أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - جاسم المطير - الانتفاضة..مداولة وتحليل حول هويتها ودروسها..















المزيد.....



الانتفاضة..مداولة وتحليل حول هويتها ودروسها..


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 62 - 2002 / 2 / 12 - 12:35
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    




تعرضت الانتفاضة الشعبية في آذار 1991الى سلسلة من التحليلات و الآراء والأقوال فهل وجدت تعبيرها الحقيقي فيما تضمه من عقائد وأساليب وجميع ما يمس إرادة إنسانها وخاصية سلوكه الثوري خلالها . .؟

أول ملاحظة أقولها أن الانتفاضة كانت من السعة في المشاركة الجماهيرية الى حد لا يمكن وصفه أو تحليل شروطه بيسر أو سهولة لاستظهار الحقائق وتحديد الطريقة التي يمكن أن يتصرف وفقها " المنتفضون " خاصة عند اندلاعها في شوارع البصرة وهم ليسوا جمعاً في حزب واحد أو جمعاً " جبهوياً " متآلفاً من عدة أحزاب .

كانت هذه أول دلالة نوعية لصورة التحرك الثائر جلت من خلالها معانٍ مختلفة في تجاربها وتجارب المشاركين فيها أفراداً ومجموعات.

ففي أحد أطراف هذه الصورة استقرت بؤرةُ ثورية شعبية لم يشهد لها التاريخ العراقي مثيلاً اختلطت بها وفيها أنواع عديدة أخرى من المواقف لا يضيئها منهج موحد ، ومنها من لم يبتعد عن العشوائية ، نجمت منها تحديات وأفكار مبعثرة ناتجة عن مراكز " قيادية " متعددة في منصات الشوارع والساحات اصطبغت جميعها بالنموذج السائد ، نموذج الفوضوية والعشوائية والانفلات، فابتعدت تدريجياً عن الموقف السياسي الموحِد مقتربة من نوع متطرف أنبثق من ذاته ومن حقائق غير موضوعية.

في الطرف الآخر من الصورة المتشكلة في الأيام اللاحقة لأشتعال بؤرة الانتفاضة ، وُجدت مشاكلٌ جديدةٌ في إطارِ أفعالٍ وممارساتٍ أفقدتْ الصلة الرابطة بين فرضيات ووقائع الانتفاضة وبين القوى والمواقف التي أستجدت في ساحتها وحواليها مما يستوجب علينا أستبيان جميع مدياتها وارتباطاتها كدرس نافع للمستقبل .

لا شك أن القائم بتجربتها الثورية هو غير باحثها.

والذي شارك في قتال أعدائها غير الذي قتله أعداؤه . فلكل واحد خبرته وتجربته ومعلوماته وخزينه من التسلسل المترابط في يومياتها.

أنا شخصياً لا أملك شيئاً من هذا كله لكنني كنتُ أرصد ما يجري على سطحها وفي أنفاقها بعين المراقب والمتابع بهدف الكشف عن قدرة الجيل الذي فجّرها وطاقته لتطويرها وتحقيق نصرها رغم أن أبراج تجربتي الخاصة أنبأتني منذ اليوم الثاني : أن الانتفاضة في خطر.

كنتُ في بغداد عند اندلاعها مراقباً لأحداثها وتطوراتها.

في غمرة الخليط الفكري السائد فيها وعنها لم يتضح لأحد من خلالها سوى أن المنتفضين أبطال وأن المنتفَضَ ضدهم طغاة .. فهل كان في هذا كفاية لتحقيق الانتصار أو لتغيير النظام ..؟

بمعيار دقيق لاحظتُ بعد نقطة البداية والأساس في الانتفاضة أن أفعالها تشعبت ، وأن شعاراتها تباينت ، وأن أقوال بعض قادتها الميدانيين تشاكلت ، وأن حركتها تخالفت ، ثم تعددت جوانبها في الأخطاء والدلالات .

كنتُ أستقي المعلومات من القادمين الى بغداد من وسطها الباحثين عن نجدات أو صلات ، أو من الهاربين منها بسبب اليأس لا غير. كما أستقيت بعض المعلومات أيضاً من عدد من أعضاءٍ في حزب السلطة الهاربين يومها من وظائفهم في المحافظات.

بهذه المناسبة أقول أن من الصعب على أي باحث أن يلم بجوانب ثورة شعبية واسعة في تاريخ العراق الحديث بما جابهته من مشاكل في جزء منها ومن غموض في جزء آخر ومن اتهامات في جزء ثالث ومن عجز قيادي في آخر جزء.

في رأيي أن تجربة الانتفاضة وطبيعتها تحتاجان الى إلمام واسع بمصادرها من المشاركين فيها أو اللاعبين بعض أدوار قيادية على رأسها أو المتفرجين عليها أو الهاربين منها . كذلك يحتاج الباحث الى جميع الوثائق الإعلامية والحكومية والأوامر القمعية التي صدرت حولها. كذلك الحاجة لمعرفة وثائق الحركات الإسلامية التي كان لها دور أو تأثير واسع أو نسبي فيها ، ومن وثائق المعارضة العراقية الموجودة في طهران حيث لها تأثير كبير على استنباط حقائق الانتفاضة. ـ في هذا الصدد أطلعت على ما قامت بنشره بعض الجهات الدراسية الإسلامية ـ

أغرتني الانتفاضة ليس بمتابعتها حسب بل حفزتني على مراجعة حاجاتها ومحاولة امتلاك بعض دلالاتها . فقد كانت في جملتها تطويراً مضطرداً واستمراراً للعمل الداخلي المعارض ميزته الأولى وسيلة العنف ضد الطغيان الدكتاتوري ، وقوامها عمل ثوري قام على المبادرة الحرة والمشاركة الحرة.

أحاول هنا أن أسترجع من ذاكرتي بعض مسائل الوجود الحيوي للموضوعات الأساسية التي صاحبتها بادئاً بقول الإشارة المجازية بأن معظم الأفكار التي سادت عن دراسة تجارب الانتفاضة في الفكر السياسي العراقي المعارض، حتى الآن ، غير محددة بحدود واضحة أو بخواص شخصية أو حزبية أو عقائدية ميزت الحدث بمستواه التاريخي.

أسفرت ملاحظاتي الشخصية عن ظاهرتين بارزتين صاحبت الحركة الاحتجاجية الجماهيرية في آذار 1991 وما بعده :

الملاحظة الأولى : ظاهرة إعلامية عالمية قوية وُهبت طاقة نشيطة ركزت فيها على استخدام المنتفضين للمسألة الدينية في دعاياتهم وفي تحريضاتهم ، إلاّ أن المنتفضين أنفسهم كانوا عالمين بحدود هذا الاستخدام التعبوي وحجمه جيداً ولأن المسألة الدينية كانت مجرد استخدام تعبوي من قبل ثورة ليس لها استخدامات ستراتيجية فقد نجح الأعلام المعادي لهم بعد فترة وجيزة في إقناع العالم بطائفية الانتفاضة بينما فشل المنتفضون في رد هذه القناعة لأنهم لم يستطيعوا تحقيق عناصر السلامة بين موضوعية الانتفاضة كمنطق ثوري مؤكد ودقيق وبين عدد من الشعارات الفجة التي اعترت مسيرتها بلا ضوابط ، فتغلبت عليها .

الملاحظة الثانية : تشكلت بسمات سلبية حين بالغ المنتفضون خاصة في مدن العتبات المقدسة بتحديد الوجه الشيعي للانتفاضة مما جعلها تتراجع عن كسب الفئات الوطنية التي توقعت تغييراً ديمقراطياً، وكذا الفئات العسكرية التي توقع الشعب منها أنقلاباً ،وتزايد الشعور العام بتعرض الانتفاضة الى أزمة شديدة مهدت بالتالي طريق ضربها.

أن ملكة العقل السياسي تتطلب منا أن نعيد باستمرار تقييم الانتفاضة بدوافعها وأدواتها وأساليبها ، وبقواها. فكلما مضى عن باحثينا وعن المساهمين في تشكيلاتها زمن الانفعال والهياج وأحياناً المبالغة والأدعاء ، كلما توفرت حجج معطيات جديدة مزيدة أرادتنا قوة في بحث خواصها الثورية الشجاعة لتحديد دلالاتها النوعية العميقة ، التي يمكن لها ان تتداور لنضالات أو تحركات جماهيرية محتملة في المستقبل.

ما هي التسمية المجسدة لتلك الحركة الواسعة التي ترقبها العراقيون في خيالاتهم الشاحبة منذ زمن تسلط الدكتاتورية على حياتهم ومقدراتهم عام 1968..؟

أهي حركة تمرد كما سمّاها الأعلام الغربي ..؟

أم هي حركة غوغائية كما سماها النظام العراقي..؟

أم هي فتنة كما سمّاها محمد حسنين هيكل..؟

أم هي انتفاضة كما تسميها أحزاب وقوى وتجمعات المعارضة..؟

التحليلات متواصلة لكنها تؤيد أن أغلب كتّاب الانتفاضة ظلّوا يملكون وجهات نظر محدودة عنها ، لأن مقدرتهم في عمق الرؤية كانت محدودة 0

أكرر القول : تظلّ الريادة في أي بحث مقبول في هذا الصدد مرهونة بالمشاركة في الإلمام بالتيار الرئيسي المتابع لحركة الانتفاضة التي شغلت أذهان العراقيين لفترة طويلة حيث كانت متغيراتها مختلفة عن الملامح الواضحة في حياة المنتفضين الذين كانوا يحررون المدن واحدة بعد أخرى بحماس جياش يعقب انهزامية النظام وجميع أصناف أزلامه وهم بحالة من الجبن لا مثيل لها من دون أن يدافعوا عن أنفسهم أو عن نظامهم الذي انهار بسرعة مذهلة.

بسبب خوفهم وارتباكهم وهزيمتهم أطلقوا على الانتفاضة عنوان الحركة الغوغائية..!

أنطلقُ أولاً من حقيقة أن المنتفضين كانوا أحراراً. أنهم جميعاً كانوا في صلب قوانين التاريخ فهزيمة جيش النظام في حربه تمخضت عن حركة إبداع ثوري جماهيري تمثل في حركة البصرة معولاً عليها باحتمالات ما ستبلغه من تطورِ ونضوج أهدافها في محافظات أخرى متتابعة تكون آخر أقدامها على أعتاب القصر الجمهوري في بغداد لتحقيق التغير السياسي وأوله تغيير السلطة سواءً بثورة شعبية شاملة أو بانقلاب عسكري مفاجيء تفرضه طبيعة الانتفاضة.

في لحظة ما وفي مكان ما من مدينة البصرة تمسك جنود عائدون من جبهة قتالية مهزومة منكسرة بضرورة الحرية والمناداة لها والانتفاض على مغتصبيها والتضحية من أجلها متصرفين على هدي مبادرتهم العفوية بخيارٍ ثوريٍ شجاع من دون أن يعرف بعضهم بعضاً ومن دون أن يتصرفوا كفريق عقائدي أو مذهبي واحد ومن دون أن يجمعهم قائد واحد (فرد أو حزب ) .

مهما ثارت أنماط من مجالات وأشكال البحث فأن المنتفضين كانوا أحراراً بفرديتهم أو بوحدتهم ، بتعدد اتجاهاتهم أو بمألوف شعاراتهم الأولى وفي جانبها المناداة بالحرية والديمقراطية ( مظاهرة العشار في وسط المدينة ضمت أكثر من ربع مليون جندي ومدني 00 إحدى مظاهرات اليوم الأول طالبت بتشكيل حكومة ائتلاف وطني.. بموجب شريط مسجل موجود في الأمن العامة حالياً) . فقد كانت الطلقة الأولى تجديداً ثورياً لنضال الجماهير العراقية المقموعة بالحديد الدكتاتوري لفترة طويلة .

كانت الطلقة الأولى بحق تحشيداً لقوى جماهيرية بفعل وفاعلية " أطراف " عديدة من ناشطين مناضلين ظهروا من بين صفوف الجماهير المتراصة في الشوارع والساحات لكسر القيود مرة واحدة وتحقيق انتصار الحرية.

أرادوا الحرية مع استبعاد انضمامهم لعقيدة معينة أو لشعار ديني معين، أرادوا الحرية لأنفسهم ولمدنهم ولوطنهم.

وظهر سؤال يدق رؤوس الجميع.. من يستلم السلطة ومن يديرها..؟

انطلقت الرصاصة الأولى ضد التثليث القائم آنذاك: أي ضد الدكتاتورية والحرب وهزيمة النظام.

كان شعار : يسقط صدام حسين تصوراً جماعياً للمنتفضين المدفوعين بحماسهم للحرية ولبعض مواقف اقتدت بالتاريخ النضالي للشعب العراقي منذ ثورة العشرين.

كانت العقيدة الأولى مع الرصاصة الأولى هي : ضرب النظام الدكتاتوري. وضرب مؤسساته.

لكن هذا الضربَ بدأ مبهماً وفوضوياً من دون منهج موقوت ومفتوح ، فهل يمكن لانتفاضةٍ هذه ملامحها أن تفرض نفسها على مسرح العملية التغييرية المتوقعة والمحتومة آنذاك..؟

أشير هنا الى الظرف الخاص الذي جعل المنتفضين جميعهم يرتبطون في إطار مشترك حول هدف فيه كثير من المخاطر والمفاجآت وربما الكوارث فهل أستفادوا من متغيرات حصلت خلال اليومين الأولين لتعميق روح " وطنية عراقية شاملة " بعيداً عن أفلاك الحزبية الضيقة والمذهبية والطائفية لأجل تحقيق خيار الجميع للإطاحة بالنظام ..؟

كنتُ وغيري من نخبة بغدادية سياسية ومن مثقفين أحرار ( من أسلاميين وبعثيين معارضين ومن شيوعيين ومن مستقلين ومن قوميين ) في حالة من التشاؤم مع كل ساعة تمر دون ما تحرك عسكري أو جماهيري في بغداد . كنا نسأل بعضنا : ماذا تفعل بغداد .. ماذا نفعل في خصوص الأنتفاضة..؟

كان الجواب هو أن لا نفعل شيئاً . ليس بمقدورنا أن نفعل شيئاً . أنه خط سلبي كنا نعرفه لكنه خط ملايين البغداديين برغم أنهم جميعاً من المؤمنين باحتمالية تطور الانتفاضة نحو وضع أفضل يؤهلها لإسقاط نظام صدام حسين.

النخب البغدادية ظلت بانتظار محاولة المنقذ العسكري ليس غير . هذا ما فرضته أوضاع بغداد وأوضاع الانتفاضة ذاتها حين أتضح أنها بلا خطة ولا حتى شبه خطة ، لذلك بقيت جماهير بغداد في حال من الدهشة والتساؤل..

قد يكون المنتفض ، في لحظة انتفاضهِ في مدينة البصرة أو غيرها، أشدُ تمسكاً بأيمانه وبالآخرة بسبب جسامة الوضع الإرهابي الجاثم على صدره منذ أكثر من عشرين عاماً لكنه مع مزيد من الدهشة والشجاعة قد خاطر بحياته ليس في سبيل الخلود حسب ، بل في سبيل توصيل دعوةٍ ثوريةٍ ونداءٍ واقعيٍ موجهين الى جميع أبناء الشعب العراقي كي يرعوا شؤونهم بأنفسهم وهي دعوة تقدمية الى تغيير جذري أي تغيير السلطة ذاتها.

استمر السؤال ملحاً على الجميع من يستلم السلطة.. وسؤال أكبر من يستلم السلطة المركزية..؟

كان المنتفضون في تلك اللحظة آملين بضرورة إيجاد أوضاع سياسية جديدة بعد أن زجهم نظام الدكتاتورية والحرب في أتون اليأس والموت بجميع ما حملته خطط غزو الكويت وحربها من متاعب فردية وجماعية لمنتسبي القوات العراقية المسلحة ولأبناء الشعب كلهم.

قام رأي المنتفض أساساً على ضرورة التخلص من ظلم السلطة بتوجيه البنادق العائدة من جبهة القتال أليها لكنه لم يكن على درجة من الوعي بكيفية تحويل الحماس الجياش الى خطط ميدانية وسياسية قادرة على إسقاط النظام.

ما كان المنتفضون إلاّ أخياراً في دعوتهم ، لم يبالوا بموت أو عقاب أو تضحية . هذه معرفة وجودية أولى انعكست على الدور الذي تقوم به التجربة الثورية المولودة في شوارع البصرة تنتظرها شوارع المدن العراقية الأخرى كلها التي هرب منها جنود السلطة وأمنُها وبوليسُها وأعضاءُ حزبها ، قادةً وأفراداً.

( محافظ كربلاء هرب بملابس نسائية.. مدراء الأمن والمخابرات أختفوا تماماً ثم هربوا الى بغداد.. كثيرون أستسلموا أو أنظموا الى المتظاهرين ضماناً لحياتهم..)

فماذا واجه المنتفض بعد الطلقة الأولى..؟

1ـ أول خاصية للمنتفض أنه وجد نفسه غير مدرك للحدود التي ستصل أليها انتفاضته ، ولم يدرك الأفكار التي قد تنمو مع استمرارها وتطور احداثها0

2ـ كان هدف المنتفض قائماً على دعوة غير ناضجة ، لم يضع في مرآه تاكتيك الفصل بين الجيش والدولة. فقد كانت قيادات الجيش منهزمة وساقطة بالكامل بينما كان آباءُ الدولة وخاصة رئيسُها يعانون من نتائج الهزيمة ضعفاً متناوباً يوماً بعد يوم. لم يكن للمنتفضين خطابٌ قادرٌ على دعوة البندقية المنهزمة في جبهات القتال لفرض هزيمتِها على البندقية الضعيفة في قصور الرئاسة والدولة.

بذلك عجز المنتفض عن القدرة في الحصول على دعم داخلي قوي.

3ـ كانت جبهة الجنوب هي قلب جبهة القتال كلها.

بعد هزيمة الجيش وجد المنتفض نفسه بحاجة الى شيئين:

الشيء الأول هو الهوية الخاصة التي يمكن للانتفاضة أن تقدم نفسها للشعب العراقي وللعالم كله بما فيها الجيوش الأجنبية التي دخلت بلادنا غازية. كان طبيعياً كما قال محمد حسنين هيكل ، أن تكون الهوية المطلوبة مستقلة عن الدولة العراقية التي كانت طرفاً في الحرب أو مسبباً لها.

الشيء الثاني هو الحاجة الفعلية لتحرك عسكري سريع واعٍ قادر على قلب الدولة على رؤوس أصحابها.

في الجوهر كان الشيئان متناقضين ، فأغلب القادة العسكريين ذوي هوية مختلفة عن هوية أكثرية المنتفضين.فالأُول كانوا من حزب السلطة وعقيدتها وبهوية تسلطية واضحة وكانوا طوال مشاركتهم في السلطة من أنصار الحرب والدكتاتورية ، بينما كان المنتفضون بأكثريتهم الساحقة من خصوم حزب السلطة وعقيدتها وانهم كانوا من ضحاياها في الحرب والمجتمع.

سريعاً ما أحس المنتفضون بالضيق نتيجة هذا التناقض فما كان منهم إلاّ إعلان الهوية الشيعية للانتفاضة لسببين : أولهما أن الانتفاضة بدأت في الوسط الشيعي نفسه ولوجود التناقض المشار أليه قبل هنيهة، وثانياً وجود أيران الشيعية قريبة جغرافياً من وسط الانتفاضة كان مؤملاً من قبل بعض متصدري قيادتها حصولهم على دعم منها . ولكي أكتفي بهذين السببين أؤكد أن الانتفاضة لم تحمل في ثناياها خصومة مذهبية للطائفة السنية رغم إعلانها الهوية الشيعية خاصة أن الأعلام الغربي كان في اليومين الأولين يضفي الغموض ، متعمداً، على الانتفاضة .

ثمة فارق كبير بين (المؤمل) و (الواقع) 0لم تحصل الانتفاضة من إعلان هوية شيعية لها غير الأذى فلم تحصل على أي اعتراف أو مساندة حقيقية من قوى ذات مكانة دولية تؤمن لها الاستمرارية مع حصول متغيرات سريعة بكل ما يحيط بها وبالعراق في تلك الأيام.

على أية حال فأن إعلان هذه الهوية لم يحقق بمقتضى الواقع والتحليل أي ترابط وتكيف بين الانتفاضة وعناصر أستمراريتها، كما لم يحقق أي عنصر إيجابي حول بؤرة ثورية ناشئة ،منطلقة من دائرة العفوية الواسعة. بل أنها أثرت سلباً كما سنرى لاحقاً إذ لم يتجاوب معها أحد تجاوباً حقيقياً عادلاً.

أجد نفسي في هذه الحالة ملزماً بالتوقف للدخول في حوار حول بعض النقاط القاطعة في الانتفاضة .

فأولاً: لاحظتُ أن الانتفاضة بمجملها كانت تسجيلاً لاحتجاج تاريخي حقيقيي مثّل ضمير الشعب العراقي بكل فئاته وطوائفه ، وقد أتسمت بخاصية ثورية في بدايتها انتهت بخاصية أخرى حملت خطايا شعارات خاطئة توهم رافعوها خطئاً أن تدخلهم المتطرف في عمق الانتفاضة سينهي نظاماً معادٍ للشعب كله .

من إحدى الحقائق القول أن الجنوب العراقي كما في غيره لم يشهد ، من قبل ، في تاريخه كله صراعا بمضمون طائفي0 فلغتهم ولغة السنّة واحدة في معرفة الله ومخاطبته. ولم يعتمد أحد من الطائفتين في علاقته مع الآخر إلاّ على روح المحبة وعبادة الواحد الأحد.

ما فرّقَ بينهما جاء في كل الأحوال من دور سلطة حزب البعث العربي الاشتراكي ووعاظها بطمس الحقائق الدينية أو تحريفها أو تزييفها. أما العلاقة اليومية فقد ظلت تلقائية بوظيفتها ، متواصلة في أخلاقياتها ووعيها، وكان الجميع يتحاور مع الجميع بروح مودة القومية الواحدة وبروح الشعب الواحد المتآلف بعربه وكرده.

كان الامتحان الكبير للطائفية في العراق هي الحرب العراقية الايرانية0 كانت الحرب في جزء منها قد حملت احتمالات وإيماءات الصراع الشيعي السني ضمن الصورة التالية :

كان أغلبية الجنود العراقيين هم من الشيعة . وأغلبية الضباط العراقيين من السنّة. مع وجود حكومة سنية .

كان أغلبية الجنود والضباط الإيرانيين من الشيعة . مع وجود حكومة شيعية.

تصور قادة أيران أن الجيش الشيعي العراقي لا يمكن أن يضرب الدولة الشيعية الإيرانية الوحيدة في العالم فخاضوا الحرب مؤملين على هذه النقطة.

تصور قادة العراق انهم لا يخسرون شيئاً من محاربة الشيعي الأيراني بمثيله الشعي العراقي .

النتيجة الوحيدة لتلك الحرب أن ضحاياها كانوا بأغلبيتهم المطلقة من شيعة الطرفين وبذلك خسر الشيعة بحرب لم يكونوا هم مشعليها بعد أن نجح أعداءهم في جعلهم يتحاربون في جبهتين رئيسيتين شيعيتين تضرب الواحدة منها الأخرى ولا ضحايا غيرهم .

من هذه العقدة بالذات حاولت بعض العناصر الإيرانية و العناصرِ العراقيةِ المنفيةِ الى أيران أن تقف الى جانب سكان جنوب العراق خلال أيام الانتفاضة لتأكيد موقفٍ معادٍ للنظام العراقي الذي هو أساسِ نكبتِهم في نفيِهم وإبعادِهم عن وطنهم. لكنهم أرادوا فرضَ أرادتهم وقيادتهم على الانتفاضة شرطاً لنصرتها ودعمها.

في هذا الصدد قيل في الإعلام الغربي وفي الإعلام المناوئ للمنتفضين سواء عراقياً أو عربياً أن عدداً من حراس الثورة الإيرانيين دخلوا الى مناطق الجنوب بسلاحهم لدعم الانتفاضة فيما تناقلت بعض وكالات الأنباء إن التحرك الأساسي كان بفعل نشاط قوات بدر. كان من أخطر الادعاءات في تلك الفترة وألعنها ما جاء في تصريحات رامزي كلارك وزير العدل الأمريكي الأسبق حين قال أن ثلاثين ألف مقاتل "إيراني " من حرس الثورة قد دخلوا العراق منضوين لدعم الانتفاضة ، وكان مقصده الأول هو تخويف الخليج السني .

بدأ الأعلام المناوئ بعمل حثيث واسع ضد الانتفاضة وفي غايته تشويهها وتشويه أهدافها المتركزة في إسقاط نظام صدام حسين وأجهزته القمعية من دون أن تعي أو تخطط لكيفية بناء أو تشكيل سلطة جديدة في حالة سقوط النظام. فقد سقطت محافظات كثيرة واحدة بعد أخرى دون أن تتشكل فيها بدائل بسلطة ثورية قادرة على ضمان حكم الجماهير المنتفضة وإدارة المناطق المتحررة. فكانت النتيجة ان جماعاتٍ غيرَ واعية صبغتها بالفوضوية .

في عام 1991 صدرت مذكرات دافيد كمحي وكيل وزارة الخارجية الإسرائيلية الأسبق وهي بعنوان (الخيار الأخير) يقول فيها:

( لم يكن حراس الثورة الإيرانيون هم وحدهم الذين دخلوا بالآلاف كل يوم لتحريك الفتنة ، وانما تحركت أيضاً جيوبٌ للفتنة كانت نائمة . فقد كان الشاه محمد رضا بهلوي في أيام تربعه على عرش الطاووس في طهران يتحرك بمطامحه في جنوب العراق ، وهدفه على الأرجح هو تخفيف الضغط عن مناطق خوزستان الإيرانية وأصول سكانها في غالبيتهم عربية. وكانت حركة الشاه في الجنوب العراقي مؤيدة ومعززة بنشاط سري قامت به الموساد (المخابرات الإسرائيلية) بقصد إرباك حكومة بغداد ومنعها في أي وقت من الاشتراك في معركة قد تدخل فيها الدول العربية ضد إسرائيل).

من المؤسف ان بعض الدراسات العربية عن الانتفاضة ، ومنها دراسة محمد حسنين هيكل عن حرب الخليج وما نتج عنها، اعتمدت بصورة أساسية على مغالطات من هذا النوع الذي قدمه هذا الدبلوماسي الإسرائيلي أو غيره:

1 ـ هناك شكوك كثيرة حول هدف تضخيم عدد القادمين من أيران للأنظمام الى الانتفاضة. أغلب الملاحظات التي جمعناها داخل العراق أكدت أن الزعم بدخول الآلاف من حراس الثورة الإيرانية أمر لا صحة له على الإطلاق فكان لهذه الإشارات أثرها اللاحق الفعال في الاتجاه المضاد..

2ـ لم يثبت تاريخ الأحداث السرية والعلنية في الجنوب العراقي عن وجود مطامح في خطط متحركة لشاه أيران بقدر ما يوجد دعم أيراني لبعض النشاطات الدينية لشيعة الجنوب . ووفقاً لدعوى الحكومة العراقية في عام 1969 باعتقال عدد من المواطنين الشيعة واليهود ومن ثم إعدامهم في ساحات بغداد من دون محاكمة عادلة ، كأن إسرائيل وإيران كانتا تتآمران على النظام العراقي..!! وقد كان هذا الزعم بداية قرارات تصفية وجود نصف مليون مواطن عراقي ونفيهم الى الحدود الإيرانية بدعوى تبعيتهم لإيران واتهامهم بتمثيل النشاطات السرية الإيرانية والإسرائيلية.. كما وضع آلاف منهم في سجون كثيرة منها سجن نقرة السلمان .

3 ـ من الغباء القول أن نشاطاً سرياً محدوداً جداً في جنوب العراق تقوم به أيران بدعم إسرائيلي مزعوم ، بإمكانه أن يقلب موازين القوى العسكرية في الشرق الأوسط في حال اندلاع حرب بين العرب وإسرائيل كما يروج الدبلوماسي الإسرائيلي دافيد كمحي.

سؤال نواجهه الآن : ماذا كان هدف إلصاق تهمة الانتفاضة بإيران وبالذات بالحرس الإيراني..؟

وفقاً لتسلسل الأحداث وعلاقاتها في تلك الأيام يمكنني أن أقول من خلال استقراء الانتفاضة وأوصافها وأخطائها وفروضها الاحتمالية وإرهاصاتها الثأرية الانتقامية، أن هدف الأعلام الغربي كله ومروجيه من العرب والصهاينة هو إظهار الانتفاضة بمظهر (الفتنة الدينية الكبرى ) في العراق جنوباً ، وبمظهر (الفتنة الكردية الأنفصالية الكبرى ) في العراق الشمالي كردستان. فمعرفة شيء ما تقع في صورة ظنية بالنسبة لقائلها في لحظاتها الأولى على نحو يغلب فيه التعميم السريع من دون التحقق من صحة الأحداث والوقائع وبدون دراسة الافتراضات الظنية بالتأكد منطقياً من صحة الأحداث باجتياز أساليب السماع والنقل غير الدقيقين أو بالخضوع للأعلام الغربي.

على ضوء هذا الاستنتاج أحاول في هذه العجالة أن أنقل صورة أخرى عن الانتفاضة ورسم الإطار العام لأحداثها ونتائجها:

أولاً : ثمة علاقة ثلاثية مع الرصاصة الأولى للانتفاضة حلت محل الازدواجية في ميدان الصراع الدولي والإقليمي آنئذٍ محسوباً على العراق والخليج. كان الصراع بين النظام العراقي مستنداً الى قوات الجيش والحرس الجمهوري ، وبين ما سمي في حينه بالنظام الدولي الجديد وبالشرعية الدولية مستنداً على معدات حربية تكنولوجية كبيرة وحديثة. كانت كل البحوث المنطقية تشير الى تفوق التكنولوجيا على التخلف. لكن اندلاع شرارة الانتفاضة بدّلت الواقع الموضوعي كله فتغيرت التصرفات والمواقف الأساسية لجميع بلدان المنطقة بسبب عناصر ثلاثة أشتملتها الانتفاضة:

العنصر الأول هو الصفة الشعبية الموضوعية للانتفاضة. إذ شاركت في صنعها شرارة ولهيباً مجموعات هائلة ذات أصولية نضالية وفكرية تنتمي لعدد من الاتجاهات السياسية التقدمية . فكان شيوعيون بجانب أسلاميين وأكثرية مستقلة في البصرة والحلة وفي مدينتي الكوت والحي ، لكن الفعل القيادي كان ميسراً للأسلاميين .

العنصر الثاني يتمثل بمادة الانتفاضة في يومها الأول حيث ساد اعتقاد عالمي واسع أن المنتفضين سيشكلون بديلاً ديمقراطياً لنظام صدام حسين.

العنصر الثالث هو مدلول الانتفاضة مع تطورها في الأيام اللاحقة المتوالية بالانتصارات الميدانية دون أنتصارات سياسية. وهو المدلول الذي عبر عن نفسه بخوف الأنظمة الإقليمية من قيام حكومة شيعية عربية في هذا الجزء من العالم العربي المنتج للنفط.

هذه العناصر الثلاثة تعتبر جوهرية عند البحث في أي شأن من شئون الانتفاضة بعيدا عن الشك والتخيل والتفسير من منظور واحد. قد يكون من قبيل المغامرة أن أطرح رأيي الخاص فأقول أن فشل الانتفاضة يعود بالأساس الى أن قوى الانتفاضة سواء في مقاتليها الفعليين في الداخل أو مؤيديها من المعارضين الموجودين في الخارج أنهم جميعاً لم يدركوا هذه العناصر الثلاثة فتصرفوا على غير هدى.

برغم وجود صعوبة في فهم كافة تفاصيل الانتفاضة وتطورات أحداثها الثورية إلاّ أنني أعتقد إن بإمكان البحث بوسائل التحليل الأكثر دقة أن نكتشف العنصر الرابع الضروري في هذه المعادلة وأقصد بذلك كيفية تلقي المعرفة عن الانتفاضة وكيفية استقبال عقلنا المعارض لها كمفسر أو كدليل من أدلة الوصول الى جل الحقائق.

إذا أسهمت تصوراتي في فهم الجانب النظري من تحليل نتائج الانتفاضة فما زلت أفتقر الى الكثير من أسباب انتكاسة انتفاضة عارمة شاملة بمثل السرعة التي قامت بها . لكنني أقول بذات الوقت أنه لمن المفيد استمرار النشاط العقلي لدارسي الانتفاضة ووجود تعاطف ضروري مهم ومفيد بين المنتفضين في ميادينها وبين المفكرين والمؤرخين الراغبين في تحويل أصداء التجربة الى موضع الاعتبار الجدير في التاريخ العراقي المعاصر.

ثانياً: مما بعث على دهشة مراقبي الأحداث أن يروا الانتفاضة تحتل موقعها على مسرح خلفته مهدماً الصواريخ والقتال العسكري الذي يعتبر هو الأحدث والأكبر في التاريخ المعاصر وإذا بالجميع في الداخل والخارج يجدون أنفسهم متعلقين بغاية مستهدفة في الحرب نفسها ، إذ كانت نشاطاً ملموساً تطلب التخطيط له تخطيطاً واعياً إقليميا ودولياً ، وأعني بتلك الغاية هي الإطاحة بنظام صدام حسين.

تحدوني الرغبة الآن الى التذكير بأن أول أيام الانتفاضة شهدت تحول الموقف الأميركي إزاءها فقد كان الرئيس الأميركي جورج بوش نفسه محرضاً عليها ثم سرعان ما تخصصت الأجهزة الإعلامية الأميركية والأوربية الى أجهزة تمارس الضغط الإعلامي على المنتفضين متهمينهم بمظاهر السلوك العنفي والتخريبي العمدي . بذلك تحولت القوات العسكرية الأميركية من موقف مقاتل ضد نظام صدام حسين الى موقف متفرج على معارك قوات شعبية تقاتل من اجل تغيير نظام صدام حسين. بالنتيجة قدمت أمريكا المساعدة في السماح لطائرات الهيليوكوبتر من اجل تغليب قوات النظام على قوى الانتفاضة وقمعها.

ثالثاً: في الشمال كانت الأحداث والمتغيرات مختلفة عن الملامح الواضحة في انتفاضة الجنوب. ففي الوقت الذي سيطر فيها المنتفضون الأكراد على المحافظات الكردية كانوا يتميزون عن الجنوب برفع شعارات معتدلة هدفها الأول الإطاحة بالدكتاتورية وتحقيق أهدافهم في الحكم الذاتي ، لكن الإعلام الغربي قام بنفس الدور التخريبي في التعبئة ضد الانتفاضة الكردية واتهامها بأنها انتفاضة انفصالية.

أدى هذا الزعم الإعلامي الى تأليب قوى دولية عديدة ضد الانتفاضة أولها الدول التي يعيش على أرضها أكراد يتطلعون الى مستقبلهم في بناء دولة كردية أعني: تركيا وإيران وسوريا والاتحاد السوفياتي. وقفت هذه الدول موقفاً متفرجاً متمنية في السر والعلن فشلها رغم ان قادة الحركة الكردية ومنتفضيها لم يرفعوا شعاراً انفصالياً.

بهذه الصورة وجدت الانتفاضة في الشمال والجنوب نفسها في ظروف معقدة وصعبة :

1 ـ لم يجر أي تنسيق بين الانتفاضتين للعمل من أجل إسقاط السلطة المركزية المنهزمة وأقامة سلطة الانتفاضة.

2 ـ بسبب الفوضى التي سادت في مدن الانتفاضة ورفع شعارات متطرفة في الجنوب وأعمال التخريب العفوي من المنتفضين والمتعمد من قبل عملاء النظام فأن التأثير السلبي ترك آثاره على الشعب المتحفز في بغداد التي كانت تعتبر في عداد المدن المهددة بالانفلات من يد السلطة او سقوطها بيد انقلابيين مفاجئين.

3 ـ كان موقف الجيوش الغازية غير مؤيد للانتفاضة رغم تهريجات الرئيس بوش الديماكوكية . انتهى هذا الموقف بالسماح لقوات الحكومة العراقية الجوية والبرية بضرب الانتفاضة بعنف ووحشية.

4 ـ الجيران المحليون ( أيران00 السعودية 00تركيا00 الكويت00 سوريا00 الأردن..) لهم مواقف منفعية متباينة كان بعضهم في حقيقة موقفه يتمنى تمزيق وحدة العراق وسيادة الفوضى فيه تحقيقاً لأمانيهم الخاصة الضيقة التي لم تأخذ في الحسبان مصلحة الشعب العراقي لكنهم جميعاً(عدا إيران) ضد إقامة كيان شيعي في جنوب العراق.هذا يفسر قول محمد حسنين هيكل و عدد من مسؤولين بريطانيين وفرنسيين بأن الهدف الأميركي يريد الإبقاء على وحدة العراق رغم وجود استراتيجيات أخرى لم يكن لديها مانع من تمزيقه0

5 ـ اخطر ما ظهر في تلك الأيام هو الموقف السعودي الذي كان فزعاً من أخبار وردت من طهران عن تشكل حكومة شيعية في الجنوب واحتمال أن يكون محمد باقر الحكيم رئيسها. فقد (فوجئ الاميركان الذين كانوا يتابعون برضا ما يجري في جنوب العراق ، بأن الذعر استولى على قلب الرياض التي راحت تلح وتحذر وتدق نواقيس الخطر معتبرة أن ما تصفه بالخطر الشيعي أصبح العدو رقم واحد وحتى قبل صدام حسين.) .

6ـ من ناحية أخرى أن خلافات القادة الإسلاميين الموجودين في أيران حول الانتفاضة وقيادتها وحول دور قوات بدر وغير ذلك أدى الى أنتقال الخلافات الى الميدان الثوري نفسه في المحافظات الجنوبية العراقية الثلاث مما أثر سلباً على أستمرارية الانتفاضة ممتداً الى المحافظات الأخرى.

كانت صيحة الخطر السعودية متأتية من أن الشيعة إذا نجحوا في إقامة دولة في جنوب العراق فأنها ستؤثر على الكويت والبحرين ومنها الى المقاطعات الشرقية السعودية وبالذات الى منطقة القطيف وعاصمتها الظهران وهي عاصمة البترول.

7 ـ وكما كانت السعودية تراقب انتفاضة الجنوب كانت تركيا تراقب تطور الانتفاضة في الشمال خاصة وان الشمال كان خالياً من القوات العراقية المسحوبة الى جبهة الحرب قبل بدئها بوقت طويل. فقد كان الرئيس التركي توركوت اوزال مثل الرئيس الأميركي مشجعا الأكراد على الانتفاضة وعلى تحريض قوات البيشمركة على النزول من معاقلها في الجبال لاحتلال المدن وتحريرها من قوات البوليس والإدارة الحكومية بعد ان جرت صدامات مسلحة ووقعت أعمال سلب ونهب قادت الى فوضى شبيهة بما حدث في الجنوب.

8 ـ في خلال أيام الانتفاضة ادعى شوارتزكوف كما والأعلام الغربي على سعته أن الجيش العراقي قد تحطم كله في حدود الكويت وأنه لم يبق له غير فرقتين ، فأن الحقيقة لم تكن كذلك إذ سرعان ما ظهر ان الجيش برغم خسائره الفادحة التي لحقت به وبمعداته تمكن من الخروج من المعركة ولديه خمسة وأربعين فرقة من أصل خمسة وخمسين تعززها ألفين دبابة من أصل أربعة آلاف ، وأربعة آلاف مدرعة من أصل سبعة آلاف . كما أتضح فيما بعد أن هناك ست فرق من الحرس الجمهوري كانت بعيدة عن ميدان القتال أصلاً ولا تزال محتفظة بقدراتها القتالية والمعنوية.

9 ـ أعتبر صدام حسين ان خسارة الحرب مع القوات المتحالفة مسألة هينة بعد أن تخلت أمريكا عن هدفها في إسقاط النظام. بينما أعتبر خسارة قواته أمام الانتفاضة العارمة مسألة يجب إنهاءها بقمع الانتفاضة بأسرع وقت.وبدأت فرق من الجيش تزحف شمالاً وجنوباً لقمع المنتفضين.

10 ـ يقتضي الدرس الموضوعي أن أشير الى أن الانتفاضة لم تجد صداها في مدن الموصل والرمادي وتكريت وسامراء وبعض المناطق الأخرى رغم وجود الحد الأقصى من تذمر مواطنيها ضد السلطة على مدى سنوات طويلة.

حالة كهذه يجب أن تدرس أسبابها فهل بالإمكان القول أن الشعارات الشيعية التي صاحبت بعض مظاهرات الانتفاضة كانت السبب الرئيسي أو الوحيد في عدم تحرك سكان هذه المدن..؟ أم كان الأعلام الغربي ضارباً عميقاً حين قدم أفتراضاته عن أهداف الانتفاضة وتأكيده على إقامة الدولة الشيعية في الجنوب..؟ أم هل كان الأعلام المعارض و إذاعاته دون مستوى الدور المطلوب وارتكابه خطأ تسمية الانتفاضة بانتفاضة الجنوب..؟

11 ـ المسألة المهمة التي يبحث الكثير عن جواب لها هي بغداد. لماذا لم تنتفض..؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يحتاج الى إجابة كبيرة ودقيقة أبدأها بأن ضمير جماهيرها كان مع المنتفضين من الشرارة الأولى لكن الحالة المختلطة الواصلة عنهم والصورة الخادعة للأعلام المناوئ وحتى الصديق تصدت بقوة لأية مبادرة جماهيرية أو مغامرة عسكرية.

لم تكن بغداد في الفترة بين 15/1/1991 و1/3/1991 كما هي من حيث كثافة السكان في الأيام الاعتيادية. فمن المعروف أن الأعلام العراقي الرسمي( الصحافة والإذاعة والتلفزيون ) كان طيلة الفترة الممتدة من أول ديسمبر/ كانون أول وحتى يوم 16/1/1991يؤكد على سكان بغداد بضرورة مغادرتها في حالة نشوب الحرب أو الهجوم الكيمياوي عليها. وقد أجريت تجارب تخلية مدينة بغداد بخطة وضعتها مؤسسات الدفاع المدني طبقها ملايين الناس باعتبارها ضمانة من ضمانات سلامتهم. إضافة الى صدور تعليمات مكتوبة وزعت بملايين النسخ حول كيفية التخلص من التسمم الكيمياوي وكيفية ضمان مناعة غرفة واحدة في كل بيت ضد هذا الشر المحتمل.

أنعكس الجانب الإعلامي في قناعات الناس بأن بغداد وحدها ستتعرض للسلاح الكيمياوي دون باقي المدن العراقية بعد تصديقهم ادعاءات النظام وأجهزته فتوجهت الغالبية الساحقة من الناس مغادرين اماكن سكناهم في بغداد الى مدن أخرى شمالاً وجنوباً. وأنا شخصياً ذهبت الى ريف العشائر في الفرات الأوسط حيث قضيتً أسبوعاً مع عائلتي في أجواء ثورية محتشدة فكرياً وميدانياً ضد النظام.

حين بدأت الانتفاضة كان أغلب الناس يعودون الى بغداد من المناطق التي لجأوا أليها وهم في حالة من التحفز والاستعداد للعمل الثوري، برزت أولى مظاهره في بقاء الجماهير في كل مناطق بغداد في الشوارع والساحات العامة بانتظار حدوث الانقلاب الذي يحسم الأمر كله.

من جانب آخر خلت بغداد من أجهزة القمع ومن الأجهزة الحزبية التي كانت قد أخليت وثائقها وأقفلت أبوابها منذ 10/1/1991كذلك صدرت توجيهات حكومية وحزبية للبعثيين القياديين بترك دورهم واللجوء الى مساكن أخرى سموها (أكثر أمناً).

إضافة الى ذلك نجد عوامل إحباط الانتفاضة عن مدينة بغداد بما يلي:

الشعارات الطائفية عرقلت التحرك العسكري الانقلابي. كما عرقلت تحرك مناطق التجمعات الشعبية وعياً منها وأعتقاداً بأن التحرك من دون مبادرة الانقلاب قد يفضي الى قتال طائفي لا تحمد عقباه ، فمقابل كل منطقة سنية في بغداد وضواحيها توجد منطقة شيعية وبالعكس.

كان الوعي العفوي لجماهير بغداد قد شخص حلقات الانتفاضة بالدورة التالية:

ـ انتفاضة شعبية في الجنوب .

ـ أنتفاضة أخرى في الشمال.

ـ يسفر عنهما انقلاب في بغداد تؤيده في لحظته انتفاضة عارمة لدعم الانقلابيين.

كان هذا الاحتمال يتكرر في قلوب البغداديين مما جعل جماهير بغداد في حالة انتظار سلبي. فمن الناحية العملية كانت الجماهير قد توزعت سلمياً في جميع مناطق بغداد كما أسلفت سابقاً. كان الناس في بغداد بانتظار ظهور قيادة للانتفاضة ( شخص أو حزب أو مجموعة) وعلى وجه التحديد كانت أنظار الناس متوجهة للمعارضة الموجودة في الخارج التي لم يفكر أحد منها بالدخول الى الميدان الثوري رغم توفر الظروف وسهولتها. حتى القيادة الإسلامية في أيران لم تدخل .

كان لإيقاف القتال بموجب بيان الرئيس الأميركي أثر سلبي على تجمعات الجماهير البغدادية. فقد عنى ذلك منح الفرصة للنظام كي يلملم صفوفه وقواته ، خاصة بعد بدء الانتفاضة في الجنوب. كما أن الرفض الواضح لقوات التحالف بالاستجابة لطلبات بعض الوجوه الإسلامية في الحوزة العلمية لمساعدة الانتفاضة أثره السلبي أيضاً على سنة بغداد وشيعتها في آن واحد. وقد تسربت ألينا معلومات في حينه أنهم رفضوا مقابلة مندوب السيد الخوئي.

ما يلتقي بالعوامل أعلاه الحالة النفسية بين صفوف الجماهير البغدادية المتوفزة التي خلقتها الدعايات الكارثية عن الأسلحة الكيمياوية التي يمكن أن يستخدمها صدام حسين ضد معارضيه في حال حدوث انتفاضة في بغداد ، وقد ساهمت بتضخيم ذلك أيضاً دعايات بعض أطراف المعارضة الخارجية والأعلام الغربي الى جانب إشاعات بثها قسم خاص في أجهزة المخابرات العراقية يدعونه( قسم الحرب النفسية) بأن صدام لن يترك الحكم إلاّ على أرض محروقة ومن دون شعب. كان هذا جزءً من ستراتيجية (الردع الإرهابي) التي أستخدمها صدام حسين منذ مجيئه للسلطة حتى اليوم، وأصبح محبطاً أي تحرك عندما تحل اللحظة المناسبة في وقت الانتفاضة.

في الختام أقول : ليس بإمكان عقارب الساعة أن تعود الى وراء كي يكون أمر أعادة إنتفاضة آذار أمراً مرغوباً فيه مجدداً لكن من الممكن أن تتبادر الى الذهن رغبة جديدة بتوجيه سؤالنا الى كل شخص ثوري يريد تغيير الوضع في العراق وأن ينشئ دولة جديدة فأول ما يتطلب منه ذلك أن يضع أهدافاً واضحة لثورته أو لانقلابه ضد الدولة الدكتاتورية تتعلق بطموحات الشعب كله دون تمييز عرقي أو طائفي أو سياسي ، وأن يختار قيادة حكيمة موحدة قادرة على إيضاح هوية القوى الثائرة ومجتمعها ببرنامج مؤسس على مبادئ دستورية وطنية عامة ، وأن يمارس كل ما من شأنه توحيد الصفوف لأبعد مدى بحكمة بليغة وأدارة عقلية بعيدة عن الانفعال كي يحقق استلام سلطة تبني دولة جديدة وليس لممارسة الثأر أو الانتقام ، وأن يكون ناظراً بعمق للوضع العراقي بكل ميزاته الخاصة وبكل تعقيداته الظاهرة والباطنة .

بكل الأحوال يبقى الشرط الأول لنجاحه قائماً بصفة حاسمة على اعتبار الشعب ( بعربه وكرده وتركمانه سنة كانوا أو شيعة أو غيرهما) هو المصدر والأداة والهدف في كل عملية تغييرية من دون أهمال الوضع الجديد في الاستعدادات الامريكية لضرب النظام القادم ، عاجلاً أم آجلاً ، باعتباره جزءاً من مقومات ما يسمى بالارهاب الدولي .

هذا ما كانت الانتفاضة الجبارة في آذار 1991 بحاجة أليه..

سيبقى الوجه الآخر منها تمجيد بطولتها وتجربتها التي ستكون حتماً منارة وسيطة ترشد تجربة ثورية قادمة.

بصرة لاهاي 12/2/002




#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كلام الناس : نظريات جرمية ..!!
- كلام الناس : نظريات حقوقية ..!!
- كلام الناس : نظريات دافوسية ..!!
- كلام الناس : نظريات جيلية ..!!
- كلام الناس : نظريات كرزايية ..!!
- كلام الناس : نظريات زمانية ..!!
- كلام الناس : نظريات حوارية ..!!
- كلام الناس : نظريات مكارثية ..!!
- كلام الناس : نظريات نسوانية ..!!
- كلام الناس : نظريات جعجعية ..!!
- كلام الناس : نظريات تدبيرية ..!!
- كلام الناس : نظريات ملحية ..!!
- كلام الناس : نظريات فلفلية ..!!
- كلام الناس : نظريات غرامية ..!!
- حسين جميل في ذمة الخلود ..
- كلام الناس : نظريات تفاؤلية ..!!
- كلام الناس : نظريات استفتائية ..!!
- كلام الناس : نظريات انتخابية ..!!
- كلام الناس : نظريات شبحية ..!!
- حول استحقاقات جائزة جائزة نوبل 2001


المزيد.....




- هارفارد تنضم للجامعات الأميركية وطلابها ينصبون مخيما احتجاجي ...
- خليل الحية: بحر غزة وبرها فلسطيني خالص ونتنياهو سيلاقي في رف ...
- خبراء: سوريا قد تصبح ساحة مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران
- الحرب في قطاع غزة عبأت الجهاديين في الغرب
- قصة انكسار -مخلب النسر- الأمريكي في إيران!
- بلينكن يخوض سباق حواجز في الصين
- خبيرة تغذية تحدد الطعام المثالي لإنقاص الوزن
- أكثر هروب منحوس على الإطلاق.. مفاجأة بانتظار سجناء فروا عبر ...
- وسائل إعلام: تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس ...
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي على مناطق متفرقة في غزة (فيديو)


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - جاسم المطير - الانتفاضة..مداولة وتحليل حول هويتها ودروسها..