أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عادل حبه - العراقيون بيدهم مفتاح الخروج من نفق القتل والدمار















المزيد.....



العراقيون بيدهم مفتاح الخروج من نفق القتل والدمار


عادل حبه

الحوار المتمدن-العدد: 1842 - 2007 / 3 / 2 - 12:13
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    



١. مقدمة
٢. كوارث البعث
٣. صدام و أمريكا
٤. ماذا حدث بعد التاسع من نيسان؟
٥. العوامل الخارجية
الادارة الامريكية
الدولة السورية.. عدو أم صديق؟
الارهاب
٦. العوامل الداخلية
الاحزاب العراقية.. أحزاب وطنية أم خيم عشائرية و مذهبية؟
٧. ما الحل؟
تدين أم غلو؟
معضلة رجال الدين و السياسة
السلاح
حل الميليشيات
الطبقة الوسطى
هيبة الدولة
الالتزام بالعهود و المواثيق
الحل التدريجي للمشاكل

١. مقدمة
أربعة اعوام مرت منذ انهيار النظام الفاشي القومي في العراق على يد القوات الغازية الامريكية والبريطانية وعدد من حلفائها. ومنذ اللحظات الاولى لهذا الزلزال المفاجئ وغير المتوقع سواء لاركان النظام او حتى لضحاياه، استقبل الحدث من العراقيين بين من رحب بالخلاص من هذا الكابوس وبين من وقع في دوامة من الذهول وعدم التصديق لحجم الحدث وسرعة تطوراته المتتالية. وراح نفر آخر من العراقيين يحسب الحساب بقلق لما سيأتي به المستقبل من تغيير واصطفاف جديد للقوى وطبيعة السلطة القادمة والتي قد تؤدي الى الحد من امتيازات هنا وهناك او من ضياع موقع هش تتقاذفه ريح التغيرات العاصفة. وبالطبع كان هناك نفر آخر وهم يمثلون الأقلية في المجتمع، ويرتبطون مباشرة بالنظام المنهار من حيث المصلحة والممارسة او المشاركة في جرائمه وبشاعاته، أصيبوا بالصدمة وتملكهم الذعر، وتفادوا غضب العراقيين واختبأوا في بيوتهم او بيوت جيرانهم، او آثروا الهروب الى الدول المجاورة مع كل اسرار اجهزة النظام وخططه وقدرته المالية الضخمة والتنظيمية والمخابراتية. وفي خلال هذه الاعوام الاربعة، تصاعدت تدريجياً خلالها موجات من العنف والقتل الفريد والدمار الهائل الذي لم يشهده العراق، ووصل الى مستويات خطيرة ليضيف دماراً الى ذلك الدمار الكبير الذي احدثه الحكم السابق بهذا البلد الكريم.

تفجير الشورجة - بغداد - في 7 شباط عام 2007
مقاومون أم وحوش وخونة
ويطرح المواطن العراقي اليوم أسئلة محيرة كثيرة. ولعل اول هذه الاسئلة هو: هل بمقدور العراق الخروج من هذا النفق المظلم؟ ثم لماذا حدث ما يحدث من عنف متصاعد منذ ان انهار النظام ؟ هل ذلك محظ صدفة، أم هو من ضمن تخطيط مسبق؟ وما هي القوى التي لديها مصلحة في استمرار دوامة هذا الانهيار المريع في القيم والسلوك؟ ينبغي الاعتراف بأنه وفي مثل هذه الاجواء العصيبة والمعقدة، يقع العراقيون فريسة للكثير من المضاربات والاشاعات والحرب الدعائية والنفسية المتشعبة المصادر حول مسببي هذه الافعال الدموية. فمنذ ان بدأت هذه الافعال الشريرة، وجهت الاطراف التي لها صلة بالنظام السابق وأطراف اخرى لها مصلحة بتدمير البلاد الاتهامات، جرياً على عادتها، الى قوى خارجية وتحديداً اسرائيل والولايات المتحدة في محاولة للتستر على الفاعل الحقيقي ولتشيع الفوضى والعبث والبلطجة والتأليب على الوضع الجديد. فقد وجه الاتهام الى هذه القوى الخارجية في تصفية العديد من الاساتذة والعلماء العراقيين ومن ذوي الخبرة والتجربة في مختلف الاختصصات العلمية والأدبية والفنية، إضافة الى إغتيال الضباط والطيارين العسكريين العراقيين خاصة من الذين عادوا من جديد الى العمل في صفوف الوحدات الجديدة للجيش العراقي. وما زال العراقيون تتجاذبهم الريح بين تصديق او نفي هذه الاتهامات رغم انعدام اية دلائل لها، إذ لم يتم العثور ولحد الآن، على اي ضابط اسرائيلي او امريكي متلبساً بالقيام بهذه الافعال الشريرة، بإستثناء من أدانتهم الإدارة الأمريكية نفسها جراء أعمال مشينة ضد سجناء عراقيين. علماً إن السلطات العراقية قد قتلت المئات، وألقت القبض على اضعاف من جنسيات عربية وافغانية وايرانية وهم متلبسين بالجرم. وحكمت محكمة الجنايات العليا العراقية على البعض منهم أخيراً بين الإعدام او لمدد مختلفة. ففي خلال الاربعة أشهر الماضية فقط ، إعتقلت الاجهزة الأمنية العراقية 150 مصرياً و 140 سورياً و 80 ليبيا أضافة الى العشرات من السعوديين والبحرانيين واليمنيين والافغان المتهمين بالتخريب وممارسة القتل والإرهاب. كما أنه أصبح من المعروف أن جميع الإنتحاريين هم من جنسيات عربية وإسلامية وليس بينهم أي مواطن عراقي, إن مهمة "البلطجية" من العراقيين من فلول النظام السابق هي كعادتهم عندما كان الحكم بيدهم هو النهب وقتل أبناء جلدتهم.
ولكن رغم كل هذا التشويش وخلط الاوراق والتستر على المجرم الحقيقي، فإن كل الدلائل التي تتضح تدريجياً يومياً وبإعتراف مرتكبيها توجه اصابع الاتهام بالدرجة الاولى الى فلول النظام السابق واجهزته القمعية والبوليسية الذين فلتوا من الضربة، وإنحنوا لفترة كي يعاودوا نشاطهم ضمن مسعى لإعادة العجلة الى الوراء وإرجاع "حزب العودة" الى السلطة من جديد، الى جانب حلفائهم من اقطاب الجريمة المنظمة والتكفيريين العرب وكل من تضرر من انهيار النظام.

٢. كوارث البعث
إن طبيعة حزب البعث الانقلابية الفاشية لا تسمح له بأن يؤمن بأي مظهر من مظاهر تداول السلطة او بأي مظهر ديمقراطي يحترم ارادة الشعب. ويكفي النظر الى ممارساته عندما استلم السلطة في العراق او في بلدان عربية كي يتضح للجميع الطبيعة الفاشية لهذا الحزب. ففي العراق نصب هذا الحزب حمامات دم لجميع من خالفه في الرأي او ممن كان يشعر أنه قد يزاحمه حتى في المستقبل البعيد على السلطة انطلاقاً من مقولة كان يرددها زعماء هذا الحزب دائما في لقاءاتهم مع الآخرين:"إننا أتينا كي نبقى وبأي ثمن" حتى ولو كان ذلك على حساب تدمير البلد برمته. فقد كان بإمكان صدام حسين، على سبيل المثال ،ان يخرج من الكويت في عام1991، أو أن يتنازل عن "عرشه" وحزبه كي لا تلحق المهانة والهزيمة والتدمير بالجيش العراقي. وفي عين الوقت فإن تنازل الطاغية عن الحكم يجنب العراقيين كارثة الحصار والحروب وآثارها المميتة. ولم يصغ صدام الى نصيحة رئيس دولة الامارات وعدد من الحكام العرب ويتنازل عن "عرشه" ليتجنب ذلك الزلزال الذي عصف بالبلاد في عام 2003. ولكن تشبث هذا الطاغية هو وشركائه في الجريمة بمقولة "أتينا كي نبقى" جعلتهم يضحون بالعراق والعراقيين من أجل هذه الغرائز المريضة.
ولكي تتحقق هذه "الخرافة" التي كان يلوح بها قادة البعث، عمد صدام وبعيد تسلطهم على السلطة في عام 1968 الى تخريب الحركة السياسية في البلاد وتحويل العراقيين الى عبيد له بقوة البطش غير المعهود وشراء الذمم وخلق فزاعات للعراقيين من أمثال "ابو طبر"، تماماً كما اخترعت أطراف أخرى الآن تقليعة "ابو درع"، كي يرهب العراقيين ويعيشوا في رعب دائم. لقد وُظّفت نسبة كبيرة من اموال الدولة وإيراداتها لتعزيز الشبكة البوليسية وشبكات الرعب، وليس لردع القوى المعادية للبلاد وكبح مؤامراتها، بل لإذلال الشعب وقمع أي احتجاج له ضد النظام . كما استقطعت نسب كبيرة من واردات الدولة وبضمنها "حصة گولبنگيان" المؤممة من وارادات النفط، ووضعت في بنوك اجنبية كي يتم الاستفادة منها اذا ما تم إنهيار سلطتهم، ولكي يعودوا من جديد بواسطتها ليتسلطوا من جديدعلى رقاب العراقيين. هذا ما كان يردده قادة البعث في الاروقة الخاصة، وعندما كانوا يسألون عن سبب سطوهم على حصة گولبنكيان البالغة 5% من الواردات النفطية العراقية. وبالتدريج ومع شعور هذه الزمرة التي إختطفت العراق بالعزلة والقرف الذي يبديه العراقيون اتجاههم، راحوا يلوحون بشعاراتهم المشينة القائلة "ان من يفكر بإزاحة البعث سيجد العراق ارضاً محروقة بدون زرع ونبت وبشر". وردد قطب النظام مقولة أخرى مثيرة تقول إن "من يفكر بأخذ السلطة من البعث، فسوف لا يستلمها، بل ستستلمها الامبريالية والرجعية". هذه الاقاويل والهذيانات قيلت وبصراحة امام سياسيين عراقيين، و كانت بعضها تتصدر صفحات صحفهم الرسمية وتصريحات أبناء صدام واتباعه وبكل وقاحة، وكأن العراق بستان من بساتينهم التي سطوا عليها في بقاع العراق كله. لقد جُهزت مؤسسات القمع والبطش بكل ما تحتاجه لقمع العراقيين وليس لمواجهة تهديد خارجي. وهذا ما لاحضناه عندما تعرضت البلاد الى الغزو الخارجي، حيث تعاون من تعاون من جنرالات النظام مع الغزاة و لاذ آخرون بالفرار ورموا اسلحتهم في الشوارع كي يسطوا عليها عتاة الجريمة المنظمة المتحالفة مع النظام السابق. وقاموا بذلك هم لا غيرهم بحل الدولة والجيش والاجهزة بعد ان سموا الدولة وجيشها وكل مرافقها بأسم صدام حسين الذي سقط وسقطت كل الدولة، ثم ولوا فارين من ميدان المعركة، قبل أن يصدر الحاكم الامريكي الجديد بريمر قراره بحل دولة صدام.

٣. صدام و أمريكا
وتبعاً لذلك شرع النظام بتوفير العدة والخطط في حالة انهيار نظامه، خاصة وانه بدأ يشعر بأن الحلقة بدأت تضيق حول عنقه بعد كل المغامرات التي تورط فيها اقليمياً. فقد أُعتبر رأس النظام "مرتداً" بعرف من ساندوه في مغامراته السابقة، وزودوه بكل ما يعينه على التجبر والبطش بالعراقيين سواء من الدول الكبرى،وتحديداً الولايات المتحدة، او من الدول الاقليمية الخليجية على وجه الخصوص بعد ان تجاوز الخط الاحمر، بعدما دفعته رعونته الى احتلال الكويت وإلغاء الوجود السياسي لهذه الدولة التي دفعت المليارات له كي تنقذ حكمه وتدعم خططه الجهنمية العدوانية في السابق. وفي داخل البلاد، وفي مسعى لفرض الهيمنة على الشعب الذي فقد كل ثقة في النظام، ذهب النظام بعيداً في تفتيت نسيج الشعب العراقي وخلق العداء بين اطيافه. لقد قسّم رأس النظام المنهارالبلاد الى محافظات "سوداء"!!، وعددها 15 محافظة من التي شملتها انتفاضة عام 1991، و التي حرمت من ادنى اشكال الرعاية او العناية من قبل السلطة البائدة، وثلاث محافظات "بيضاء"، لكونها لم تشهد مظاهر الاحتجاج على سلطة البعث على الرغم من إنها لم تسلم من الحيف والحرمان شأنهم شأن كل المواطنين العراقيين. وقد ركز الطاغية على بغداد التي تحولت احياؤها واطرافها في عهد الطاغية الى "كانتونات عسكرية" لحرسه الجمهوري وقواته الخاصة ومخابراته واجهزته الامنية وجيشه الشعبي وفدائييه من الذين جلبوا وأسكنوا في هذه الحاضرة التاريخية، سواء أكانوا من العراقيين او من العرب وغير العرب مثل مجاهدي خلق الايرانية. ان الهدف من ذلك هو تطويع اهالي بغداد واذلالهم وقمع اي تحرك لهم ضد النظام. وهكذا اصبحت بغداد تحتضن حوالي ثلث نفوس الشعب العراقي، واصبحت جمهرة كبيرة من سكانها هم ممن جلبهم النظام من المناطق النائية واعطاهم الامتيازات والسطوة. ولعل ما يحدث في بغداد حصراً الآن خير دليل على ما خطط النظام لهذه المدينة وما كان ينويه للعاصمة من خطط جهنمية لتدميرها بأهلها.
وإمعاناً في تشرذم الشعب وأثارة المواجهة بين أبنائه، عمد النظام الى إحياء العصبيات العشائرية والقبلية. وشهد العراقيون وعلى شاشات التلفزيون يومياً ولساعات طويلة مملة تلك "المشاهد" الغريبة المتخلفة الرعناء للديكتاتور وهو يخاطب "رؤساء" العشائر المزعومين ويسألهم عن أحوال " الاعمام"، بشكل لا يؤدي الى توحيد نسيج الشعب العراقي بقدر ما هو مسعى واضح متعمد للعودة بالعراقيين الى عهود بالية من التشرذم والعصبية العشائرية والقبلية التي طوى الزمن صفحة عليها. إنها عملية شريرة تستهدف هدم مقومات الوحدة الوطنية والمواطنة العراقية والهوية العراقية والحقوق المدنية للمواطن. إن إحياء النظام السابق لهذه النزعة، الى جانب السياسة الطائفية والتمييز العنصري التي اعتمدها النظام، زادت من تشرذم المجتمع وتفتته، فتكرس الفساد فيه مما ادى الى إلغاء كل مظهر من مظاهر القانون فيه.
كما راحت الطغمة الحاكمة الفاشية القومية تفتش ايضاً عن من يعينها على مواجهة الخطر المحدق بها، وسعت الى اللقاء مع "مرتدين" آخرين من انصار تيار التخلف والتوحش والفاشية الدينية الذين هم ايضاً تنكروا لمن أعانهم في "جهادهم" في افغانستان ثم تنكروا لأولياء نعمتهم واصبحوا في خندق واحد مع صدام وامثاله. ولكي يؤكد حرصه على التحالف مع الفاشية الدينية والمتطرفين الاسلاميين و "المجاهدين"، اعلن صدام حسين وبشكل مفاجئ وهو الذي كان يحاسب اتباعه على ارتيادهم للمساجد، "حملته الايمانية" التي ترأسها "الملا" عزت الدوري. واصبح صدام لا يفارق في "مسلسلاته" التلفزيونية القرآن والمساجد ويكرر بملل في خطاباته المفردات الدينية والادعية والفتاوى، كما راح يشيع الشعوذة والدجل. ونشرت صوره وهو بكيفيات مختلفة فتارة نراه يسجد ويلتمس الدعاء وتارة ينشر "شجرة" عائلته التي لصقها بسلالة النبي وتارة أخرى وهو يصلي في المسجد الأقصى. كما تحول نائبه عزة الدوري بقدرة قادر الى "درويش" من دراويش التكايا. ودخل النظام في صفقة مع منظمة القاعدة الارهابية، ومع اتباع المذهب الوهابي المتطرف من العراقيين، الذين جرى تمويلهم وبسخاء من قبل اثرياء الارهاب والتطرف الديني في السعودية ودول الخليج. ووضعت الخطط لتحويل العراق بعد إنهيار حكم البعث الى ميدان "للجهاد" المزعوم. وبذلك تحول الشعب العراقي إلى فريسة تنهش في جسده الاطماع الاقليمية والصراعات المذهبية، وزج العراقيين بحروب بالوكالة عن الآخرين، هذا الى جانب تحويل العراق الى قاعدة للارهاب الدولي الخطير ضد الشعوب الاخرى. هذا ما كسبه العراقيون من حكم البعث ورسالته الخالدة و "فارس الأمة العربية" الذي دام قرابة اربعة عقود عجاف من نزيف دماء ونهب وبطش وفساد شامل ودمار في الوجدان والقيم الروحية وتحطيم المواطنة العراقية وتمزيق المجتمع وهجرة بالملايين لم يعهدها العراقيون الى الخارج. كما ادى ذلك الى دمار اجتماعي أرجع العراق قروناً الى الوراء مما سيحتاج البلد الى اجيال كي يتم اصلاحه.
وتوجه النظام ضمن خطته الشاملة الى رشوة وإفساد اوساط رسمية وحزبية ومهنية في المجالين الاقليمي والدولي كي يسعفوه في حالة تعرض كرسيه للانهيار، أوالسعي لدعمه في مسعاه للعودة الى الحكم من جديد. وشملت الرشاوي وشراء الذمم اوساطاً واسعة من مشارق الدنيا ومغاربها، حيث قدم العطايا والكوبونات النفطية وحقائب السمسونايت المحشوة بالدولارات الى رجال الدول وزعمائها او ابنائهم علاوة على قادة في الحركات السياسية بكل تلاوينها واجهزة الاعلام بشكل لم تشهدها عملية شراء الذمم نظيراً لها في كل تاريخ هذه المأساة التي جرت على حساب حرمان وجوع ابناء الشعب العراقي. فالطاغية، على سبيل المثال، كان يقدم 20 الف دولار سنوياً الى حسنية مجيب الرحمن في بنغلاديش ومنذ اوائل السبعينيات، وتصاعدت الرشاوي وقدمت كوبونات النفط وبملايين الدولارات الى زويغانوف زعيم الحزب الشيوعي الروسي والى ابن رئيس الجمهورية اللبنانية الحالي والى ابن مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري الاسبق والى غالاوي المضارب وعضو البرلمان البريطاني، ورمزي كلارك المدعي العام الامريكي السابق والى وزراء فرنسيين وغيرهم. كما وزع صدام حسين الهبات والرشاوي على شبكة واسعة من العراقيين والعرب وغير العرب من المرتزقة والدخلاء على الاعلام في بلداننا العربية في سابقة لم يعهدها "بزنس الرشاوي" في العالم من قبل. لقد بانت نتائج هذا "الكرم الحاتمي للرئيس" اخيراً في ردود الفعل الصريحة والعلنية الغاضبة لكل هؤلاء على انهيار الطاغية وعلى محاكمته ثم اعدامه. فقد إستمات جميعهم في الدفاع عن "سيد الشهداء" ولي نعمتهم وتزكيته وإقامة مراسيم النواح عليه، في سابقة من ردود الفعل لم تحدث في العالم ازاء سقوط او موت اية طاغية من طغاة العالم.
وخلاصة القول قام النظام السابق بزرع الالغام في كل زوايا حياة العراقيين كي يفجرها، ويحول حياة العراقيين الى جحيم في حالة سقوطه واندحاره. وهيأ لذلك اضافة الى كل ما اشير آنفاً جهازاً اعلامياً عراقياً وعربياً فعالاً كي يدير حربه الاعلامية ويبث الاشاعات وتزييف الحقائق. ولنا الآن في هذا الحجم الكبير من الفضائيات والمراكز الاعلامية والأقلام الصفراء، التي تعمل بعضها في العراق، خير دليل على ما استعد النظام له في حالة سقوطه.

٤. ماذا حدث بعد التاسع من نيسان؟
ان الغرض من سرد كل هذه التفاصيل عن التدابير والاستعدادات الشاملة التي اتخذها النظام تداركاً لسقوطه هو محاولة لفهم وتوضيح مايجري حالياً ومنذ التاسع من نيسان عام 2003، عندما تمت الاطاحة بالنظام الديكتاتوري، وتفنيد كل تلك الادعاءات وتزوير الحقائق والوقائع واللعب على الأحداث وفضح من يطلق النعوت حول "جهاد" مزعوم و"تحرير" مزيف و "مقاومة شريفة" تجري في العراق، وما هو في الواقع الا "جهاد" ضد العراقيين وذبحهم وتدمير بلادهم والقاء تبعة ذلك على جهات أخرى.
فمنذ اليوم الاول للسقوط، شرعت أجهزة النظام البوليسية وحلفاء النظام المنهار بتطبيق المخطط. فقد تم حرق اهم المراكز الرسمية والعلمية والفنية الحساسة ووثائق الدولة في العاصمة وفي بقية مراكز المحافظات. وتم إخفاء كل أرشيف الأجهزة الأمنية وأسرارها وخططها بأمل الحفاظ على هذه الأجهزة من دون ملاحقة وحساب على شرورها. كما تم السطو والسرقة على أموال وممتلكات الدولة والاسلحة من قبل العصابات الاجرامية التي اطلق النظام سراحها قبل اندلاع الحرب ضمن صفقة بين اقطاب النظام وعتاة الجريمة المنظمة التي ترعرعت واستفحل دورها في كنف النظام. وإنظم الى هذا الطابور من الحرامية والعابثين أيضاً من سموا بالحواسم، وما هم الا بقايا فلول النظام واجهزة الامن والقمع التابعه له ممن "تابوا" على يد مقتدى الصدر، وغيره من ادعياء الدين الجديد. وراح هؤلاء "المؤمنون" يساهمون ايضاً في سرقة اموال الدولة والاسلحة وذخائرها وحملات القتل ضمن مخطط للعبث بمستقبل البلاد. كما شرعت بالتحرك تدريجياً كل تلك "الخلايا النائمة"التي زرعها النظام في داخل المؤسسات الدينية سنية كانت أم شيعية، او في غيرها من حركات المعارضة، او خزينها الموجود في الخارج ايضاً ضمن عمل منسق لتدمير العملية السياسية وعودة الطغيان الى البلاد من جديد.
إن الحادثة الاخيرة الدموية التي وقعت في منطقة الزرگه في مدينة الكوفة- محافظة النجف- عشية عاشوراء، والتي كان يتزعمها "المهدي المنتظر المزعوم"، هي واحدة من الامثلة الصارخة على تلك الخلايا النائمة التي زرعها النظام المنهار في كل بقاع العراق وخارجه، مستغلين في ذلك الانحطاط والجهل والتخريف و "الإستحمار" الذي فرض في المجتمع من قبل أرباب "الرسالة الخالدة". فقد سطت الطغمة الحاكمة المنهارة في سنوات طغيانها على تلك المزارع الخصبة في الكوفة وملّكتها لأزلام النظام قسراً بعد ان طردت الفلاحين منها. وتحولت هذه المزارع، شأنها شأن مزارع أخرى في مختلف بقاع العراق، الى "كانتونات وقواعد عسكرية" لتلعب دورها في قمع الاحتجاجات الشعبية في مناطق تعادي النظام السابق، او لتتحول الى قواعد للردة بعد الاطاحة بالنظام. وبعد سقوط النظام وتصاعد "المبالغات والمزايدات بالشعارات الدينية" والخرافات، وفي ظل اجواء الدمار الروحي والمعرفي، توفرت ارضية خصبة لهذه البؤر الارهابية والمتطرفة، سنية كانت ام شيعية، للتلاعب بالمشاعر والمعتقدات الدينية عند المواطنين لتمرير مخططاتها. وراحت هذه البؤر التخريبية تجند البعض من "القشامر والمغفلين واليائسين من الحياة والقوى الهامشية في المجتمع"، الى جانب المرتزقة العرب والاجانب لحرق المنطقة بمن فيها بحجة تمهيد الطريق لظهور المهدي، تماماً كما لعب النظام ومخابراته في السابق بورقة "الحملة الايمانية " لخداع المؤمنين البسطاء في السابق، وخداع من أندفع وراء شعار "الجهاد" وسار وراء فتاوى الصعلوك الزرقاوي وأشرار القاعدة ضد "المحتل" او ضد "الروافض" بعد انهيار النظام. وتدور في المنطقة شكوك بين المواطنين حول علاقة هذه الزمرة بزمر أخرى ترفع راية دين، خاصة وان الكوفة كما يعلم القاصي والداني تحولت الى معقل لانصار العابثين بالدين من أنصار مقتدى الصدر، ومن غير المعقول ان استعدادات كالتي جرت في منطقة الزرگه كانت بعيدة عن عيون انصار هذه الفئة.

٥. العوامل الخارجية
وهناك عدد من العوامل الدولية والاقليمية والداخلية التي فاقمت ما زرعه النظام في السابق من امراض في المجتمع، بل وساعدت على تدهور لاحق للوضع في العراق ووصوله الى هذه المديات الحالية الخطيرة، نأتي على ذكر بعضها.

¤ الادارة الامريكية
ان اول هذه العوامل هي الاخطاء الستراتيجية الكبيرة التي أرتكبتها الادارة الامريكية بعد إجتياح العراق وإسقاط الطاغية ونتائجها. بالطبع لا نتناول هنا أو نناقش صحة او خطأ قرار الغزو، فلهذا الموضوع باب خاص يمكن مناقشته على حدة. ان الامر يتعلق بأخطاء ستراتيجية بالغة الخطورة قبيل وبعيد الغزو ساعدت فلول النظام وحلفائه على الانتعاش بعد ان عاشوا العزلة، ثم شروعهم وتماديهم في الاستمرار في تدمير البلاد وقتل اهله. فالادارة الامريكية وقعت في تخبط خطير بعد إنتهاء الحرب، أحد أسبابها الصراعات الحادة في داخل الإدارة الأمريكية بين وزارة الدفاع والخارجية ووكالة المخابرات المركزية.
ولم يكن لدى هذه الإدارة كما يبدو اي تصور واضح ودقيق عن ما طرأ على الواقع العراقي من تغييرات سلبية في ظل صدام حسين. ولا تعرف هذه الادارة التخريب الذي تعرض له المجتمع العراقي في ظل النظام السابق. ويبدو من كل تخبط الادارة الامريكية بعد الغزو، انها لم تكن تمتلك صورة عن دقائق هذا الوضع، بل انها قد فوجئت به كما اعتقد. أظن إن الادارة الامريكية كانت على اعتقاد، أو كما صوّر لها، بأنه في اللحظة الاولى من سقوط النظام، ستستقر الامور، ويتم بناء اركان الدولة وتعم الديمقراطية التي تنشدها في العراق. ولقد غرقت الادارة الامريكية في نشوة النجاح بعد ان اسكرها ذلك الانتصار العسكري السريع على نظام الطغيان في ايام معدودة. وتبعاً لذلك لم توفر ادارة الاحتلال اية قوة بوليسية نشطة وقوية كي تضبط الامن في العراق بعد ان شلت كل اجهزة الدولة الامنية وتهاوت، وتحولت هذه الأجهزة الى وسيلة لعرقلة بناء الدولة على أسس جديدة. وهكذا تحولت البلاد الى فريسة للنهب والحرق والتدمير والتخريب دون ان تستطيع اية قوة بما فيها الجيش الامريكي ردع وكبح هذه القوة التدميرية المتعددة الاهداف والمشارب.
ولم تدرك الادارة الامريكية انها غزت مجتمعاً خرج للتو من عدة حروب بنتائجها الاجتماعية والنفسية المدمرة، حيث ان غالبية افراد هذا المجتمع كانوا يعانون من الفقر والحرمان الشديدين والبطالة، ويتقنون استعمال السلاح علاوة على انتشاره بشكل واسع في البلاد بعد اندحار الجيش وترك السلاح الخفيف والثقيل والعتاد، الذي كان يجهز أكثر من مليون عسكري عراقي، في الشوارع ومخازن الجيش. وإضافة الى ذلك، كانت غالبية الإجراءات التي اتخذتها ادارة الاحتلال تتميز بالارتجال ولم تعالج بشكل سليم العقد الاساسية التي يعاني منها المجتمع العراقي. وكانت الادارة الامريكية تستجيب لدعوات اطراف عراقية او اقليمية ظناً منها ان ذلك قد يساعد على استتباب الامن ثم الانتقال الى نظام دستوري يحكمه القانون وبإرادة شعبية. كان على الادارة الامريكية ان تدرك ذلك الانقسام الخطير في المجتمع لدوافع طائفية واثنية وسياسية ومعالجة ذلك بحكمة وعلى مدى طويل، وأن لا تنصاع لارادة احزاب طائفية من كل التلاوين، بل تقف موقفاً حازماً ضد كل دعوات التشرذم الطائفي والمذهبي والاثني. كان على الإدارة الأمريكية أن تتجه لحل اكداس من المشاكل العالقة تدريجياً، وبعيداً عن الواجهات الطائفية والمحاصصة المشينة.
كما لم تعالج الادارة الامريكية ببعد نظر وبحكمة الموقف ممن خدم في اجهزة النظام السابق سواء في الاجهزة الادارية او الامنية او العسكرية او الحزبية هم وعوائلهم بالملايين. فهذ الامر كان يحتاج الى قدر كبير من البصيرة والتمعن لأنه يمس شريحة كبيرة حتى لا ينتقل ويندفع هؤلاء الى جانب فلول النظام المعزول. ونتيجة لهذا الاهمال لهذه الشريحة، راحت فلول النظام تستعيد قواها تدريجياً مستفيدة من هذه الجمهرة الواسعة التي لم يستطع الوضع الجديد اجتذابها او حتى تحييدها، علماً ان غالبيتها الساحقة لم تكن تدين بالولاء للنظام السابق الا ظاهرياً ولدوافع انتهازية ونفعية في الغالب.
لقد إرتكبت الادارة الامريكية آلاف الاخطاء، وبإعتراف المسؤولين الامريكان، مما سهل على القوى المعادية للعملية السياسية والتغيير الحاصل بكل الوانها والقوى الاقليمية المعادية أن تجر العراق الى حريق يصعب توقع نهايته في الأمد القريب. واضافة الى ذلك، لم تقدر الادارة الامريكية، ولم تتخذ اي اجراء ازاء ردود الفعل السلبية المحتملة للانظمة الاقليمية على الوضع الجديد بعد سقوط نظام الاستبداد في بغداد ونتائجه على دول المنطقة التي يحكمها مستبدون لا يختلفون عن صدام الا بدرجة القسوة والعربدة. ان اكثر ما يخشاه حكام هذه الانظمة الاقليمية هو التغيير الذي طرأ على موقف الادارة الامريكية، من مساند للانظمة الديكتاتورية في عهود الحرب الباردة الى عنصر فعال للاطاحة بالاستبداد، والتوجه نحو بناء انظمة قائمة على شريعة القانون وليس الغاب، وحكم الشعب والديمقراطية وليس الاستبداد والطغيان وازدراء المواطنين. ولذا كانت ردود فعل هذه الانظمة على سقوط النظام سريعة وعنيفة، وليس لصالح نجاح العملية السياسية الديمقراطية السلمية في العراق. وفتحت هذه الانظمة الاستبدادية المخابراتية حدودها مع العراق، هذه الحدود التي لم يكن بإستطاعة اية "حشرة" ان تخترقها سابقاً. وسمح لقوافل القتلة التي ترفع راية "الجهاد" و"مقاومة المحتل" في الظاهر، ولكنها تسعى في الواقع الى ابادة العراقيين وزرع الفتنة بينهم والى تدمير البلد ووقف العملية الديمقراطية التي ينعتونها بالفوضى، هذه الفوضى التي خلقوها هم بدعمهم للقوى الفوضوية والعبثية وتشكيل احزاب وهمية لعملاء عراقيين زودوا بالاسلحة والاموال الطائلة وتحت واجهات دينية طائفية في الغالب. انه مسعى من هذه الانظمة لدرء ما يتهددها في الداخل جراء التحولات المحتملة في المنطقة، ونقل معركتها الى محيط خارجي تماما كما فعلوا ويفعلون في لبنان ومناطق اخرى.

¤ الحكم السوري والحكم الإيراني.. عدوان أم صديقان؟
ولعل اغرب اقرار بتدخل الدول الاقليمية في الشؤون الداخلية للعراق وتشجيع اعمال القتل هو ما صرح به بشار الاسد للاعلام أخيراً من أن"سوريا ليست اللاعب الوحيد في العراق، ولكنها اللاعب الاساس". إن هذاالتصريح يؤكد ان حكام سوريا وحليفتهم الفئة الدينية المتطرفة الحاكمة في ايران يقفون وراء المصائب التي يتعرض لها العراقيون. انه اقرار صريح بالعبث بالعراق، وكأن العراق ساحة كرة القدم للمخابرات السورية وعملائها في العراق. فأين هذا الحرص الاخوي على العراقيين الذي يتشدقون به، ومتى تكف الحكومة السورية عن لعبتها الخطيرة ضد بلد فتح كل ابوابه للتجار السوريين، ونقل ابناؤه اموالهم الى سوريا بعد ان حولت الحكومة السورية ارض العراق الى جحيم بإعتبارها "اللاعب الاساس في العراق". إن موقف الدول الاقليمية واطراف متطرفة فيها ما هو الا تكرار اكثر بشاعة من موقف سابق لها بعد ثورة تموز في العراق عام 1958 وفي مجزرة شباط الاسود عام 1963. إن توفير الحكومة السورية الملاذ لمن بطش بالعراقيين والسماح لهم بعقد "مؤتمر" لحزبهم وإستقبال الرئيس السوري بين حين وآخر أناس منغمرون بأعمال عنف ضد العراقيين لا ينسجم مع تعهدات سورية بالمساعدة على حفظ الأمن في العراق. ونفس الأمر ينطبق على حلفاء الحكومة السورية من حكام التطرف الايراني الذين يمدون بعض المتطرفين الإيرانيين بالاسلحة المدمرة والأموال ويستضيفوا وياللعجب أنصار "القاعدة" كي يعيثوا الفساد في العراق.

¤ الارهاب
وبالرغم من التكرار الممل للإدارة الامريكية لموضوعة مكافحة الارهاب، الا أنها تجاهلت خطر نشاط "الأرهاب الدولي-القاعدة" في العراق، ولم تتصدى لاحتمالات انتقال اعداد غفيرة من عصابات الارهاب الاجنبية الى داخل العراق للقيام بعمليات القتل والتخريب. فمن المعروف ان هذه العصابات الاجرامية اخذت تنتقل قبيل الحرب وعلى المكشوف عبر الدول المجاورة الى العراق دون ان تتخذ هذه الدول اية اجراءات، ان لم تكن قد ساعدتها على التسلل. ولم تتخذ الولايات المتحدة اية اجراءات ضد هذا التسلل لدوافع مثيرة للشكوك. هذا التسلل اصبح لاحقاً احد اهم عناصر موجات القتل والتدمير والفوضى في العراق. وراحت هذه القوى الإرهابية الشريرة تسعى نحو تحقيق هدفاً اساسياً لها وهو إثارة المواجهة العنفية بين العراقيين على اسس طائفية ضمن مخطط اعلنه صراحة الزرقاوي ومنظمة القاعدة الارهابية قائم على اشعال الحريق الطائفي في بلادنا. ولم تتحرك الإدارة الأمريكية للضغط على حلفاء لها من شيوخ الخليج ممن يوفرون الملاذ الآمن للأرهابيين ويوفرون الإعلام النشيط للتغطية عليه(قطر)، إضافة الى تغاضيهم عن حملات جمع التبرعات لهؤلاء القتلة والتحريض على العراقيين وعلى المكشوف وحتى في أيام مقدسة كأيام الحج وفي غالبية دول الخليج.

٦. العوامل الداخلية
¤ الاحزاب العراقية.. أحزاب وطنية أم خيم عشائرية و مذهبية؟
ولم تقتصر الأخطاء على الادارة الامريكية فحسب، بل تعداها الى من تصدر الواجهة السياسية من العراقيين واحزابهم بعد الاطاحة بالديكتاتورية. فغالبية الاحزاب السياسية العراقية و الواجهات السياسية هي الأخرى تتحمل مسؤولية في تدهور الاوضاع بعد الاطاحة بالطاغية وحكمه. فلم يكن لدى هذه الاحزاب نظرة مشتركة حول افق بناء الدولة الجديدة في العراق. إن الاحزاب المذهبية، وهي التي تتحمل المسؤولية الاولى بغض النظر عن هويتها، لا تؤمن بالديمقراطية التي تعد البديل الضروري الوحيد للطغيان السابق وبناء عراق آمن ومستقر، بل ولا يدور في ذهنها سوى مشروع طائفي لا يخدم العراق. وبالرغم من قبول هذه الاحزاب بموضوعة الديمقراطية شكلياً وعلى مضض وإستحياء في بيانات اجتماعات المعارضة العراقية قبيل الغزو، الا ان لدى هذه القوى السياسية الطائفية تصورات متضاربة حول البناء السياسي الديمقراطي، سواء اكانت هذه التيارات شيعية ام سنية ولحد الآن. ويكاد هذا التصور يقترب من فرض استبداد جديد مبطن بالمذهب او الدين او بناء دولة ثيوقراطية طائفية استبدادية عوضاً عن استبداد الدولة القومية الطائفية العنصرية المنهارة. ولا تجلب هذه القوى البدائل المناسبة اي نقيض لإستبداد الحكم السابق، بل تسعى الى تكرار له وبملابس جديدة لا تجلب الاستقرار في البلد. ان هذه الاحزاب المذهبية لا تعتبر الديمقراطية الا سلماً تتسلق عليه كي تحتكر الحكم وتفرض نظاماً مذهبياً لا يؤسس لقاسم مشترك بين العراقيين. إنه في الواقع صيغة أخرى للنظام الاستبدادي السابق ولكن بصيغ وفتاوى وتصورات دينية مشوهة لا تخدم صياغة هوية مشتركة للعراقيين.
ولابد هنا ان نلقي نظرة سريعة على سلوك وقناعات منتسبي هذه التيارات السياسية المذهبية. فعلى سبيل المثال يصرح رئيس مجلس النواب الدكتور محمود المشهداني، ممثل التيار السلفي، ومن على منبر مجلس النواب، المؤسسة الديمقراطية، وعلى شاشات التلفزيون صراحة انه "سيضرب بالقنادر كل من يتعرض لمواد الدستور حول علاقة الدين ودوره في الدولة". إن هذا لا يعني الا كم الافواه لكل من يطالب بأمر يخدم مصلحة العراقيين ويحل مشاكلهم في الاوضاع الراهنة الشائكة. كما ان ذلك لا يعني الا فرض الاستبداد الديني ومحاكم التفتيش القروسطائية السيئة الصيت. إن القرآن وهو دستور الدين الاسلامي، وعلى لسان الإمام علي بن ابي طالب(ع) الذي لا يشك احد في ايمانه، هو حمالة اوجه، ويفسره البشر كل حسب هواه ومصلحته، وهو ما تؤكده تجربتنا التاريخية ومآسينا وحالنا المزري الراهن على يد التطرف الديني الذي يرهب الحياة العامة في بلداننا ويوقفها، وهو ما يسعى اليه هذا الاطلاق والتهديد الذي يعلنه رئيس مجلس النواب المنتخب. كما ان شخصية أخرى مثل السيد علي الاديب، عضو قائمة الائتلاف وعضو قيادة حزب الدعوة وعضو مجلس النواب المنتخب ديمقراطياً، يعلن هو الاخر بصراحة ومن على شاشة تلفزيون الحرة أخيراً، أنه "لا يؤمن بالديمقراطية بل بنظام مؤسساتي!!"، وهو نظام ضبابي لايعرف مضمونه وقابل للتأويل. إن الغالبية الساحقة من هذه التيارات المذهبية، سواء تلك المنخرطة في العملية السياسية او خارجها، تعتبر الديمقراطية ضرب من الكفر والفجور والفسوق وهاجمتها قبل سقوط النظام. ويؤمن بعضها، ولحد الآن، بنظام ولاية الفقيه او بنظام الامامة وبنظام الخلافة او الامارة، و يساندون دعاتها ومنفذيها الآن ومن وراء الكواليس او علانية في بعض مناطق العبث والقتل والتدمير في بلادنا سواء في الرمادي او في مدينة الثورة او في الكوفة وسامراء كما بان اخيراً. ولم تقدم هذه الاحزاب الدينية الطائفية اية حلول لمشاكل الناس أو التوجه للمعالجة التدريجية لوضعهم المزري. ولم يبادروا الى حل المشاكل الجمة في محافظات يسودها الهدوء وتحصل على واردات هائلة كمحافظة النجف. فهم يركزون على فعاليات تحرض على العنف والقسوة والانقسام في المجتمع، وإشاعة المحسوبيات وحتى تكرار ممارسة الديكتاتور السابق في التعيينات وترقي الاداريين والعسكريين القائم على الولاء والامية وليس على الكفاءة، إضافة الى نشر الغيبيات والخرافات التي دمرت المجتمع. إن هذه التيارات ليس لديها اية فكرة عن واقع المجتمع العراقي وعيوبه والحلول لها، ولم تقدم اية تقارير اجتماعية واقتصادية لواقع حال بلدنا وسبل معالجتها بالرغم من انهم يمسكون بمقاليد السلطة والادارات في محافظات عديدة. فعلى سبيل المثال لم يقدم السيد عبد العزيز الحكيم عند تسلمه لرئاسة مجلس الحكم اية حلول او اقتراحات اقتصادية او اجتماعية او خيرية من أجل إعادة بناء هذا البلد المخروب سوى إلغائه دون استشارة احد لقانون الاحوال الشخصية، وكأن هذا القانون وحقوق المرأة هو مصدر مصائب ومشاكل العراقيين!!!، في مسعى لفرض تقاليد "الطالبان" والمتطرفين الايرانيين البالية المتخلفة ضد المرأة وتعطيل دور نصف المجتمع العراقي وقمع "هذا الشر الذي لابد منه" بعرفه. ولقد حول السيد عبد العزيز الحكيم بيته في الكرادة الشرقية في بغداد الى "مزار" تتجه وفود اللطم وضرب القامات اليه بدلا من ان تذهب الى حيث غُدر بالامام الحسين(ع) في مدينة كربلاء كما هي عادة العراقيين.
ويتنافس الطرف الآخر، حيث يعلن حارث الضاري رئيس "هيئة علماء المسلمين" على سبيل المثال و على المكشوف دعواته للعنف والغوغائية وتشكيل كتائب مسلحة وتعميق الشرخ الطائفي ولقائه بالاجهزة الامنية في المنطقة ودعمه للارهابيين وتستره عليهم، مستعيناً بقوى الارهاب والتطرف في الخارج و حكام عرب لا يريدون الخير لهذا البلد. ويتصرف هذا الرجل وكأنه أمير من الامارات المذهبية العبثية الجديدة. ويذهب هذا التيار الطائفي الى ابعد من ذلك ويشكل وفداً ذهب الى المانيا الاتحادية لمقابلة ممثلي منظمة ارهابية إيرانية من البلطجية " صفوية المنشأ و من الروافض!!"، وهي "منظمة مجاهدي خلق" حليفة صدام حسين والتي شاركت في قمع انتفاضة آذار عام 1991 وقتلت مئات من العراقيين . لقد كان في عداد الوفد كل من عدنان الدليمي وهو رئيس مؤسسة رسمية هي ديوان الوقف السني ، إضافة الى صالح المطلك وخلف العليان العضوين في مجلس النواب عن الكتل الطائفية، وهو أمر يثير التساؤل حول صدق هؤلاء في الدفاع عن العراقيين وحماية أرواحهم. وراح هؤلاء وبدعم من الجهات التركية بعقد مؤتمر لنصرة سنة العراق والذي فسر على أنه عودة "لقوازيق العثمانية" من جديد الى العراق. إنه إسلوب أعتاد هؤلاء عليه ومن ضمنهم صدام حسين عندما اشرك الولايات المتحدة ودول الخليج ومصر ودول عربية أخرى في حسم صراعاته الخارجية أثناء الحرب العراقية الايرانية وحتى الداخلية عندما وقع على معاهدة مع الشاه لقمع المعارضة القومية الكردية، بل وحتى عندما قام بإعدام الشيوعيين عام 1978 إرضاءً لدول إقليمية ورسالة حسن نية للولايات المتحدة. ومما يثير الدهشة أن يعمد هؤلاء وهم أعضاء في مجلس النواب الى الصراخ والعويل وقراءة الفاتحة ومن على شاشات التلفزيون على إعدام طاغية لم يفتك بأبناء وبنات محافظة معينة من محافظات العراق بل وأهالي ضحايا من إنتخبوهم الى مجلس النواب. فأين هو إحترام القضاء العراقي وقراره العادل أزاء من دمر البلاد والعباد، وأين هو صدق دعواتهم عن الدفاع عن العراق وأهله وحماية أرواحهم والتي قسموا بها في أول جلسة من جلسات مجلس النواب؟؟ وأين هي دعوات المصالحة بين العراقيين وهم يألهون من فتك أشد الفتك بالعراقيين. دعوات كلها أكاذيب في أكاذيب وضحك على الذقون.
لقد تفنن التيار المذهبي الطائفي بكل الوانه في الآونة الأخيرة في اشاعة الفوضى والعبث وتصنيف العراقيين على أصناف لم يعهدوها. فقد قسم العراقيون أما الى روافض أو نواصب وهؤلاء من آل البيت والآخرون من أتباع الصحابة، وهذا صفوي والآخر عثماني، واسقاط كل تلك المآسي والصراعات المذهبية على السلطة في تاريخنا الدموي الذي يمتد الى 14 قرن على واقع عراقي يعاني من بؤس مدقع وعلى شعب غير قادر على تحمل تبعات وعبئ ما حصل في تلك القرون السالفة من كوارث، فلديه ما يكفيه ويحتاج الى فترة نقاهة كي يلملم جروحه ويعالج مآسيه الراهنة.
لقد أغرقت هذه التيارات المذهبية الطائفية العراق خلال السنوات الاربع الماضية في نفق مظلم لا يعلم أحد متى وكيف سيتم الخروج منه. فقد أشاعت هذه الكتل المذهبية الطائفية الصراعات المميتة بدلا من التحلي بروح التسامح الديني وتهذيب النفس والوجدان والسعي لتقديم حلول اجتماعية واقتصادية وتربوية لاخراج البلاد من دائرة العنف والركود الاقتصادي والاجتماعي وانتشال العراقيين من الجب الذي أغرقهم فيه النظام البائد وزبانيته وتعمق على يد المتطرفين الجدد.
يتبع



#عادل_حبه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوميات ايرانية 25
- مآل البلطجة السياسية
- يوميات ايرانية 24
- محكمة من طراز رفيع
- يوميات ايرانية - 22
- -ثقافة- الموت والتدمير وآلام العراقيين
- يوميات ايرانية 21
- يوميات ايرانية لاندماج في مجتمع السجن20
- 19 يوميات ايرانية
- الجزء الثامن عشر - يوميات ايراني -سجن القصرة
- آراء حول مشروعي النظام الداخلي والبرنامج الجديدين للحزب الشي ...
- يوميات ايرانية ( 17 ) السجن المؤقت
- عذر أقبح من الذنب
- يوميات إيرانية 16
- يوميات ايرانية ( 15 )
- يوميات ايرانية ( 14 ) تفنن في البطش
- يوميات ايرانية 13
- يوميات ايرانية 12
- يوميات ايرانية- 11-الوقوع في الفخ
- يوميات ايرانية 10


المزيد.....




- سعودي يوثق مشهد التهام -عصابة- من الأسماك لقنديل بحر -غير مح ...
- الجيش الإسرائيلي يواصل ضرباته ضد أهداف تابعة لحماس في غزة
- نشطاء: -الكنوز- التي تملأ منازلنا في تزايد
- برلين تدعو إسرائيل للتخلي عن السيطرة على غزة بعد الحرب
- مصر تعلن عن هزة أرضية قوية في البلاد
- روسيا تحضر لإطلاق أحدث أقمارها لاستشعار الأرض عن بعد (صور)
- -حزب الله- يعلن استهداف ثكنة إسرائيلية في مزارع شبعا
- كييف: مستعدون لبحث مقترح ترامب تقديم المساعدات لأوكرانيا على ...
- وسائل إعلام: صواريخ -تسيركون- قد تظهر على منظومات -باستيون- ...
- رئيس الوزراء البولندي: أوروبا تمر بمرحلة ما قبل الحرب وجميع ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عادل حبه - العراقيون بيدهم مفتاح الخروج من نفق القتل والدمار