أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - من الذاكرة.. إلى الذاكرة















المزيد.....

من الذاكرة.. إلى الذاكرة


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 1563 - 2006 / 5 / 27 - 13:27
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


من الذاكرة.. إلى الذاكرة
حذاء ثقيل يضرب الأرض.. يقترب .. يتخلله صمت عميق .. بعده.. صراخ فجائعي
ـ رئيس مهجع..
ـ حاضر سيدي. ضربتُ الأرض الصلبة بحذائي المهترء وقلت: المهجع جاهزللتفتيش سيدي.
ـ جهز العجوز.
ـ قلت حاضر سيدي.
" ع . ق " رجل عجوز تجاوز الخامسة والستين من العمر، مريض بالسكري، معه ضمور بعضلات القدم والساق. حتى في سجن عدرا بدمشق لم يكن يستطيع المشي، ومعه تقوس في رجله.
كان جسدي كله يرجف من الخوف والتوقعات الغامضة والغريبة.
فتح الباب وخرج. مسكته الذئاب الجائعة، العطشى لرائحة الدم الطازج، تكاثروا عليه ورموه أرضاً.
اغلقوا الباب من الخارج.. وبقي وحده معهم.
يستغيث.. يصرخ.. أنا عجوز..مريض.. أرجوكم.. أرفقوا بشيبتي ودقني الأبيض كالثلج.
كانوا يضحكون ويلعبون به.
ما أقسى أن تسمع أستغاثة موجوع وتصمت مكرهاً.
كانت رؤوسنا منكسة على الجدارداخل المهجع.. بينما رفيقنا يؤكل أمام أسماعنا..كنت أقول: أي قاموس يتسع لهذا الألم ويمحي هذا التأريخ المريرمن الذاكرة.
كنت اسمع رقائق الدم وهي تهبط من فجواته.. أسمع صراخه واستغاثاته، وانا عاجزعن الدفاع عنه وعن نفسي.
كان له جسد.. أكله الزمن..
وكنا العوبة داخل دائرة الزمن نفسها.
كان خيارنا.. بين أثنين.. إما الموت أو التحمل والبقاء على قيد الحياة.
كنا نسمع كيف..
كانوا يجرونه على الأرض الصلبة في باحة السجن في تدمر كالخاروف الممزق.
صوت نحيه لا يفارق أذني إلى اليوم، يبكي بحرقة وألم، يقول لهم أنا مريض، عمري بعمر جدكم.
كانوا يضحكون ويسخرون ويلعبون بمؤخرته، يمررون الكبل بين فخديه. صوت القارس وهو يشد على قدميه يقطع الروح.
بدأت الحفلة بالضحك والبكاء.
صوت الكيبلات وهي تلسع قدميه يقطع حبال القلب، يقول: يا أمي، يا أمي، يا أمي، دخيلك يا أمي، خلصيني منهم ياأمي. لم أكن أدري لماذا ألتجأ " ع . ق " إلى أمه في هذه الغابة من الوحوش القاتلة.
أواه.. أي زمن طائش وأحمق هذا الذي عشنا فيه، أي هول هذا الذي حمل اجسادنا ورماها في هذه الالعوبة، هذا الكهف الذي أسمه زمن حافظ الأسد.
أدخلوه في الدولاب عنوة وربطوا قدميه بالمرسة والقارس الفولاذي المزئبق.
مئة وعشرة كيبلات على قدم هذا العجوزالمريض.
بعدها..
قالوا.. ليخرج الجميع إلى الباحة..
خلال ثوان كنا أمامهم على الجدار منكسي الرأس والجدع.
كانت الأكبال بأيديهم يضربوننا من الخلف على الظهروالرأس والرقبة.
كان " ع . ق " على الأرض, لا يستطيع الوقوف.
صاح الشرطي متلمظاً، يمسح بقايا الدم من على فاهه، شهوة الدم مرسومة في بؤبؤتيه: رئيس مهجع.. قلت حاضرسيدي.. محيياً وواقف كالصنم أمامه. ثم صرخ على العجوز أن يأتي.. قال أوقفوه.. أوقفوه أمامي.
قال: أبصق في وجه العجوز.. وأنت.. وأشارعليه أن يرفع رأسه دون أن ينظر إليهم، أي الشرطة.
وقفت متردداً.. خائفاً ولا حيلة لي... نظرت بحزن إلى تجاعيد وجهه، إلى شعره الحليق وذقنه وحواجبه البيضاء، إلى عينيه المكسرة، المفتوحة نصف فتحة، إلى تقاطيع الخجل والحزن المرسومة فيهما، إلى بحار الدموع المنهمرة من مقلتيه، أسبح فيهما.. في بحارالوحشة والصمت والقهر..
كلانا كان منزويا في ركن مظلم من هذا العالم.
أتوه .. أجري.. أحمل فمي فوق قنديل روحي، فوق قدماي الممزقتين وأغوص عائماً فوق بحارالسبخات العائمة على المدى.. كنت أبكي كطفل.. أبكي بحسرة وأقول في سري.. من يقاوم الذل والعهر سيدفع الثمن غالياً.. وسيغيب عن بابه ملامح القمروزوادة الضوء المتسربل من أشعة الشمس في الصباح.. كان قلبي يقرع في صدري كهدير الامواج الصاخبة..
عاد الصوت أكثر قوة من قبل.. ابصق.. ابصق في وجهه. بصقت.
صفعني الزمن.. الشرطي على وجهي وقال: لا.. لا هذا ليس بصاقاً.. هذا ماء.. أملأ فمك بالبصاق والمخاط وأرميها في وجهه.. أغسله بالبلغم والمخاط..
قلت متحسراً.. حاضر سيدي، وأمتثلت للأمر.. بعدها قال:
أصفعه على وجهه..
وقفت مذهولاً.. لم أكن قد صفعت أنساناً من قبل.. كيف لي أن أصفع .. عدت للنظر إلى وجهه لا أعرف ماذا أفعل.. ردد الشرطي:
ـ يا خائن.. أنت خائن.. كلكم خونة..
شعرت بالتعب والأنهاك، لم تعد قدماي تحملاني، خارت قواي للحظة، وغبت في بحار الظلمة العميقة.. في غيبوبة طويلة.. كدت أقع على الأرض مغمى علي .. أبلع ريقي وصمتي بالرغم من إنني لم أكن صامتاً أبداً.. كان في داخلي بركاناً من الرفض.. رفض الأستبداد.
لكننا كنا في جزيرة من الرمال المتحركة.. وحيديين مع رفاق أكثرهم مرضى أكل السجن من عظامهم سنوات طويلة ..
كان جنوناً أن نصرخ.. كنا وحدنا.. مع بقايا حلم وأمل وحرية.
سكتنا..
لأن الكثير.. الكثير.. تواطئوا مع الأستبداد.. مع المومياء.. طوائف وملل وأحزاب.. صفقوا له.. وغنوا ودبكوا، صلوا ورقصوا.. وشربوا نخبه.. وعهروا في فراشه.. وكانوا معه علينا..
أنها لمفارقة غريبة.. أن يكونوا .. هؤلاء.. أول من يكسرتمثال الجلاد وأول من يغيرعلمه.. ويبدل ولائه وموقعه.. يا للعهر المدمس..
هؤلاء موجودون في كل مكان، يتبدلون، كما تبدل الساعة سهام عقاربها.
هؤلاء عجزة..
هل سمعتم أن العجزة تبني حلماً..
هل النفوس الميتة تستطيع أن تخلق زمنها.. وكيف..
يمكن.. أن تقتل أو تذبح أو تسرق أوطاناً.. أو تبيعها.. لكن، لا يمكن أن تصنع زمناً أو وردة معطرة بأريج الحلم.
كنا وجهاً لوجه أمام الجثة المتفسخة، المتورمة.. نكاد نموت من رائحة الفطيسة العفنة.
قالوا لنا هذا شأنكم... شأننا مختلف تماماً عن شأنكم ..
وكان علينا ان نبلع آهاتنا علّ طائر جميل يومض باللون البراق في السماء.. ويحملنا.
في السجن تكتشف لعبة الحياة والموت والدوران الفارغ حول الذات والأخر..
وتكتشف من هو صديق الحياة ومن هو عدوها، أنها لمفارقة حزينة.
أن يصبح المكان.. مكانك.. سنبلة جافة، أوراق يابسة.. رياح عابرة.. موسيقا مفككة التقاسيم والألحان.. وأنت الذي أنت.. تصبح كالصليب والمصلوب.. تتقاذفك أشلاء العاصفة الحمقاء وترميك في وجه الضباب أو السراب.. تدخل ظلمة الليل وزوغانه.. تتشرد ذاكرتك وتطير.. تتحول إلى صدى أملس معلق في الأفق، لا تطير كما لا تنزل على الأرض.. منغمساً بالصورالراحلة التي تفتقد التضاريس.. ما زالت حلبات الرقص الحمقاء تضج بالممثلين الذين هزموا سبارتكوس.. جسده منكساً بيننا، أحمله على كتفي وأسير، تستوقني ظلمة الليل وخيمة البؤساء.. المصلوبين في شوارع روما القديمة، ووجه أبي ذر الغفاري التائه في صحاري وبوادي العالم .. وسعد أبن عبادة.. تعالوا لنتصالح.. منكم أمير ومنا أمير..لنتداول الأمارة بيننا .. لنغيروجه التأريخ..
تحت خيمة الليل تستقبلني فاجرات القيء والرماد، أستظل بالغربة والقرابين لأتوازن.. أسرج خيول من رماد وامتطيها إلى حقول لا نهاية لها .. أنغمس في مدارات هلامية .. أجري إلى الأمام فوق صهوة الرياح المجنونة.. أعود إلى الحنين المفتقد والسباحة ضد المجهول.. تتكشف لذاكرتي وشوشات الكون.. تناقضات الموت والحياة.. أشعل الغابات في لفافة لأدفئ غربتي.. أقرع ناقوس الأسئلة الكونية التي ما زال صداها يدق نواميس الليل .. أرفع ابتهالاتي للصدى كغيمة مسافرة.. بقايا طيف.
تزداد التساؤلات اللأشعورة في فرض ذاتها.. في داخلي.. عندما أقف على مسافة صغيرة ما بين الموت والحياة.. تناقض مستمر لن يحسم أبداً.
وتكبر البصقة وتزداد كالأبرالمذببة.. أحس نفسي قزماً.. اتلاشى وأذوب وتضمحل تقاسيم لوني وتتناثر.. تعود البصقة إلى وجهي، تلتحم بي، محملة بالقاذورات والقيح والدماء المأكسدة المتأكلة، تعود إلي مجبولة بوحوش القيء والعهرالمدجن.
لأني.. قلت لا.. حملت ألأمي وصليبي على كتفي.. ومشيت.
هذا ليس يأساً.. ولا أدعوا لليأس.. لكل فعل ثمن.. ولكل رفض ثمن..
أن تقاوم بشرف وتتحمل ألأم التجربة وعذاباتها، خيرمن أن تجلس على موائد سلطة فاسدة، تقتاد من بقايا موائدها.. تشرب من ثملاتها المسمومة..ووو..تتحين الفرص والظروف.. لتتحرك. ثم بعد.. بعد أن تدور الدوائرووتتغيرالأحوال.. تنقلب الأمور.. ويتحول الذليل.. المأجور.. النائم ليل نهار في فراش السلطان كعاهرة رخيصة.. إلى مطالب حق. للأسف.. للأسف.. هؤلاء.. من يقومون بهذا الفعل لا يؤسسون إلا للخراب.. وهم مخربون.
آرام كربيت ـــ سجين سابق



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السجن..مرة أخرى
- الليل في سجن تدمر
- بعض الذكريات من منزل الموتى


المزيد.....




- منظمات إغاثة: عملية إسرائيل في رفح تعطل الخدمات الطبية
- منظمات إغاثة دولية: تعطل الخدمات الطبية بعد بدء إسرائيل عملي ...
- الأمم المتحدة تنتقد قرار إخلاء مدينة رفح وتعتبره -غير إنساني ...
- الجيش الأمريكي يعلق على اعتقال جندي أمريكي في روسيا
- صحيفة إسرائيلية: السجون لم تعد تتسع للمعتقلين الفلسطينيين
- NBC: اعتقال عسكري أمريكي في روسيا
- إعدام دفعة جديد من المدانين بـ-جرائم إرهابية- في العراق
- عاجل | مكتب نتنياهو: مجلس الحرب قرر بالإجماع استمرار العملية ...
- اليونيسيف تحذر : الهجوم البري على رفح الفلسطينية سيهدد 600 أ ...
- نائب رئيس حماس: تبادل الأسرى والمحتجزين سيتم على 3 مراحل


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - من الذاكرة.. إلى الذاكرة