أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - تحت ظلال بادية تدمر















المزيد.....


تحت ظلال بادية تدمر


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 1684 - 2006 / 9 / 25 - 10:58
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


تحت ظلال بادية تدمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
زمن الترحيل 3/1/1996
30 رجلاً رحلوّا من سجن عدرا بدمشق إلى سجن تدمر..
13رجلاً ينتمون إلى حزب العمل الشيوعي.
9 رجال من الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي.
8 رجال من حزب البعث العربي الاشتراكي.. بعث العراق.
أسباب ترحيلنا: رفضنا الشروط المذلة التي عرضت علينا.
الشروط:
1ــ الانسحاب من الحزب.
2ــ ترك العمل السياسي.. نهائياً أو العمل مع أحد أحزاب الجبهة التي يقودها حزب السلطة في سورية.
3ــ التعاون مع شعبة المخابرات السياسية في سورية.
4ــ مراجعة الشعبة السياسية كل عشرة أيام.
الضباط الذين ساوموا السجناء هم
العميد: محمد سيفو من شعبة المخابرات السياسية في سورية في سجن عدرا بدمشق.
العميد: نزيه النقري من نفس الشعبة.
العميد: وليد طه من نفس الشعبة.
الضباط الذين أصدروا أمرالترحيل.. هم الضباط المذكورة أسماءهم في الأعلى.. بالأضافة إلى الأمر الذي أصدره رئيس الشعبة السياسية في ذلك الوقت.. اللواء عدنان بدر حسن.
الضابط الذي سركل الرحلة.. العقيد عبد الرزاق المطلق من شعبة المخابرات السياسية في سورية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نأخت الحافلة على الظلال, على وجع الطريق, كالصخرة المعرقة المنخورة من جذورها. تموج وتتقلب كالاطياف الذابلة على صدر البادية، في التيه المترامي.. وسط أسترخاء الصمت ويقينة تقاطعه.
المحرك العجوز يتأفف ويبكي ثم يسكت ويخمد.
السائق الهرم.. يشتم القدر.. يلعن الزمن. يلتفت بحركة مسرحية إلى الوراء والجوانب.. يرفع يديه إلى الأعلى وإلى الأسفل.
كأنه يطلب معونة من الوهم, وذهنه منصب على المحرك المنطفئ.
توقفت الحافلة العاجزة في وسط تقاطع الطريق, حيرانة.. تنظرحولها بقلق, متلفتة.. لا تدري ماذا تفعل, كبقعة زيت.. أوشبح هلامي يسبح في محيط متلاطم الموج لا يستند على شيء.
الوجوه والعيون تتلاقى في نقطة مركزية واحدة, في ظل تقاطعات متباعدة.
ما العمل .
تأهب الحراس دفعة واحدة وأخذوا المبادرة, رفعوا درجة الاستنفار إلى أقصى مدى. تقدم أحدهم إلى الامام وأطلق صرخة قوية.. عالية :
ـــ ولا حركة من أي كان . ليتحزم الجميع بالجنزيروالقفل ويلتزم مكانه. ثم أردف:
الموقف غير سائب ولا نقبل بالفوضى أبداً. كلكم تحت السيطرة.
دثرت السماء نفسها بلحاف سميك.. من الصوف الابيض الثقيل.. وأسترخت تحت دفئه.. ونامت. بعد أن تركت المطرالغزيرينهمروحيداً على منحدرات التراب الاسمرالناعم بخطوات خفيفة.
يغلف كل شيء .. يمنع الرؤية.
انتظار في انتظار. ملل وأعياء وتعب , جوع وبرد وخوف وعطش. قلق وترقب.
الزرد اللعين يطبق على الأنفاس والأجساد.. يمنعها من الحركة.
جال حارس أخرفي الحافلة وعلى كتفه البارودة, يدورعلى أعقابه مع كل خطوة يخطوها إلى الامام يقول متوعدا:
ـ ألزموا أماكنكم ... ألزموا أماكنكم . لا أريد حركة أو صوت.
الحارس يمشي بحركة حذرة, مذعوراً. يخامره الشك والريبة من كل التفاتة أوحركة غامضة, ومع كل نقلة من قدمه يلتفت ويصرخ.. ولا حركة.. سأضرب بالملان. كان يرمي كلماته التهويمية الخائفة في الوجوه المصحوبة بالتهديد, بينما عينيه تراقب العيون وتنقلاتها. رافعا الحاجزالعالي من عدم يقينيته وثقته بنفسه.. بعد أبتعاده عن المدينة .
ساد صمت قاتل في الحافلة من جميع الاطراف. إلا المطر.. كان يغني ويرقص.. يهطل في الفلاة.. بسعادة وحرية.. حافراً لنفسه في جذورالارض أخاديد عميقة.. يغور.. ويغور في أعماقها السحيقة.. مكملا طريقه إلى أحواضها البعيدة في مكان بعيد.. تتساوي فيه الاشياء .
ـ لكن.. قف عندك, ولاكلمة. أبتعد الحارس خطوتين عن مصدر الصوت وصاح :
لا تتحرك أبدا إلا حين أعطيك الأذن.. حتى الهمسة يجب أن تكون بأذن.
حملقت بمرارة في وجهه.. وأطرقت صامتاً. ثم رفعت رأسي ثانية:
ـ لكننا نحتاج أن نبول . أنت تدري يا سيادة الحارس.. أننا مسمرون في هذه الحافلة مدة طويلة أمتدت إلى أزمان طويلة.. تكاد أنفاسنا تتقطع من التعب والجوع والعطش.. لا نريد منك شيئا إلا أن نبول في الفلاة الواسعة.. لا أعتقد أنها تضيرك بشيء. صمت قليلا وقلت مرة ثانية بصوت ثابت ونبرات واضحة:
لا ندري المدة والوقت التي سنبقى فيها هنا مسمرين في أماكننا, ولا يعقل أن نظل هكذا طوال الوقت محصورين.. تكاد مثانتنا تنفضجر من تلقاء ذاتها.. نريد حلا الأن يا سيادة الحارس.
جفل حارسنا الجبان وخاف.
تحسس الكلمات الخشنة, وراح يبتعد عن مصدرالصوت كأرنب مذعور.. مربك الخطوات.. متعثرا. إلى أن وقع على وجهه. تجمع الحراس الواقفة لمعاونته.. رفعته ثم حملته إلى طرف بعيد من الحافلة وأجلسته على كرسيه الثابت. أخذ حارس أخرالنوبة بدلاًعنه وراح يصرخ بصوت هستيري مرتجع:
ـ قلنا لكم لا نريد حركة أوصوت , يبدو أنكم لا تريدون التعاون معنا.
كان صمت البادية صارخا.. ولونها أكثر شحوبا وبؤسا من السابق.. والرؤية معدومة. تتغلفها طبقة قاتمة من التوتر.. تحوم حول المكان.
تحركت عينا سعيد الناعستان وجال بنظره وقال بنرة واضحة :
ـ نريد مخرجا لهذا الوضع.. لا يعقل أن نظل مربوطين في هذه المقاعد.. ومسمرين بها إلى ما شاء القدر.
هزالحارس يده وراح يشيربسبابته:
ـ إنه قدرك .
احمّر وجه سعيد وأضحى أكثر توترا ونرفزة وصرخ :
ـ سأبول على القدر.. وبعد صمت متحفز:
سأبول على الاقداركلها.
أقترب حارس أخرمن مقعد سعيد، لكن على مسافة. قال بصوت كامد:
ـ أنت بالذات يا حقيرعليك بالسكوت والصمت المطبق. كان الحارس يرتعد خائفا ومضى يزعق :
عليك الالتزام بالاوامروالانضباط التام. أفهمت! توقف مرة أخرى, ثم تابع من النقطة التي توقف عندها:
وإذا لا تفهم ؟ .
توقف قليلاً وراح يراقب الوجوه المشمرة في وجهه. خطأ بضعة خطوات ثقيلة مبتعداًعن سعيد:
سنعرف كيف نعلمك أن تخرس وتصمت إلى الابد.
طنين الصمت أنزاح.. وأستعاد بدلاً عنه بالجلبة.. الاصوات العالية التي خرجت من هنا وهناك.. راحت تحوم فوق الرؤوس كغراب أسود اضاع السبيل في غمرة البحث عن مكان يساكن البقاء.. منكمشاً على نفسه كأفعى يتيمة سهت في غيبوبة الدهر العميقة.
الاعصاب مشدودة.. ترسم أطياف الموت والغربة.. تنوء وتغوص في خلايا الروح.. تغوص وتغوص.. تختلي بذاتها وتنوء مبتعدة.. ترحل إلى الاعماق العميقة.. تدفع الاسئلة الرمزية الغامضة أمامها.. ككتلة مكومة.. تجري وراءها بقوة مشدودة إلى الوجود.. إلى اللأنهاية.
لماذا يحدث كل ذلك؟.
وفي فواصل زمنية متتالية.. لماذا تبقى رحلة الغوص في المجهول دائمة وبعيدة.. ترسم على أجنحتها الطويلة.. الاشكال المتكسرة.. المدفوعة إلى الذبول واليائس. ملامح سارحة تجلس فوق طنين الزمن المجهول.. تنزل إليه, تحمل منه ما تبقى من القطاف, تفرشه كقصصا مجدولة في طريق زائف.
في هذه الاصقاع المفروشة بالرياح العابرة...
المسافة ما بين الروح والبدن قصيرة جداً, ويمكن ملامستها بالعين المجردة .
كان سعيد منفعلا وحزيناً.. عكف يغتصب فوارق القدر.
ـ لكننا سنبول .
إنه مجرى الزمن والتأريخ وزرائبه.
ومضى سعيد يجدل لسانه ويقذفه في المنافي:
سنبول عليكم أيتها القوارض الضارة.. وأستتبع قوله بقول أخر:
سنبول في وسط حافلتكم التأريخية العريقة. وأنت يا سيادة الحارس.. تعلم بأننا سنفعلها. إنفعال سعيد وغيضه كان قد بلغ الذرى.. راح يرفع يده والزرد يرتفع معه.. يقرض لحم معصمه دون أن يدري أو يحس. كل شيء في سعيد تغير.. رنة صوته أضحت أكثر قسوة.. وتقاطيع وجهه أضحت أكثرسوداوية, وحركاته التي كان يصدرها أصبحت متوترة, ومتحفزة, متنقلة, ومختلفة. وأردف:
وصلت معكم أن تمنعونا من البول أيتها النتانات.
عاد الصمت يحلق كالبوم فوق رؤوسنا.
الحراس في أقصى درجات الاستنفار. راح أحدهم يقوم بحركات آمرة, بيديه وأصابعه وعينيه ولسانه, بأشارات وغمزات.. صرخ أخرقائلا:
ـ ليبق كل واحد في مكانه, كل من يتحرك, أويحاول النهوض من مكانه, أوالقيام بشيء لا تحمد عقباه, سأصفيه وألعن سلالته. وأنت. أشار إلى سعيد برأس أصبعه, حسابك عندي.
كان الحارس يرتجف من الخوف والغيض, يتعرق من الحنق والغضب, يشد يده على البارودة كلما نطق بحرف أوأخرج كلمة ما.
كان داخل سعيد قد أستيقظ نبض غاف.. خرج من الممرات العميقة في داخله.. سارفي دهاليزه البعيدة.. مشى مرفوع الرأس والهامة. شيء كالنبض الحي, قاطن في الأماكن السرية من الروح والقلب, خرج في لحظات التيه واليقظة.. تحول إلى بوصلة صادقة قادته للممرات الصائبة, أخترقت دقائق الامور
والحسابات المرسومة بدقة زائدة, وقلبت كل شيء في لحظة رأسا على عقب.
ـ سنبول بالقوة, بالغصب, شئت أم أبيت, ولن تنفع تهديداتك, أنت ومن معك يا جبان.. يا تافه. لا أخاف منك ولا من بارودتك. زردك لن يمنعنا من التبول. تابع سعيد صراخه في وجه الحراس المجندلة بالسلاح, في مقدمة ومؤخرة الحافلة البرتقالية.
الطوق المضروب حول الأكمة تحرك من مكانه, الأيدي الضعيفة تلوح في الهواء, صوتها يرتفع إلى عنان السماء.
جمد الحراس الصغيرة في أماكنهم. أيديهم على البواريد غير مصدقين هول التهديد, مما دفع الامر.. البقية إلى التراجع وطلب الهدوء بلهجة ناعمة, بصوت أقرب إلى القبول، كصوت داعرة تمثل دوراً مرسوماً لها في فراش عابر. قال أحد الحرس بعد مشاورته الأخرون:
ـ أرجو منكم الهدوء. ردد الكلمة أكثر من مرة, أرجو منكم التزام الهدوء, الأمر ليس بيدي. أعطوني, أسمحوا لي, تحملوا قليلا, بضعة دقائق حتى أسوي الامر مع الحارس صاحب ربطة العنق الزاهية.
ذلك. أشار بيده إلى السيارة الفارهة الواقفة أمام الحافلة البرتقالية. وراح مع كل كلمة ينطقها يرتعش, ويتحرك على ايقاع ضيق, فيه توسل ولين, راسماً على وجههه تعابيرمصطنعة من الاهتمام والثقة.
نزل أحد الحرس من الحافلة وأتجه إلى الحارس صاحب السيارة الفارهة, مسؤول الرحلة إلى تدمر.
كان جالسا في سيارته الأنيقة مسترخيا, ينتظرمعرفة أسباب وقوف الحافلة. أقترب منه وحياه بخبطه من قدمه اليمنى, أهتزت لها الرمال المتحركة, راح يكلمه بهدوء وخضوع. يحرك يديه ويشير إشارات مفهومة, متعارف عليها بينهم.
عاد ادراجه بعد لحظات, نظراته تشع بالفرح والزهو, رافعا يديه إلى الاعلى, كطفل صغيرتعلم المشي أول مرة, منطلقا نحو الحافلة الكبيرة بسرعة, وثيابه مبللة بماء المطر, كعصفور منقوع الريش, خذلته الجهات الاربعة. وقف بين الحرس في المقدمة, قرب المحرك العاطل ومضى يقول بصورة مفخمة:
سيدي سمح لكم بالتبول. لكن. عليكم الالتزام بالانضباط والاوامر. وإلا! توقف الحارس لحظات ممسكاً, عن الكلام, مجففاً فمه. وراح يتكلم بأنفعال وتوتر:
ــ وإلا.. ستموتون في هذه البوادي المترامية الاطراف وتدفنون فيها مثل أي طيرعابرأو فطيسة, ولن يعرف أحد مكانكم. لذا.. أطرق واجما, باسطا ذراعيه بوهن, ممسكا مقبض المقعد من جهة ومقبض كرسي المحرك الخامد من جهة أخرى. وكررمحاولا التذكير بالمخاطرالمترتبة على ذلك:
لذا.. أقول لكم بالفم الملان, وأعذر من أنذر! لن تحميكم البادية أوطرائدها الضائعة، سنصوب بنادقنا عليكم من هنا وأشار إلى مكان وقوفه. ثم تابع قائلاً:
في حال القيام بشيء لا تحمد عقباه, سنضرب بيد من حديد لأية حركة مشبوهة. راسما على وجهه ذعرا كامدًا. ثم ترك عينيه تحدق بقوة في الوجوه.
ساد وجوم متيقظ وهدوء متشنج. في أنتظار أشارة من أجل النزول.
بالرغم من كل شيء, كان المطرفي الخارج يهطل بغزارة, مطوقاً المكان بتشنج, كبقعة غارقة في أحلام رهيبة. الهواء يهب مجدولا.. على شكل وشائج أو شرائح مشدودة.. يضرب النوافذ وجدران الحافلة من جميع الجهات.
حصار .. حصار. حصارمن كل مكان , في كل مكان .
في انتظار أشارة أوعلامة تشير إلى النزول .
ارتعاشات مضرجة بلون الشفق المحمر. وفلتان البادية على نفسها في ابتهالات حزن وقهر. تراتيل مفجعة عند قدمي السماء والمطر, تسطرفوق الغيوم خرائط المنافي ودفق الوجع, تخرج كشلالات منحرفة, تمشي, تدخل ممرات الصدروالروح, تصعد ملتفة كتعريشة على المدى الواسع والمترامي.
الزرد الملتصق بالمقعد, بالقفل, بالمعصم, قابع كالقدرالاحمق في مكانه لا يتحرك .
وحده الزرد كان شاهدًا .
يرسم مشاهد انحرافات الزمن والتواءاته.
قابعا فوق صخوره لا يفارقها إلا بالموت والفناء من الساحات.
فتح الباب الخلفي للحافلة, فاندفع تيار من الهواء البارد المصمط والسخرية. ووقف الحارس بجانبه مصفرا ويداه المعرقة تشيرإلى التزام الهدوء والحذر. أقترب حارس أخر وفي يديه المفاتيح الخشنة وراح يفتح كل قفل مربوط بالمقعد ويحرر الزرد المتمفصل مع الحلقات الدائرية, إلى أن انتهى من كل الاقفال, ووقف وأشار أشارات تنم عن الحيطة والحذروالخوف:
أسمعوا جيدا وراح يمررالكلمات ممطوطة.. وراء در. وأردف بغيض : عليكم بالنزول من الخلف .
الاجساد تضمحل وتنكمش, ترتد على نفسها, تتحول إلى قوقعة ملتفة على بعضها, تتمايل بمرونة, ترّفع الايدي إلى الاعلى, إلى الاسفل, يمينا أويسارا, من أجل تمريرالزرد. لكن. بتأن وهدوء, فيأخذ كل جسد ربع انحراف, ربع زاوية, يدفع الأقدام طبطبة, خطوة صغيرة وراء خطوة, نحو اليمين أواليسار, إلى الامام أوالخلف, يتقدم قليلا ويتراجع أقل ثم يترك مجالا للزرد أن يتحررمن قساوة نفسه وقساوة الجسد المربوط فيه.
يمشي الزرد راقصا كالحنجلة في المقدمة, وتتبعه القافلة المنكوبة وراء ستارة ثقيلة من التعب والجوع, والكدر. يتحول المشهد بشكل معاكس وغريب, فيغدو من كان في المقدمة.. في المؤخرة ومن كان في المؤخرة في المقدمة. تمشي القافلة كالجنازة الصامتة أو كموكب أخرس أضل الطريق وسارفي ركاب الغربة.
الرؤوس مطأطأ. والصوت متريث في غفوة الحنجرة, يخنخن كامدا وسربلة. والوجوه المزدرية فقدت بريقها ورعدها, وأضحت كالحة ومغبرة, ضائعة الملامح وسائر في سراديب مظلمة وطويلة, تحرث جذورها في العمق, في أسوارالوحدة على شكل كتل قادمة من مجاهيل بعيدة.
وحده الزرد. الزمن. كان متألقا, في حالة نشوى وجنون.
ترتفع وتيرة فرحه وزمهرير ظلمته, يصهل ويلعلع, تفوح منه الروائح القديمة, يتحول إلى عربيد أسود ينفث سمه عندما يصطدم الزرد بالزرد. وأثناء أسترخائه المدور يقعقع ويبعث برسائله إلى الارواح الساكنة فيه.
البراري العذبة والسهب الشاسعة تفتح ذراعيها, أبوابها للحرية..
الزرد يصدر صريرًا قادحا, شرارة حمراء, منطلقا من عتبات الألم, من جوفه, مندفعا في هيجانه, راسما رغباته الدامسة في بوابات القلب.
الاعضاء المأسورة في الزرد, تلتف على بعضها, تستجدي الطريق بصمت أقرب إلى اليائس. تراقب خذلان القدر, الزمن, تنزل إلى مهابط الآلهة مستسلمة.
الاجساد , السلاسل, المربوطة ببعضها البعض كالعروة الوثقى تبحث عن موطأ قدم أو مخرج لتدق من خلاله وجودها في الارض, تستقرفي مرابطه.
رأس الزرد ينحدر متمايلا, ينزل من الخلف, يمشي فيمشي وراءه الاخرون.
كان المطر سادياً في ذلك الكانون الاحمق, يهطل بقسوة وحقد, يدخل في ريق الارض ويمزقه ويتوه فيها مع حوامله الاخرى, البرد والخوف, والسخرية.
قال أحد الحراس بصوت عال ومسموع:
قفوا بشكل مستقيم على أمتداد الطريق, بشكل موازللحافلة البرتقالية. ثم أخذ يصرخ مشيرا إلى مكان وقوفه قائلا:
ليتقدم من في يده رأس الزرد.. إلى هنا.. إلى عندي.. واقفا عند رأس الحافلة العاطلة.
كانت الحراس موزعة, مزروعة كالاوتاد على محيط بيضوي كامل, مكتمل. يبدأ من رأس الزرد ويدور حول الحافلة من الجهة الاخرى, من الطريق ثم يكمل دورانه, ممتدا ومستمرا.
السيارات في الاتجاهين تسير بسرعة كبيرة, تقذف الرذاذ الاسود المتطايرمن أسفل دواليبها, من أسفل الارض المختمرة بالسواد على الوجوه والايدي والثياب.
قال بلهجة آمرة, مختالا كالطاؤوس, غامراالاخرين برحمته ورافعا يديه في الهواء:
أخرجوا قضبانكم من أغمادها وأطلقوها في العراء...
بولوا .. بولوا .. بولوا .
الحراس في المقدمة تراقب, وتشاهد العري.. تضحك بسخرية.
مطر وبرد وجوع, أزدراء ورذاذ أسود متطاير, وحرس تحاصرالصدور الضاوية.
أوامروزرد وقيد محكم.
همس تميم في أذني ساخرا , وقضيبه في يده, يبول ويضحك قال:
ـ ما أجمل أن تبول تحت أنظار الحكومة, تحرسك وتسهرعلى بولك. ومضى في سخريته يقول:
تحت المطر والسماء المفتوحة والعارية..
أليس كذلك .
لم ينتظر تميم جوابي ومضى يقول :
لأول مرة منذ سنوات وسنوات لم أبل في العراء. ثم أشاربرأسه:
أنظر إلى جمال البادية والمطر الحروالبرد. تريث صوته وتابع: تحت وهج ظلال الكون الطليق والحر.. مازالت الحياة جميلة.. مستمرة في أيقاعها.. ونحن بعيدون عنها.. لولا تلك البواريد اللعينة, المصوبة علينا من المؤخرة والمقدمة, لكان كل شيء جميلا.
أبتسم تميم وراح يتكلم برغبة جارفة قال:
لو كنت فنانا أو رساما, شاعراً أو روائيا لخزنت هذه الصور والهندسات الجميلة والعفوية في ذاكرتي ورسمتها كلوحة جدارية كبيرة مثل رائعة بيكاسو, الغرانيكا, أوكتبتها كرواية تخلد هذه الذكرى الغريبة. أقصد. منظرنا ونحن نبول والحرس تحرسنا على المدار الدائري.
رفعت رأسي المتعب وقلت بصوت واضح وموزون وبنبرات حادة:
ـ يا للسعادة والفرح لهذا الخيال الواسع, يجب أن تضيف للوحتك, الأبهة والجلال, وترش عليهما بعض قطرات الدم المجانية.. لتصبح جذابة ومشوقة.
كان تميم متحمسا وأجاب بسرور وسعادة:
ـ ولما لا. أنظر. أليس.. هذا منظرا جميلا! بل رائع الجمال, فائق الجمال. أنظر:
إلى أستقامة المشهد. الجنزير كيف يمر من يد ليد ومن حلقة لاخرى, وكل يد مكبلة بيد وأخرى تمسك القضيب وتمده للحياة, للحرية, بحرية وطلاقة. أنظر:
كيف وقفت القضبان على استقامة واحدة كأوكسترة بارعة , تعزف أجمل السيمفونيات الخالدة. كان وجه تميم يشع بالغبطة لهذه الحيرية الخاطفة.. وتكاد عيناه تضيئان من الضحك.. وراح يرقرق الكلمات. قال:
أنظر .. أنظر إلى المعاصم كيف أمتدت كشروش راقصة في الهواء الطلق, بعيدة عن الجسد, بزاوية حادة إلى ما بين الفخذ وأسفل البطن. وتابع:
كل قضيب يغني لوحده. ثم أخذ يضحك بصوت عال :
قضباننا متجهة عكس هطول المطر, ومع هذا تراه يغزونا. ثم أستانف ضحكه:
كنت أحلم منذ أمد بعيد, أمتد إلى عشرات السنين من عمرالزنزانة أن أبول في العراء وها هي اللحظة التأريخية الجميلة.. الممتعة تتمثل أمامي.
انكمشت على نفسي وقلت بمرارة :
ـ أتريد أن ترسم المشهد الخلاب.. البول والقضبان والأعين الساهرة على رصد أنفاسنا.. في.. وعلى لوحة جدارية كبيرة. زفرت زفرة مشمئزة.. حارة. قلت:
هل هناك فرحا يوازي ما نحن عليه؟.. ربما تتمنى في داخلك أن يرسمها فنان مشهور, بطريقة ساخرة وكوميدية, عليها مسحة حزن دفين, ويتخللها صخب وغموض وألوان سوريالية عجوزة.. تتحرك بتقزز. طبعا. وتستحق أن تدخل أكبر وأشهرالمتاحف العالمية. بعدها نصبح فرح وهذيان الاغنياء والمترعين في العالم. توقفت ثم قلت:
لا.. ربما.. أقول ربما, تريدنا أن نكون مهزلة فوق ما نحن عليه.
يدي المتدلية تمسك القضيب بتثاقل, والاخرى تمسك الزرد بوهن, رأسي المرتخي يلتفت إلى اليمين واليسار.
ضحك تميم كطفل بريء قال:
ـ لما لا ؟ . لكن. قل لي: هل يستطيع الفنان أن يرسم اللوحة الغرائبية لوجوهنا كما هي أم لوجوه بشرعلى شاكلتنا, تحتل مكان صورنا كرموزوأشارات معبرة.
وزعت نظراتي على الوجوه المتجعدة, على التراب المتجعد.. على المطر المبلل بالأخاديد المفروشة على رقعة صغيرة من الكون. ومضيت في رسم لامعقولية الصدف. قلت:
ـ ربما ياتميم. لكن. المشهد الحقيقي ليس لك.. وإنما للقضيب. أعذرني يا أخي لتطاولي عليك, لطول لساني. لان الشخصية الرئيسية في اللوحة, هو.. أقصد القضبان المنفلتة من جحورها الضيقة إلى الفضاء الواسع, تحت الاشراف المباشرللسلطة. لكن. تعثر الصوت في حنجرتي وتشربك, وتبللت ثيابي بماء المطر, لكني رحت أسمع قرقعة الضحك من أكثر من مصدر. بلعت ريقي بتمهل وسددت نظراتي في عيني تميم وطلبت من راتب مشاركتنا الحوارالماجن.. قلت:
لكن. كما قلت سابقا, لماذا تريدنا أن نكون مادة للرسم. توقفت وقلت لتميم.. ضع عينك في عيني, دعني أتأملك جيدا. قل لي:
ألا يكفي هذا المنظرالمضحك, المبكي . أم أن لاحلامك مغزه أخر. ربما تدخل الاسراب السرية لالغازما وراء الطبيعة, أولا يمكن معرفة أبعادها وأغوارها.. أقول يمكن أن تكون نزعة مجنونة تمثل فعل الاغتصاب في اللاشعورالموسوم وراء مخيلتك الفاضحة.. تريد الانفلات من هنا لتستقر في لوحة عابثة. وجهي الوديع تحول إلى صرامة, وراحت عيناي تشعن بنظرات حادة وقاسية. ورحت أقول بنرفزة, دافعا ماء المطر من فمي:
أتحب أم تريد, أن تجسدنا على الورق الغالي والنفيس, كمبولة مستمرة, وباقية على مر, ووجه التاريخ. ثم! ألا يكفي.. أن نصبح جزء من مهزلة عابرة, مملة ومقرفة, ليأخذها الزمن تحت, وفي عباءته, ويخزنها في ذاكرته, ليرميها بعد أن يكون قد مصها وتركها في مزابله المتعددة.. أم أنك يا صديقي تميم تريدنا أن نبقى لوحة خالدة ومستمرة كخلود الزمن على جدران المتاحف. ثم بعد كل ذلك اتمنى منك أن تنسى هذه الأشياء, وتتركني أبول دون منغصات, تعكر صفوة تأملي للقدر.
صوت المطر يصلصل في الوهاد, ملتهبا بالبرد والشحوب الداكن, ينهمر بأستخفاف على كل شيء ويتابع هسهسته دون خجل أو أحراج. يطرق الظهرمن الخلف , ويهب من الغرب إلى الشرق, يلسع مؤخرة الأذن, والجهة الجانبية من الرأس, الوجه والعين, الأنف والفم .
كنت أحاول جاهداً أن أبول وأتخلص من الاكتنازات الزائدة في هذه العبثية الخالدة من أنبثاق اللوحة وتماوج الصدف ببعضها البعض, أنفتاحها على احتمالات كثيرة.
تتدفق الأحاسيس العجيبة من بين ثنايا تفكيري, ضغطت على الحالبين والمثانة بقوة. رفرف عقلي وطار بعيدا, وطأ بلاداً نظيفة.. وأمعن النظربأزهارها البريئة. سافر إلى مدن ليست من هذا الزمان . أراد أشياء كثيرة في محاولة الهروب. لكن الجسد العاجز ظل عاجزا, منكمشا على نفسه ومتصلبا.. تمسكت قطرات البول بمكانها, بالمثانة. تأبى أن تخرج إلى العالم الخارجي.




#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدولة والمجتمع وفق منظورأخر
- بعد المعركة الطويلة على لبنان
- الثائر.. الملك السويدي كوستاف الأول
- النظام الدولي وآلياته
- غرفة التحقيق
- النظام العربي
- ظلال الوقت
- من الذاكرة.. إلى الذاكرة
- السجن..مرة أخرى
- الليل في سجن تدمر
- بعض الذكريات من منزل الموتى


المزيد.....




- الأمم المتحدة ـ أكثر من مليون شخص يواجهون انعدام الأمن الغذا ...
- -القسام- توجه رسالة باللغتين العبرية والإنجليزية بـ-لسان حال ...
- مسؤول أميركي: المجاعة محتملة جدا في مناطق بغزة والممر البحري ...
- واشنطن تطالب بالتحقيق في إعدام إسرائيل مدنيين اثنين بغزة
- 60 مليون دولار إغاثة أميركية طارئة بعد انهيار جسر بالتيمور
- آلاف يتظاهرون في عدة محافظات بالأردن تضامنا مع غزة
- شيكاغو تخطط لنقل المهاجرين إلى ملاجئ أخرى وإعادة فتح مباني ا ...
- طاجيكستان.. اعتقال 9 مشبوهين في قضية هجوم -كروكوس- الإرهابي ...
- الأمم المتحدة تطالب بإيصال المساعدات برّاً لأكثر من مليون شخ ...
- -الأونروا- تعلن عن استشهاد 13750 طفلا في العدوان الصهيوني عل ...


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - تحت ظلال بادية تدمر