أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - وليد الفاهوم ، المرافعة الأخيرة















المزيد.....

وليد الفاهوم ، المرافعة الأخيرة


جواد بولس

الحوار المتمدن-العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 02:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


وليد الفاهوم، المرافعة الأخيرة

شيّعت مدينة الناصرة، يوم الاثنين الفائت، جثمان المحامي وليد الفاهوم الذي توفي عن عمر ناهز الاثنين والثمانين عامًا. رحل وليد الفاهوم تاركًا وراءه سيرة مميزة وغنيّة بالعطاء في عدة ميادين لا تختزل بمقالة عابرة.

جمعتنا قدس سبعينيات القرن الماضي؛ فلقد جئتها عام 1974 طالبًا في كلية الحقوق في الجامعة العبرية، وهي الكلّية التي تخرج منها وليد الفاهوم في العام ذاته وبدأ يشق طريقه الوعرة في الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين أمام محاكم الاحتلال الاسرائيلي. بدأ وليد تدريبه في مكتب المحامية اليهودية التقدمية فيليتسيا لانجر، التي اختارت، منذ اليوم الأول للاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، أن تقف إلى جانب نضال الشعب الفلسطيني وأن تدافع عن أبنائه ضحايا الاحتلال؛ وحوّلت مكتبها إلى أحد أبرز العناوين الحقوقية والسياسية التي تستقطب المحامين المتدربين للعمل في هذا المضمار، وكنت أنا واحدًا منهم، ومكانًا تلتقي فيه رموز الحركة الوطنية الفلسطينية البارزين في تلك السنوات.

لقد سبقني الراحل على دروب الوجع والإصرار بسنوات. وسرعان ما صار اسمه وسمًا جديدًا على قافلة من حداة سبقوه واختاروا الوقوف على الريح ورسموا معالم نهج جديد لمهنة المحاماة، من شروطه استعداد المحامي للانخراط في الدفاع عن الذين يقاومون الاحتلال واشتباكه اليومي في ظروف صعبة وشروط قاسية ومتحدية.

تعرفت الى الراحل عن قرب بعدما أصبحت محاميًا مزاولا. كنا نلتقي في "محطات القلق" ذاتها ونتقاسم كزميلين جرعات الألم والأمل ونشترك في تبديد المرارة والغضب أمام السجانين والقضاة في سجون ومحاكم أقامها المحتلون كي تغتصب العدالة، وتزور التاريخ وتشوه الرواية وتسوّقها "لمجتمع دولي" هو من خطط وتآمر، أصلاً، على فلسطين وشعبها.

أكتب عن رحيل وليد الفاهوم ويساورني قلق بأن أجيال هذا الزمن تجهل ليس فقط تفاصيل سيرة هذا الانسان الكبير وحسب، بل أخشى أنهم لا يعرفون شيئا عن تاريخ كفاح الفلسطينين خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ولا عن دور ثلة قليلة من المحامين الذين أصبحوا جزءًا من المشهد وجنودا في الخندق ذاته. لقد عاشت فلسطين في تلك السنوات حالة "احتقان ثوري" متنام. ورغم نكسة حزيران 1967 لم يستسلم أهلها للهزيمة بل بدأ الباقون منهم على أرض الوطن باستعادة الروح وبالاستعداد لمواجهة الاحتلال والوضع الجديد. كانت الأسئلة الكبيرة تتفجر وتعيد "القضية" إلى مسارها الطبيعي وباشرت قيادات "حركة وطنية" محلية بلملة الهم والجراح وتوحيد الكلمة وترميم الهوية واستعادة الثقة والعزم على مواجهة الاحتلال وكنسه. لقد تعرفنا إلى معظم تلك القيادات وعملنا معهم. كانوا يمسكون "بخيط أريادني"، الذي علمتنا عنه الأسطورة القديمة، ويمدونه كي يصمدوا وهم يقاومون الوحش وليعودوا من معاركهم سالمين. كانت فلسطين التي عشنا في أحضانها تشكل لغتها الخاصة في قواميس المقاومة والصمود، وتجترح وسائل النضال بحكمة وإصرار وتضحيات كبيرة.

في تلك الحقبة كان اختيار المحامي الدفاع عن الفلسطينيين إعلانًا عن موقفه المنحاز إلى جانب الضحية، واستعداده لمواجهة الجلّاد. لم يستوعب الاسرائيليون وقوف محامية يهودية ضدهم ودفاعها عن الفلسطينيين فحاربوها بشراسة وحاولوا اذلالها، لكنها لم تستلم واستمرت فأرست مع حنا نقاره ومعهما علي رافع ومحمد ميعاري ووليد الفاهوم ومن لحقوهم على هذا الطريق معنى جديدًا للمحامي المشتبك وصورة إنسانية بهية للنسيج الإنساني الأكمل والانتماء الوطني الشامل.

لقد اختار وليد الفاهوم أن يلتحق برعيل الأوائل ومضى يحقق حلمه بشجاعة والتزام، مدركًا، مثل جميع من اختاروا هذه الدرب، بأن الانتصار في محاكم الاحتلال مثل الهزيمة أمامها، لا يقاسان بخواتيم تلك المحاكمات، فهذه الخواتيم كانت محسومة قبل أن تبدأ الإجراءات القضائية.

كان وليد الفاهوم شاهدا أمينًا على الجريمة فروى تفاصيلها كي تحفظ في ذاكرة التاريخ وتوخز ضمير العالم الفاسد؛ وهو، بقيامه بهذه المهمة واستمراره بخدمة القضية يعد، وفق أحكام الفضيلة، منتصرًا، ويبقى الظالم ومنفذ الجريمة، وفق أحكام الشر والرذيلة، مهزوزًا ومهزومًا. فكل زيارة لأسيرة أو لأسير قام بها وليد الفاهوم كانت عبارة عن انتصار صغير على عتمة الزنازين، ورشة ندى على شفاه أضناها العطش ويبسها اليأس. وكل بسمة زرعها في قلب أم أو زوجة أو أسيرة كانت عبارة عن نثار فرح سماوي لا تضاهيه قهقهة الدكتاتور ولا عربدة السجان أو خنجر القاتل.

لقد أعادني رحيل وليد الفاهوم إلى فضاءات من الحنين ومن الحسرة والأسى. لا أقصد حنينًا رومانسيا كذاك الذي يعيده الموت إلينا أحيانا، ليقهرنا ولينكأ جرح الذاكرة. إنها عودة إلى عالم قاس عشناه بقناعة ورضا رغم خساراتنا "القضائية" الفادحة والمؤلمة في المحاكم وأمام جميع مؤسسات الاحتلال العسكرية والمدنية؛ وحسرة على زمن كانت فيه "البوصلة" أمامنا أوضح، وكان الانتماء بين جميع الفلسطينيين، محامين وأسرى وغيرهم، أنقى وأبسط وأقل التباسًا.

لا أكتب رثاءً في إنسان رحل وترك وراءه أثرًا لا يسعه الرثاء ولا ينصفه مهما كان "حافيا" وصريحًا. فوليد الفاهوم كان محاميًا صلبًا في وجه جلاوزة الاحتلال، ورقيقًا كالصباح مع ضحاياهم. وكان صاحب قلم ثر وحاضر دومًا، فكتب مشاهداته عن فلسطين الراقية والمتوجعة، والصامدة والملتبسة، ليس من باب الترف ولا من موقع المراقب المحايد، بل كي يحاصر اعوجاج القانون ويفضح تعسفه. لقد وثق وليد الفاهوم فصولا من ملحمة شعب لم ييأس، وكتب، أدبا وفي السياسة، بحكمة أديب مرهف الحس والحدس وبقلق المحام الحذق. لقد صاغ تجربته الشخصية بكلمات من عرق وحوّلها الى وثائق دامغة ودقيقة فغدت لوائح اتهام خطيرة بحق الاحتلال وملفات فاضحة لدور المحاكم العسكرية وتواطئها في ترسيخ الاحتلال وتبييض جرائمه. لقد حرص أن يترك للتاريخ أسماء أبطاله وفصولا من ملاحمهم الفردية التي ستبقى أقوى من النسيان. لقد حكى عنهم كبشر لهم وجوه وأحزان وشرفات عمّروها أحلامًا على "وسع المدى" وزرعوها بالورد وبالأمل.

لم يفصل وليد الفاهوم مفهومه للالتزام الانساني المتين كمحام يدافع عن الأسرى الفلسطينيين عن دوره داخل مجتمعه الأصغر في الناصرة وضمن نضالات المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل، فكان ناشطًا فعّالًا في عدة أطر أهلية وجمعيات مدنية، وأهمها كانت بلدية الناصرة التي انضم اليها الى جانب رفيقه وصديقه الراحل الكبير رئيس بلديتها توفيق زياد.

لا أكتب اليوم مرثية شخصية؛ بل باسم الوفاء لمن سبقوني على درب كان صعبًا وطويلا وعلّموني ما الفرق بين "النرجس وعباد الشمس" ، ودلّونا كيف نجني من شوك الصبار رحيقًا كي نقدمه لمن يستحقون الشهد قبل الشهقة والبكاء. أكتب لأن من حق الراحل علي وعلى من عرفوه أن نذكّر أجيال اليوم، وهي تغرق بالتفاهة، حاكمة هذا العصر، وتعميها سطوة "الانستغرام" و "التيك توك" وحقنات البوتوكس، نذكرهم بفضائل جيل رحل ولم يبق منه الا النزر، ونتف من سير ستضيع في ثنايا الوجع وتحت غبار التيه.

أكتب عنه، وليس عنه وحسب، بل كي أستعيد تفاصيل حقبة كاملة من عمرنا، بما لها وما عليها وعن فلسطين التي كانت، وعن محامين، لن يتكرروا، وقد آمنوا أن المحاماة موقف وليس صنعة وحسب، وأن ممارستها وانت تقف وضميرك على ضفة التاريخ الصحيحة، رغم كل القهر الذي تسببه، هي الفضيلة والوصية المثلى.

لقد رحل وليد الفاهوم بهدوء يليق بأناقة انسان نبيل، وبأديب صهر العدل الذي لم يجده على الأرض، كلامًا واستعارات وقصصا ستبقى فيما تركه من مقالات وكتب ومرافعات. رحل بهدوء الحكيم الذي يعرف كيف يكون الصمت انتصارا في زمن صارت فيه الهزائم قدرا؛ وتركنا نفتش كيف نشفى من آفات كل دين سياسي، ونناجي "طيور نيفي تيرتسا" ونؤمن بأنه "ولا بد للقيد أن ينكسر"، ونعد نحن، قبل الرحيل، مرافعتنا الأخيرة.

فسلام لروحك



#جواد_بولس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موت الفلسطيني في زنازين إسرائيل ليس قدرًا
- زيارة البابا للبنان، وقفة على نخوم السياسة والضمير
- فلسطين على أعتاب انتفاضة جديدة
- القائمة المشتركة بين الحلم والاختبار
- لجنة المتابعة العليا، شرعية قيد الامتحان
- قانون الاعدام الاسرائيلي تشريع صاغه الرصاص وسبقته قذائف الطا ...
- من قال إن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت!
- مروان البرغوثي، وصفقات تجريح الأمل
- من انتصر في غزة، هذا سؤال الموتى والمقهورين!
- أين حراكات الشعوب العربية من أجل غزة ؟
- ملاحظات سريعة عن حرب اسرائيلية قطرية لن تحدث
- في التاسعة والستين حرّ كالريح
- لماذا لم ينجح العالم وقف الحرب على غزة ؟
- بنيامين نتنياهو ورؤيا اسرائيل الكبرى
- السابع من اكتوبر ، البداية والنهاية !
- المحكمة العليا الاسرائيلية-ضحية- الشر الذي صنعته
- في ذكرى رحيل نقولا زياده، عودة إلى -أيامه-
- أيمن عوده قائد مشتبك ليس بحاجة الى تلميع
- إقصاء أيمن عوده من الكنيست بداية لرحلة صيد طويلة
- توفيق زياد، نناديكَ


المزيد.....




- بوتين يحذر من -عواقب وخيمة- على أوروبا إذا حولت أصول روسيا ا ...
- ترامب يتخذ خطوات لإعادة تصنيف الماريغوانا
- السودان: هجوم بطائرات مسيرة يوقع قتلى ويعطل محطة كهرباء رئيس ...
- اجتماع في باريس بحث التحقق من نزع سلاح حزب الله في لبنان -بو ...
- لبنان: لجنة -الميكانيزم- تعقد اجتماعها الأخير هذا العام وتطر ...
- الجزائر: ماذا وراء عودة مقترح قانون سحب الجنسية؟
- ترامب يؤكد عزم أميركا تركيب مفاعل نووي على القمر
- نازحو غزة يواجهون شتاء قاسيا بخيام بالية
- الاستيطان في الضفة الغربية.. التطور التاريخي
- نفذته -الصقور-.. تفاصيل إنزال جوي عراقي في سوريا


المزيد.....

- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - وليد الفاهوم ، المرافعة الأخيرة