أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح بشير - -قبل أن يستيقظ البحر-.. مرثية الحبّ في زمن الرّماد والمنفى















المزيد.....

-قبل أن يستيقظ البحر-.. مرثية الحبّ في زمن الرّماد والمنفى


صباح بشير
أديبة وناقدة

(Sabah Basheer)


الحوار المتمدن-العدد: 8551 - 2025 / 12 / 9 - 18:47
المحور: الادب والفن
    


صباح بشير:

"قبل أن يستيقظ البحر" هو عنوان الدّيوان الشّعريّ الّذي خطّه الشّاعر العراقيّ حسين السّيّاب. صدر هذا العمل عن دار منازل للنّشر والتّوزيع، ويقع في مئة وخمس وثلاثين صفحة، ويحتوي على مئة وسبع وعشرين قصيدة، تشكّل مساحة شعريّة مكثّفة، وتغوص في أعماق التّجربة الإنسانيّة المعاصرة، حيث تتشابك خيوط العشق الجارف مع المرارة الوجوديّة والحنين الممزوج بالألم، وتمثّل الحبيبة نقطة الثّبات الوحيدة والملجأ المقدّس، فهي تصوَّر بوصفها الحلم الّذي يوقظ الشّاعر، والقصيدة التي لا تملّ قراءتها؛ لتصبح كيانا خلاصيّا يتجاوز حدود الجغرافيا، وتغدو وطنا بديلا ورمزا للخلود في وجه الفناء، كما تتجلّى بين السّطور رموز الأنوثة القديمة والإلهة عشتار.
يعيش الشّاعر حالة من المنفى الرّوحيّ، متأثّرا بوقع الحروب الّتي سحقت جيلا بأكمله، وجعلت الوطن يبدو منسيّا، مع إشارات واضحة للحزن العميق الّذي يخيّم على وطنه.
تعبّر القصائد عن صراع مرير ضدّ الشّكّ واليأس الوجوديّ؛ حيث يصبح الشّعر هو الملاذ الأخير والوحيد، الّذي يلجأ إليه الشّاعر هربا من هول الواقع، محاولا صناعة الأمل، فالدّيوان في مجمله هو رثاء لواقع مأزوم، تُنَسَجُ فيه خيوط الغَزل الرّقيق على نول التّحليل السّياسيّ والاجتماعيّ العميق، استشرافا لبصيص أمل في جوف العتمة.
يُفتَتح هذا العمل في الصّفحة الخامسة؛ بقصيدة وجدانيّة مكثَّفة، تتّخذ موقع المفتاح الدّلاليّ الّذي يدفع بالقارئ مباشرة إلى غمرة تجربة عاطفيّة عارمة.
ترتكز القصيدة الأولى "أنت الحلم"، على ثنائيّة الحضور والخلود في ظلّ الحبّ، حيث ترتقي المحبوبة إلى منزلة الحلم الّذي يوقظ الشّاعر كلّ صباح، فتغدو الباعث اليوميّ للطّاقة والحياة، أشبه ببداية متجدّدة وقصيدة تعاد قراءتها ليلا، ما يؤكّد دوام استحضارها وشموليّة تأثيرها على وجوده، يعبّر عن الخلود العاطفيّ من خلال نفي سطوة قيود الزّمان والمكان، جاعلا من الحبّ وطنا يتجاوز الحدود والقوانين، مقرّا بوحدة المشاعر والألم: "لا جوازات سفر تستطيع أن تسرق أسماءنا من ذاكرة الحبّ".. "تعبك هو تعب قلبي".
يؤكّد على التّماهي والاتّحاد الرّوحيّ بينهما؛ لتتحوّل هذه الوحدة إلى فعل مقاومة إيجابيّ ضدّ شظف الواقع، حيث العزم على صنع الإنجاز من النّزر القليل: "سنبقى نحاول أن نصنع من القليل عمرا / ومن الانتظار وطنا". وهنا، يحوّل الشّاعر عناصر السّلبيّة (القليل والانتظار) إلى عناصر بناء (عمر ووطن).
يعلن تفوّق الحبّ على أدوات التّعبير المتاحة: "أحبكِ أكثر مما يقال / وأكثر مما يكتب". هذا الإقرار يضع الحبّ في منزلة سامية تتجاوز اللّغة والوصف؛ ليصبح شعورا مطلقا لا تستوعبه الكلمات.
بهذا الاستهلال، يكون الشّاعر قد وضع القارئ أمام تجربة حبّ عميقة تتّسم بالثّبات. ويواصل استكشاف العلاقة بين الذّات والمحبوبة، ووطأة الواقع السّياسيّ والاجتماعيّ، متنقّلا بين الوصف الوجدانيّ والاعتراف المرير، فيكتب:
"عَيْني عليكِ ترسُمُني، أمكنةٌ طائشةٌ تكبرُ معي، أراقبُ العالمَ من فتحةِ ضيّقةٍ، تكفي لنصفِ عينٍ ونصفِ قلب؛ لأرى الدّنيا كما أُريد".
يغوص في ذكرى الماضي والجرح الجماعيّ: "أنا من جيلٍ سحقتهُ غوايةُ الحرب، والوطن المنسيّ على حافّةِ رصاصة! بظلِّ الموتِ مشينا، بظلِّ الخوفِ هربنا، بظلِّ الشعرِ المدسوسِ في حقائبِ الجنود، أكلتنا الأيّام".. "بحرفةِ فلّاحٍ جنوبيّ، أحرثُ اللّغةَ؛ لتنمو قصائدي ناضجةً حدَّ اللّعنة بلا رنّةٍ للقوافي في مجرى الرّوح".
"لم أرَ أفكاري تنتظرُ على مصطبةِ الوجع أو تلوحُ لي كنجمةٍ في مقبرة.. "لأتخلّصَ من أشباحي سلكتُ دربَ الشّعر في رحلةِ العدم".. "لم أفهم شيئًا سوى انّكِ في كلِّ مكانٍ وأنا أهربُ إليكِ".
تشكّل هذه المقاطع تحوّلا حادّا في نبرة القصيدة، فمن الوجدانيّ الصّافي إلى السّياسيّ الوجوديّ، إذ تبدأ الأبيات الأولى بوصف لحالة الإدراك الذّاتيّ المشوّه، حيث يرى الشّاعر العالم من "فتحةٍ ضيّقةٍ" لا تتسع إلّا لنصف عين ونصف قلب.
هذه الصّور ترمز إلى حالة العيش في ظلّ القمع أو الألم الّذي يمنع الرّؤية، ويجبر الذّات على تقبّل نسخة جزئيّة من الواقع. وينتقل بوضوح لتعريف هويّته من خلال الصّراع: "أنا من جيلٍ سحقتهُ غوايةُ الحرب". هنا، تصبح الحرب، الموت والخوف، الظّلّ الّذي يُسيِّر الحياة.
إنّ صورة "الوطن المنسيّ على حافّةِ رصاصة" تلخّص مأساة وطن معلّق بين الحياة والفناء. كما يوظّف الشّاعر استعارة "حرفة فلّاحٍ جنوبيّ"، ليؤكّد على أصالة ومجهود الكتابة، فاللّغة تحرث بجهد وعرق، والقصيدة يجب أن تنمو "ناضجةً حدَّ اللّعنة"، مضحيّا بالوزن والقافية التّقليديّة "بلا رنّةٍ للقوافي" في سبيل الوصول إلى صدق أعمق وأكثر مرارة.
ينتهي المقطع باعتراف بأنّ الشّعر كان وسيلته للنّجاة من الأشباح، لكنّه يصل في "رحلةِ العدم" إلى الحقيقة الوحيدة اليقينيّة، المحبوبة الّتي تتجسّد في كلّ مكان؛ ليتحوّل الهروب من الواقع القاسي إلى هروب إلى الذّات الأخرى، الّتي تمثّل المأوى الوحيد وسط فوضى الوجود.
أمّا عن غربة الرّوح واحتراق القصيدة (ص 11)، فيُطِلّ بهما من خلف "نافذة العمر" ليعلن أنّ العناق قد تجاوز حدود الزّمن، في محاولة لهزيمة التّاريخ المثقل بالرّهانات الخاسرة، ففي ظلّ زحف الرّبيع، تتمايل الكلمات، حاملة الورد والنّسرين، يضع يده في النّهر محاولا شرح سكوت قلبه، ليجسّد الرّوحانيّة في تفاصيل جسد المحبوبة.
يبلغ الانصهار الذّروة حين يغريه ضياع المحبوبة في كيانه، وكأنّها "آخر المدن المنحوتة على شهادة ميلاده"، لتغدو المرجع الوحيد لهويّته وسط الفقد، ويقف الصّبح على أطراف أصابعه، يستفزّ أنوثتها القادرة على جلب الشّمس لصغارها، في رمزيّة عميقة تجعل منها مانحة الحياة والأمان في وجه العتمة.
في نهاية هذا المقطع، يواجه الشّاعر سؤال "الرّائي" عن مصدر الدّهشة في عالم انطفأت فيه الحكايات تحت رماد الغربة، ويأتي الجواب ليحدّد غاية الشّعر لديه: "لا غرضَ لي مع الشّعرِ، سوى الاحتراق على جسدِ القصيدة الّتي تنمو بين يديكِ".
احتراق ذاتيّ يحوّل الحبّ إلى "ذنب يتعالى، فيغدو خطيئة مُخلِّصة في ساحة مليئة بالشّياطين؛ ليجد الشّاعر في هذا الإثم المتطرّف سبيلا إلى اليقين في عالم موبوء.
أحزانٌ بلا مراكب (ص 19):
ينتقل إلى حالة من التّعبير المكثّف عن القهر الجماعيّ واليأس الوجوديّ، يفتتح المشهد بصورة الاختناق الكلّيّ: "رئةُ الوقتِ تختنق"، حيث تأكل "غربانُ الوحشة" الأيّام، فلا تجد الرّوح علاجها إلّا في دلاء تسقي حديقة الأحزان.
هذه اللّحظة ليست فرديّة، بل هي مأتم جماعيّ يتمثّل في الوقوف عند "بوّابة بابل" كمواكب عزاء تلاحقها اللّعنات، في إشارة إلى ثِقَل التّاريخ الأسطوريّ.
يصور الشّاعر حالة من الخدر الوجوديّ؛ إذ يُحتسى "كأس الهمّ" حتّى الثّمالة دون الوصول إلى السّكر، في استعارة لمرارة الوعيّ الدّائم، ومع ذبول النّهار وهرب الشّمس، يتجلّى كدر الأمّهات كحقيقة ثابتة في ملامح القهر.
يستمرّ الحزن كإرث معرفيّ "نعرف مداخل الحزن دون دليل"، بينما يظلّ تمّوز، رمز الخصب والبعث، أسيرا معزّزا، حالة العقم والأمل المؤجّل.
في مقابل هذا البؤس، تضيء "ضحكات المترفين" و"مصباح مُتدلّ" ليرسم ليلا كئيبا، حيث يقف هذا اللّيل كجندي مدرّع يصوّب "آخر الطّعنات" نحو النّهار.
أمام هذا الإنهيار، يجد السّيّاب ملاذه الأخير في الشّعر؛ متمسّكا بأصابع الشّعر؛ ليعقد نياط وجدانه، ويراوغ الذّاكرة، آملا في النّجاة.
تكبر على بوّابة سومر (ص25):
تصوّر هذه القصيدة معلَّقة الذّات السّومريّة وهي تواجه قلق الوجود المعاصر، تُفتَتحُ بدفقة من الرّغبة المثخنة بالحزن، حيث يبيع الشّاعر "ليله دونَ وجع"، في دلالة على استهلاك التّجربة المؤلمة الّتي تخطّت حدود الإحساس.
تنتقل النّبرة من اليأس "كيف أنجو من ضياع المعنى"، إلى الرّفض الفلسفيّ الثّوريّ؛ إذ يعلن الشّاعر فكّ الارتباط عن "مواويل الأوَّلين" و"ورثة الرّبّ"، وهذه نقطة ارتكاز حاسمة، حيث يتمّ رفض السّرديات الجاهزة، التّاريخيّة والدّينية، الّتي تقود "جيشَ النملِ"، ويعاد تعريف الهويّة عبر أسطورة النّهر وبساتين البرتقال، رموز الخصوبة والبراءة الضائعة، والبحث عن معنى في فضاء "اللّاوقتِ واللّاوعيِ"، فيتكثَّف المعنى في الثّنائيّة المؤلمة: أبناء الأرض والمنفى القسريّ، مقابل الوطن الممتدُّ بالقهر.
يُختَتم النّصُ برؤيا خلاصيّة تتجاوزُ اللّحظة الرّاهنة، إذ ينتظر الشّاعر "رياح الشّمال" (رمز التّطهير أو العودة للأصل)، منفِّذا طقسا دنيويّا مقدّسا بنثر القمح، مقاوما لأساطير الغضب، الجوع والفناء، وتعاد المعركة إلى الأزل الأبديّ، معلنة أنّ الجنّة ليست موعدا مؤجّلا، بل خيارا يُدخَل عبر باب الحقيقة الأزليّة.
بذلك، يخوض النّص رحلة الوعي المضادِّ، يبدأ بـتفكيك الذّات القلقة، ويصل إلى تأسيس أسطورة جديدة للنّجاة، تتّكئ على الأصل السّومريّ النهريّ، وتراهن على كسر الزّمن للوصول إلى المعنى الأبديّ.
سقَطَت أصابعي (ص 35):
يتابع الشّاعر هدم الذّات عبر ثنائيّة الرّحيل القسريّ والضّياع، فينطلق في قصيدة "سقطت أصابعي" من تسليم داخليّ "هَوِّنْ عليك"؛ ليجعل من المعارك سرّا، مؤكّدا عزلة التّجربة وانغلاق البوح، عائدا إلى منفاه الذّاتيّ دون "ظلّه المحترق"، أيّ يتخلّى عن الذّات الّتي عاشت اللّذة والأمل، فيتحوّل القلب إلى "حفنة رماد"، رمزا للاستنفاد التّام للقدرة على الشّعور.
أمّا رمزيّة سقوط الأصابع، فهذا الحدث هو ذروة الانهيار، وهو فقدان لأداة الخلق والتّدوين، حيث تمثّل الأوراق الرّطبة، الذّاكرة أو الشّعر المجهض الّذي يستمدّ وجوده من الجرح، لا من الإرادة.
على الضّفة الأخرى، تعصف الرّيح بتلابيب الرّوح، وتنقل إليها ملامح العابرين الّذين وصلوا من الهشيم، ما يشير إلى وحدة المصير نحو الفناء أو الخراب.
هذا النّصّ هو إعلان انمحاء، وتجريد للذّات من وظائفها الحيويّة والإبداعيّة، استعدادا للدّخول في صمت ما بعد النّهاية.
أجنحة الضّوء القادمة (ص 107):
"أجنحة الضّوء القادمة"، تأتي هذه القصيدة كنقلة فارقة، تمثّل فعل استرداد روحيّ بعد مراحل الانهيار، وكدعوة للرّفقة المضيئة والبحث عن المعنى في لحظة البزوغ المطلقة.
نجد فيها دعوة للاحتشاد عند عتبة التّجلّي بين اللّيل والفجر، وهي اللّحظة الّتي تتيح للأرواح أن تتخلّى عن لغة الواقع العاجزة؛ لتبوح بالهمس وتلتقي عند صمت الشّعراء.
يرسخ هذا النّصّ حالة الرّفض الإيجابيّ لطقوس الفناء والغياب، "لا أصوات تغنّي للموت". هذا النّفي يهدف إلى تأكيد الحضور المطلق للذّات في اللّحظة الرّاهنة، حيث يتحوّل المشي على "ضفاف اللّحظة" إلى فعل تطهير يمحو الحزن، ويعيد للإنسان وظيفته الأصليَّة كمرآة اللّاهوت.
تكتمل رحلة العبور بترك الظّلّ والتّمركز بين الكيّنونتين. ترك الظّلّ هو التّحرّر من الثّقل المادّيّ والتّاريخيّ، بينما العبور "بين الكائن والكينونة" هو تعليق الذّات في حيّز الاحتمال الخالص، معلنا أنّ الهويّة الحقيقيّة أصبحت مرتبطة بالبزوغ الأوليّ "أوّل الصّبح هويّتي"، حتّى وإن كان هذا التّمركز الرّوحيّ ذاته يمثّل المنفى.
هكذا، وبعد الإحساس بجفاف المعنى والسّقوط، يأتي هذا النّصّ؛ ليثبت أنّ النّجاة هي في الإصرار على الإشراق الجماعيّ والقبض على لحظة البدء الأزليّة.
بلاد حسن عجمي (ص 127):
بعد حالة التّجلّي الجماعيّ والاصطفاء الرّوحيّ الّتي استشعرناها في القصيدة السّابقة، يأتي هذا النّص كنكسة وجوديّة قاسية، ينتقل بنا من ذروة اليقين المضيء إلى قاع النّكران والرّيبة في الذّات والمكان.
هذه العودة المادّيّة إلى "بلاد حسن عجمي" تكشف أنّ الخلاص الرّوحيّ لم يمنع فاجعة الاغتراب المطلق. (حسن عجمي هو أحد الأسماء المرتبطة بالتّاريخ الثّقافيّ والاجتماعيّ لمدينة بغداد، ويعرف مقهى حسن عجمي كأحد أشهر وأقدم المقاهي في بغداد، وقد كان مركزا لتجمّع الأدباء والمثقّفين والشّعراء العراقيين منذ منتصف القرن العشرين).
يُشكّل هذا النّصّ مرثيَّة الذّات والمكان عبر حقل دلاليّ للتّلاشي، تبدأ القصيدة بإعلان فقدان السّلطة على الزّمن "لم تعد الأيّام لي"، وفقدان الألفة المكانيّة؛ فالجدار الأليف الّذي كان ظلّا، والمقهى الّذي كان مُلهِما، تحوّلا إلى رموز للانسحاب واليأس.
"مقهى حسن عجمي"، الّذي كان مركزا لضحكات الشّعراء، بات زاوية لكتمان البكاء، ما يؤكّد انهيار الرّابطة الإبداعيّة والاجتماعيّة بالمدينة.
تتصاعد فكرة النّفي المتبادل، فالشّاعر لا ينتمي إلى المدينة "الخطى ليست لي"، والمدينة تنكره، بل إنّ الوطن برمّته قد تبخّر خلف "ضباب الحنين".
هذا النّكران لا يقتصر على البشر، بل يشمل الطّبيعة الحيّة، فالنّخل قد انحنى كشيخ يعدّ الغائبين، وحتّى ذاكرة الشّاعر الإبداعيّة؛ فالقصائد تهرب من دفاتره "كالعصافير".
ثمّ يطرح السّؤال عن الواقعيّة وتاريخ الذّات: "هل كنت حقّاً هناك؟". هذه الريّبة في الوجود هي أشدّ أنواع الغربة. لكن، يتدخّل صوت الطّبيعة الرّؤيويّ (المطر الخفيف) كهمس منقذ وشرط للمتابعة، والمطر يربّت على الكتف ليؤكّد بقاء جمرة الرّماد، وهي الإشارة الوحيدة للمقاومة الكامنة الّتي ترفض الانطفاء النهائيّ، مبقية على هامش ضئيل لإعادة الاشتعال والكتابة مجدّدا.
إيجاز مكثّف للرّمزيّة والقضايا العربيّة:
يغلب على القصائد طابع التّكثيف الشّعوريّ، حيث تستخدم المفردات والصّور الحسّيّة؛ للإشارة إلى معانٍ تتجاوز المعنى الحرفيّ، لتتمحور الرّمزيّة فيها حول أربعة محاور رئيسيّة: الحبيبة/الوطن/الحلم، الألم/الحرب/الغربة، الطبيعة/الزّمان، ورمزية الأسطورة والدّين. بذلك، تبرز من خلالها أسئلة الوجود، ومواجع السّياسة، وتعقيدات العصر ومتطلّباته الفكريّة، فالنّصّ ينطق بلسان السّاعين إلى عدل مفقود وكرامة مسلوبة، جاعلا من اللّغة مرآة لقلق الإنسان المعاصر، ومانحا الكلمة قوّة الكشف والتّجدّد.
كما اتّسمت لغة القصائد بالاقتراب الشّديد من الهموم الإنسانيّة، في محاولة لكسر حاجز المألوف عبر رمزيّة تتخطّى حدود الذّات.
هذه الرّمزيّة تعكس عمق جراح الوجود العربيّ منذ القرن العشرين، وتتمثّل في التّوتّر الحادّ بين الحلم والواقع، تتجسّد أيضا عبر توظيف ثنائيّات متناقضة لعمق التّجربة، وتحوّل الأمكنة مثل بغداد، إلى أيقونات وجدانيّة تحمل ثقل التّاريخ والفقد.
يستحضر الشّاعر أساطير الرّافدين؛ كسومر وبابل، رمزا للخصب والبدايات الحضاريّة؛ لتكون شواهد مُرّة على واقع الوعي المخدّر، ويُحتَسى في الواقع المُرّ "كأس الهمّ"، مجسّدا عقم الأمل في ظلّ الخدر الوجوديّ.
تكتمل هذه الصّورة بانتقال الشّاعر إلى تصوير ذاته ممزّقة، تراقب العالم من "فتحة ضيّقة". يرمز بتعبير "سقوط الأصابع" إلى فقدان الأداة الإبداعيّة وحالة العجز والشّلل، ومشاعر الاغتراب الّتي أصابت المثقّف العربيّ، النّاتجة عن القهر وتأثيره السّلبيّ على قدرة المثقّف على الفعل والتّعبير، ما أفقده روابط الهويّة والمكان، ودفع به إلى البحث عن ملاذ روحيّ أو منفى اختياريّ، حيث تتشظّى فيه ذاته بين الحقيقة والوهم.
مع كلّ هذا التّلاشي، يبقى صوت المطر الخفيف في الختام رمزا وحيدا لجمرة المقاومة الكامنة الّتي ترفض الانطفاء النّهائيّ.
مرساة الرّوح في بحر السّيّاب:
في ختام هذه الجولة بين صفحات "قبل أن يستيقظ البحر" لحسين السيّاب، يتّضح لنا هذا المُتنَفّس الشّعريّ؛ كـسجلّ تاريخيّ يشهد على تجربة نظمٍ شعريّة، تجرّأت على مقاومة القهر ومقارعة العدم.
لقد نجح الشّاعر في صياغة بوتقة فنّيّة تنصهر فيها الذّات العاشقة، المكتملة بوحدة المحبوبة، مع الذّات المأزومة والمنفيّة سياسيّا ووجدانيّا، مرتكزا في أفكاره على ثنائيّة حادّة، بين الحبّ المتجاوز للزّمن والحدود، الّذي يُصنَع منه وطن وعمر، وبين الواقع المُرّ الذّي يسحق الأجيال بغواية الحرب والمنفى، جاعلا من شعره أداة حفر عميقة، تصف الألم وتسعى لتوليد الخلاص منه، في إطلالة على أعمق جراح الذّات العربيّة وهي تبني وجودها من ركام العدم.



#صباح_بشير (هاشتاغ)       Sabah_Basheer#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عالم الإبداع بعيون ناجي ظاهر.. حوار بين الأصالة وتحدّيات الع ...
- نظرة في كتاب -هامش أخير-.. تأمّلات الأديب محمود شقير
- -وداع على رمال تشرين-
- أن تكون رفيقا للكتاب
- رواية -عين الزّيتون- للأديب محمّد علي طه. وثيقة صمود في سجلّ ...
- -في بعض تجلِّيات السِّيرة الفِلَسطينيَّة- للأديب محمود شقير. ...
- صدور كتاب “نفحات من النّقد” للأديبة والنّاقدة صباح بشير
- فيصل درّاج وذاكرة لا تمحى.. قراءة في كتاب “كأن تكون فلسطينيّ ...
- سمو الرّوح..رحلة إلى أفق النّقاء
- -أغنية المجنون- لعادل خزام، رحلة الوعي بين قسوة الواقع ونداء ...
- آباء على ثرى الوجع
- صباحات القدس.. قصيدة فجر وأسرار روح..
- وشائج الرّوح واللّغة.. سرّ الأدب
- رواية -أولاد جلوة- للرّوائيّ قاسم توفيق، جذور ورمال، وحكاية ...
- الفكر النّسويّ عند ماجد الغرباوي، قراءة في كتاب جديد
- يوم المرأة العالميّ، احتفال بالحقوق أم ترسيخ للصّور النّمطيّ ...
- -صيّاد.. سمكة وصنّارة-، كتاب يغوص في ذاكرة البحر
- قصيدة -مطر على خدّ الطّين-.. بحث عن الذّات في محراب الحبّ وا ...
- رحلة في أعماق الذّاكرة والوجدان: قراءة في رواية -منزل الذّكر ...
- -والي المدينة-.. ومضات سهيل عيساوي تضيء عوالم مكثّفة


المزيد.....




- -ضايل عنا عرض- يحصد جائزتين في مهرجان روما الدولي للأفلام ال ...
- فنانون سوريون يحيون ذكرى التحرير الأولى برسائل مؤثرة على موا ...
- -تاريخ العطش- لزهير أبو شايب.. عزلة الكائن والظمأ الكوني
- 66 فنا وحرفة تتنافس على قوائم التراث الثقافي باليونسكو
- فنان من غزة يوثق معاناة النازحين بريشته داخل الخيام
- إلغاء حفلات مالك جندلي في ذكرى الثورة السورية: تساؤلات حول د ...
- أصوات من غزة.. يوميات الحرب وتجارب النار بأقلام كتابها
- ناج من الإبادة.. فنان فلسطيني يحكي بلوحاته مكابدة الألم في غ ...
- سليم النفّار.. الشاعر الذي رحل وما زال ينشد للوطن
- التحديات التي تواجه التعليم والثقافة في القدس تحت الاحتلال


المزيد.....

- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح بشير - -قبل أن يستيقظ البحر-.. مرثية الحبّ في زمن الرّماد والمنفى