أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - منذر خدام - علم العلم-الفصل السادس- المناهج الكلية















المزيد.....



علم العلم-الفصل السادس- المناهج الكلية


منذر خدام

الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 04:50
المحور: قضايا ثقافية
    


1- تعريف المنهج.
المنهج في اللغة هو الطريق والمنهاج الطريق الواضح. يقال نهجت طريق فلان أي اتبعت طريقه ونهجت الطريق سلكته [101].
وفي الاصطلاح فإن المنهج (Method) هو طريقة في التفكير وثيقة الصلة بالموضوع الذي يجري التفكير به، يتغير بتغيره.
ينحدر مفهوم المنهج من أصل لغوي إغريقي يعني الطريقة التي ينتهجها الفرد حتى يصل إلى هدف معين.
أما علم المنهج (Methodology) فهو العلم الذي يدرس المناهج البحثية المستخدمة في كل فرع من فروع العلوم المختلفة لهذا فهو يعد أحد فروع الأبستمولوجيا. يعرف علم المنهج بأنه: تحليل المبادئ والطرق والقواعد المطبقة من قبل تخصص معين في البحث والتحري عن النظريات أو الإجراءات العملية. [102]
في ضوء التعريف السابق يمكن لعلم المنهج أن يتضمن:
أ-دراسة مجموعة نظريات ومصطلحات أو أفكار.
ب--تطور المنهجية المطبقة في تخصص ما.
ت-دراسة مقارنة للطرق المختلفة والمقاربات البحثية.
ث- نقد للطرق المستخدمة والمناهج.
إن مفهوم "المنهج" أوسع بكثير مما ذكر أعلاه حتى إن علماء هذا العلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
101-لسان العرب لابن منظور، المجلد السادس، مادة نهج، ص 264
102- الموسوعة الحرة- ويكيبيديا www.ar.wikipedia.org تاريخ الدخول إلى المسار 22/7/2009
لم يتفقوا على تعريف معين له. يرى هنسون: إن مصطلح "منهج" أتى أصلا من كلمة لاتينية تعني ميدان أو حلبة سباق. لكن عندما تستخدم هذه الكلمة في التربية فإنها تأخذ معنى ودلالة مختلفين.
ويعرف تابا "المنهج" بأنه خطة للتعلم. ويستأنف مفسراً بقوله: يحتوي المنهج، في العادة، على قائمة بالأهداف العامة والخاصة له، كما أنه يحتوي على كلام عن كيفية اختيار وتنظيم المحتوى الذي فيه.
بينما يرى فوشي إن مصطلح "منهج" يدل على وثيقة رسمية تشرح أو تفصل برنامج المادة الدراسية.
ويرى فريق من التربويين في مصطلح "المنهج ما يدل على التجارب أو الخبرات المخططة أو المعدة للمدرسة.
في ضوء ما تقدم ينبغي التمييز بين المنهج في البحث العلمي، والمنهج التعليمي. في الحالة الأولى ينطبق عليه التعريف الاصطلاحي الذي تم ذكره. أما في الحالة الثانية فهو يشير إلى الخطة التعليمية ومفرداتها في مقرر من المقررات المعتمدة.
2- أنواع المناهج.
ثمة طرق عديدة لتصنيف المناهج، بحسب المؤشرات المعتمدة. في هذا المجال سوف يتم اعتماد التصنيف الذي أورده عبد الهادي الفضلي [103]
يقسم الدكتور الفضلي المناهج إلى قسمين رئيسيين: قسم يسميه بالمناهج التلقائية، وقسم أخر يسميه بالمناهج التأملية. المناهج التلقائية هي طريقة تفكير الناس العاديين في أثناء مزاولتهم لأعمالهم الاعتيادية، فهم يصلون دائما إلى حقائق معينة بدون أن يخططوا لذلك. يقول بورت رويال " إن عقلاً سليماً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
103-عبد الهادي الفضلي، أقسام المنهج، www.balagh.com تاريخ الدخول 21/2/2008
يستطيع أن يصل إلى الحقيقة، في نطاق البحث الذي يقوم به بدون أن يعرف قواعد الاستدلال"[104]
أما المناهج التأملية فقد سميت بهذا الاسم لأنها جاءت نتيجة التأمل الفكري الذي أدى إلى وضع قواعد وأصول البحث العلمي. تقسم المناهج التأملية إلى قسمين: مناهج عامة، ومناهج خاصة، وتسمى المناهج الخاصة أيضاً بالمناهج الفنية.
تتضمن المناهج العامة جملة من القواعد التي يستعين بها البحث العلمي في أي مجال من مجالاته وهي تنقسم إلى المناهج الأتية:
أ-المنهج النقلي ويستخدم في دراسة النصوص المنقولة وتوثيقها، وهو يتطلب:
- توثيق النص بنسبته إلى قائله.
- التحقق من سلامة النص.
- فهم مدلول النص.
ب-المنهج العقلي ويستخدم في دراسة المفاهيم والمبادئ العقلية اعتماداً على قواعد علم المنطق من حيث الالتزام بالحدود في التعريف والقياس والاستقراء والتمثيل في الاستدلال. أما خطوات البحث فتنطلق من المعلوم إلى المجهول، الأمر الذي يتطلب إجراء عملية فكرية عقلية في المعلومات الحاضرة من أجل الوصول إلى الهدف الذي هو العلم بالمجهول. تمر عملية التفكير في المنهج العقلي في أربعة مراحل هي الأتية:
أ- مواجهة المشكل وهو المجهول وتحديد نوعه.
ب- حركة العقل من المشكل إلى المعلومات المخزنة لديه.
ت- بحث العقل في المعلومات المخزونة لديه لإيجاد ما يناسب المشكل.
ث- حركة العقل، من التوليفات التي وجدها، إلى ما هو مطلوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
104- عبد الهادي الفضلي، مرجع سبق ذكره، ص 1
لقد ترجم هذا المنهج من اليونانية إلى السريانية ومنها إلى العربية. وهو في الوقت الراهن كثير الاستخدام في علوم اللغة وفي الدراسات الإسلامية.
ت- المنهج التجريبي. وهو من أكثر المناهج استخداما في العلوم الطبيعية والإنسانية وسوف يتم تفصيل القول فيه لاحقاً.
ث- المنهج الوجداني، ويستخدم في مجال التصوف حيث تسود الأفكار العرفانية.
من جهتها المناهج الفنية فهي كثيرة جدا، وهي تختلف بحسب العلوم والمجالات البحثية التي تستخدم فيها. في الفصول القادمة سوف يتم التعريف بأهم هذه المناهج.
3- القياس العلمي.
إن اكتشاف القوانين التي تحكم الأشياء والظواهر ليس هو الغاية الوحيدة للعلم بل من غاياته أيضاً القياس العلمي، أي الاستدلال والبرهنة على الأشياء والظواهر المفردة من خلال القانون.
من الملاحظة إلى القانون طريق يشغلها الاستقراء، ومن القانون إلى الملاحظة طريق يشغلها القياس. في الاتجاه الأول للطريق يكون الهدف هو اكتشاف القانون، أما في الاتجاه الثاني فإن الهدف هو التطبيق. وفي مجمل الأحوال لا يكون العلم علماً ناجزاً بدون القياس.
لقد جاء في لسان العرب تحت مادة "قوس": " وقست الشيء بغيره، وعلى غيره. أقيس، قيساً، وقياساً، فانقاس إذا قدرته على مثاله. وفيه لغة أخرى: قسته، أقوسه، قوساً، وقياساً، والمقدار مقياس. يقول ابن سيده: قست الشيء، قسته، على خلاف أهل المدينة، الذين يقولون إن هذا غير جائز في القياس. وقايست بين الأمرين، مقايسة، وقياساً. ويقال يقتاس الشيء بغيره، أي يقيسه به. ويقتاس بأبيه اقتياساً، أي يسلك سبيله، ويقتدي بها.[105]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
105- ابن منظور " لسان العرب "(دار صادر، بيروت، 1997) مادة "قوس"، ص341

بحسب لسان العرب لا يستخدم القياس إلا بين شيئين أو ظاهرتين تجمعهما خصائص مشتركة يستدل على إحداها بالثانية.
أما في الاصطلاح فتبدو المشكلة أكثر تعقيداً نظراً لتعدد مجالات استخدام القياس، ولكونه ينتسب إلى المنطق. فإذا كان المنطق هو إقرار " نوع من الحجة يولد اليقين في النفس"، فإن الطريق إلى ذلك هو القياس. والأصل فيه "بديهي وهو حكم الشيء حكم أشباهه" [106].
هذا ما كان من أمر القياس، قبل ترجمة المسند الأرسطي، لكن بعد ذلك تبين أن اليونانيين يميزون بين أنواع عديدة من القياس، فهي حسب زعمهم:" قياسات برهانية، وجدلية، وتقريرية، وخطابية، وشعرية"[107]. ويعود الفضل لأبن رشد في تأصيله للقياس البرهاني في الثقافة العربية الإسلامية، إذ صار من بديهيات الثقافة الإسلامية من بعده. يستخدم الحكماء القياس "البرهاني"، في حين يستخدم المتكلمون "القياس التمثيلي أو الاستقرائي"، أما الأدباء والخطباء فإنهم يستخدمون القياس "المجازي".
يميز المناطقة تمييزا واضحاً بين البرهان والقياس. البرهان حسب ابن حزم يؤدي بالضرورة إلى اليقين الذي عنده يتخلى العقل عن شكه وتردده. أما القياس فإنه لا يولد اليقين بالضرورة، بل الظن، مع أنه قد يفرغ في قالب برهاني أحيانا. لقد حاول ابن حزم، معتمداً على نظرية البرهان دحض فكرة القياس بكل أشكاله وأنواعه.
من جهته ميز ابن سينا بوضوح بين ما يسمى برهان الـ "لِمَ " وبرهان الـ " إن". البرهان "اللمي" حسب رأيه، ينطبق على الموجودات الملموسة، وله أساس علة في الخارج تقنع العقل ويقبل الجواب على السؤال: (لِمَ).
ـــــــــــــــــــــــــــ
106- عبد الله العروي" القياس"، تاريخ الدخول إلى المسار 28/11/2009.، ص1
107- المرجع السابق، ص 1
أما البرهان " الإني" فإنه يقع في النفس وينطبق على التصورات ويقبل التقرير (إن)[108].
ويشارك ابن تيمية ابن حزم، في موقفه، من البرهان، والقياس، وإن كان أقل منه تطرفاً. يقول ابن تيمية: " لا علم يقيني إلا بالحس الباطن والظاهر والقياس التمثيلي"، ويرى إن البرهان، لا يقع إلا في الجزئيات دون الكليات ويميز بين القياسات البرهانية وغيرها من القياسات. فالقياسات البرهانية تقع في الجزئيات وهي إما محسوسة فتدرك مباشرة بحس الظاهر وإما معقولات فتدرك بحس الباطن [109].
إن اشتغال علماء العرب والمسلمين القدماء على القياس ومحاولتهم تمييز البرهان عنه، قد أوقعهم في تناقضات عديدة بسبب خوفهم من توليد أسئلة تقحم العقل في ميدان الربوبية، لهذا فهم يحصرون البرهان في الجزئيات وهذه من وجهة نظرهم، تفيد الإنسان في حياته، أما الكليات فلا نفع منها في الدنيا، وقد تولد الإثم في الآخرة.
في الوقت الراهن، ورغم الجدل الجاري بشأن القياس الذي يخرجه أحياناً من مكونات العلم البنيوية والاكتفاء به وسيلة للاستنتاج والتطبيق فإن الرأي السائد بين العلماء يفيد بأن القياس هو ركن من أركان العلم لا يقوم بنيانه بدونه، فتتحدد وظيفته الأساسية في الانتقال من عالم الكليات إلى عالم الجزئيات من القانون إلى الأشياء والظواهر المفردة المنفصلة. وهو يستهدف مجال التطبيق بصورة رئيسية، لكنه يستهدف أيضا مجال المعرفة بصورة ثانوية.
4- المنهج المادي الجدلي والتاريخي.
يعود الفضل إلى الفيلسوف الألماني هيغل في التنظير لأهمية الجدل
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
108- المرجع السابق، ص3
109-المرجع السابق ،ص3

في الحياة الفكرية عموما وفي اكتشاف المعارف الجديدة خصوصاً. غير إن هيغل طبق منهجه في الجدل على عالم الأفكار فقط. فحسب رأيه تبدأ العملية الفكرية بأطروحة تيز(Tes) تستدعي مباشرة أطروحة مضادة أنتي تيز(Antites) ومن جراء عملية الجدل بينهما يتكون منهما تركيب جديد سينتيز(Syntes) الذي يتحول بدوره إلى أطروحة تستدعي أطروحة مضادة ومن ثم تركيب جديد وهكذا دواليك.
لقد انتقد ماركس الجدل الهيغلي وعده واقفا على رأسه فأعاد له حقيقته بأن نقله من عالم الأفكار إلى عالم الوجود المادي، وهو بذلك قد أوقفه على رجليه على حد زعمه، وهذا ما سوف نتبينه من المباحث الآتية:
4-1 تعريف المنهج المادي الجدلي، والتاريخي.
المنهج المادي الجدلي هو منهج في التفكير الفلسفي أساسا لكنه يستخدم أيضاً في مجال العلوم الأخرى لتحديد الإطار العام للتفكير وكيفية التوجه إلى الموضوع المبحوث، والوضعية العامة للبحث. لكن قبل القيام بتفصيل القول في المنهج المادي الجدلي والتاريخي، ينبغي تسجيل الملاحظات المبدئية الآتية:
أ- إذا كان تحصيل المعرفة يتطلب الاستخدام الصحيح لمنهج معين فإن استخدام المنهج بصورة صحيحة في البحث العلمي لا يعني بالضرورة إنتاج معرفة علمية صحيحة. لأن إنتاج المعرفة الصحيحة يشترط نوعاً من الشروط البحثية الذاتية والموضوعية.
تقرير هذه الواقعة المبدئية ينطبق على جميع مناهج البحث العلمي، ولهذا فهي تنطبق على المناهج الكلية، وخصوصا، على المنهج المادي الجدلي التاريخي.
ب- من جهة أخرى فإن المنهج والنظرية مترابطان. يستخدم المنهج عادة، المفاهيم والمقولات الأساسية للنظرية وبعض معطياتها المعرفية كأدوات لمتابعة البحث والاستكشاف. بدورها المكتشفات المعرفية الجديدة تضاف إلى النظرية فتغنيها وتوسع من نطاق شموليتها.
تتميز طريقة ماركس وإنجليز في التفكير، أي الطريقة المادية الجدلية والتاريخية بسمات جوهرية ثلاثة هي:
أولاً، إنها مادية وهذا يعني الإقرار بوجود الأشياء والظواهر موضوعيا بغض النظر عن إرادة الإنسان ووعيه بها.
وثانيا، إنها جدلية بمعنى أنها تنظر إلى الأشياء والظواهر على أنها ظواهر متناقضة وفي تغير مستمر وتخضع لنوع من الترابطات الشمولية يؤثر بعضها في البعض الأخر ويتأثر.
وثالثا، إنها تاريخية وهذا يعني، من جهة، إن الوجود الموضوعي للأشياء والظواهر هو وجود تاريخي متغير في الزمن. ومن جهة ثانية، تتميز المعرفة المتحصلة عن الأشياء والظواهر بطابعها التاريخي.
4-1-1 مناقشة المنطلق المنهجي الأول
إن القول بالوجود الموضوعي للأشياء والظواهر أي ماديتها لا يحمل بذاته أية حمولة معرفية، هو في الحقيقة منطلق منهجي ليس إلا. فهو يحدد موقف الباحث من موضوع بحثه. بهذا المعنى يمكن النظر إلى أية ظاهرة في الوجود الاجتماعي سواء في الفكر أم في وجود الأشياء على أنها ظاهرة مادية. أما إذا حمل هذا القول معرفة ما فإنه يقود إلى الضلال، لأن نطاق الظواهر والأشياء التي يتوقف وجودها على الإنسان يتوسع باستمرار. لقد سمحت الثورة العلمية والتقنية المعاصرة للإنسان بالتوغل أكثر فأكثر في الوجود الاجتماعي، وفي الوجود الطبيعي مكتشفا انتظامه القانوني الداخلي ومعيدا خلقه بطريقة هادفة وفق تصورات ورغبات جديدة. وإن نطاق الخلق الإرادي للإنسان في المجتمع والطبيعة يتوسع باستمرار.
من حيث المبدأ لا يوجد شيء في الوجود الاجتماعي إلا بإرادة الإنسان ووعيه. لقد ذكر سابقا أن العلاقات الاجتماعية تتكون من خلال مرورها أولاً عبر الفكر، الذي يصغها كهدف أو كمشروع. بمعنى إن وجودها الموضوعي لا يكون إلا بدلالة الفكر الذي يشترطها بداية وعند التحقق. لنأخذ مثلاً العلاقة الجمالية التي تشكل قضية خلافية في الأدب الفلسفي ومنه الأدب الماركسي. من وجهة نظرنا، إن مواضيع الجمال في الطبيعة أو في المجتمع هي محايدة جماليا، بمعنى إنها ليست جميلة بذاتها بل هي جميلة بدلالة الإنسان. فالجمال موجود بوجود الإنسان كمتلقي جمالي. ونظراً لأن وجود الإنسان هو وجود تاريخي يشترطه دائماً زمان ومكان محددين، فان وجود الجمال هو وجود تاريخي أيضا. ينطبق هذا المبدأ، على جميع الطوباويات الميتافيزيقية، (الأديان مثلا)، مع إن بعض موضوعات الجمال، أو الطوباويات الميتافيزيقية، تبدو بلا حدود زمنية، فهي عابرة للزمن.
معلوم ما قاله ماركس بأن العامل على خلاف النحلة والعنكبوت ينتج بناء موضوعاته في ذهنه أولاً. هذا يعني إن الوجود الواقعي لهذه الموضوعات يتوقف؛ من جهة، على صورتها في ذهن الإنسان، ومن جهة ثانية، على إرادته. وبناء عليه يقود القبول الحرفي للمنطلق المنهجي الأول إلى اعتبار موضوعات عمل الإنسان الفيزيائية غير مادية.
لا شك بأن الأشياء والظواهر التي يخلقها الإنسان بوعيه وإرادته موجودة في الطبيعة، أو في المجتمع على شكل(مبادئ، عناصر، مكونات). لكن هذا لا ينفي كونها، في شكلها الجديد الملموس، موجودات جديدة، في عالم المادة المميز(العيني)، فالخلق عملية مستمرة تتجاوز حدود الخلق الأول.
4-1-2- مناقشة المنطلق المنهجي الثاني.
يفترض المنطلق المنهجي الثاني إن الأشياء والظواهر توجد متناقضة، تتغير باستمرار في إطار من الترابطات الشمولية. حقاً إن كل شيء في الوجود يبدو متناقضا، أي إنه يتكون من بنية مركبة مختلفة داخلياً تقوم بين مكوناتها روابط تعاكسيه. هذا ما تدل عليه المشاهدات التجريبية، وتقبل به البرهنة المنطقية. فالقول بأن (أ) هو(أ) وغير (أ) في الوقت ذاته، يعني بالضرورة أن طرفي هذه العلاقة مختلفان، بسبب اختلاف عمليات التعاكس بينهما، واختلاف وضعيات الترابطات الشمولية.
وبالتدقيق أكثر في التناقض الذي تبديه ظواهر الواقع وأشياؤه المميزة يمكن عندئذ قراءة " التناقض " فيها بطريقة تختلف عن قراءة الماركسية المدرسية له.
في المثاقفة الدارجة تستخدم إلى جانب مفهوم " التناقض" جملة من المفاهيم الأخرى، مثل مفهوم " الاختلاف"، ومفهوم " التمايز"، ومفهوم " التضاد، وغيرها. ويضاف إليها تدقيقات تحددها وتنوعها، كأن يقال تناقض جوهري، وتناقض ثانوي، أو تضاد عدائي، وتضاد غير عدائي. يبدو أن ثمة عائلة من المفاهيم التي تقرأ مستويات مختلفة من التمايز الداخلي للأشياء والظواهر.
لكن لماذا يوجد التناقض؟ الجواب الماركسي المدرسي يكون عادة: أن التناقض من الخصائص الجوهرية للمادة، وهو في الأشياء والظواهر المميزة السبب في تغيرها الدائم.
لقد ظل هذا المفهوم بحكم بداهته الظاهرية خارج دائرة المراجعة، ينتمي إلى دائرة اللامفكر فيه ماركسيا. مع ذلك ثمة فسحة لإعادة مراجعة هذا المفهوم، وقراءته بصورة مختلفة عن القراءة المستقرة له في الماركسية المدرسية. لكن ذلك يتطلب الاستعانة بمفهوم أخر هو مفهوم " اللاتوازن". فاللاتوازن هو من السمات الجوهرية للمادة سواء في وجودها العام أو في وجودها المميز. وعليه تكون المادة بصورة عامة، أو المادة المميزة غير متوازنة داخليا، وهذا هو السبب الحقيقي لتغيرها المستمر. أما مفهوم " التناقض " وجميع المفاهيم الأخرى ثنائية الدلالة المعبرة عن التمايز الداخلي للمادة فهي تعبر عن الشكل الذي تظهر به وضعية " اللاتوازن " العامة. بهذا المعنى تكون وضعية " التوازن " حالة خاصة من وضعية " اللاتوازن" العامة، كما إن "السكون "حالة خاصة نسبية من وضعية "الحركة ".
إن مفهوم " اللاتوازن" يساعد في تفسير مبدأ الحركة والتغير في المادة. فالمادة غير متوازنة داخلياً لأن حصيلة قوى الاختلاف المحددة لعلاقات وروابط، وجودها غير متعادلة. أما مفهوم " التوازن" النسبي فانه يفيد في تفسير وجود المادة المميزة في أشياء وظواهر فيزيائية.
في الحقل الاجتماعي تظهر وضعية اللاتوازن العامة من خلال العلاقات الاجتماعية المتناقضة لكنها المتكاملة وظيفيا بما ينجم عن ذلك من تفاعل صراعي يحاول كل طرف فيه أن ينفي الطرف الأخر، وإذا تثنى له ذلك، فإنه ينفي ذاته بالضرورة لتولد على قاعدة النفي المزدوج هذه علاقات اجتماعية متناقضة جديدة.
في ضوء ذلك تصبح المقولة المادية التي تفيد بإمكانية خلق نظام اجتماعي متوازن داخليا يتطور بصورة منتظمة على أساس اللاتوازن الخارجي بينه وبين الطبيعة مقولة مبتذلة وبلا معنى. فلا يمكن إلغاء التناقضات الداخلية في المجتمع بل العمل على إيجاد أفضل التوليفات بينها. بكلام أخر؛ يستطيع الإنسان في نشاطه أن يستهدف وضعية معينة لحالة" التوازن" النسبي، أي لشكل محدد للوجود الاجتماعي وهو ينشط في سبيل ذلك فعلاً، أما حالة " اللاتوازن" فهي من الخصائص الجوهرية للوجود العام، ولهذا فهي تقع خارج نطاق الحركة الغائية للمجتمع [110].
4-1-3- مناقشة المنطلق المنهجي الثالث
يبدو المنطلق المنهجي الثالث للطريقة المادية الجدلية والتاريخية في التفكير الذي يفيد بأن جميع الأشياء والظواهر والوعي بها يتسم بالتاريخية، أي يشترط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
110- المجتمع الشيوعي كما تصورته الفلسفة الماركسية المدرسية، سوف يكون بلا طبقات وبلا صراع طبقي وبلا دولة، محرك التطور فيه ينتقل من الداخل إلى الخارج، من صراع الطبقات إلى الصراع مع الطبيعة. على افتراض حصل ذلك، لأدى إلى إلغاء القانون الثاني والقانون الثالث من القوانين العامة للحراك الاجتماعي، والاحتفاظ بالقانون الأول فقط وهذا غير ممكن لا نظريا ولا عمليا.
وجودها زمان ومكان محددين هو منطلق بديهي. وبالفعل فإن كل موجود يتسم بالتاريخية ولهذا لا مجال للتساؤل حول مصداقية هذا المنطلق. التساؤل يتوجه
حقيقة نحو مدى التقيد المستقيم والصارم به في سياق الحركة العملية والبحثية العامة. وقبل الخوض في مناقشة هذا المنطلق المنهجي ينبغي التأكيد مباشرة على مسألتين منهجيتين تتفرعان منه وهما:
أ‌- إن منطق المفاهيم يحدده منطق الأشياء والظواهر وإن مصداقية المفاهيم والفكر عموما ليست في ذاتها، بل في مدى اقترابها من حقيقة الأشياء بذاتها.
ب- إن حدود معارفنا عن الأشياء والظواهر تتغير باستمرار باتجاه الاقتراب أكثر فأكثر من حقيقة الأشياء بذاتها دون أن تبلغ ذلك أبدا.
يترتب على المسألة الأولى إن الفكر الذي شكل في لحظة إنتاجه صياغة ذهنية للواقع يبدأ بعد ذلك مساراً تفارقياً مبتعدا عنه. لهذا عليه أن يعود باستمرار إلى الواقع لاكتشاف مدى التفارق الحاصل بينهما وإجراء التدقيقات والمقاربات الضرورية. وعندما يصل التفارق حدا معينا يتطلب الوضع إعادة إنتاج الفكر من جديد ليقترب أكثر من وضعية الواقع الجديد.
أما المسألة الثانية فإنها تؤسس للقول بأن معارفنا التي نصيغها في مفاهيم ومقولات وقوانين ونظريات تغتني باستمرار بمضامين جديدة مع كل توسع في حدود معارفنا. وبعد حد معين من التطور، فان العديد من أدواتنا المعرفية (مفاهيم، مقولات، نظريات، وغيرها) تنحجز في التاريخ لتفسح المجال لمفاهيم ومقولات ونظريات جديدة لتحل محلها وهكذا دواليك في سيرورة لا نهاية لها.
إن المنطلقات المنهجية السابقة الذكر هي منطلقات عامة، بمعنى إنها تشكل المدخل إلى التفكير العلمي. ومع أنها تنسب، في العادة، إلى أسلوب التفكير المادي الجدلي والتاريخي، إلا أنها واسعة الاستخدام في أساليب التفكير الأخرى، لذلك لا يمكن اعتبارها موضوع خلاف جدي بين الماركسية وغيرها من النظريات الفكرية الكبيرة. وعلى العموم ليست العبرة في المنهج بل في الإنتاج المعرفي (المعبر عن حقيقة الأشياء بذاتها) المتحصل بواسطته. هذا لا يعني بالطبع إن استخدام مناهج خاطئة أو الاستخدام الخاطئ للمناهج العلمية يمكن أن يساعد في تحصيل المعارف العلمية. هذا لا يعني أن الحالة العكسية صحيحة. فالاستخدام المستقيم للمناهج العلمية لا يؤدي بالضرورة إلى تحصيل المعارف العلمية، بل لا بد إلى جانب ذلك من توافر الشروط الذاتية للتحصيل العلمي، أي توافر جملة من الشروط الموضوعية وفي مقدمتها وجود مصلحة اجتماعية عامة أو طبقية أو فئوية أو فردية في التحصيل المعرفي العلمي [111].
إن العلوم ومناهجها تطور باستمرار يساهم في ذلك العلماء والمفكرون من جميع الدول. غير أن ضغط العوامل السياسية والأيديولوجية والمصالح الضيقة للقوى المتسلطة وغياب الديمقراطية والحرية تعد من أكثر العوائق خطورة أمام تطور العلوم ومناهجها. مهما يكن من أمر فان الاستنتاج الأهم الذي يترتب على كل ذلك يتعلق بالدور المتزايد الذي أخذ يلعبه العلماء والمفكرون في الحياة الاجتماعية وفي التطور الاجتماعي.
لقد ظل المنهج المادي الجدلي والتاريخي زمنا طويلاً أسير الصيغ النظرية الكلية المجردة ولهذا فقد تماسه الفعال بالواقع المتغير باستمرار. لقد جرى التعامل مع المفاهيم والمقولات والقوانين العامة التي يستخدمها وكأنها مفاهيم ومقولات وقوانين للظواهر الملموسة، فتخلفت العلوم الاجتماعية وفقدت الحياة السياسية معناها وفعاليتها وغرقت في بحر الايدولوجيا الآسن [112].
في الماضي كان اغتراب الإنسان عن منتجاته الفكرية يجعله يقدسها فيخرجا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
111–يعتبر أوسكار لانكه أن وجود المصلحة الطبقية شرط لا بد منه للبحث العلمي. من جهتنا نرى أن المصلحة في التحصيل المعرفي العلمي تتجاوز الحدود الطبقية في الاتجاهين، صعودا إلى المصلحة الاجتماعية ونزولا إلى المصلحة الفردية، على الأقل كدافع مباشر إلى البحث والتحصيل المعرفي.
112- لقد تطورت العلوم الاجتماعية التطبيقية كثيرا في الدول الرأسمالية المتقدمة، وخصوصا العلوم الاقتصادية، وذلك من خلال استخدام وتطوير المناهج البنيوية الوظيفية، والبرغماتية، بل الماركسية أيضاً.

من ثم، عن المسار الزمني الواقعي. ولم يشذ عن ذلك الفكر المادي الجدلي والتاريخي إذ تعرض لنوع من أسوأ حالات التقديس مع أنه بطبيعته لا يقبل التقديس (أليس فكرا نقدياً؟) وقد حصل ذلك عن طريق جوهرته (لا يقبل الشك) مما كاد أن يفقده نسغ الحياة.
4-2 -نطاق استخدام المنهج المادي الجدلي، والتاريخي
لقد ذكر سابقاً إن المنهج المادي الجدلي والتاريخي واسع الاستخدام في مجال الفلسفة المادية بمختلف مدارسها واتجاهاتها، وخصوصا في الفلسفة الماركسية التي تحمل أسمه. ولا يستغنى عنه في جميع العلوم الطبيعية المادية، وفي العلوم الاجتماعية. بطبيعة الحال ينبغي تكييفه مع الموضوع الذي يبحث فيه، فهو يقبل ذلك نظراً لمرونته العالية وطبيعته العامة جداً.
ففي مجال الاقتصاد يجد هذا المنهج عرضاً كاملاً له في كتاب رأس المال، إذ اعتبر الرأسمالية عضوية اجتماعية حية وأخذ يشرحها انطلاقاً من أبسط مكوناتها (خلاياها)، فحلل مفهوم السلعة، ومفهوم العمل، ومفهوم رأس المال، وهكذا وصولاَ إلى صوغ القوانين العامة، ومن ثم النظرية الاقتصادية الماركسية.
في مجال العلوم الطبيعية يلقى هذا المنهج استخداما واسعا لجهة تأمين الشروط البحثية الموضوعية والذاتية وطريقة اقتراب الذات الباحثة من موضوع بحثها. هنا ينبغي أن يكون واضحاً إن أي موضوع مميز للبحث هو كذلك فقط لعزله المشروط عن وسطه الذي لا يكون وجوده الفعلي إلا فيه. مثلا عندما تتم دراسة عينة من التربة للتأكد من درجة خصوبتها لا بد أولاً من عزلها عن المكان الذي أخذت منه، ومن ثم نقلها إلى المختبر لتجري عليها الاختبارات المطلوبة. في نهاية الاختبار تصاغ نتيجة التحليل بفرضية تقول مثلاً؛ إن التربة خصبة، أو غير خصبة، أو تنقص خصوبتها بعض المكونات، وقد يتم عرض الدلائل التي تؤكد ما تم التوصل إليه.
من الناحية العلمية والمنهجية إن ما تم عمله منذ لحظة أخذ العينة من تربة الحقل حتى الحصول على نتيجة التحليل يعد عملا علميا بامتياز. مع ذلك يبقى التساؤل حول مصداقية ما تم التوصل إليه من معرفة في المخبر ومدى صلاحيته للتعميم.
بداية لابد من أن يكون واضحاً بأن الخصوبة الموجودة في التربة المعزولة ليست ثابتة فهي في حالة تغير مستمر إذ يتغير العنصر الميكروبيولوجي الموجود فيها على الأقل فهو يتأثر كثيراً من جراء عزل العينة.
ثانياً؛ ثمة شك كبير في مدى تمثيل العينة لتربة الحقل الذي أخذت منه، وهو شك يطال مصداقية المعرفة التي تم التوصل إليها في المختبر.
ثالثاً؛ على افتراض إن المعرفة التي يتم الحصول عليها في المختبر تتميز بمصداقية عالية وإنها تنطبق على الحقل بكامله، مع ذلك يظل ما تم التوصل إليه بلا معنى في حال غياب العامل المستفيد من هذه الخصوبة وهو النباتات. فالخصوبة بالتعريف هي " مجموعة من الخصائص الفيزيائية والكيميائية والعضوية والمكروبيولوجية والطبيعية التي تجعل من التربة بيئة صالحة لنمو النباتات وإنتاجها". الخصوبة بهذا المعنى هي تعبير عن علاقة خصائص التربة بخصائص النباتات، وعندما تؤخذ بالحسبان خصائص التربة فقط تكون المعرفة المتكونة عن الخصوبة مضللة. لهذا لا بد من وجود معرفة بنوع النبات الذي سوف يتفاعل مع هذه الخصائص. بكلام آخر لا يوجد في التربة خصوبة واحدة بل أنواع منه بحسب النبات الذي سوف يزرع في التربة. ومن المعلوم إنه أثناء تحليل التربة في المختبر يتم التوصل إلى تحديد النبات أو النباتات الملائمة للزراعة في التربة المدروسة. تنطبق المناقشة السابقة على أي مجال بحثي علمي.
يستنتج مما سبق إنه عند عزل المادة البحثية، ينبغي ألا يغيب عن ذهن الباحث إنها في حركة وتغير دائمين وهي تنسج مع وسطها علاقات ترابطية شاملة كما يرشدنا إلى ذلك المنهج المادي الجدلي والتاريخي.
5- المنهج الاستقرائي
المنهج الاستقرائي(induction) هو من المناهج الكلية، يستخدم على نطاق واسع في جميع مجالات العلوم التي تقبل الملاحظة. يعتمد هذا المنهج على طريقة في التفكير تبدأ من ملاحظة الأجزاء في ظروف وشروط تواجدها، وصولاً إلى تكوين فرضية أشمل عنها يتم اختبارها لاكتشاف العوامل الثابتة والمتكررة التي تقف وراء أجزاء الظاهرة والتعبير عنها بقانون. وفي خطوة لاحقة يتم جمع المعارف التي تم تحصيلها عن الظاهرة سواء في وضعياتها الجزئية أم في تصنيفاتها الكلية، في نظرية لتكوين جملة من القواعد العامة التي يمكن استخدامها لا حقاً في عملية عكسية لإعادة إنتاج الظاهرة أو الانتفاع بها. بعبارة أخرى يبدأ مسار التفكير حسب الطريقة الاستقرائية من الملاحظة الحسية المباشرة إلى الفرضية ومنها إلى المفاهيم والقوانين، ومنها إلى النظرية، ومن هذه الأخيرة إلى الممارسة.
لقد بدأ الإنسان معرفته للكون وظواهره بملاحظة الأشياء والظواهر الجزئية بصورة متكررة كثيراً ليتوصل لاحقاً إلى القواعد العامة التي تحكمها.
لقد كان سقراط (469-399) أول من أشار إلى هذه الطريقة في التفكير، فالعلم عنده هو بحث في العموميات التي لا يمكن التعرف عليها إلا بالملاحظات الجزئية المتكررة والكثيرة، وإجراء المقارنات بينها وصولاً لتكوين قاعدة عامة تسمح بالانتقال من الخاص والمفرد إلى العام والشامل.
من الناحية التاريخية يعتبر منهج الاستقراء، أقدم طرق التفكير العلمي وقد استخدم على نطاق واسع في العلوم الطبيعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر فأحدث فيها ثورة علمية حقيقية، و هي لا تستطيع الاستغناء عنه في الوقت الراهن. ويستخدم أيضاً على نطاق واسع في العلوم الاجتماعية والاقتصادية منها على وجه الخصوص.
في العصر الحديث يعد جون ستيوارت مل(1806-1973) أول من صاغ أفكار هذا المنهج، فحسب رأيه، يتكثف هدف فلسفة العلم في اكتشاف
العلاقات السببية بين الأشياء والظواهر.
ينبغي لفت الانتباه إلى إنه قد يتعذر في حالات كثيرة ملاحظة جميع أجزاء الظاهرة المدروسة لأسباب عدة منها كثرة هذه الأجزاء وانتشارها، أو عدم كفاية وسائل الملاحظة وأدواتها. بل قد يكون من غير الضروري علميا ملاحظة جميع مفردات الظاهرة والاكتفاء بملاحظة عينة منها. في مثل هذه الحالات يدعى المنهج الاستقرائي بالاستقراء الناقص.
عندما يستخدم الاستقراء الناقص ينبغي توقع وجود خطأ أو انحراف عن القاعدة العامة يكبر هذا الخطأ أو يصغر بحسب حجم العينة ومدى تمثيلها لمجتمعها. يستنتج من ذلك ضرورة الحذر المنهجي وعدم التسرع في إعطاء التعميمات وإعادة فحص عينات أخرى حتى أن تستقر النفس لما توصلت إليه.
ليس المنهج الاستقرائي منهجا بسيطا بل مركباً من مناهج جزئية كثيرة، وهي جميعها ضرورية في طريقة التفكير الاستقرائي. وبسبب كثرة المناهج الجزئية الاستقرائية يصعب تصنيفها ولهذا يختار الباحث منها ما يلائم بحثه. ومن أجل تكوين فكرة عن كيفية تكامل المناهج الجزئية في التفكير الاستقرائي يمكن استعراض طريقة هويتني(Whitney) في تصنيفها بحسب مراحل البحث الاستقرائي:
أ- المنهج الوضعي: يستخدم هذا المنهج للبدء بملاحظة الظواهر والأشياء الجزئية المحيطة بموضوع البحث. في هذه المرحلة ينبغي الاعتماد على جملة من المناهج أو الطرق المساعدة مثلاً:
- المسح ويعني توصيف الظروف المحيطة بالظواهر الجزئية.
- دراسة حالات الظواهر السابقة.
- تحليل وظائف ونشاطات الظواهر والأشياء الجزئية للكشف عن الأسباب الكامنة وراءها ومدى ارتباطها بها.
-ملاحظة الظواهر الجزئية والأشياء المفردة بصورة مستمرة في الزمن للكشف عن التغيرات التي تطرأ عليها ودرجة حدوث هذه التغيرات.
- دراسة الوثائق الموجودة عن الظاهرة أي القيام ببحث مرجعي لمعرفة طبيعة ونوعية وحجم المعارف المتراكمة عن الظاهرة.
ب- المنهج التاريخي: بعد الانتهاء من المرحلة السابقة من الدراسة والبحث والتي تسمى بالمرحلة الأولية يكون الباحث قد حصل على كم كبير من المعلومات الجزئية تساعده في الانتقال إلى المرحلة الثانية ليستخدم، عندئذ، منهجاً جزئياً آخر هو المنهج التاريخي. بواسطة هذا المنهج يقوم الباحث بدراسة تاريخ الظاهرة وتحديد الحقائق السابقة عنها وتحليلها والاستفادة منها ومقارنتها مع نتائج الملاحظة الوضعية.
ت- المنهج التجريبي: تجري المماثلة في دراسات منهجية عديدة بين المنهج الاستقرائي والمنهج التجريبي. وبالفعل يعد المنهج التجريبي عماد المنهج الاستقرائي.
يقوم الباحث في هذه المرحلة من البحث بإجراء التجارب والاختبارات على الظاهرة للتأكد من صحة المعلومات والمعطيات التي توصل إليها في المراحل البحثية السابقة واكتشاف العلاقات والروابط الأكثر ثباتاً واستقراراً لتعميمها في قانون.
ث- المنهج الفلسفي: إلى جانب استخدام المنهج التجريبي في اختبار مصداقية المعلومات المكتشفة فإن المنهج الاستقرائي يحتاج إلى المنهج الفلسفي للقيام بالتعميمات المطلوبة، وتكوين رؤية عامة وتحليل وتفسير النتائج المتحصلة من التجربة واستخدامها في التنبؤ بالمستقبل. عند هذا الحد يدخل البحث الاستقرائي مرحلة جديدة.
ج- البحث التنبؤي: لا يكتمل البحث الاستقرائي إلا إذا مر بمرحلة التنبؤ ولهذا الغرض يتم استخدام المناهج التنبؤية التي تلائم الظاهرة المدروسة.
يقوم التنبؤ بالأساس على المعرفة الأكيدة بالروابط والعلاقات بين المقدمات والنتائج، إذ لكل مقدمة نتيجة معينة، أو عدة نتائج بعضها رئيسي وبعضها الأخر ثانوي، وما إن تظهر المقدمات حتى يمكن توقع حصول النتائج، رغم الفارق الزمني الذي قد يحصل بين حصول المقدمة والنتائج المترتبة عليها. في هذه المرحلة من البحث قد يحصل ما يسمى الإبداع في الاستقراء.
قد يصح التنبؤ في بعض المجالات البحثية رغم إن المادة المدروسة هي عينة مأخوذة من مجتمع الظاهرة. لكنه قد لا يصح في مجالات أخرى إلا إذا أحاطت معرفة الباحث بموضوع البحث إحاطة تامة. في هذه الحالة تبدأ مرحلة جديدة من الاستقراء.
ح- البحث الاجتماعي: في العلوم الاجتماعية ومنها العلوم الاقتصادية على وجه التحديد لا يصح التعميم قبل استكمال البحث الاستقرائي بدراسة الإنسان ذاته. لهذا الغرض يمكن استخدام مناهج عديدة بعضها نفسي وبعضها اجتماعي. وفي البحوث غير الاجتماعية لا بد من استكمال المنهج الاستقرائي بدراسات اجتماعية تتعلق بكيفية تقبل المجتمع للنتائج العلمية المعرفية التي تم التوصل إليها سواء من الناحية النفعية أم من الناحية الأخلاقية.
خ- البحث الإبداعي: المرحلة الأخيرة من البحث الاستقرائي هي مرحلة البحث الإبداعي إذ يتم عندئذ صوغ المعارف المتحصلة في نظرية أو علم وتحديد مناهجه الخاصة.
تبدو الطريقة الاستقرائية في البحث العلمي، والمراحل التي تمر بها، والمناهج المساعدة، التي تستخدمها متماسكة منطقيا. لكنها مع ذلك، تبقى بحاجة إلى تدقيق بعض أولوياتها. مثلاً في المرحلة التي يستخدم فيها المنهج الوضعي ثمة حاجة أيضاً إلى التجربة وأصولها وقواعدها (المنهج التجريبي)، وإلى الاستدلال وطرقه (المنهج الاستدلالي). وبحاجة أيضاً إلى المنهج التاريخي لدراسة الحالات السابقة. وفي حالات محددة قد لا يكون ثمة حاجة إلى تخصيص مرحلة للدراسات التاريخية (المنهج التاريخي) إذ إن المنهج الاستدلالي والمنهج التجريبي يمكن أن يؤديا الغرض. الأمر ذاته يصح بالنسبة للمرحلة الفلسفية فالاستدلال قد يؤدي الغرض المطلوب.
ما ينبغي تأكيده من جراء الملاحظات السابقة إن مراحل الاستقراء ليست مراحل منعزلة بل هي مراحل متداخلة وينبغي التعامل معها على هذا الأساس. بصورة عامة يسير التفكير الاستقرائي وفق المخطط الآتي:

خطوات المنهج الاستقرائي












6- المنهج الاستنباطي
المنهج الاستنباطي(deduction) في التفكير هو عكس المنهج الاستقرائي إذ يبدأ بالكليات لينحدر منها إلى الجزئيات. ونظراً لأن الإحاطة بالكليات لا يكون إلا من خلال النظريات والقوانين والمفاهيم، وهذه يتم تحصيلها عن طريق الدراسات الاستقرائية السابقة. لهذا فإن المنهج الاستنباطي في جوهره هو اختبار لحقائق محددة بالاعتماد على قواعد المنطق. فهو يستخلص النتائج من القواعد والمفاهيم السابقة إذ أن كل عنصر منها هو نتاج فكرة سابقة أو بديهية أو فرضية أو غيرها. يصح في ذلك القول: من المقدمات الفكرية إلى النتائج والأحكام ومنها إلى الممارسة.
لقد كان أول من استخدم الطريقة الاستنباطية في التفكير هو ذاته الفيلسوف اليوناني أرسطو فقد عرف معنى المفاهيم واستخلص منها نتائج معينة اعتمادا على هذا المنهج.
في العصر الحديث يعد الفيلسوف ديكارت من أهم فلاسفة المنهج الاستنباطي، وذهب به مذهبا متطرفاً. فحسب رأيه يتم تحصيل المعرفة عن طريقين: عن طريق الخبرة أو عن طريق الاستنباط. ويعتبر أن الخبرة تقود غالباً إلى الخطأ. أما الاستنباط فهو يؤدي إلى "استخلاص النتيجة من مقدمة (ظاهرة أو شيء) ونقلها إلى الذي يلي ولهذا فإن هذه الطريقة تعد خالية من العيوب حسب زعمه.
إن استخدام الطريقة الاستنباطية في الوقت الراهن يتجاوز التأكيد على صحة الفرضيات البحثية السابقة (قوانين، ونظريات) إلى اكتشاف قوانين ونظريات جديدة. وإذ تستخدم لهذا الغرض فإنها تسلك المسار العكسي للطريقة الاستقرائية، فهي تحدد أولاً الفرضية (صياغة محتملة لقانون، أو نظرية) ومن ثم تقوم بدراسة ردود الفعل الاجتماعية عليها باستقصائها تاريخيا من خلال البحث المرجعي واختبارها تجريبيا ليجري من جديد إعادة صوغ الفرضيات الأولى في قوانين ونظريات لتستخدم لاحقاً في التطبيق العملي وفي التنبؤ المستقبلي.
يستخدم المنهج الاستنباطي على نطاق واسع في العلوم الطبيعية وفي العلوم الاجتماعية، ويستخدم أيضا في المجال الفلسفي وفي مجالات العلوم المنطقية وفي المجالات التي لا يصلح المنهج الاستقرائي فيها.
7- المنهج الاستدلالي
في أدبيات فلسفة العلوم يختلط المنهج الاستنباطي كثيراً بالمنهج الاستدلالي ويطلق عليهما التسمية ذاتها(Deduction) مع أن بينهما اختلافات بينة سوف يتم تبيانها لاحقاً.
الاستدلال في اللغة مشتق من دلل، دلّ، استدل، يستدل، استدلالاً بالشيء على الشيء أي وجد فيه ما يدل عليه، والدالة ما يدل بها على شيء، والدليلي هو من علمه بالدلالة ورسوخه فيها [113].
وفي الاصطلاح الاستدلال هو عملية عقلية يتم من خلالها الوصول إلى معرفة أو حكم معين بناء على معرفة سابقة.
في ضوء المعنى اللغوي والاصطلاحي لمفهوم "الاستدلال" يمكن تعريف المنهج الاستدلالي بأنه البرهان الذي يبدأ بقضايا مسلم بها ليصل إلى قضايا تنتج عنها بالضرورة دون اللجوء إلى التجربة، فهو عملية سلوكية لتحصيل الحقيقة.
7-1 مبادئ الاستدلال
يقوم المنهج الاستدلالي على جملة من المبادئ تعرف باسم مبادئ فهم الاستدلال وهي الأتية:
أ- البديهيات: البديهية هي قضية بينة بنفسها صادقة بذاتها ولهذا فهي لا تحتاج إلى برهان. تتميز البديهية بكونها أولية منطقية غير مستنبطة من غيرها مفسرة تلقائيا. بهذا المعنى فهي قاعدة صورية عامة. مثال على ذلك: الكل أكبر من الجزء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
113- لسان العرب لابن منظور، المجلد الثاني، مادة دلل ص 406
ب- المصادرات: المصادرة قضية ليست بينة بنفسها ولا يمكن البرهنة على صحتها وإنما يتم التسليم بصحتها. المصادرة أقل يقينية من البديهية مثال على ذلك: الإنسان يفعل وفقا لما يرى فيه الأنفع له.
ت- التعريفات: التعريفات هي قضايا جزئية خاصة بكل علم وهي تعبير عن ماهية المعرف به. يتكون التعريف من جزئيين: أولاً الشيء المعرف به، وثانياً القول المعرف. مثال: الماء سائل لا لون له ولا رائحة.
7-2- مراحل الاستدلال وأدواته
في المرحلة الأولى من الاستدلال يتم تحديد منطلقات الاستدلال وهي عبارة عن مقدمات مسلم بصحتها ليصار إلى الوصول إلى استنتاجات افتراضية يسلم بصحتها قياساً إلى مقدماتها. وإن الأداة الأكثر استخداماً في هذه المرحلة هي القياس. والقياس هو عملية عقلية منطقية مستغنية عن البرهان بل هي عكس البرهان.
في المرحلة الثانية من الاستدلال والتي تسمى بمرحلة التجريب العقلي يجري العقل التحقيقات المطلوبة التي لا يستطيع القيام بها تجريبيا فيقارن بين المقدمات التي انطلق منها الاستدلال وقد سلم بصحتها مع النتائج التي توصل إليها ويفترض أنها صحيحة أيضاً. الأداة الرئيسة التي يستخدمها المنهج الاستدلالي في هذه المرحلة هي المقارنة والتحليل العقلي.
في المرحلة الثالثة والتي تسمى بمرحلة التركيب يقوم العقل في ضوء ما توصل إليه في المرحلة الثانية من تحليل ومقارنة بإعادة تدقيق النتائج وتركيبها بما ينسجم مع المقدمات التي انطلق الاستدلال منها [114].
بصورة عامة يسلك المنهج الاستدلالي الخطوات الأتية:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
114-www.djelfa.info تاريخ الوصول 22/3/2008










المرجع:D.Harvey, Explanation in Geography, New York: st.Martin Press,1969,p34
8-المنهج النقدي
ينسب إلى كارل بوبر تأسيس المنهج النقدي الحديث وعده كثيرون ثورة في علم المناهج في حين وجد فيه آخرون مجرد منهج من المناهج العديدة المستخدمة في مجال العلوم. ورغم الاختلاف الذي أبداه دارسوا المنهج النقدي لكارل بوبر فإنهم يتفقون، مع ذلك، على أن كارل بوبر نفسه هو من أهم فلاسفة القرن العشرين، ويقرون له بمكانته العلمية الرفيعة التي حاذها بجدارة مستحقة.
لقد عمل كارل بوبر(1902-1994م) سنوات طويلة أستاذاً لعلم المنطق والمناهج العلمية بجامعة لندن قدم في أثنائها، إلى جانب عمله التدريسي، مساهمات كثيرة في مجال تطوير مناهج العلم. لقد عرف عنه نقده الشديد للمنهج الاستقرائي وتمييزه بين العلم ( science)، واللاعلم (Non-Science) أو ما يسمى أيضا بالعلم الكاذب(Pseudos Science) رغم أن هذه التسمية غير دقيقة فالعلم يكون علماً أو لا يكون. لقد أدخل بوبر الكثير من المصطلحات الجديدة إلى ميدان العلم منها مثلا مصطلح القابلية للتكذيب ( Falsiability) ومساهمته في مجال اختبار الفروض العلمية (Testing of Hypotheses) وتمييزه بين منطق المعرفة ( L0gic of Knowledge)، وسيكولوجية المعرفة (Psychology of Knowledge).[115]
لكن لماذا النقد كمنهج؟
كما ذكر في مواضع سابقة مدى أهمية النقد للإبداع بصورة عامة، فالنقد ضروري، ليس فقط لتقويم مسار العلم، وحقائقه، بل لتجاوزها أيضا.
بهذا المعنى النقد (criticism) هو " أساس التقدم العلمي والتقني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي". وهو يقوم بدوره هذا من جراء نقد العقل لموضوعاته المعرفية من أجل تعديلها أو رفضها [116].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
115-زكريا منشاوي الجالي، " منهج البحث النقدي عند كارل بوبر" أنظر أيضا Karl R. Popper, Objective knowledge: An Evolutionary Approach( London, Oxford Clarendon Press 1972 ) ,p 1.
116-زكريا الجالي،" الاتجاهات النقدية للمنطق الأرسطي"، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة أسيوط، كلية الآداب،2005، ص5
لا يقف النقد عند حدود إظهار الحقيقة فقط بل هو عملية مستمرة لتهذيب الأفكار وتنوير العقول بإظهار المحاسن والعيوب في الشيء المنقود.
يعد النقد تقليداً فلسفياً قديماً استخدمته جميع النظريات الفلسفية وكان ينظر إلى الناقد في حينه على أنه الشخص الماهر في إصدار الأحكام سواء في مجال المسائل العقلية أم في جميع مناحي الحياة [117].
في العصور الحديثة يمارس النقد على نطاق واسع وكان لمساهمات العلماء والفلاسفة من أمثال فرنسيس بيكون(1620م) وديكارت (1679م) وليبتز (1716م) وهيوم (1776م) وكانت (1804م) وراسل (1971م)، وغيرهما كثير الدور الهام في ولادة نظريات جديدة في مجال العلوم وفلسفتها وفي مجال المناهج العلمية.
لقد ميز بوبر بين نوعين من النقد: نوع يهتم بالقضايا الجمالية والأدبية و يقود حسب رأيه من الأسطورة إلى الشعر. والشعر المقصود هنا يتجاوز المعنى المباشر للكلمة إلى جميع موضوعات الجمال والخطاب واللغة.
والثاني يهتم بالقضايا العقلية وهو يقود من الأسطورة إلى العلم. فالنقد العقلي، حسب رأيه، هو الذي ساهم في تخليص العلوم من الأسطورة من جراء مساءلتها عقليا بدافع الكشف والمعرفة والبحث عن الحقيقة [118]
لقد أسس بوبر منهجه النقدي من خلال نقده للمنهج الاستقرائي الذي ينطلق من مجموعة مقدمات جزئية (حالات) للوصول إلى القانون ومن ثم من هذا الأخير إلى المستقبل للتنبؤ بحالات مشابهة. مع إن بعض هذه الحالات قد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
117- رينيه ديكارت، مقال عن المنهج، ترجمة محمود الخضيري، مراجعة وتقديم محمد مصطفى حلمي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1985م. أنظر أيضاً كارل بوبر، خلاصة القرن، ترجمة الزواري بغوره ولخضر مذبوح، القاهرة، المجلس العلى للثقافة،2002م، ص 29 وما بعدها.
118-كارل بوبر، بحثا عن عالم أفضل، ترجمة أحمد مستجير، سلسلة العمال الفكرية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة،1999من ص 273.
تمت ملاحظتها في الماضي لكن بعضها الآخر لم تتم ملاحظته.
بطبيعة الحال لم يكن بوبر أول من انتقد المنهج الاستقرائي فقد سبقه إلى ذلك كثيرون لكنه كان شديد التأثر بنقد ديفيد هيوم له خصوصا نقده لمبدأ العلية (Principle of causality) ومبدأ اطراد الحوادث في الطبيعة.
يرى بوبر إن دور الملاحظة والتجربة يقتصر على التكذيب أو التصديق، وليس تثبيت الاعتقاد أو استخلاصه منها بناء على اطراد الحوادث في الطبيعة كما يقول بذلك المذهب الحسي الاستقرائي. فالخبرة المتشكلة من تكرار الحالات حسب رأي بوبر ليست كافية للتوصل إلى استنتاجات معينة بل لا بد من نقدها. ولهذا كان شديد التمييز بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، وطالب باستبدال الحدود الذاتية في معالجة المشكلات المنطقية بحدود موضوعية. فقضايا الملاحظة والاعتقاد والانطباع هي تعابير ذاتية. يتساءل بوبر هل يمكن تفسير نظرية كلية اعتماداً على الخبرة؟ وهل يتوقف افتراض قضية معينة على الملاحظة فقط؟
وفي جوابه عن السؤالين السابقين يرى بوبر إن الخبرة أو التجربة هي قضية جزئية تحتاج إلى سند منطقي حتى يمكن تعميمها بنظرية كلية. وإن صدق الملاحظة يمكن أن يسمح بتكوين عدة نظريات متكافئة ينبغي لا حقا المفاضلة بينها، اعتماداً على صدق، أو كذب، قضايا الاختبار.
ويرى بوبر إن تكوين اعتقاد ما بناء على التكرار أو الخبرة هو محض خرافة، لأن الحيوانات والأطفال تحتاج إلى الاطراد ويبحثون عنه فالتوقعات يمكن أن تسبق التكرار كما يبين تاريخ العلم [119].
يجري المنهج النقدي، عند بوبر وفق المسار الاتي:
أ-المشكلة رقم 1 ب- نظرية مؤقتة ت– استبعاد الخطأ ث– مشكلة رقم 2 وهكذا دواليك.
119-كارل بوبر، المرجع السابق ص 32-34. انظر أيضاً محمد قاسم، دراسات في مناهج العلوم، الإسكندرية، دار المعارف الجامعية [د.ت]: ص39.
تبدأ المشكلة الأولى بتقديم فرض استنباطي هو عبارة عن توقع أو تخمين معين ومن ثم يتم اقتراح حلول مؤقتة لها أو حلول غير نهائية. بعد ذلك يتم إجراء الاختبار العلمي لنقدها عن طريق التنفيذ وبالنتيجة تولد مشكلة جديدة وهكذا دواليك. بهذه الطريقة تنمو المعرفة وتتراكم بحسب رأي كارل بوبر[120].
المنهج عند بوبر يرتبط بنمو المعرفة التي يعدها كائنا حيا، فهي لا تنمو من خلال قابليتها للتحقق(verification) بل من خلال قابلية حقائقها للتكذيب. البينة عند بوبر ليست ما يؤكد حقيقة ما بل ما يكذبها. بهذا المعنى يكون بوبر قريب جداً من المنهج الاستنباطي.
خلاصة القول إن المنهج النقدي عند بوبر يقوم على فكرتين أساسيتين هما؛ فكرة القابلية للتكذيب ( falsibility)، وفكرة نمو المعرفة العلمية ( the growth of science). إذ يقوم الإنسان في مسعاه للحصول على المعرفة، يرفض التوقعات الكاذبة ويتمسك بالصادق منها وبهذا الشكل تبدأ المعرفة بالنمو المستمر. ويمكن إزالة الفروض الكاذبة إما باستبعادها كليا أو بتعديلها لتأخذ صيغة جديدة هي ذاتها قابلة للتكذيب والرفض.








ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
120-Karl Popper, conjectures and refutations: The growth of –scientific- knowledge,p215



#منذر_خدام (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عام على سقوط رئيس وارتقاء آخر
- علم العلم-لفصل الخامس- البحث العليمي
- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة
- علم العلم: الفصل الثالث: منطق العلم
- علم - العلم ( مناهج البحث العلمي،الفصل الثاني فلسفة العلم
- مناهج البحث العلمي-الفصل الأول-ما هو العلم؟
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ...
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الخام ...
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الراب ...
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ...
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثان ...
- رهانات الاسد والسقوط الكبير
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ...
- العرب والعولمة( الفصل السادس)
- العرب والعولمة( الفصل الخامس)
- العرب والعولمة( الفصل الرابع)
- العرب والعولمة( الفصل الثالث)
- العرب والعولمة(الفصل الثاني)
- العرب والعولمة( الفصل الأول)
- العرب والعولمة( مدخل)


المزيد.....




- مسؤول في -إف بي آي- يتحدث عن أكبر تهديد داخلي لأميركا
- عراقجي يعتزم زيارة بيروت بعد امتناع وزير خارجية لبنان عن زيا ...
- ضمادة على يد ترامب.. كيف برّرها البيت الأبيض؟
- جيش جنوب السودان يحمي حقل هجليج واشتباكات في كردفان
- ترامب يحوّل مجلس الأمن إلى مزاد علني للبيع
- أشار إلى -سقوط صدام وهزيمة داعش-.. مبعوث ترامب يوجه -رسالة- ...
- الأمين العام للناتو يحذر: -روسيا قد تشن هجوماً على الحلف خلا ...
- غوتيريس: اجتماعات مرتقبة بين الجيش السوداني والدعم السريع في ...
- سرقة أكثر من 600 قطعة تعود لحقبة الإمبراطورية البريطانية من ...
- إلباييس: ترامب لم يرحم قادة أوروبا ووصفهم بالضعفاء


المزيد.....

- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - منذر خدام - علم العلم-الفصل السادس- المناهج الكلية