أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الحافلة البرتقالية















المزيد.....

الحافلة البرتقالية


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 1887 - 2007 / 4 / 16 - 12:19
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


سارت الحافلة البرتقالية العجوزمن دمشق إلى تدمر.. محملة بثلاثون رجلاً مقيداً.. ينقلون من حجز إلى حجز أخر.. مسمرون في اماكنهم.. خائفون من الأيام القادمة..
في منتصف الطريق تعطلت هذه المركبة المتعبة.. بقي الجميع في مقاعدهم ينتظرون.. مستلقون على ظهر بادية الشام المترامية الاطراف تحت رحمة البرد والمطر..
العيون جاحظة.. متعبة.. متجهة نحو الزوغان والهروب.. في زمن مظلل بالوجع.. مطوق بالفاجعة والسحق داخل جوف الزمن.. زمن الأعشاب الشوكية المبللة بالمطرالحامضي السميك.. يفرش المساحات الجاثية بانبساط.. يطوق البادية الصلدة والحضر داخل ثالوث الزمن المائع .
حافلة أخرى مطوقة بالشهد تتوقف على بعد بضعة أمتار .
صبايا ونساء بلون الضوء والوميض ينزلن الى جوف البادية.. يتبضعن الوهاد الطلقة ويمارسن اليوغا والفرح العاري.. شيء اشهى من الكون والوجود.. ينحدر الى مسامات القلب.. يلون القرص الغافي في شروش القلب..
الشمس والنجوم والضوء تتمازج كوهج قادم من بعيد..
استفاق عمر من خوفه..غفوته المرهقة.. على وقع رائحة منعشة.. تتسلل إلى مراكبه المكسرة.. رائحة نباتات برية.. أعشاب منعشة.. خلائط.. من النعناع.. الزيزفون.. الياسمين واليانسون.. تشد الخلايا.. وتستنهض شبق البقاء الجاثي في جروف الجسد والقلب..
قال :
ــ ما هذا.. مطربلون السماء والزهروالشمس.. باقات من الورد.. تحط علينا في موسم الجفاف والقحط..
في هكذا مكان..
المسافة بين الحافلتين أزمان وأرحام.. سدود وفضاء.. حدود وسماء.. وراح يصدح :
جسدي يستفيق من خدره.. الماء الصافي.. الزلال يخرج مني.. من الأقبية المغلقة والسرية.. من البوح الغامض.. من منتجع الأسرار والصمت الكامد والخامد.
خمسة عشرة سنة لم أر أو اشاهد وجه إمرأة.. وجه البراري العذبة.. أي قدر جميل هذا.. حتى رمى هؤلاء النسوة الجميلات على قارعة الطريق.. في مكان مهمل ومعزول.. تحت قبة الكون الطليقة.. تحت ظلال الحواس الداشرة من كل قيد. تدخل خالد من الزاوية الأخرى مادا رأسه في محاولة أن يرى أكثر من خلال النافذة الصلبة. قال :
ــ غابات من السنونو تحط على رفوف الروح والنظر.. بجانبنا.. على مقربة منا.. ماهذا.. من اين جاءت هذه القطايات.. النعمة الكونية الدافقة. ومضى يهجس بصوت خافت حزين.. لوحده. قال :
ربما جاؤوا ليحركوا الزغب النائم في وهادنا.. ويوقظوا نداء البقاء.. شبق الحياة الدافق.. في مواسم حزينة ومتعبة.. حطت رحالها في بادية مفتحة الصدر للعري.
هسيس ناعم يحبي مثل الوسن بين ممرات الجسد.. يبعث ويأجج نارالحب في الأقنية السرية من شهوة الحياة ونداء البقاء..
اسمع.. شيء يسري بين الشرايين والأوردة.. خريرماء وحفيف شجرتتمازج وتصدح بصوت ناعم مكتوم.. آهات مكومة على بعضها.. تخرج من الصدر بحرقة الدم المحمروالنار.. صرخ سامرببوهيمية :
ــ ماذا أرى واشاهد ....
ــ تحت وقع البصر..
عصارة الحياة وعرائشها تتوقف أمامنا.. طيورمزينة بلون الربيع والاخضرارعلى حدود القلب والعين.. شيء غريب.. ركب على أجنحة العصافير وطار.. حط فوق البادية.. في مكان أعزل ومفتوح.. وبجانب معاصمنا المكبلة..
آه.. وآه.. من منحنيات الناروالرغبة الهاربة والمفقودة.. المتأججة والعارمة.. التي تستيقظ لتشع كالفوسفور تصرخ وتحبي ثم تطير في مراكب الجسد العشانة..
نفخ فائق في الهواء.. خرج الدم من فمه على شكل زفرات محروقة.. صرخ:
ـ أنظروا الى دفق الدم.. الى انصهار الألوان في الوجنات والخدود.. منذ زمن طويل لم أر شعر إمراة يطير في الهواء.. كما لم أشاهد نهدها وصدرها.. أووجهها الأملس الناعم والنضر. وقال :
يا للجمال والبهاء..
أجساد مرسومة بكثير من الدقة والزخرفة والجمال ..
جبال وتلال ووديان عميقة وسهول واسعة.. وراح يقول:
آه.. ما اجمل خصورهن ولبأسهن وأشكالهن..
كأنهن من كواكب أخرى.. ونحن من زمن أخر..
العيون الجائعة.. تندفع نحوهن كالشهب في السماء الصافية..
الهمس الحاريشتد ويتصاعد..
شيء يتوهج كالبرق.. كالرعد.. كتصادم الكتل النارية ببعضها..
تميم.. يتمايل ويترنح من الشرارات المنبعثة.. من المداهمة الفجائية والأقتحامات الغير متوقعة..
مثلما يستطب من وجع ونزيف..
قال حسن
ــ اضحينا كالقطط.. الهوارين في شهرالمواسم.. نتبضع رغبة الطبيعة في موائها وأستغاثاتها.. جوع وعطش وغربة.. وحسرات مكتومة ومكومة.. تخرج من الاعماق العميقة والسحيقة.. ترسل اشارات التراسل الى مكامن الوجع.. حنين وحرارة دم.. تتدفق في الأصداغ والشريين.
أنها شهوة الحياة تنغل في الجسد وتحوله الى كرة ملتهبة.. وتدفعه للخروج ومعانقة الحياة..
المرأة.. قالها عبود وأضاف:
ما أجملك..
سحرملون.. قابع فيَّ.. في كل ركن مني.. آه لو أستطيع أن أتسلق نفسي وأصل إليك.. لكن.. تستوقفني السلاسل والقيد.. وتعيد يدي المقيدة وروحي الى المقاعد الصلبة..
كان الحراس مكومون على بعضهم يعملون على إصلاح الحافلة.. تراقب بحذر وترقب ولا تتدخل..
الفتيات ...
كانوا يحملون الدفوف والأصناج والأبواق.. نذروا أنفسهم للرقص والغناء تحت السطح الأملس للطبيعة البكر.. رحن يمارسن الولاء والمواء والوفاء للعراء المفتوح..
اقتربت إحداهن من الشول المفتوح.. وزرعت وردة وشمعة في الأرض.. وراحت تسقي الأولى وتشعل الثانية..
نثرت على النار كمشة من البخوروالبنفسخ.. التهبت الحبيبات الناعمة.. تصاعد أريجها.. روائح عطرها في الفضاء المفتوح.
وقفن في تأمل ينظرن الى الفلاة الواسعة بخشوع أقرب الى التقديس وأيديهن مرصوفة الى الأمام بأبتهال وصمت..
بعدها.. شكلن حلقة دائرية من الأجساد الطرية والأيدي الناعم..
الموسيقا.. تصدح وتلحن نغمة الحياة والوجود.. والصبايا يدورن.. يغنون.. يرقصون.. يرفعون وجوههن الى السماء والوهاد.. تغرغرضحكاتهن عندما ينظرن إلينا.. ثم يرفعن عيونهن للسماء..
تحت دفق المطر وصوته الجميل..
يصفقون ويهلهلون..
الحلقات الدائرية تتسع وتضيق.. التنانيرالشتوية.. ترتفع وتهبط مع أهتزازاجسادهن الجميلة المتمايلة..
تفوح روائحهم.. رائحة الجسد الأنثوي الشهي في الفضاء.. فيتمازج مع عطر البادية وذرات التراب والحصى والهواء..
يوقظ..
سكرة الروح من الغفوة الطويلة..
الفردوس الوهمي للآلهة.. نزل من سماواته العالية وحط في هذه اللحظات الهاربة على الطريق المتحرك.. جثى على مقربة من الأصقاع المقفرة وعلى شريط من العيون المصلوبة في مقاعدها القاسية..
قال سعيد :
ــ من أين جاءت هذه الفرجة السماوية الدافئة وفي هذه الأوقات العصيبة.. هل شردن أم ضللن الطريق..
رد عمر فاغراً فاهه :
ـ ربما علموا بمكاننا.. وأرادوا ان يفرجوا عن كربنا.. أو.. قدفهم القدر..أومصادفة.. حلم.. زمن جميل . رد الحارث :
هناك حتمال أخر.. ربما لم يبق في العالم عراء.. فخيموا هنا بالقرب منا.. أو.. أرادوا إشعال الحرائق في غاباتنا النائمة..
كانت الرؤوس المترنحة قد أنتعشت.. وتحركت الدماء في أوردتها الجامدة..
ترتفع وتتمايل نحواليمين واليسار.. تلتقط اللوحات والصورالمجبولة برائحة الزعرور والفل..
إقتربت إحدهن من الحافلة البرتقالية.. بيدها شمعة مشتعلة في شمعدان فضي.. وفي اليد الأخرى وردة جورية بيضاء.. تمشي على رؤوس اصابع قدميها والبسمة لا تفارقها.. تزين وجهها الأبيض النضربإكليل من أوراق الزنبق.. لم تر.. كما لم تشاهد الأسلاك الشائكة والرماح المسنونة في الأرض.. لم تعرانتباهاً للعيون الذئبية التي تطوق الحافلة البرتقالية الجاثية على صدرالزمن الموحل.. كانت تتقدم ببراءة وخفة دم.. بثقة وتؤودة وتأن.. تبتمس مرة وتضحك اخرى.. وتهز ثوبها المبلل بالماء ليتناثرعلى محيطها..
لم تدر ما حدث.. جفلت من أصوات مفزعة على مقربة منها ..
أصوات خشنة.. تزعق وتنعق وتوجه بواريدها نحو وجهها البريء.. قال أحدهم:
ابتعدي يا فاجرة.. لا تقتربي من هنا أكثر!
جفلت الفتاة الشابة وتراجعت.. لكن نظرها سقط على السلاسل والأيدي المكبلة والوجوه الشاحبة..
ربما.. فهمت أن في الأمرسراً.. والخوف شجرة هرمة مقيمة في هذه الربوع.
رمت الصبية وردتها وشمعتها وجرت ركضاً الى رفيقاتها.. تنبئهم بالخطر الداهم.. لم تمر إلا لحظات قليلة.. حتى اسدل الستار على المكان وعاد الصمت والسكون الى البرتقالة المعصورة في البادية.. إلى الحافلة .. حيث البرد والجوع والخوف..
الحافلة.. الخوف والجوع والبرد..
الحافلة الخشنة..
شجرة عارية مكومة ومقيمة في مكان اعزل وخامد.. تستمد نسغها من الضباب والفراغ.. وفي داخلها وجوه متعبة.. تقاوم عاتيات الزمن لوحدها.. تعلن بوحها ووجعها للرموزالمسكونة في التلال البعيدة والأسرار الغامضة.. تنتظر بقلب مرتعش دورة العذاب وانتظام رغبات القتلة في إدارة نفسها والأخرين.




#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرحيل إلى المجهول الترحيل
- الرحيل إلى المجهول سجن الحسكة
- الرحيل إلى المجهول غيض من فيض
- الرحيل إلى المجهول التحقيق
- الرحيل إلى المجهول 1
- الحب.. وأشياء أخرى
- الهرم
- تحت ظلال بادية تدمر
- الدولة والمجتمع وفق منظورأخر
- بعد المعركة الطويلة على لبنان
- الثائر.. الملك السويدي كوستاف الأول
- النظام الدولي وآلياته
- غرفة التحقيق
- النظام العربي
- ظلال الوقت
- من الذاكرة.. إلى الذاكرة
- السجن..مرة أخرى
- الليل في سجن تدمر
- بعض الذكريات من منزل الموتى


المزيد.....




- إسرائيل: قرار إلمانيا باستئناف تمويل أونروا مؤسف ومخيب للآما ...
- انتشال 14 جثة لمهاجرين غرقى جنوب تونس
- خفر السواحل التونسي ينتشل 19 جثة تعود لمهاجرين حاولوا العبور ...
- العراق.. إعدام 11 مدانا بالإرهاب في -سجن الحوت-
- السعودية ترحب بالتقرير الأممي حول الاتهامات الإسرائيلية بحق ...
- -العفو الدولية-: إسرائيل ترتكب جرائم حرب في غزة بذخائر أمريك ...
- صحيفتان بريطانيتان: قانون ترحيل اللاجئين لرواندا سيئ وفظيع
- قبالة جربة.. تونس تنتشل 14 جثة لمهاجرين غير شرعيين
- بعد إدانتهم بـ-جرائم إرهابية-.. إعدام 11 شخصا في العراق
- السعودية وقطر تُعلقان على تقرير اللجنة المستقلة بالأمم المتح ...


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الحافلة البرتقالية