أحمد شيخو
كاتب وباحث سياسي
(Ahmed Shekho)
الحوار المتمدن-العدد: 8557 - 2025 / 12 / 15 - 19:27
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نقترب من مرور عام على التغيير في النظام السوري، مع تسلّم الحكومة المؤقتة زمام الإدارة برئاسة أحمد الشرع. وكان من المفترض أن تكون هذه السنة بداية حقيقية لإعادة بناء الدولة بعد 14 عامًا من الحرب التي تركت آثارًا مدمرة على جميع مناحي الحياة في البلاد. إلا أن الواقع كشف سريعًا عن إشكاليات عديدة في تشكيل الحكومة نفسها، ونهجها، وعقليتها، وسياساتها، الأمر الذي جعل مسار المرحلة الانتقالية متعثرًا منذ بدايته.
تم اختيار أحمد الشرع كرئيس للحكومة وفق إرادات دولية وإقليمية، وليس عبر آليات توافقية سورية وطنية، بعيدًا عن أي عملية مشاركة حقيقية بين القوى والمكونات السورية. وجاء هذا الأسلوب في التشكيل عبر اجتماع بعض الفصائل العسكرية التي يكتنف تشكيلها وعملها علامات استفهام كبيرة، ما جعل الحكومة الانتقالية منذ البداية في موقف ضعيف ومثير للجدل، وغير قادرة على تحقيق مصداقية وطنية حقيقية. فغياب الثقة بين المكونات السورية المختلفة، والتدخلات الخارجية، والاستقطابات الإقليمية، كلها عوامل ساهمت في إضعاف المرحلة الانتقالية والحكومة المؤقتة، في اللحظة التي كان على السوريين أن يركزوا فيها على إعادة بناء مؤسسات الدولة السيادية، وإعادة الإعمار، والبنية التحتية، والخدمات الأساسية، وتحقيق المصالحة الشاملة والعدالة الانتقالية.
الأزمة الإنسانية والاقتصادية: الواقع المعيشي أولاً
على صعيد الواقع اليومي للمواطنين، لم تنجح الحكومة في معالجة الأزمة الاقتصادية والإنسانية المستمرة منذ سنوات الحرب الطويلة. أسعار المواد الأساسية تتصاعد بشكل يومي، والفقر والجوع أصبحا واقعًا يوميًا يعيشه ملايين السوريين، بينما الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصحة والتعليم لا تزال شبه معدومة في مناطق واسعة، مما يزيد من معاناة الناس ويعمق شعورهم بالإحباط تجاه الحكومة الجديدة.
السياسات الرسمية ركزت غالبًا على مظاهر الانطلاق السياسي والاجتماعات الإعلامية، دون أي تأثير حقيقي على حياة المواطنين اليومية، ما جعل السنة الانتقالية الأولى بالنسبة للكثيرين مجرد عرض سياسي بلا فائدة ملموسة. إضافة إلى ذلك، تتفاقم معاناة اللاجئين والنازحين داخليًا، حيث يعاني الكثير منهم من نقص الغذاء والخدمات الصحية، ويعيشون في مخيمات مكتظة وغير مجهزة لتلبية احتياجاتهم الأساسية.
فشل المسار السياسي والتأثيرات الخارجية
على المستوى السياسي، ظل الإعلان الدستوري أحاديًا، فيما جاء الحوار الوطني شكليًا، أُجري في مدة قصيرة جدًا، ومُنح فيه الحضور للأشخاص الموالين للسلطة، ما أعطى مؤشرات واضحة على أنه معد سلفًا، بعيدًا عن أي مشاركة حقيقية أو توافق وطني. كما أن الانتخابات التي جرت لمجلس الشعب كانت محدودة وغير شاملة، مستبعدة محافظات ومناطق واسعة، ما عزز شعور الغياب والتمييز بين مختلف مناطق ومكونات البلاد.
تبرز هنا أيضًا مسألة تماهي الحكومة مع الموقف التركي، خاصة فيما يتعلق بالشمال وشرق سوريا، الأمر الذي أضعف الثقة بين المكون الكردي والحكومة الانتقالية، وعرض القرار الوطني لضغوط خارجية كبيرة. فالوصاية التركية تمثل ضغطًا دائمًا على الحكومة، وتسعى لإعادة تشكيل سوريا وفق أولوياتها الخاصة، بعيدًا عن المصلحة الوطنية العليا، ما يضع الحكومة في موقف ضعف ويقوض قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة.
إضافة إلى ذلك، لا تزال هناك تقارير عن وجود مقاتلين أجانب ضمن مؤسسات الدولة السياسية، وهو واقع يثير قلق الدول العربية والمجتمع الدولي، ويزيد من هشاشة القرار الوطني ويقلل من مصداقية الحكومة أمام مواطنيها. هذه التداخلات الخارجية والضغوط الإقليمية تجعل من الصعب على الحكومة الانتقالية اتخاذ سياسات تعكس مصالح السوريين بشكل صادق، وتزيد من تعقيد أي جهود لإعادة بناء الثقة الوطنية.
فشل الحكومة الانتقالية في محاربة الإرهاب
على صعيد الأمن ومكافحة الإرهاب، لم تساهم الحكومة الانتقالية بشكل فعلي في مواجهة تنظيم داعش كما فعلت وتفعل قوات سوريا الديمقراطية في شمال وشرق البلاد، والتي لعبت دورًا حاسمًا في تحرير المناطق واستعادة الأمن والاستقرار فيها. فقد بقيت جهود الحكومة في هذا المجال محدودة وغير مجدية، وذلك بسبب بنيتها الإشكالية منذ التشكيل، ووجود عناصر وتنظيمات داخل مؤسساتها قريبة من داعش أو امتلاكها علاقات غير واضحة مع التنظيمات المتطرفة.
هذا الواقع الأمني يزيد من هشاشة الدولة ويضعف قدرتها على فرض القانون وحماية المدنيين، ويجعل أي جهود لإعادة الاستقرار وإعادة الإعمار عرضة للفشل. كما أنه ينعكس سلبًا على مصداقية الحكومة داخليًا وخارجيًا، ويثير شكوك المجتمع الدولي بشأن قدرتها على إدارة مرحلة انتقالية آمنة وشاملة.
عرقلة اتفاق 10 آذار/مارس
كان اتفاق 10 آذار بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي من أهم الاتفاقات التي كان من شأنها تعزيز الاستقرار والمصالحة الوطنية وبناء سوريا الجديدة، عبر تعزيز الشراكة واحترام الإرادة الوطنية السورية. هذا الاتفاق شكل فرصة تاريخية لتقليل التوترات بين المكونات السورية المختلفة، وتحقيق شكل من أشكال التوافق الوطني الذي ينقذ البلاد من المزيد من الانقسامات.
إلا أن الحكومة الانتقالية عرقلته بعقلية أحادية، مستجيبة لتوجيهات تركيا المعروفة بعدائها للكرد ولمشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية، ما أدى إلى تقويض فرص التوافق الوطني وزيادة حالة عدم الثقة بين المكونات السورية. بهذا الشكل، لم يُستفد من الاتفاق كأداة لبناء الثقة والتفاهم بين المكونات المختلفة، بل أصبح مجرّد ورقة سياسية لم تُترجم إلى سياسات عملية على الأرض، رغم حرص قوات سوريا الديمقراطية على تنفيذها.
الأحداث الكبرى وخطاب الفتنة
شهدت بعض المناطق في سوريا، مثل الساحل والسويداء، أحداثًا دامية كشفت عن فشل الحكومة في التعامل مع الأزمات الأمنية والاجتماعية. لجان التحقيق التي تم تشكيلها لمعالجة هذه الأزمات بقيت شكلية ولم تُحاسب أي جهة مسؤولة عن سقوط الضحايا، مما يعكس غياب الإرادة الحقيقية للتصدي للفساد وتعزيز العدالة.
في الوقت نفسه، تصاعد خطاب الكراهية والفتنة بين مكونات الشعب السوري من جهات قريبة من الحكومة، وهو خطاب يهدد بزعزعة السلم الاجتماعي ويحول دون تحقيق أي مصالحة وطنية حقيقية بعد سنوات طويلة من الحرب. هذا الخطاب ساهم في زيادة الانقسامات بين المكونات السورية، وأضعف أي مسعى لبناء دولة تضم الجميع على أساس العدالة والمساواة، وخلق بيئة غير مناسبة لإطلاق أي عملية سياسية ناجحة ومستدامة.
المؤسسات الحكومية: ضعف الإدارة والمساءلة
تواجه الحكومة الانتقالية أيضًا أزمة حقيقية في إدارة مؤسسات الدولة. ضعف التخطيط الاستراتيجي، والافتقار إلى الخبرة الإدارية، وعدم محاسبة المسؤولين على إخفاقاتهم، طرد موظفين لأنهم من مكون ولون معين، كلها عوامل تزيد من هشاشة الدولة وتؤخر جهود إعادة الإعمار وإعادة الخدمات الأساسية. المؤسسات الحكومية تبدو غير قادرة على التعامل مع التحديات المعقدة، مما يخلق شعورًا واسعًا بعدم الكفاءة وفقدان الثقة بين المواطنين.
كما أن وجود عناصر مسلحة أجنبية وكذلك ما يسمى "الشيخ" داخل مؤسسات الدولة السياسية والأمنية والإدارية يهدد سيادة الدولة ويقوض أي جهود لإنشاء مؤسسات قوية ومستقلة. هذا الواقع يعكس التحدي الكبير أمام الحكومة الانتقالية، والذي يتطلب مراجعة شاملة لمؤسسات الدولة، وتطبيق آليات رقابة ومساءلة شفافة لتعزيز الأداء وتحقيق مصداقية وطنية.
الحاجة إلى حوار وطني شامل
الوضع الحالي يفرض على الحكومة ضرورة فتح حوار وطني شامل بين جميع المكونات السورية، بما في ذلك المكونات الأثنية والدينية وغيرهم. هذا الحوار يجب أن يكون قائمًا على أساس العدالة والمساواة، وأن يتناول القضايا الجوهرية مثل شكل وهوية الدولة الجديدة والحقوق المدنية والسياسية، وتوزيع السلطة، وإعادة الإعمار، وضمان الأمن والاستقرار لكل المواطنين.
بدون هذا الحوار الشامل، سيظل مسار المرحلة الانتقالية متعثرًا، ولن يكون هناك إمكانية لإعادة بناء الدولة على أسس سليمة ومستدامة. فالسياق السياسي الحالي يظهر أن الحلول الجزئية أو التوافقات المحدودة لن تكون كافية لتحقيق المصالحة الوطنية المطلوبة.
خاتمة: سوريا لكل مكوناتها وأبنائها
بعد عام كامل، يظهر أن المرحلة الانتقالية في سوريا تواجه تحديات هائلة، تشمل أزمة اقتصادية وإنسانية مستمرة، ضعف الشراكة الوطنية ومصداقية الحكومة، تصاعد خطاب الكراهية والفتنة، وجود عناصر مقاتلة أجنبية داخل مؤسسات الدولة، فشل الحكومة في الالتزام بالاتفاقات الإنسانية والسياسية، تأثير الوصاية التركية، فشل الحكومة في مواجهة داعش، وتشكيل الحكومة وفق إرادات خارجية بدل التوافق الوطني الداخلي.
الطريق نحو دولة مستقرة وعادلة طويل وشاق، ولا يمكن تجاوزه إلا عبر تركيز حقيقي على الواقع المعيشي والإنساني للمواطنين، وحوار وطني شامل بين كل المكونات السورية، ومراجعة شاملة لمؤسسات الدولة مع محاسبة شفافة لكل المسؤولين. عندها فقط يمكن أن تكون سوريا فعلاً لكل مكوناتها وأبنائها، بعيدًا عن أي وصاية خارجية أو سياسات أحادية، وأن تتحقق آمال المواطنين في حياة كريمة ومستقبل أفضل بعد سنوات من المعاناة والصراع.
المرحلة الانتقالية في سوريا ليست مجرد فترة انتقالية سياسية، بل هي اختبار حقيقي لقدرة الشعب السوري على تجاوز الانقسامات، واستعادة الدولة، وتنقيذ اتفاق 10 مارس، وإعادة بناء المؤسسات، وضمان حقوق جميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الطائفية. إذا فشل هذا المسار، فإن المخاطر على استقرار البلاد ستظل قائمة، وستظل سوريا تواجه أزمات متراكمة لا تنتهي. أما إذا تم التعامل مع التحديات بجدية وشفافية واهتمام بالواقع المعيشي للمواطنين، فهناك فرصة حقيقية لبناء دولة حديثة تضمن العدالة والكرامة لكل مواطنيها.
#أحمد_شيخو (هاشتاغ)
Ahmed_Shekho#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟