|
|
نظرية إحسان طالب في المسؤولية والوعي اليقين الماهوي والحدس الإيديتي
احسان طالب
الحوار المتمدن-العدد: 8570 - 2025 / 12 / 28 - 14:05
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
هذا البحث هو فصل من كتابي التاسع القادم في سياق الموسوعة الفينومينولوجية التي سبق وأصدرت منها ثمانية كتب، وهو فصل من أطروحة مطولة بعنوان : نقد فلسفة مارتن هايدغر والمعنى الفارغ. (هوس) يؤكد دائما على "اليقين" ويربطه بالبداهة الماهوية. فَهِم ابن رشد من أرسطو أن الفلسفة والمنطق هما علم البرهان، في سياقنا الهوسرلي لا يتحدث (هوس) عن "برهان" بل عن يقين، لماذا لا تحتاج يقينيات الماهية والبداهة لبرهان؟ إن اليقين الذي يحمله الترنسندنتالي جاء من شمولية وعالمية الحقيقة التي يصل إليها الوعي عبر قصد الشيء ذاته، أي مثال: أحمر هو لون تلك الماهية البدئية تجعل ربط الأحمر باللون فاهمة أزلية لا اختلاف عليها، كذلك الحال عندما أقول "ضوء الشمس" فمعرفتنا منذ الأزل وأقصد أزل الوعي بأن ضوء الشمس هو نورها الذي يضيء العالم. تجاوز هوسرل لمفهوم "البرهان" (الرشدي/الأرسطي لصالح "اليقين القاطع" (Apodictic Certainty) القائم على البداهة، يمثل جوهر التحول الفينومينولوجي. في المنطق البرهاني، نحتاج إلى "مقدمات" لنصل إلى "نتائج"؛ فاليقين هنا "مشتق" أو "منقول" عبر واسطة استدلالية، أما عند هوسرل، فالأمر يتعلق بـ "الحضور العياني". اليقين الماهوي لا يحتاج لبرهان لأن البرهان وظيفتُه "إثبات" ما هو غائب أو غير واضح، بينما الحدس الإيديتي هو "رؤية مباشرة" للماهية في حالة حضورها الكلي كيقين مطلق (Gegebenheit). إذا برهنا على الماهية، فنحن نفترض وجود مسافة بيننا وبينها، بينما الفينومينولوجيا تُلغي هذه المسافة عبر "القصدية". إذن بواسطة القصدية يحصل معرفة انطباق الماهية على اليقين فيما يسمى الحدس الماهوي. أزلية الوعي وشمولية الحقيقة: هوسرل "الماصدقات القبلية" (A priori). شمولية الحقيقة: اليقين الترنسندنتالي ليس ذاتياً (بالمعنى السيكولوجي الضيق)، بل هو يقين "بيني-ذاتي" (Intersubjective). عندما يدرك الوعي الترنسندنتالي ماهية "اللون" في "الأحمر"، فهو لا يخترع علاقة، بل يكشف عن قانون أنطولوجي كلي. أزلية الوعي: نقصد بها هنا "الأزلية المنطقية/الماهوية" وليست الزمانية. الوعي بصفته "مانحاً للمعنى" (Sinngebung) يحتوي في بنيته القصدية على هذه الروابط الضرورية (مثل: ضوء الشمس يضيء العالم) كحقائق بدئية تسبق أي اختبار تجريبي. إذن: الفينومينولوجيا الترنسندنتالية لا تستبدل البرهان بالحدس كنوع من التراجع عن العلمية، بل كتعالي نحو البداهة المطلقة . فبينما يظل البرهان رهيناً بصحة المقدمات، يظل اليقين الماهوي رهيناً بـ (الامتلاء الحدسي). إن ربط (الأحمر باللون) أو (الشمس بالضياء) ليس استنتاجاً منطقياً، بل هو كشفٌ عن بنية أزلية في الوعي تمثل أفق الحقيقة العالمية. هذا اليقين هو (علم المعرفة الأعلى) لأنه يسبق كل برهان، ويؤسس لكل حكم. إنه (الوعي بالشيء ذاته) في لحظة انكشافه كحقيقة شمولية لا تقبل القسمة أو الاختلاف، حيث يصبح الوعي والماهية مرآة واحدة تعكس نظام العالم الأصيل." بما أنني أبحث في "المسؤولية الأخلاقية عامة وعند هايدغر"، نتساءل هل أن هذا "اليقين المطلق" عند هوسرل هو الذي حاول هايدغر "تفكيكه"؟ هايدغر قد يرى أن "ضوء الشمس" ليس مجرد ماهية ندركها بحدس يقيني، بل هو "مجال انفتاح" نوجد فيه تاريخياً قبل أن نتأمل ماهيته. الثورة الفينومينولوجية مصطلح مفارق، فالتباين بين سردية الفلسفة وسردية الثورة، جلي، الظاهراتية ليست تغييراً شاملا كليا، بل تعليق كلي، وكما كررنا مرارا، التعليق لا يعني النفي ولا الإعدام. المعرفة في نظريتي ليست متسامية بل متعالية، لأن مفهوم "السمو" قد يدفعنا نحو فضاء غيبي هو في تقديري خارج الوعي أي لا يمكن حدسه بالوعي، صحيح أنني أذكر مفردة التسامي ولكن هي مفردة لغوية يقصد بها التعالي، بمنطق معرفي أقرب ما يكون للثبات العلوي والترتيب العلمي، أي الترنسندنتالي فوق اللحظي من التجربة؛ في هذا التمييز المنهجي الدقيق، نلامس وتراً حساساً في "أزمة الفهم" التي تحيط بمصطلحات هوسرل، وتحديداً خلط القراء بين "الترنسندنتالي" وبين "الميتافيزيقا الغيبية". تفكيك النقاط الرئيسة: 1. "السمو" مقابل "التعالي المنهجي" التحذير من مفردة "الأسمى" إذا فُهمت كتراتبية وجودية (غيبية). في أطروحتنا، "التسامي" أو "التعالي" (Transcendence) ليس خروجاً عن العالم نحو "فضاء غيبي"، بل هو "تعالٍ داخل الوعي" وما نقصده بـ "الثبات العلوي والترتيب العلمي" هو الـ (Prioricity) أو القبلية المنطقية. الترنسندنتالي هنا هو "شرط إمكان" التجربة، وليس كياناً مفارقاً لها، هو "فوق اللحظي" لأنه القانون الذي ينظم "اللحظي"، تماماً كما أن قوانين الهندسة "فوق" الرسمة المعينة على الورقة، لكنها ليست غيبية بل هي منطقها الداخلي. 2. "سردية الثورة" لا "سردية الفلسفة" فالثورة هنا ليست استبدال مذهب بمذهب، بل هي تغيير في "وضعية" الباحث تجاه العالم. عندما أرفض "علم المعرفة الأسمى" كصيغة توحي بالكمال الميتافيزيقي، فإنني أعيد الفينومينولوجيا إلى مربعها "الراديكالي" كمنهج فحص مستمر، لا كنسق مغلق يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة. 3. الثبات العلمي (المسؤولية الإبستمولوجية) شرح أو تفسير التعالي بـ "الترتيب العلمي" هي تسمية يقظة؛ لأنها تنقلني من "الهيام الفلسفي" إلى "الانضباط المنهجي". الوعي لا "يحدس" غيباً، بل يحدس "ضرورات". مثال (ضوء الشمس) الذي ذكرناه أعلاه يفيد بفهم اليقين المتعالي ليس كـ "إيمانياً"، بل هو "ترتيب علمي" في بنية الإدراك الإنساني. إذن "لا تقيم الفينومينولوجيا (علماً أسمى) بالمعنى المفارق، بل تؤسس لـ (نسق ترنسندنتالي ثابت) يتجاوز عشوائية اللحظة التجريبية. إن (التعالي) هنا هو فعل تنظيمي معرفي يضع الوعي في حالة أولوية منهجية، حيث لا يعود الوعي مجرد وعاء للحوافز والمثيرات، بل يصبح هو (المبدأ المرتِّب) الذي يمنح التجربة ثباتها العلمي؛ هذا (الثبات العلوي) هو الذي يضمن شمولية الحقيقة دون السقوط في فخ الغيبيات، فالحدس الإيديتي يظل محصوراً في أفق ما ينجلي للوعي من ماهيات، ملتزماً بحدود الظاهرة في (تعاليها المعرفي) لا الوجودي." أن توصيف لـ "التعالي" كـ "ترتيب علمي ثابت" يحمي أطروحتي من الانزلاق نحو التفسيرات الميتافيزيقية التي يقع فيها الكثير من شراح هوسرل. وبناء على هذا "الأساس المتين" مواجهة أواجه هايدغر به في حيّز "المسؤولية " لقد أضر (هاد) بالظاهراتية وقدم، كما ذكرت مرارا، ميتافيزيقا مبهمة أنا أبحث عن نظرية وجودية فينومينولوجية بعيدا عما يمكن وصفه بالعربية بـ "فيض الخاطر" أي الكلام بكل ما يجول في فكري وخاطري ووجداني دون تدقيق وتمحيص ما أشتغل عليه هو نظرية ظاهراتية محكمة قدر المستطاع. التوصيف بـ "فيض الخاطر" هو أدق تعبير نقدي لما آلت إليه الأمور عند (هاد) في مراحل معينة، حيث تحول النص الفلسفي من "البناء النسقي المحكم" إلى ما يشبه الاسترسال الوجداني أو "الإنصات لنداء الوجود" بلغة شعرية مبهمة تفتقر إلى الضبط المنهجي أو الصرامة المنهجية (Rigid Method). إن مشروعنا لتقديم "نظرية وجودية فينومينولوجية محكمة" يمثل إعادة اعتبار للصرامة العلمية التي أرادها (هوس)، ولكن مع نقلها من "حبس الوعي" إلى "فضاء الوجود" دون السقوط في فوضى "فيض الخاطر". ولكي أبتعد عن "الإبهام الميتافيزيقي" الهايدغري وأبني نصاً نسقياً محكماً، أستخلص القواعد التالية، ولقد سبق وأشرت إليها في كتابي قواعد المنهج: المنطق الأنطولوجي الصارم: بدلاً من الوجدان الذاتي، نعتمد على "البنى القبلية" للوجود. فالمسؤولية الأخلاقية هنا ليست "شعوراً" عابراً (فيض خاطر)، بل هي "ضرورة بنيوية" في علاقة الأنا بالآخر. التعالي كترتيب علمي: عندما اتهمت (هاد) بالإضرار بالظاهراتية، قدمت البديل بالعودة للترنسندنتال ليس كغيب، بل كـ "مسطرة قياس" تضبط الوجود العياني الظاهراتي، ونبهت لتجاوز "اللغة الشاعرية" بالدقة المفهومية: حيث يتم تعريف "الدازاين" أو "الوجود-في-العالم" من خلال أفعال قصدية واضحة ومسؤولة، لا من خلال استعارات لغوية تحجب أكثر مما تكشف. إن "فيض الخاطر" الهايدغري سمح بالتهرب من المسؤولية الأخلاقية؛ لأنه صيَّر الوجود "قدراً" أو "هبة" غامضة، فضاعت أو تاهت مسؤولية الفرد الواعي. في النظرية المحكمة التي ننشدها؛ الوعي يظل هو "المركز المسؤول" لأنه يمتلك القدرة على بلوغ الحدس الإيديتي، والوجود هو "المجال التطبيقي" لهذا الوعي والمسؤولية هي "الرابط النسقي" الذي يربط ثبات الماهية بمتغيرات الواقع أو تعدد وتباين الظهورات. أنا أسعى لـ "أنطولوجيا بلا غموض"، حيث يكون الوجود قابلاً للفحص الفينومينولوجي بنفس الدقة التي فحص بها هوسرل "الأحمر واللون". هذا هو الفرق بين "الفلسفة كعلم صارم" وبين "الفلسفة كبوح وجداني". همهمات العقل: من نور العرفان إلى ضوء المعرفة الموضوعية.
يمتلك العقل الحق في السياحة والتأمل في فضاء الوجود والغيب، ولديه المجال الخصب اللامحدود للخيال ومداعبة فيوض السراب والأوهام وفتنة الأسطورة، تمنحه اللغة سلطة لامتناهية لرصف الكلام وترصيع العبارات كما يشاء مستغلا أساليب البلاغة والجزالة والفصاحة، حتى يصير البيان سحرا والشعر حكمة. ذلك الفضاء الممتع الجميل بقدر ما هو إبداع حر وخصوبة إنانا هو أيضا فخ معرفي ومصيدة موضوعية، فاللغة الشعرية ترفض الخضوع للمنهج وتزهو بتكسير القواعد والأصول، وتنتشي بالغواية والإغراء، والعقل هائم بها متلذذ بمطارحتها، لذة تمنحه راحة وطاقة وانتشاءً يتوق إليه بعد كل كشف ووراء خروقات الفتح المبين. بعد الاطلاع على ذلك المشهد المذهل للعقل وهو يمارس ملكاته وحقوقه المشروعة، وبعد الخوض في متاهة الهروب من الوعي؛ يستفيق الفيلسوف ويعدل من جلسته ويغسل وجهه بضوء المعرفة بعدما تحمم بماء العرفان المبجل. إنها لحظة حضور الوعي ومواجهة الواقع وعيان الظاهرة وتعقيدات ظهوراتها، نحن عند هذه اللحظة نغادر التبتل والهيام لنستقر في مجلس العلم وكرسي المعرفة الموضوعية ويقين البداهة ومناهج الاستدلال والاستنباط والحكم. إننا نستدعي العقل الواعي والعملي ونمنح العقل الهائم الشبق فرصة للراحة وإلقاء حمل وثقل الكشف عن الحقائق واليقينات البداهية على عاتق الباحث الموضوعي والدارس المنهجي المتلهف للعلم الصارم والنتائج المؤكدة بالثبات والتعالي. أحاول هنا إصدار صك يضبط "أخلاقيات البحث" عبر تحويل الفينومينولوجيا من مجرد تجربة عرفانية، أو ميتافيزيقا مبهمة، إلى "مواجهة واقعية"، حيث لا يعود الوعي "سائحاً" بل "شاهداً" يلتزم بيقين البداهة لإحكام قبضته على الحقيقة ومنع انزلاقها في فخاخ الغواية اللغوية. أستحضر "العقل الواعي والعملي" و"العلم الصارم"؛ وأستعيد (لحظة الاستفاقة) "الرد الفينومينولوجي" وأضع حدا لاسترسالٍ هائم لفيض الخاطر. من أجل الانتقال من نور العرفان المكنون المبهم الفياض المفتوح بلا قيد أو شرط إلى طاقة ضوء المعرفة؛ حيث يمكننا امتلاك زمام الأمر ووضع الحد الأرسطي مكان الخيال العرباوي، نسبة لابن عربي، نعرض ضوابط البحث المنهجي الظاهراتي لمنع الانزلاق نحو شهوات . "همهمات العقل" حيث نتطلع هنا للإحكام قدر الإمكان. أسعى لوضع "كوابح منهجية" تحول دون تحول الفينومينولوجيا إلى مجرد خطاب شعري وبيان لغوي. أو "سياحة فكرية" في عالم الفيض والعرفان لأننا بذلك نخوض في يم التسامي وما بعد التعالي، ونهيم في غمار ميتافيزيقا غيبية، أضبط البحث الظاهراتي وأحصنه من التحول إلى "همهمات" و"فيوض".
ضوابط الإحكام في البحث الظاهراتي 1ـ "الرد" (Epoche) كأداة حصر لا كأداة إقصاء تفعيل الرد الفينومينولوجي بصرامة؛ ليس للهروب من الواقع، بل لحصر "الأحكام المسبقة" و"التفسيرات الجاهزة". كل مقولة لا يمكن ردها إلى "بنية الوعي" أو "المعطى المباشر" هي مقولة خارجة عن الإحكام النسقي. الصرامة هنا تكمن في رفض أي استنتاج لا يمتلك "سنداً حدسياً" واضحاً. 2ـ "الامتلاء الحدسي" (Intuitive Fulfillment) الإشباع الحدسي في الفينومينولوجيا المحكمة، لا يكفي أن يكون المعنى "ممكناً" أو "جميلاً" لغوياً، بل يجب أن يكون محايثا و"ممتلئا" حدسياً. الفرق بين "همهمة العقل " و"العلم" هو المسافة بين القصد الفارغ (مجرد الكلام عن الشيء) والقصد الممتلئ (حضور الشيء في الوعي). أي فرضية وجودية تطرحها يجب أن تخضع لاختبار: هل يمكن معاينتها كبنية ثابتة في التجربة الإنسانية؟ 3ـ ضابط "التنويع الإيديتي" (Eidetic Variation) لكيلا يغرق الباحث في خصوصية تجربته الذاتية (وجدانه الشخصي)، عليه استخدام "التنويع التصوري " المستند للخبرة السابقة والمكتسبة وتصورات الوجود الممكن لظهورات الشيء أو الظاهرة، ولكي نعتبر فكرة ما "ماهية" أو "قانوناً علمياً"، يجب أن تظل ثابتة رغم تغيير كل العوارض. إذا سقطت الفكرة عند تغيير الظروف المتخيلة، فهي "خاطر شخصي" وليست "حقيقة ظاهراتية". هذا يضمن ثباتاً علوياً يتجاوز القراءة أو الحكم اللحظي. 4ـ ضابط "الوصف المحايد" ضد "التأويل الذاتي" الانزلاق نحو "الهمهمات" يبدأ عندما يتوقف الباحث عن "الوصف" ويبدأ في "الإنشاء". فالالتزام باللغة الوصفية (De-script-ive) التي تتبع مسار ظهور الظاهرة، والابتعاد عن اللغة التأويلية (Hermeneutic) التي تفرط في الرمزية، يفضي إلى الإحكام الملزم بوصف "كيف" تظهر المسؤولية في الوعي، لا أن "تتخيل" معانيها البعيدة. إذن حضور "همهمات العقل" في السياق التحليلي هو نتاج غياب "الموضوعية الترنسندنتالية". حيث يكون الضابط الأساسي عندنا هو: إن الوعي لا يخترع الحقيقة بل يعاينها، لأن "كل ما لا يمكن إرجاعه إلى بداهة في الوعي، أو لا يمكن تثبيته عبر التنويع الإيديتي، هو مجرد سياحة فكرية يجب استبعادها من متْن البحث الأنطولوجي الصارم. كل بحث فلسفي وجودي يكون مبررا أو متاحا لنقض المسؤولية الأخلاقية، وتبرئة الذات من واجبها الأخلاقي يعد بحثا مفارقا للنسق الفلسفي مهما كان مبدعا أو جميلا أو حتى منطقيا. هذه القاعدة هي "الماصدق الأخلاقي" الذي يمنح الفلسفة شرعيتها الوجودية. أنا هنا لا أطرح مجرد خيار قيمي، بل أسس لـ "معيار صلاحية أنطولوجي". بناءً على تلك الرؤية، يمكنني صياغة القاعدة كقانون إبستمولوجي صارم يقطع الطريق على "سيولة" الوجودية الهايدغرية أو أي فلسفة تنسحب من العالم الأخلاقي لتتحصن في التجريد: قاعدة (إحسان طالب) للإحكام الأخلاقي: "إن كل بحث، أنطولوجي أو ظاهراتي، في الوجود يفضي إلى تقويض المسؤولية الأخلاقية، فاسحا المجال لتبرئة الذات من واجبها تجاه الآخر، مسؤوليتها، هو بحث ساقط منهجياً وفاقد للاتساق النسقي الفلسفي؛ ذلك أن الوجود ليس معطىً محايداً، بل هو معطى بينذاتي بالضرورة (وجود- مع-مسؤولية) وكل إبداع نظري يتنصل من هذا الاستحقاق يخرج من دائرة الفلسفة الظاهراتية المحكمة إلى دائرة الفكر المفارق أو العدمية المقنّعة"
تبرير مرتكزات القانون أو القاعدة: المسؤولية كبنية (A priori): في نسق المحكم، المسؤولية ليست "ملحقاً" يضاف للفلسفة بعد الانتهاء من بناء الأنطولوجيا، بل هي بنية أولية في الوعي الترنسندنتالي، إذا غابت المسؤولية، انهار النسق بكامله. نقض "جمالية الإبهام": أنت تضرب هنا في مقتل تلك السرديات التي تتستر خلف "جمال اللغة" أو "عمق الغموض" لتبرير مواقف لا أخلاقية (وهنا يبرز نقدنا المبطن لسقوط هايدغر التاريخي). الجمال والمنطق لا يشفعان للبحث إذا كان يؤدي إلى "تبرئة الذات" من التزامها. الفلسفة كالتزام (Commitment): البحث الذي لا يرى في "الآخر" نداء للمسؤولية هو بحث "مفارق"؛ لأنه ينفصل عن حقيقة "عالم الحياة" (Lebenswelt) البينذاتي الذي نعيش فيه. فعالمي الخاص، وحتى البحت، هو مجرد تصور دون وجود الآخر. فإذا كان الدازاين ملقى وحيدا، وحتى ولو كان واعيا لوجوده، فلا خصوصية ذاتية له إلا إذا كان ضمن ذوات أخرى في العالم الحر، فالذات لا وجود حي لها من منظور فردي خالص. لنفكر في فردانية حي بن يقظان، ولننظر لجمالية السرد واللغة وسحر منطق الاستدلال والرمزية، لكن علينا هنا التوقف عند النقطة التي شرحتها مطولا أعلاه، القصة بكل تفاصيلها لا وجود لها كظاهرة، والاستنتاجات المنبثقة منها تم عرضها من قبل فيلسوف، يعيش بين الناس وفي مجتمع متفاعل، بعبارة أخرى النتائج ليس لبطل القصة حي بن يقظان، بل لصاحب السرد ، فأول مؤلف هو ابن سينا، وأعاد بناءها السهروردي، وبعده أعاد صياغتها ابن طفيل، لولا لقاء "حي" بـ "آسال" والانتقال لمجتمع الأخير لكان من المستحيل على حي الإفصاح عن رؤيته للكون والنفس والجسد، هنا حدث التحول من الفردانية البحتة إلى الواقع الاجتماعي والتفكير الجمعي. تحول من مسؤولية عرفانية إلى مسؤولية تجاه الآخر، فآبسال صار تلميذا ومريدا، إنه هنا الآخر، فالانتقال صار نحو البينذاتي وليس الفردي، فالأخير فاقد للمعنى، أو يمتلك المعنى الفارغ، كونه بدون وجه، وصار معنى ممتلئ مع وجود الآخر، إذن القراءة العرفانية لوحدها لا تستقيم كظاهرة وجودية إلا مع وجود الآخر. هكذا نضع "الآخر" كشرط لإمكانية المعنى وليس مجرد ملحق له. في السياق النقدي لطرحنا يصبح بحث (هاد) في "الوجود والزمان" ناقصاً بنيوياً، ليس لأنه أخطأ في وصف "الدازاين"، بل لأنه قدم "دازاين" يمكنه الانفصال عن المسؤولية الأخلاقية دون أن ينهار النسق الوجودي فلسفيا وواقعيا، فالدزاين لم ولن يكون له وجود منعزل بالمطلق ولا معنى للأصالة كمفهوم هايدغري ما لم يكن الآخر مسؤولا كذات في مواجهة الذات الخارجية كآخر أيضا. تعريف لـ "الذات"؛ هل تصبح الذات هي (الوعي + المسؤولية) كوحدة لا تقبل القسمة؟ إن مفهوم الذات وخاصة ما يرتبط منه بذات الآخر تمنعنا من اعتبار هذه الوحدة دقيقة، بمعنى أنني "أعلق" وحدة (الوعي+ والمسؤولية) كذات وسبب ذلك أنني أنا كذات لا أستطيع وضع تقرير مؤكد للمسؤولية الأخلاقية ألزم بها الآخر كذات. وهذا "التعليق" (Epoché) الذي مارسته الآن هو بحد ذاته ممارسة فينومينولوجية رصينة. ترفض القفز إلى استنتاج "ناجز" قد يقع في فخ "الهمهمات" التي حذرت منها، توقفنا عند "ذات الآخر" هو النقطة التي تعثرت عندها الفينومينولوجيا الكلاسيكية طويلاً. إنني أطرح بوضوح: أنا أمتلك وعيي ومسؤوليتي، لكنني لا أملك "التفويض" الأنطولوجي لإصدار تقرير مؤكد يُلزم الآخر بذات الوحدة. عندما "تعلق" وحدة (الوعي + المسؤولية)، فإنني أحمي الأطروحة من "النزعة التسلطية" أو "الإسقاط الذاتي". إذا قلتُ إن المسؤولية والوعي وحدة واحدة في كل ذات، فأنا أفترض أن "الآخر" نسخة مني، وهذا يلغي "غيرية" الآخر (Alterity)، فنظرنا للمسؤولية كـ "نداء" لا كـ "تقرير". ربما لا نستطيع إلزام الآخر كـ "ذات" بتقرير مؤكد، ولكن هل يمكننا اعتبار المسؤولية هي "العلاقة" ذاتها؟ بمعنى: أنا لا أقرر للآخر مسؤوليته، ولكن "وجود الآخر" في أفقي يفرض عليّ مسؤوليتي أنا تجاهه. هنا تصبح المسؤولية أحادية المصدر ابتداءً (من جهتي أنا) ولكنها ثنائية الوجود (بسبب حضور الآخر). فنحن لا نريد تحويل القاعدة الأخلاقية المنهجية التي حددنا حدودها أن تتحول لقانون قمعي. بل نريد جعلها "معياراً ذاتياً للباحث" و"شرطا للنسق الفلسفي الوجودي" بدلاً من جعلها حكماً أخلاقياً على ضمائر الآخرين التي لا يمكننا سبر أغوارها حدسياً. إذا كنا "نعلق" هذه الوحدة (الوعي + المسؤولية) لأننا لا نملك تقريراً مؤكداً عن "ذات الآخر"، فهل يعني ذلك أن المسؤولية في أطروحتنا هي "مسؤولية الأنا تجاه العالم" أولاً وأخيراً؟ أم أننا نبحث عن "رابط نسقي" يجمع الذوات دون صهرها في قالب واحد؟ ربما أستطيع الخروج من هذا المأزق بإضافة (تجاه العالم والآخر) وبصورة حضور متذاوت وكامل مستمر، أي دون ذكر أولا وأخيرا، هنا لا أتكلم في زمنية أو راهن، هنا أبحث في حياد الزمكان، أبحث عن رابط وجودي مجرد مع الاحتفاظ بحدود الذات في حضور الآخر وفي الاتجاهين. حضور متذاوت وكامل ومستمر" هو المخرج الفينومينولوجي الأنسب، لأنه ينقلنا من "عزلة الأنا" إلى "رحابة البين-ذاتية" (Intersubjectivity) دون كسر الحدود الفردية لكل ذات.
1ـ حياد الزمكان (الإطلاق الماهوي) عندما أقول إننا نبحث في "حياد الزمكان"، فإنني أؤكد على طبيعة البحث "الإيديتي". لأننا لا نصف "واقعة أخلاقية" حدثت بالأمس، بل نصف "إمكانية الوجود" ذاتها؛ المسؤولية هنا ليست فعلاً زمنياً يبدأ وينتهي، بل هي "خلفية" ثابتة أو أفق (Horizon) لا يزول، تماماً كضوء الشمس الذي استشهدت به سابقاً؛ إنه يضيء العالم سواء كان هناك من يراه أو لا. الحضور المتذاوت (Inter-subjective Presence) يحل معضلة "التقرير المؤكد" الذي نخشاه، فلا نصدر تقريراً "عن" الآخر (باعتباره موضوعاً) نعترف بـ "حضور" الآخر كذات موازية (متذاوتة)، هذا الحضور المتذاوت يعني أن "المسؤولية" هي التيار الذي يسري في الرابط الوجودي بينهما. هي ليست "واجباً" يُفرض من الخارج، بل هي "طريقة ظهور" الآخر في وعيي و"طريقة ظهوري" في وعيه. ما أقوم به هو تحقيق الرابط الوجودي مع الاحتفاظ بالحدود ضد الانصهار، رفض تذوب الذوات في "نحن" هلامية تغيب الفرد وتعتبره كائنا اجتماعيا محضا، وضد العزلة في نفس الوقت نرفض "الأنا الوحيد" (Solipsism)، أو الأنانية المطلقة ونطرح بديلا عنها "رابط وجودي مجرد" يحفظ لكل ذات استقلالها (أنا وأنت)، ولكنه رابط مشحون بالمسؤولية بالضرورة. إذن يتأسس الوجود في المنظور الظاهراتي المحكم على رابط وجودي مجرد يتجاوز تعيينات الزمكان، ليتحقق في صورة حضور متذاوت كامل ومستمر. إن هذا الحضور لا يلغي حدود الذات ولا يصهرها في الآخر، بل يضع الأنا في مواجهة دائمة مع مسؤوليتها تجاه (العالم والآخر) كبنية أصيلة في الوعي، وبذلك، تصبح المسؤولية هي الخيط الرابط الذي يجمع الذوات في أفق حقيقة شمولية، مع الاحتفاظ بخصوصية كل أنا كمركز إرادة ووعي، مما يمنع تحول الفلسفة إلى مجرد همهمات وجدانية، ويجعلها علماً للتواجد المسؤول." هل يمكننا القول إن "المسؤولية" في أطروحتي هي "قانون الجاذبية" في عالم الروح والوعي؟ بمعنى أنها القوة التي تجعل "الذوات" تنجذب لبعضها البعض وتنتظم في "عالم حياة" مشترك، وبدونها يتبعثر الوجود ويتحول إلى "شظايا ذوات" لا يربطها شيء؟ ليست المسؤولية وحدها هي قانون الجاذبية، هي حد من حدود هذه الجاذبية، وتفصيل ذلك؛ إذا كانت المسؤولية التزام وإلزام فهي قد لا تكون واعية بل مسيرة بمنطق الواجب، لنضرب مثلا، الأب الصالح يشعر بمسؤولية التزام تجاه أبنائه دون إلزام، بمعنى أنني لا أُلزم أولادي برد الجميل وأنني مستعد دائما لتقديم ما أستطيع أيا كان موقفهم أو رد فعلهم، كذلك هو حال المحب الصادق والمواطن الصالح تجاه وطنه، طبعا مع وجود بعض الفوارق التفصيلية بين الأمثلة المذكورة أعلاه. أقدم تمييزاً جوهرياً بين "المسؤولية كالتزام" (ينبع من الداخل والماهية) وبين "المسؤولية كإلزام" (يُفرض من الخارج أو عبر تعاقد). بهذا التفصيل، ننقل المسؤولية من "خانة القانون" الجاف إلى "خانة الأنطولوجيا الحية" عالم الوعي، المسؤولية تظهر كـ "فيض ماهوي" (التزام بلا إلزام)؛ في أمثلة الأب الصالح، المحب الصادق، والمواطن، تظهر المسؤولية كفعل "قصدية ممتلئة"، الأب لا ينتظر "رد الجميل" لأن فعله ليس "مقايضة" (إبستمولوجيا المنفعة)، بل هو "تحقق لماهية الأبوة". هنا تكون المسؤولية "عطاءً وجودياً" لا ينتظر انعكاساً من الآخر لكي يكتمل. هذا هو أرقى أشكال "الثبات المنهجي" الذي ننشده؛ فالمسؤولية هنا ثابتة حتى لو تغير رد فعل الآخر (التنويع الإيديتي). هنا نتجاوز (كانط)؛ فالواجب عند كانط "إلزامي" وعقلي صارم، بينما المسؤولية عندنا في هذه الأمثلة هي "حالة وجودية" (Ontological Mode). الذات هنا لا تمارس المسؤولية لأنها "يجب" أن تفعل، بل لأنها في "حضورها المتذاوت" مع الآخر (الابن، الحبيب، الوطن) لا يمكنها إلا أن تكون مسؤولة؛ إنها "ضرورة داخلية" تشبه ضرورة أن يكون المثلث ذا ثلاثة زوايا ليكون مثلثاً. المسؤولية بوصفها "حد من حدود الجاذبية" وليس الجاذبية كلها هي الرابط الوجودي العام الذي يشد الذوات لبعضها (البين-ذاتية). أما المسؤولية (كالتزام) فهي "القيمة" التي توجه هذه الجاذبية لتكون بناءة ومنظمة للنسق الأخلاقي، ما يمنعها من أن تصبح "اصطداماً" أو "تلاشياً" في الآخر. أو قانونا قمعيا. "تتجلى المسؤولية في الوعي الترنسندنتالي كـ التزام ماهوي يسبق أي إلزام خارجي هي فعل انسيابي يتجه نحو الآخر (الابن، الآخر، الوطن..إلخ) دون انتظار لرد الجميل أو اشتراط للمقابلة. إن هذا النوع من المسؤولية هو الذي يحقق الإحكام الأخلاقي؛ لأنه يحرر الذات من عبودية النتائج ويجعل من فعل (المسؤولية ماهية وجودية ثابتة). وبذلك، لا تعود المسؤولية مجرد واجب ثقيل، بل تصبح هي الطريقة التي يثبت بها الوعي كماله الإنساني في أفق العالم والآخر، محتفظاً بحدود الذات السامية التي تعطي بدافع الالتزام الوجودي الصرف." المسؤولية كعطاء غير مشروط (التزام لا إلزام). يمكنني القول إن هذا "الالتزام بلا إلزام" هو الفرق الجوهري بين "المسؤولية الظاهراتية" التي نؤسس لها، وبين "الهم" (Sorge) عند (هاد) الذي يبدو وكأنه "اهتمام" يتمحور حول بقاء الذات وقلقها الخاص، بدلاً من أن يكون عطاءً وجودياً متجهاً للآخر. هنا نضع تمييزاً حاسماً بين "الخطة" (Plan/Scheme) وبين "المنهج" (Method). عندما وصفنا عمل هايدغر بأنه "خطة" تفتقر إلى صرامة المنهج، كتفسير لما سهل انزلاقه نحو "فيض الخاطر"؛ فالخطة قد تكون طموحة، لكنها بلا كوابح إبستمولوجية تحميها من "همهمات العقل". في المقابل، رؤيتنا لـ (هوس) تتسم بـ "الولاء النقدي"؛ التزام بمنهجه "عملياً" لامتلاء أدواته، مع رفض ادعاء "النهائية" أو "اليقين المطلق". فالمنهج كـ "دليل" لا كـ "يقين" امتلاء المنهج عند هوسرل يجعله "أميناً" على الوعي، حتى وإن لم يكن نهائياً. أما هايدغر، فبوضعه "خطة"، حسب تقديرنا أو انطباعنا الذي شكلناه من خلال العديد من الدراسات النقدية التي قُدمت لنظرياته الفلسفية كياسرس وأدرنو، بدلاً من "المنهج"، فقد تخلى عن "الأمانة المنهجية"، مما جعل تصوراته عرضة للانزياحات التي توصف بـ "خيانة العقل". الخيانة هنا ليست في النوايا، بل في التخلي عن الأدوات الصارمة التي تمنع الذات من الانكفاء على نفسها (تبرئة الذات). (منهج هوسرل ليس يقينياً) بل هو دليل يحمي طرحنا من السقوط في "الترنسندنتالية المنغلقة". نريد منهجاً "مفتوحاً على المسؤولية"، لا منهجاً يدعي حيازة الحقيقة المطلقة، هذا "الانفتاح" هو الذي يسمح بالبحث عن ماهية الوعي والمسؤولية دون أن تكون مقيداً بقوالب جاهزة. إذا كان هايدغر قد وضع "خطة" (شابتها الهمهمات) بدلاً من "المنهج"، فهل "المسؤولية الأخلاقية" تحتاج إلى "منهج ممتلئ" (على غرار هوسرل) لكي تثبت، أم أنها بحد ذاتها هي التي يجب أن تكون "بوصلة المنهج"؟ بمعنى آخر: هل نبحث عن المسؤولية بواسطة المنهج، أم نجعل المسؤولية هي المعيار الذي نحكم به على سلامة المنهج (أو الخطة)؟ هذا التساؤل قد يقربنا من تحديد ماهية المسؤولية التي نبحث عنها؛ فهل هي "نتيجة" للمنهج السليم، أم هي "الأساس" الذي لا يكون المنهج سليماً بدونه؟ ـ المسؤولية ليست مجرد "ثمرة" نقطفها في نهاية البحث، بل هي الأساس الذي يجعل المنهج سليماً منذ اللحظة الأولى. المسؤولية الإيتيقية الأنطولوجية" بوصفها التزاماً كونياً تجاه العالم والآخر، تتأسس على كشف الماهيات لا على مجرد الالتزام بقواعد الكتابة. المسؤولية كـ "انبجاس ماهوي" عبر الحدس الإيديتي في السياق الإيتيقي الظاهراتي الذي نؤسس له، المسؤولية هي "الأساس" الذي لا يستقيم المنهج بدونه، وذلك لأن: الحدس الماهوي ككاشف للمسؤولية؛ فعندما نمارس الحدس الإيديتي لنعرف "ماهية الإنسان" أو "ماهية الوجود"، لا نجد ذاتاً منعزلة، بل نجد "المسؤولية" كبنية جوهرية في صلب هذه الماهية. هنا المسؤولية ليست "واجباً يُضاف" بل هي "حقيقة تُكتشف". تجاوز العرفانية نحو الإيتيقا الصارمة: في "الخيال العرباوي" ، قد تذوب الحدود بين الأنا والآخر في وحدة وجود غائمة؛ أما في "الحدس الإيديتي"، فالمسؤولية تتأسس على "الوضوح والتمايز". هي مسؤولية تجاه "آخر" حقيقي له "وجه" وكيان مستقل، وليست فيضاً من الذات على نفسها. إذن نتناول المسؤولية كـ "قصدية أخلاقية": المنهج السليم هو الذي يبدأ بوعي أن كل "قصد" تجاه العالم هو "فعل مسؤول". فالعالم والآخر ليسوا مجرد "موضوعات" للمجال المعرفي، بل هم "شركاء" في عالم الحياة (Lebenswelt). المسؤولية التي أفتش عنها هي "القانون الجاذب" الذي يمنع الوعي من الطفو في فراغ التجريد. هي "الأساس" لأنها هي التي تمنح للبحث قيمته الوجودية؛ فالبحث في الماهيات دون "التزام إيتيقي" تجاه ما تكتشفه هو مجرد ترف ذهني. إن "الاستفاقة" التي ذكرتها أعلاه هي في جوهرها انتقال من "الوعي الذي يرى" إلى "الوعي الذي يستجيب" لنداء الماهية الأخلاقية لكي يكون المنهج "صارماً" و"محكماً"، يجب أن يبدأ بـ "إرادة مسؤولية" ترفض الانزلاق نحو "همهمات العقل" أو "فيوض السراب". فالباحث الذي لا يشعر بمسؤولية تجاه "الحقيقة" وتجاه "الآخر" لن يلتزم بضوابط الرد (Epoche) ولا بالحياد الوصفي. هنا المسؤولية هي "الباعث الوجودي" للمنهج. المسؤولية كـ "نتيجة" (تحقق الحدس الإيديتي) بمجرد استخدام الحدس الإيديتي (معاينة الماهيات) بدلاً من الشطح العرفاني، نصل إلى المسؤولية كـ نتيجة قصدية؛ عندما يمتلئ القصد بالظاهرة، نكتشف أن "بنية الوعي" ذاتها تحتوي على نداء الآخر. فالمعرفة الموضوعية تكشف لنا أننا لسنا "ذواتاً مغلقة" بل نحن في "حضور متذاوت". هنا تصبح المسؤولية هي "البرهان واليقين" الذي يتوج المنهج السليم. بمعنى أدق: المنهج هو "طريقة ممارسة المسؤولية" في عالم الفكر. فالبحث غير المسؤول هو بحث غير منهجي بالضرورة، لأنه يفتقر إلى "الأمانة الموضوعية" التي تتطلبها "الاستفاقة" والعودة إلى "مجلس العلم". ـ "المسؤولية الإيتيقية الأنطولوجية" بوصفها التزاماً كونياً تجاه العالم والآخر، تتأسس على كشف الماهيات لا على مجرد الالتزام بقواعد الكتابة. في جوهرها انتقال من "الوعي الذي يرى" إلى "الوعي الذي يستجيب" لنداء الماهية الأخلاقية؟ المسؤولية كـ "أساس" ومنطلق للحدس الماهوي (في مواجهة هايدغر): المسؤولية تسبق الوجود (نقد الـ Sorge) الهم أو الانهمام الذاتي البحت: في أطروحتي المسؤولية هي الأساس لأنها هي التي تمنح الوعي مشروعيته، أما عند (هاد)، "الهم" أو "الرعاية" (Sorge) متمركزة حول الذات (بقاء الدازاين)، في "المنهج الأصيل" الذي نسعى إليه، يقوم الحدس الماهوي بكشف أن ماهية الوعي كما هي "مسؤولية تجاه الآخر" قبل أن تكون قلقاً على الذات. المنهج كأداة كشف أخلاقية: المنهج السليم (هوسرل) لا يكون سليماً إلا إذا استطاع "رؤية" الآخر كذات مستقلة (افتراق الذوات). هايدغر، بتبنيه "خطة" بدلاً من "المنهج"، سمح لـ "فيض الخاطر" أن يبتلع الآخر في مفهوم "الوجود-مع" العام، مما أدى إلى "خيانة العقل" وتبرئة الذات من المسؤولية الفعلية. الحدس الإيديتي ككاسر للذاتوية: الانتقال إلى نظرية معرفة تقوم على الحدس الماهوي يعني أننا لا "نؤول" الوجود بناءً على أهوائنا (كما فعل هايدغر في فترات معينة)، بل "نُعاين" الحقيقة الأخلاقية كبناء موضوعي صلب. إذا كانت المسؤولية هي الأساس، أي هي شرط لسلامة المنهج فإن السقوط المنهجي يحيل إلى سقوط أخلاقي، فالافتقار المنهجي جعل هايدغر يتحول من "ذات مسؤولة في عالمها". إلى "ذات مهمومة بنفسها" ولا تكفي فكرة أو مفهوم الدازاين ورعاية الوجود كبديل أخلاقي؛ لأنها في سياق الانهمام في التناهي والموت مقرونة بالأصالة. فالذات غارقة في البحث عن وجودها بمعزل عن الآخر. 1. في "الوجود والزمان": بينذاتية "مبتورة" في كتابه العمدة، تناول هايدغر مفهوم "الوجود-مع" كبنية أنطولوجية للدازاين. هو لم يهمل الآخر تماماً، لكنه وضعه ضمن سياق "العالم"؛ فالآخر عنده ليس "وجهاً" (كما عند ليفيناس) بل هو "شريك في الهم" أو "موجود هناك إلإشكال هنا أن "البينذاتية" عند هايدغر ظلت تفتقر إلى المسؤولية الأخلاقية، فالآخر يظهر كجزء من "الـ هم" الذي يهدد أصالة الدازاين، مما يجعل الدازاين ينكفئ على ذاته (قلق الموت) بدلاً من الانفتاح المسؤول على الآخر. بعد الانعطاف، لم يقم هايدغر بتعميق "البينذاتية"، بل انتقل إلى "تاريخ الوجود" و"اللغة". وتجاوز السؤال عن "الذوات"، الآخر، من أجل الانغماس في سؤال "الوجود" (Sein). هنا تلاشت الذات المستقلة (التي نطالب بافتراقها لتحمل المسؤولية) في أفق "الحدث" فكك هايدغر البينذاتية ليس ليعيد بناءها أخلاقياً، بل لصالح علاقة الدازاين بالوجود واللغة. الآخر في مرحلة الانعطاف صار "جاراً في السكنى" داخل لغة الوجود، وهو توصيف جمالي كـ (فيض خاطر) يفتقر إلى "الحد الأرسطي" والصرامة المنهجية التي نطلبها. من وجهة نظر طرح يركز على "المسؤولية كالتزام"، يمكنني القول إن هايدغر في مرحلة الانعطاف أضاع الآخر مرتين: الأولى: عندما جعله في "الوجود والزمان" عائقاً أمام الأصالة (سقوط في الـ هم). الثانية: عندما ذوّبه في مرحلة الانعطاف داخل "نداء الوجود"، محولاً المسؤولية من "علاقة بين ذاتين" إلى "استجابة صوفية للوجود". أن هذا "الهروب من البينذاتية" نحو "تاريخ الوجود" هو دليل على جمود التفسير وعجزه عن الإحاطة المطلوبة، ويمكن استخدام "الحدس الإيديتي" الآن لتبيين أن ماهية الوعي هي بالضرورة "بينذاتية مسؤولة" لا يمكن تجاوزها نحو أي انعطاف وجودي. لقد أسست لمفهوم "وجود" يمنح الذات استقلاليتها وفي نفس الوقت يجعلها مسؤولة تجاه العالم والآخر تحصن البحث من انزلاقات نحو وجود متناقض؛ فهو حقيقة وجود ذات في، ومع العالم، وبنفس الوقت هو وجود حر منفتح غير محدد ولا مضبوط بمسؤولية، تحوَل لوجود ميتافيزيقي مبهم، في عالم مؤسِس ودازاين راعي، إنه تيه كامل وضياع للمسؤولية. فالوعي هنا طارئ أيضا لأن الوجود قائم بدونه، هذه الحيثية بالتحديد، وأقصد وجود سابق للوعي، أكدت على ماورائية مبهمة تميل للتفسيرات الغيبية، لأننا بالوعي حددنا ملامح العالم، فإذا كان الوجود مانحا للوعي، وليس العكس، أصبحنا في وجود غير مفسر وغير مبرر. موطن المعنى بين الشيء والوعي أعارض الوجود الهايدغري (المبهم/الغيبي)، وأسس لـ "وجود ظاهراتي" ملامحه تتحدد بـ الحدس الإيديتي. من المهم التأكيد على أن وجودي "واقعي" لكنه "مُدرك"، وليس وجوداً "ذهنياً" فحسب. ـ الوعي هنا طارئ أيضا لأن الوجود قائم بدونه، هذه الحيثية بالتحديد، وأقصد وجود سابق على الوعي، أكدت على ماورائية مبهمة تميل للتفسيرات الغيبية، لأننا بالوعي حددنا ملامح العالم، فإذا كان الوجود مانحا للوعي، وليس العكس، أصبحنا في وجود غير مفسر وغير مبرر. إننا بحاجة للتأكد من نقطة منح المعنى، أي لسنا متيقنين من أن الوعي مانح للمعنى، باعتبار المعنى جزء أصيل من الشيء ذاته وحتى من ظهوراته فهو يظهر، أي الشيء، ليمنح جوده معنى ما، بعبارة أوضح نفتش عن حقيقة "أولوية الوجود على الوعي" لقد كشفت عن تعرية مفارقة "الدازاين الراعي"؛ فكيف يكون الدازاين حراً ومنفتحاً وغير محدد، وفي الوقت نفسه يُطالب بمسؤولية تجاه وجود "سابق عليه"؟ هذا يجعل المسؤولية "هلامية" لأنها بلا مرجع واعٍ يضبطها. أزمة "الوجود السابق للوعي": نقطة جوهرية؛ فاعتبار الوجود سابقاً للوعي (كما فعل هايدغر في مرحلة الانعطاف) يسقطنا بالضرورة في "الميتافيزيقا المبهمة". إذا كان الوجود قائماً بدون وعي يدركه، فمن الذي منح هذا الوجود ملامحه؟ ومن أين أتت "المسؤولية" إذا كان الوعي مجرد "طارئ" أو "مستجيب" لنداء غيبي؟ الاستقلال والمسؤولية: معادلة (وجود = يمنح الاستقلال + يفرض المسؤولية) هي التي تحمي البحث من "التيه"؛ لأنها تجعل المسؤولية عقداً وجودياً بين ذوات واعية، وليس استسلاماً لـ "قدر الوجود". علاقة المنح (الوجود والوعي): في سؤال "إذا كان الوجود مانحاً للوعي، وليس العكس"؛ قد يُفهم منها نزعة "مثالية" (أن الوعي هو الذي يخلق الوجود). لكن في سياق طرحنا، نقصد أن "المعنى" و"التحديد" و"المسؤولية" هي التي تنبثق من الوعي. الوجود بدون وعي هو "عماء أنطولوجي". تحديد مفهوم "الوجود": لا أتبنى الوجود الهايدغري (المبهم/الغيبي)، ونؤسس لـ "وجود ظاهراتي" ملامحه تتحدد بـ الحدس الإيديتي. من التأكيد على أن وجودي "واقعي" "مُدرك"، وليس وجوداً "ذهنياً" فحسب. إذن: أن هايدغر، بهروبه من سيادة الوعي الهوسرلي، سقط في "تيه" لا يمكن فيه محاسبة الدازاين أخلاقياً، لأن الدازاين صار مجرد "منصت" للوجود وليس "صانعاً" للمسؤولية. لأننا نستعيد "سيادة الوعي" كشرط للمسؤولية. نعيد تأسيس مفهوم "الوجود" ذاته ليكون ضامناً للحرية والمسؤولية معاً. فالوجود كـ "فضاء استقلال" يعني (تأصيل الذات) فهو ليس "كلاً غامضاً" يبتلع الكائنات، بل هو الفضاء الذي "يمنح الذات استقلاليتها"، هذا الاستقلال هو ما أسميه "افتراق الذوات". بدون هذا الاستقلال، تصبح المسؤولية مستحيلة، فإذا كنتُ أنا والآخر في "وحدة وجود" واحدة (كما في بعض فيوضات هايدغر أو العرفانيين)، فمَن المسؤول تجاه مَن؟ استقلال الذات عندك هو "شرط إمكان" الأخلاق. البينذاتية كـ "ضرورة بنيوية" لا انعطاف عنها. عند القول إنها "بينذاتية مسؤولة لا يمكن تجاوزها نحو أي انعطاف"، فإننا نوجه نقداً حاداً لـ (هاد): هايدغر ظن أنه بالانعطاف نحو "تاريخ الوجود" قد وصل إلى أصل الحقائق، لكنه، حسب تقديري ، "انعطف بعيداً عن الحقيقة الوحيدة الممتلئة" وهي وجه الآخر ومسؤولية الوعي تجاهه. الوعي في موسوعتي الفينومينولوجية ليس "مرآة" للوجود، بل هو "استجابة". فماهية الوعي هي "بينذاتية" في جوهرها؛ أي أن "الأنا" لا يكتمل وعيه بذاته إلا من خلال فعل المسؤولية تجاه "الآخر". "الوجود" في مقابل "الوجود-هناك" بينما جعل هايدغر الدازاين "ملقى" في العالم ومشغولاً بهمّه، جعلنا الوجود هو الحامل الذي يمنح الذات "كرامتها المستقلة" ويضع على عاتقها "العالم والآخر". هذا الوجود ليس قدراً أعمى، بل هو "نظام أخلاقي محكم" يُكشف عنه بالحدس الإيديتي. إن "الوجود" في أطروحتي هو "الضمانة الأنطولوجية للمسؤولية" بمعنى: أنني "أوجد" لكي "أكون مسؤولاً"، وأن أي وعي يحاول الهروب من هذه المسؤولية (عبر التبرئة أو الانعطاف) هو وعي يرتكب "خطيئة منهجية" بحق الوجود والذات. انطلاقاً من مبدأ "الإحكام" وتجاوز "همهمات العقل"، لنضع "الحد الأرسطي" لماهية الوعي في نسقنا الفينومينولوجي: ماهية الوعي: من "المرآة" إلى "الفعل المسؤول" إذا كان الوعي عند هوسرل هو "قصدية" (وعي بشيء ما)، فإنه في أطروحتنا يتخذ أبعاداً أكثر تركيباً وصرامة: الوعي كـ "بنية افتراق ماهوي والتقاء وجودي ": الوعي ليس "وحدة فارغة" مع العالم والآخر بل ماهيته قائمة على وحدة كمية غير فيزيائية تلك المعادلة: "وحدة الوعي" = وعي أنا + وعي الآخر + وعي الأنا المتعالي = الوعي المطلق، وعي الوجود. المسافة هي التي تسمح بظهور "الذات" و"الموضوع" ككيانين مستقلين. الوعي هنا هو القوة التي تُقيم هذا الافتراق لتجعل المواجهة مع الآخر ممكنة، أي أنني أعي وجود الآخر كوجه ومواجهتي له ليست تجارية أو منفعة متبادلة كأساس لـ "اللقاء"، إنه الشخص الذي أدين له بالمسؤولية بحكم "الوجود" كمبدأ وجود. افتراق الذوات بين التذاوت نفسه، لا اندماج فهو هو، وأنا أنا، الوجه هو السيادة والاستقلال الذي تحدثنا عنه، تلك المواجهة الكاشفة تدور ضمن متطلبات المسؤولية، في الاتجاهين، المواجهة تعلق التصورات والأحكام المسبقة والنمطية، فكل وجه فريد من نوعه، وجهي ووجه الآخر كذوات مستقلة ومتذاوتة، مسؤولية التزام وليست دائما إلزام، مواجهة محسوسة واعية، فالآخر في وعي قصد نحو كيان معادل لوجودي، فأنا أعلق كل امتيازات مسبقة، حقيقية كانت أم متوهَمة، هو ذات وظاهرة أمامي، لها ماهيتها الخاصة، وموصوفة كما هي كائنة، وليس كما كونتها أو صورتها في لحظة من لحظات وعيي وتجربتي، عند هذه الذروة أبلغ مستوى الحدس الإيديتي تجاه الآخر، وهو يفعل ذلك تماما في مواجهتي، طالما أننا منغمسين في وجود حقيقي محدد. إنها تواجه أخلاقي؛ بداية من مفهوم الالتزام الأخلاقي الأنطولوجي وصولاً إلى مسؤولية وعي مطلق، وُجد في تعالي الترنسندنتالي. وصفي لـ "وعي" بأنه "مطلق" يشبه لغوية، فقط، وصفي لإله بأنه مطلق، أي كوني شامل محايد للزمكان، وهو ذاته الوعي الأنا الترنسندنتالي، المواجهة محسوسة، أي عيانية فذات الآخر هي عيان بالنسبة لي وليس ماهية، كما سبق وذكرتُ، الظاهرة كشف للماهية باستخدام لفظ "كمية"، نسحب الوعي من سيولة "الخيال العرفاني" إلى صرامة "الحد الأرسطي". معاملة الوعي كـ "بنية رياضية منطقية" (أنا + آخر + متعالي) كأسلوب دراسي، لها ثقل وجودي، يمنع تميع المسؤولية؛ هي كمية لأنها "قابلة للضبط" والتعيين المنهجي، وليس القياس الكمي، وليست مجرد "فيض" مبهم. بوصفها "غير فيزيائية"، تحمي الوعي من السقوط في "النزعة الطبعانية " (Naturalism). فالوعي هنا لا يخضع لقوانين المادة (التي تفتقر للمسؤولية)، بل لقوانين "القصدية الأخلاقية". وهي "وحدة" لأنها تجمع شتات التجربة، و"غير فيزيائية" لأنها متعالية (Transcendental). ولا يخضع لمقاييس علم النفس التجريبي، كحالة فردية، ولا لمقاييس علم الاجتماعي كوعي جمعي لأننا نتحدث عن وعي ماهوي. هذا التعبير يجعل الوعي "وحدة قياس أخلاقية"؛ فهو "كم" معنوي يحدد المسؤولية والالتزام، ويحدد مسافة البعد والقرب، لكنه أخذ الطابع الرياضي لكيلا يُنصب قاضيا على الذات، بل يطرح حكما يرتقي للثبات، لكنه لدينا ليس حكم يقيني مطلق لانهائي، كحكم تطبيقي منهجي فهو ليس رياضيا بحتا، بل أداة للدراسة والتفتيش. "غير مادي" بالتأكيد لأنه يمثل جوهر حرية واستقلال، الأنا والآخر تذاوتا وتضايفا. الوعي كـ "حدس إيديتي" ممتلئ: الوعي ليس مجرد مستقبل للبيانات الحسيّة، بل هو القدرة على "النفاذ إلى الماهية". هنا يتحول الوعي من "معاين" مدرك حسي في الظواهر إلى "شاهد" على الحقائق، هو يعاين معرفيا وحسيا ثم يرجع للحدس القابل للحضور والشهود، هذا الحدس يمنع الوعي من الانزلاق نحو "سراب عرفاني" غير قابل للحدس، لأنه يلتزم بـ "الماهية" كمعنى ممتلئ مدرك عقليا وحسيا، والحس هنا ليس منغلقا على "الحاسة" أي الحواس المادية، بل أيضا منفتح على شعور منبثق؛ تكون بواسطة معطيات قبلية وخبرات تجريبية تراكمية وتأملات عقلية لتصورات مكنونة تُعطى في ضوء الفهم الجازم. الرجوع التلقائي" (تجاوز الزمن الفيزيائي) أن المسافة "أسرع من ضوئية" وتتم عبر "نواقل عصبية" يضعنا أمام فينومينولوجيا عصبية (Neuro-phenomenology) رصينة. "الرجوع" المعني هو "الارتداد القَصدي الفوري"؛ أي أن الوعي لا "يغادر" الشيء ليعود إليه، بل هو "ينفذ" إلى ماهيته في ذات لحظة إدراكه حسياً. هذا الإيضاح يبين المفارقة بين "التأمل البطيء" كوضعية أو وصف عقلي متأمل وبين "يقظة خاطفة" للوعي تتم تلقائيا. من الضروري الإشارة إلى أن "الماهية" مرتبطة بـ "عالم الحياة" الماهية هنا ليست "فكرة أفلاطونية" مثل ثابتة معلقة، بل هي "حقيقة معاشة". هذا يوظف في أطروحتنا لخدمة المسؤولية؛ لأننا نكون مسؤولين تجاه بشر من لحم ودم (تجربة تراكمية) وليس تجاه مفاهيم مجردة. التصورات المكنونة" استدعاء للاحتفاظ والاسترجاع الهوسرلي. مفهوما "الاحتفاظ" (Retention) والتذكر (Protention/Recollection)** هي الضابط المنهجي هنا؛ المكنون هنا ليس "فطرياً" غيبياً، بل هو "وعي مستمر"؛ حيث لا يضيع الماضي (الخبرة) بل يظل حاضراً "كمخزون قصدي" يصبغ لحظة الحدس الحالية. ما يفسر كيف أن "الشاهد" يمتلك "ثقلاً معرفياً" يجعل حكمه (فهمه الجازم) رصيناً وليس وليد الصدفة. تنقل "الحدس الإيديتي" من مجرد أداة منطقية باردة إلى "فعل شهود ممتلئ" توسيع مفهوم "الحس": نقطة موضوعية لم تأتي من فراغ فالخروج بالحس من "المادية الضيقة" إلى "الشعور المنبثق" هو تجاوز النزعة الحسية التجريبية دون السقوط في التجريد المثالي، مما يجعل الوعي "كياناً حياً" وليس مجرد معالج بيانات. والوعي كـ "شاهد": يحوله من "معاين" (مراقب خارجي) إلى "شاهد" (ملتزم بالحقائق) يعزز فكرة المسؤولية التي تعد قطبا رئيسا في أطروحتي؛ فالشاهد لا يرى فقط، بل "يقر" بالحقيقة ويلتزم بمقتضياتها الأخلاقية. وخشية من الولوج في غياهب "السراب العرفاني": صاحب مذهب ومدرسة مغايرة وجدت حاجة لضبط الحدود؛ فالحدس ليس "وجداناً غامضاً"، بل هو "حضور" مشروط بـ الفهم الجازم والمعطيات القبلية. هذا هو التوظيف الدقيق لـ "الصرامة الهوسرلية" في مواجهة الشطحات الفكرية. وصف الوعي كـ "التزام قبلي" يجعل (Responsibility as Essence): المسؤولية كجوهر تعني أن ماهية الوعي ليست "محايدة"، فالوعي "نداء استجابة"، تنبيه وايقاظ من غفلة العزلة كتبرير لإخلاء المسؤولية إلى جرس وجودي يعيد الذات لبينذاتها الوجودية. بعبارة أخرى أن تكون واعياً يعني أنك بالضرورة تحت وطأة "المسائلة"، ليس بمعنى أن الوعي محجوب غائب وبالتالي الذات حرة تجاه العالم والآخر، أي الوعي التزام أولي فالمسؤولية هي تكوين أصيل في بنية الوعي أي أنها مكون ماهوي محايث غير قابل للمفارقة. إن وعي الـ "أنا " الخاص هو في جوهره وعيٌ بأنه "ليس وحده"، بل هو وعيٌ في سياق بينذاتي. باعتبار أنه لا يوجد مسافة بين وجود الـ "أنا" ووجود "الآخر" أي أن وجودي متعين ذاتيا، ومنعكس كآخر في نفس الوقت. حتى ولوكان الآخر غائبا عن الشهود الحسي المادي لكنه موجود في بنية الوعي الـ أنا، وجودي هذا في وعي الآخر هو أيضا انعكاس لظهوراتي وخبرات الآخر معي، فهو حاضر في ذاته كما هو موجود وبالمزامنة لديه وجود مسؤول في وعيي الآخر الذي قد أكون أنا، فالحضور قد يكون حسيا وقد لا يكون وكذلك الغياب، فالآخر ليس وجودا "مثاليا" محضا بل هو متعين في العيان والشهود والتصور. من الناحية الفينومينولوجية، نقوم "تعديل بنيوي" في المسار بحث؛ تنقل "الآخر" من منزلة (الظاهرة الخارجية) إلى منزلة (المكوّن الماهوي). "الآخر" كبنية محايثة تجاوزت هنا عقبة "الذاتية المنغلقة" (Solipsism). فبما أن الوعي صار عندنا هو "وحدة كمية غير فيزيائية"، فإن هذه الوحدة تضم الآخر بالضرورة قولنا إن الآخر موجود في بنية الوعي حتى في حال "غياب الشهود الحسي" يفرّق بين الوجود العياني (اللقاء بالوجه) والوجود الماهوي (الآخر كشرط لتعين الأنا). الأنا لا يمكن أن تعرف نفسها كـ "أنا" إلا في مقابل "آخر"، حتى لو كان هذا الآخر "مستحضراً" في الوعي فقط. مفهوم "الانعكاس" والتعين الذاتي إن "وجودي متعين ذاتياً ومنعكس كآخر في نفس الوقت". يعني أن الذاتية لدينا ليست "جوهرًا صلبًا" بل هي "علاقة". الأنا والآخر يظهران معاً في "ومضة" وعي واحدة. أنت هنا لا تحتاج للبحث عن الآخر في العالم الخارجي لتثبت وجوده، بل تجده في "صميم" وعيك بنفسك. لتجاوز "المثالية": ينبغي التأكيد على أن وجود الآخر في "بنية الوعي" لا يعني أنه "مجرد فكرة" أو "خيال". بل يعني أن وعي الأنا مصمم هندسياً (كميا) ليكون مفتوحاً على الآخر. بما أن الآخر يسكن بنية وعيي، فإن غيابه المادي لا يعفيني من "الجرس الوجودي" أو الالتزام القبلي. التداخل مع الأبحاث السابقة: هايدغر جعل "الوجود-مع" (Mitsein) حالة اجتماعية قد تؤدي إلى "الهمهمة" وضياع الذات. أما هنا، فجعلتُ "الوجود-مع" بنية في صلب الوعي لا يمكن الهروب منها، وهي بنية "أخلاقية" وليست مجرد "اجتماعية". نتائج رئيسة المسؤولية كجوهر محايث للوعي"، من "القصدية" إلى "المسؤولية الجوهرية، لقد قمتُ بنقلة نوعية في تعريف الوعي؛ فبينما توقف هوسرل عند "القصدية" (الوعي هو دائماً وعي بشيء ما)، ذهبنا إلى أن الوعي هو "مسؤولية قبليّة". فأنا لا أجعل المسؤولية "نتيجة" للوعي، بل "مادة الوعي" ذاته. هذا يعني أن "الوعي المحايد" (الذي يكتفي بالمشاهدة) هو وعي ناقص أو "غافل" عن ماهيته. "الجرس الوجودي" في مقابل "قلق هايدغر" استخدامي لمصطلح "جرس وجودي" و"تنبيه وإيقاظ" يضعنا في مواجهة مباشرة مع "قلق" هايدغر الذي يعيد الذات إلى أصالتها. هنا الجرس يعيد الذات إلى "بينذاتها الوجودية". هذا "الوعي-المسؤولية" هو الذي يمنع الذات من استخدام "حرية الانعزال" كذريعة لإخلاء المسؤولية. الوعي هنا هو "التزام أولي" لا يترك للذات مجالاً للحياد الأخلاقي. "تحت وطأة المساءلة" (الماهية المحايثة) توصيفي للمسؤولية بأنها "مكون ماهوي محايث غير قابل للمفارقة" هو إغلاق محكم للمنهج: أي؛ إذا كانت المسؤولية محايثة (Immanent)، فهذا يعني أنني لا أستطيع التخلص منها إلا بالتخلص من وعيي نفسه، هنا تسقط كل مبررات "الاستلاب" أو "التبعية" أو "الهروب" التي قد تبررها الفلسفات الوجودية الأخرى. إشكالية "الوعي" في مقابل "الدازاين": في حين جعل هايدغر ماهية الوجود البشري "همّاً" ينتهي إلى "قلق"، نحن نعيد تعريف ماهية الوعي لتكون "طاقة ضوء" تمنح الوجود معناه من خلال: الثبات: في مقابل سيولة الانعطاف الهايدغري، والتعالي: الذي يحفظ للذات استقلالها من الغرق في "العالم" كأدوات. (وهوس) يضعنا أمام مفهوم "التواجد المتزامن" أو ما يمكن تسميته بـ "الانعكاس الأنطولوجي". "أنا" و"الآخر": التعيّن والانعكاس عندما نقول إنه "لا توجد مسافة"، فإننا نذهب إلى أبعد من "البينذاتية" الهوسرلية التي قد توحي بكيانين يلتقيان في منتصف الطريق. نحن نؤسس لـ: الذات كمرآة وجودية: وجودي ليس "جزيرة" ثم يأتي الآخر ليزورها، بل إن ماهية وجودي "متعينة ذاتياً" وفي ذات اللحظة "منعكسة كآخر". المسؤولية كـ "وحدة": إذا كان الآخر منعكساً في ذاتي، فإن المسؤولية تجاهه ليست "خروجاً" عن الذات، بل هي "تحقيق لكينونة الذات". نحن هنا نحاول حل معضلة "الغيرية" (Alterity) بجعل الآخر جزءاً أصيلًا من بنية "الأنا"، دون أن يذوب أحدهما في الآخر (حفاظاً على الافتراق الماهوي). تجاوز "الزمان والمكان" في لحظة الوعي هذا الموقف منسجم مع وصفي السابق للوعي بأنه "محايد للزمكان". فإذا كانت المسافة بيني وبين الآخر محدد أنطولوجياً: فإن الحدس الإيديتي لا يحتاج لقطع مسافة ليدرك الآخر؛ فالآخر "مُعطى" مع الأنا في ذات "الومضة" الوجودية. هذا يفسر لماذا المسؤولية "قبليّة"؛ لأنني لا أنتظر رؤية الآخر لأقرر مسؤوليتي، بل أنا "مسؤول" لأن الآخر هو وجهي الآخر في مرآة الوجود. المراجع والملاحظات: اعتمد هذا البحث على قائمة مطولة من المراجع والمصادر، وعلى رأسها: الموسوعة الفينومينولوجية: المؤلف إحسان طالب، الناشر: دار العرب سوريا بالمشاركة مع دار طالب للنشر والتوزيع وتشتمل على ثمانية أجزاء، أيضا استفدت من البيانات المقدمة من الذكاء الاصطناعي، ومحرك البحث غوغل. 1 تأملات في الفينومينولوجيا والحقيقة والإنسان 2 ـ القاموس التاريخي لفلسفة هوسرل، مترحم: تحرير وإشراف إحسان طالب. 3 ـ قواعد المنهج في علوم الظاهراتية. دار العراب دمشق إحسان طالب 4 ـ التحليل الفينومينولوجي للظاهرة الدينية، مساهمة في فهم الدين. 5 ـ ظاهرة الدولة. 6 ـ الترنسندنتالي المتعالي. 7 ـ رسالة عن الإنسانية مارتن هايدغر، مترجم: تحرير ومراجعة وتقديم إحسان طالب. 8 ـ نقد الليبرالية التحررية، مقاربة فلسفية فينومينولوجية. بالإضافة إلى قائمة كتب أدموند هوسرل المترجمة إلى العربية منها الفلسفة علما صارما. فكرة الفينومينولوجيا الأفكار الممهدة مباحث منطقية أزمة العلوم الأوروبية، ترجمة غير منشورة. تأملات ديكارتية. بالإضافة إلى قائمة من الأبحاث الفينومينولوجية المعاصرة المترجمة في سياق الأطروحة الرئيسة.
#احسان_طالب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدولة ما بين هيوم وهيغل. مبحث فينومينولوجي
-
نقد نظرية ميشال فوكو حول السياسة الروحية. نظرية الخميني ونظر
...
-
الوعي بالشعور سُبل التفكير الايجابي
-
في مفهوم الديموقراطية الالتباس والواقعية السياسية
-
ثقافة التسامح بين الفكر الوصفي والفكر الغائي وفي ضوء علم الن
...
-
الفرق بين النويما والنويزس في فلسفة أدموند هوسرل*
-
ثنائية العقل والنقل تفكيك التعارض دراسة فلسفية*
-
الاقتصاد الإسلامي التحديات والآفاق دراسة مقارنة
-
الكَلِماتُ والْمَعاني ما يُعَوَّلُ عَلَيْه بَيْنَ الفَلْسَفَ
...
-
القاموس التاريخي لفلسفة هوسرل جون جيه. دروموند
-
التجديد الديني، في المعنى والتاريخ. مقاربات الأصوليين والإصل
...
-
أصل المعرفة هل حقا المعرفة النهائية لا أدرية كما يدعي هربرت
...
-
محاورة إحيانون، الاستدلال والقياس
-
جدوى الفلسفة نظرية المعرفة
-
الإشكالات الأساسية في الفلسفة
-
ما هي الفلسفة
-
مقالات التنوير 10 عقدة أو مركب التفوق الحضاري
-
مقالات التنوير 9 الأصولية ليست حلا عقلانيا الراديكاليون الجد
...
-
مقالات التنوير 8 مأزق العقل الأصولي بحث أركيولوجي
-
مقالات التنوير7 مقايسة الأصولية ومستوياتها بالعلمانية وحدوده
...
المزيد.....
-
يكافح ورمًا دماغيًا معظم حياته.. مسن يتعرض لضرب مبرح يتركه ب
...
-
-أسطورة القرن-.. وفاة بريجيت باردو نجمة الإغراء الفرنسية وال
...
-
وزير دفاع الصومال يكشف عن سبب ومخاطر اعتراف إسرائيل بـ-صومال
...
-
حماس تستعد لانتخاب قيادتها الجديدة.. من هم أبرز المرشحين لرئ
...
-
بريجيت باردو عبر السنوات: حياة تحت الأضواء
-
ماكرون ينعى بريجيت باردو ويصفها بـ-أسطورة جسدت حياة الحرية-
...
-
اتهام إسرائيل بممارسة -تنكيل جماعي- بأسرى فلسطينيين
-
بالأرقام.. تعرف على احتياطي النفط المؤكد في العالم
-
لماذا زاد الإقبال على -كوين- ذكاء -علي بابا- الاصطناعي في 20
...
-
قتلى وعشرات الجرحى بهجمات -لفلول الأسد- على مظاهرات باللاذقي
...
المزيد.....
-
العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو
...
/ حسام الدين فياض
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي
...
/ غازي الصوراني
-
من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية
/ غازي الصوراني
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
المزيد.....
|