترويا- و استمرت محافظة عليه للعشرة التالية من السنين، كانت قد أنجبت إحدى البنات من الملك –تسيوس- في العصر السابق قبل أن يبدأ الحصار. و بسبب عدم حكاية القصة بنفس الراوي فإن المحققين الأغريق يمكنهم أن يظنوا أنه كانت هناك ملكتان اسم كل واحدة منهما –هيلينا- أو أن أحد كتاب الأساطير قد أرتكب خطأ.
و مع ذلك، فإن سارة في الأساطير العبرية تحتفظ بجمالها، بشكل لا يقاوم، بعد أن أكملت التسعين من عمرها، ثم تحبل و تنجب اسحاق، ثم ترضع كل أبناء الجيران تماما مثلما فعلت مع ابنها اسحاق. إن الأجداد و السلف و الأبطال و الملوك الأوائل كانوا قد عاشوا لمدة طويلة تقرب من الألف عام، فالعملاق عوج بقي على قيد الحياة و تجاوزعمره أيام طوفان نوح وعمّر حياة طويلة أطول من عمر إبراهام حتى وصل إلى عهد موسى ليحطمه موسى في النهاية. إن الزمن يتقلص فآدم قد رأى كل الأجيال المتأخرة للبشرية و هي تتدلى من جسمه الضخم. أما اسحاق فإنه يدرس في أكاديمية سام، الذي عاش قبله بعشرة أجيال، القانون الموسوي الموحى لموسى بعد عشرة أجيال من اسحاق. و في الواقع فإن البطل في الاسطورة العبرية لا يؤثر فقط في الأحداث و الكلمات و في كل أفكار الأجيال اللاحقة، وهو واع لتأثيره الخاص في مصير نسله، بل و أن الأجيال اللاحقة المنحدرة من صلب البطل تؤثر فيه أيضا. و كذلك فإن البطل يؤثر في الجيل السابق الذي انحدر منه. فهكذا فالملك يربعام ، الذي أقام نصبا للعجل الذهبي في دان، كان قد قضى على كل أحلام ابراهام و قواه عندما حاول إبراهام ملاحقة أعداءه إلى منطقة دان قبل ألف عام.

التوسيع المزاجي و التحريف للاسطورة العبرية

و خلال أعوام القرون الوسطى استمر التوسيع المزاجي الحاخامي لتفاصيل سفرالتكوين، وهذا التوسع كان عبارة عن أجوبة لأسئلة قام يسأل بها الدارسون الفطنون، فمثلا:
"كيف كانت سفينة نوح مُضاءة؟"
و "كيف كانوا يطعمون حيوانات السفينة؟"
و "هل كان هناك طير العنقاء على ظهر السفينة؟"، و غيرها من الأسئلة.

التوجه القومي للاسطورة العبرية

إن الأساطير الأغريقية لا تقدم في سردها أي اتجاه قومي، و مثلها كانت الأساطير الرومانية إلى أن جاء رجال الدعاية الماكرون في عهد الامبراطور آوغوستوس -كالشاعرين فيرجيليوس، و تيتوس ليبيوس، و غيرهما- ليقحموا الأساطير في ذلك الاتجاه. إن البروفسور هادس من جامعة كولومبيا يشير إلى وجود علاقة قوية بين قصيدة فيرجيليوس –أنياذة - و بين سفر الخروج، هجرة اليهود بقيادة الرب نحو الأرض لموعودة، و استخلص البروفسور استنتاجا بأن فيرجيليوس استمد أفكار قصيدته من هجرة اليهود. و من الممكن أن تكون حكايات روما الأخلاقية، التي كتبها -تيتوس ليبيوس- على نمط غير اسطوري، متأثرة بشكل كامل بالسيناغوغ، (معبد اليهود). و أنه لشيء واضح و جلي أن الأخلاق الرومانية تختلف تماما عن الأخلاق اليهودية، فــتيتوس ليبيوس كان يضع شجاعة حب الغير فوق الحقيقة و الرحمة، و إن سكان جبل الأوليمبوس لا زالوا هم الآلهات الرسمية لروما، و لم يتم دفنها، بل أن هذه الآلهات لم تكن عيبا شعبيا عاما إلى أن جاءت الأساطير العبرية، التي تبناها المسيحيون، لتعطي لكل الشعب الروماني نفس الحق في الخلاص. إنه حقيقة واقعة أن بعضا من تلك الآلهات غير اليهودية كانت قد رجع إلى السلطة مقنّعا في زي رهبان و قديسيين خلدوا طقوسهم على شكل احتفالات كنائيسة. و إنها حقيقة أن الأصل الارستقراطي للاسطورة قد تم القضاء عليه، و كذلك فهي حقيقة ثابتة أن الأساطير الأغريقية قد استمر في دراستها، إذ أن الكنيسة هي التي أصبحت مسؤولة عن المدارس و الجامعات التي تُلزم قراءة الأدب الكلاسيكي. إن أسماء مجموعات النجوم التي توضحها الأساطير الأغريقية بشكل رائع أصبحت مغروزة في عمق عقول الناس و من الصعب قلعها. و لكن على الرغم من ذلك فإن اسطورة التوحيد العبرية و الأبوية قد شيّدت القواعد الأخلاقية لحياة المسيحيين و المسلمين على مختلف انتماءاتهم القومية.

في نهاية المقال

إن الخطورة في الأساطير العبرية هي أن المؤمنين بها يعتبرونها حقيقة منزلة من السماء و أن الله هو الذي نزّلها فلا جدال فيها و حذار من الذين يعارضونها، بل أن المسلمين يعاقبون بالقتل معارضيها و قد كتبت كتب التاريخ الإسلامية في ذلك.

08/05/2007



#محيي_هادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسئلة عن الله
- أساطيرٌ عبرية: وعد الله لابراهام
- البدون و الانسانية على الطريقة العربية
- سؤال إلى المرحوم نزار عن مصير الأشرار
- ما يريده أعراب النفاق
- حكم الاعدام بين المبادئ و النفاق
- العقل و الدين
- التقديس و الخرافة
- جنة البله و المجانين... و الإرهابيين
- شهر رمضان بين الحروب و نوم الموظف الكسلان
- بين أشرار المسلمين و أخيارهم
- الحجر الأسود 05/05
- الحجر الأسود 04/05
- العشائر
- الحجر الأسود في كتب التراث 03 /05
- الحجر الأسود في كتب التراث 02/05
- قانا و مدننا العراقية
- الحجر الأسود في كتب التراث 01/05
- تجار الحروب و وعاظها
- وعدُ الشيخ الرفيق


المزيد.....




- صياد بيدين عاريتين يواجه تمساحا طليقا.. شاهد لمن كانت الغلبة ...
- مقتل صحفيين فلسطينيين خلال تغطيتهما المواجهات في خان يونس
- إسرائيل تعتبر محادثات صفقة الرهائن -الفرصة الأخيرة- قبل الغز ...
- مقتل نجمة التيك توك العراقية -أم فهد- بالرصاص في بغداد
- قصف روسي أوكراني متبادل على مواقع للطاقة يوقع إصابات مؤثرة
- الشرطة الألمانية تفض بالقوة اعتصاما لمتضامنين مع سكان غزة
- ما الاستثمارات التي يريد طلاب أميركا من جامعاتهم سحبها؟
- بعثة أممية تدين الهجوم الدموي على حقل غاز بكردستان العراق
- أنباء عن نية بلجيكا تزويد أوكرانيا بـ4 مقاتلات -إف-16-
- فريق روسي يحقق -إنجازات ذهبية- في أولمبياد -منديلييف- للكيمي ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محيي هادي - الأساطير العبرية و علاقتها بأساطير أخرى