أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح بشير - فيصل درّاج وذاكرة لا تمحى.. قراءة في كتاب “كأن تكون فلسطينيّا”















المزيد.....

فيصل درّاج وذاكرة لا تمحى.. قراءة في كتاب “كأن تكون فلسطينيّا”


صباح بشير
أديبة وناقدة

(Sabah Basheer)


الحوار المتمدن-العدد: 8444 - 2025 / 8 / 24 - 14:03
المحور: الادب والفن
    


في رحاب الذّاكرة، تُنسَج خيوط الزّمن؛ لتحمل عبق الماضي وأمل المستقبل. بالنّسبة للفلسطينيّ، فالذّكرى تتخطّى استعادة أحداث مضت، فهي نبض حياة وروح تأبى النّسيان، هي الحكاية الّتي يرويها الجدّ لحفيده عن أرض السّنابل والزّيتون، ورائحة الحبق الزّعتر الّتي تعطّر الرّوح، وخبز الأمّهات الّذي يحمل نبض العشق الأزليّ للأرض، وأصوات الفرح الّتي كانت تتردّد في ليالي الأعراس.
الذكرى هي الوفاء والأمانة الّتي يحملها كلّ فرد منّا على عاتقه؛ لتبقى شعلة الأمل متّقدة في دروب العودة، مؤكّدة على أنّ الأرض والإنسان صنوان، لا يمكن فصلهما. وكما يروي الفلسطينيّ حكاية أرضه من خلال ذكرياته، يخطّ النّاقد الكبير د. فيصل درّاج سيرة حياته من ذاكرة حيّة نابضة، يسطّرها في ثلاثمئة وثماني عشرة صفحة بليغة، تنفّست حروفها من أروقة المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر عام (2024م)، خطّها بمداد من تجربته الثّريّة، ليرسم بصدق وشفافيّة ملامح مسيرته الفكريّة والإنسانيّة.

لقد وصلني هذا الكتاب، حاملا توقيعه الأنيق وإهداءه الكريم، فكان أيقونة تضاف إلى مقتنياتي الأدبيّة، فشكرا لهذه القامة النّقديّة على هذا الكتاب الثّريّ.
يضمّ هذا السِّفر الأدبيّ تقديما، استهلّ بطرح سؤال مهمّ (ص11): "هل يستطيع فلسطينيّ أن يكتب سيرة ذاتيّة؟".
يقول: "يأتي الجرح من سيرة لا تُكتَب بصيغة المفرد". "قد تبدو الإجابة شائكة الأطراف، إن كانت علاقة الكاتب بأرضه ضيّقة المساحة". "وما يضاعف الصّعوبة، عجز الذّاكرة، حتّى لو رُمّمت، ففي كلّ لاجئ حكاية، والحكايات لا تلبّي الذّاكرة دائمًا".
بعد ثمانية فصول، يُتوَّج هذا الكتاب بخاتمة موجزة، تنبئ بجزء ثانٍ يكمل مسيرة هذا العمق الفكريّ، وينهي سطوره بإجابة أخرى على ذات السّؤال المطروح في المقدّمة، فيقول (ص318): "أن يكون الإنسان فلسطينيّا، يعني أن يدرك أنّ نكبته الأخيرة ليست بأخيرة".
أمّا فصول الكتاب، فهي بمثابة عالم يضمّ بين جنباته عددا من المباحث الفرعيّة؛ ليغوص القارئ في عوالم من الفكر والتّأمّل، في مقتطفات من حياة الدّكتور درّاج.
تبدأ حكايته من النّكبة، حيث غادر قريته طفلا، يشتعل شوقا إلى الوطن، يتوق إلى ألفة كانت، وسكينة غابت، وطفولة متروكة على قارعة العمر المهاجر. يهرب من وحشة الحنين إلى أمان الكتابة، حيث الوطن البعيد ينهض من رماد الذّكرى، ويلوح له بأرض لم تبارح مخيّلته.
يأخذنا معه في رحلته عبر البلدات والمدن الّتي أقام فيها، متناولا بعمق قضايا فكريّة شغلت باله، على رأسها الاغتراب والغربة، واللّجوء وعدم الاستقرار، بالإضافة إلى الثّقافة والكتابة والمعرفة، مؤكّدا التزامه الرّاسخ بقضايا أمّته وشعبه.
في كلّ فقرة، ينفض الغبار عن صور لأناس مرّوا بحياته، جمعته بهم الإقدار أو الصّدف العابرة، أو رباط العمل المقدّس، أو شغف الكتابة الّذي لا ينضب. يستذكرهم بوفاء، بأسمائهم وملامحهم الّتي لا تزال محفورة في ذاكرته، يصف وجوههم وأصواتهم وحركاتهم، ويتعمّق في تفاصيلهم ومواقفهم وكتاباتهم وإصداراتهم. يحكي عن طبيعة العلاقة الّتي ربطته بهم، والفترة التّاريخيّة الّتي شهدت وفاتهم، فيجعلك تراه من خلال عيون الآخرين، مظهرا قدرة على صياغة سيرة لا تقتصر على الذّات، بل تشمل الآخرين في مدارها الوجوديّ.
ولأنّ الكتابة "ذاكرة تسجّل ما تعثر عليه في الطّريق" (ص18)، يتحدّث عن أدباء عرب اهتمّوا بالقضيّة وكتبوا عنها، منهم: مظفّر النوّاب، نزار قبّاني، ممدوح عدوان، جمال الغيطاني، بهاء طاهر، صنع الله إبراهيم، واسيني الأعرج، كاتب ياسين، وغيرهم. وذكر السيّدة فيروز (ص19)، الّتي شدت لفلسطين.
وعن النّكبة فهو لا يكتب بوصفها حادثة تاريخيّة عابرة، بل يجعل منها نقطة ارتكاز تحدّد ملامحه، يحوّل الألم الفرديّ إلى مرآة تعكس معاناة شعب سلبت منه حقوقه، فبات اللّجوء قدرا، والغربة وطنا، وهو لا يتحدّث فقط عن نكبة وقعت في الماضي، بل يتحدّث عن جرح مفتوح، يعيد الزّمن نزفه كلّ يوم، فعندما يصف أحلامه الّتي تلاشت في زحمة المدن، نشعر بمرارة الأجيال الّتي نشأت بعيدة، وأدركت أنّ الحلم الوحيد الّذي لا يتجدّد هو الوطن.
يُقلّب صفحات أرض سلبت، وزمن ولّى ولن يعود، يسترسل في سرد حكاية تهجيره القاسية، حين اقتُلِع من قريته "الجاعونة" وهو لم يكمل الخامسة من عمره الغضّ؛ ليجد نفسه وقد ألقاه قدر اللّجوء في بلدة "جويزة" السّوريّة، الّتي مدّت له ولأسرته ذراعيها، واحتضنتهم بين أهلها من الشّركس والتركمان. وبعد سنوات، حطّت الأسرة رحالها في دمشق، فكانت له محطّة جديدة صقلت فكره، استلهم من سطور الكتب نورا، ومضى يحدّثنا عن أيّامه الجامعيّة، وكيف أنار أساتذته طريقه، وتركوا في حياته بصمات لا تمحى.
يكتب (ص163): "كانت الجامعة كتابا جميلا، صفحاته من نور، وسطوره من حكمة.. ولها جلال الأبوّة".
كان ينظر إلى الكتب في شبابه بعين ملؤها التّبجيل، يرى فيها كنزا ثمينا وملاذا لجيله، يقول (ص59): "كانت الكتب في شبابنا كيانا هائل القامة، أثيريّ القوام، مضيئا.. أليف الصّوت".
يسرد شغفه بباريس (ص57)، أسطورة النّور الّتي سكنته قبل أن يزورها، يصف نفسه ورفاقه وهم يلوذون بكتب فلسفيّة صعبة، مؤمنين بأنّها مفتاح الحكمة، يتذكّر أساتذته بهيبة العلماء، ويدرك في النّهاية كيف تمزّق داخل السّفر الأوّل أكثر من سفر، فمن رفاقه من استقرّ، ومنهم من سقط في الطريق، وآخر اقتصد في أحلامه؛ ليجد نفسه في النّهاية وقد عرف أنّ مدن الفضيلة ليست سوى وهم، يتبدّد بين ثنايا الكتب، تاركا وراءه تجربة تعيد صياغة الإنسان.
كما يستعرض الأحزاب والأطر السّياسيّة الّتي سادت، يحلّل المرجعيّات الفكريّة الّتي شكّلت وعيه، ويحلّق في فضاء علاقاته الأدبيّة المتينة مع قامات كالرّوائيّ عبد الرّحمن منيف، والمسرحيّ سعد الله ونّوس.
يمتدّ حديثه ليشمل رفاق دربه من الأدباء والمفكّرين الّذين شاركوه المسيرة، أمثال: حيدر حيدر، غالب هلسا، طاهر وطّار، غائب فرمان، محمد دكروب، خالد أبو خالد، جمال الغيطاني، مهدي عامل، ونزار وحسين وكريم مروة، وغيرهم. ويستحضر صور مفكّرين وشخصيات ثقافيّة وأدبيّة عديدة ممّن أضاءوا دربه وفكره، من بينهم: غسّان كنفاني، إميل حبيبي، جبرا إبراهيم جبرا، إلياس خوري، فواز طرابلسي، حبيب صادق، معين بسيسو، إحسان عبّاس، أنيس صايغ، ياسين الحافظ، ناجي علّوش، سليمان صبح، رئيف خوري، وغيرهم.
أيضا، يزخر الكتاب بأسماء غربيّة لامعة في سماء النّقد والفكر والأدب والثّقافة العالميّة، حيث تضمّن إشارات إلى مؤلّفاتهم وإصداراتهم، وبعض مآثرهم أو مواقفهم البارزة.
يشير إلى مبادرة ثقافيّة جمعته بمنيف وونّوس، ويتحدّث عن مجلّات: "الرّصيف"، الطّريق"، "الهلال المصريّة" وغيرها.
يستحضر علاقته بالشّاعر محمود درويش، مستعيدا بداياتها، والعمل الّذي جمعهما في بيروت بمجلّة شؤون فلسطينيّة"، يتحدّث عن تعاونهما المثمر في مجلّة "الكرمل"، ولا يغفل عن رسام الكاريكاتير ناجي العلي، والشّاعر عزّ الدّين المناصرة.
يبرز محطّات حواريّة تلامس قضايا أدبيّة ووطنيّة وثقافيّة، كاشفة عن بصيرة حادّة. كتب عن الأديب إلياس فركوح، مستذكرا حوارا دار بينهما، حين سأله فركوح (ص268): "من هو الأديب الأخلاقيّ؟"، ليجيب درّاج: "هو الّذي يكون أخلاقيّا داخل الكتابة وخارجها، يحترم الكتابة ويحترم صورته بين القرّاء".
يتحدّث بعد ذلك عن فايز الصيّاغ، الّذي أجاب على سؤال درّاج (ص274): "ما هي الثّقافة؟"، قائلا: "الثّقافة هي القيم والأخلاق، وما يفصل بين الخير والشّر، هي اقتراحات معرفيّة، تنشُد إصلاح الخطأ، وتعترف بالجديد والقديم". ثمّ يروي دهشته (ص294)، وهو في العاشرة من عمره، حينما استوقفه من معلّمه تعبير "أبطال القلم"، فتساءل في نفسه: "كيف يكون للقلم بطولة، وهل هناك بطولة من حبر وورق؟"، وحين سأل معلّمه عن أبطال القلم، أجاب: "إنّهم قادة الفكر، المدافعين عن الحقيقة والفضيلة وسلامة اللّغة".
ترسّبت كلمات معلّمه في ذاكرته، ثمّ خبا بريقها مع رحيل الطّفولة، الّتي كان يراها زمنا متسامحا يجمّل الأمكنة، لكنّ الشّيخوخة أتت لتساوي بين الأزمان والأمكنة، وتبرهن له "أنّ العمر ليلة كان الصّباح لها جبين" (ص294).
تطرّق بعد ذلك إلى رواية "أديب" لطه حسين، واصفا إيّاها بعمله الرّوائيّ الأكثر إقناعا، ثمّ انتقل إلى رواية "في سبيل التّاج" للمنفلوطي، و"الأجنحة المتكسّرة" لجبران خليل جبران، ورأى في الأدباء الثّلاثة رغم الاختلاف، قادة للفكر واللّغة، إذ أسّسوا بأساليبهم لفردانيّة مبدعة، وقلق في الوعي، لا يختزل الحياة في موضوع واحد، بل يدرك أنّ الكتابة اعتراف بالذّات، وحوار عميق مع قرّاء لا يفصلون بين الكتابة والحياة.
استعرض ما قرأه من أعداد لمجلّات "الرّسالة" و"الرّواية" و"الهلال"، ومجلّة "الثّقافة" الّتي كان يصدرها المؤرّخ الأديب أحمد أمين. ثمّ سرد محاولاته لكتابة القصّة القصيرة الّتي هربت منه في بداية الطّريق، ومسح مفارقاتها بدموع المنفلوطي في كتابه "النّظرات"، مدركا (ص299) "أنّ الأسلوب يتكوّن في عمليّات الكتابة، وأنّ من لا أسلوب له، لا شخصيّة له، وأنّ الكتابة موقع لعمل ونظر طويلين، لهما شبه بداية، ولا نهاية لهما".


سيرة الأسئلة.. رحلة في عمق الذّات الفلسطينيّة:
أمّا عن الأسئلة الوجوديّة، فيعجّ هذا الكتاب بالأسئلة الّتي تجول أصداؤها بين جنبات العقل والقلب، أسئلة فكريّة وإنسانيّة وفلسفيّة، يطرحها درّاج على ذاته، وعلى من تقاطعت دروبه معهم من أصدقاء وزملاء للحرف والقلم.
لقد ظلّ سؤالان يطاردانه كظلّه الّذي لا يفارقه؛ الأوّل: "لماذا أصبحت لاجئا؟" فيُرجِع الإجابة إلى حقيقة أزليّة، تثبت أنّ القوّة غالبا ما تنتصر على الحقّ، وأنّ منطق الغلبة يفرض نفسه على ميزان العدل.
أمّا السّؤال الثّاني، فكان أكثر عمقا وإيلاما: إذ "كيف يتكوّن الإنسان لاجئا في عالميه الدّاخليّ والخارجيّ؟" وفي الإجابة عنه، يرى أنّه عصيّ على التّفسير؛ لأنّ الإنسان لا يدرك الأسباب الحقيقيّة الّتي أوصلته إلى هذا المصير، فهو يترنّح تحت صدمات الواقع الّتي لا ترحم.
في هذا السّياق، يستشهد بقول خليل السّكاكيني، الّذي يلقي بظلال قاتمة على تحوّلات القيم، حين قال: "ربّما يأتي يوم تصبح الخيانة فيه وجهة نظر".
أمّا صادق العظم، فقال ردّا على سؤال درّاج (ص97): "ما الّذي يجعل الملتبس يهزم الواضح؟" فجاء في ردّه: "يأتي الجواب من فساد الأزمنة، الّذي يجرف كلّ شيء". ويمضي في رحلته الإستفهاميّة، ليسائل ذاته (ص19): "ما معنى أن يكون الإنسان فلسطينيّا؟".
يقدم إجابة جامعة تعبّر عن جوهر الانتماء، فيكتب: "أن يكون الإنسان فلسطينيّا، يعني أن تحفظ ذاكرته ما عاناه في المنفى، ألّا يسقط في إقليميّة خائبة تنكر العرب والعروبة، وأن يرى الثّقافة في القيم والأخلاق، ويدافع عن التّنوير والاستنارة".
يتابع: "أن لا تحرّر دون الاعتراف بالمرأة كيانا فاعلا حرّا مستقلّا، لا يحتاج إلى ذكوريّة الرّجل، ووعظ أدعياء الفضيلة".

أوجاع الغربة.. من اللّجوء إلى الاغتراب:
على قارعة الذّاكرة، حين يسرد الغرباء أحزانهم، يصف حال اللّاجئين الفلسطينيّين في ذاك الزّمان، فيقول (ص38): "يموتون إن اقتربوا من الوطن، ويموتون إن ابتعدوا عنه، ويموتون أكثر، إن هجسوا بعبد القادر الحسيني، المقاتل الّذي استشهد على حدود القدس". والّذي تعلّم منه (ص27): "أنّ اللّقب العلميّ لا يصنع وحده مثقّفا، وأن لا ثقافة في الكلام الفصيح، ولا في أهازيج الحروف المختارة، وأنّ الثّقافة فعل أخلاقيّ مسؤول، لا يقترن بمثقّف ضيّق الشّهرة أو عريضها".
يتساءل (ص41) عن كنه الأوجاع الّتي تخلّفها الغربة، وعن أشواكها الّتي تنغرس في الرّوح؛ ليضع حدّا بين نوعين من الغرباء: أولهما، هو ذلك الغريب الّذي اختار غربته، باحثا عن جديد في عالم تتعدّد فيه الوجوه والثّقافات. أمّا ثانيهما، فهو ذلك الغريب الّذي اقتُلِع من عالمه اقتلاعا، وقُذِفَ به إلى فضاء مجهول.
على غير موعد، فاجأه سؤال من غريب ذي حال رقيق، فبدأ درّاج يسائل ذاته (ص41): "لماذا أخشى حديث الغربة، وأهاب النّزول داخلي؟".
يقرّ بأنّه اختزل الإجابة واكتفى بالقول: "لك أن تقرأ رواية نجيب محفوظ، "اللّص والكلاب"، الّتي سردت مآل غريب باحث عن العدل، صيّره الزّمن ضحيّة". وأردف: "لك أن تعرف رواية "ألبير كامو" عن الغريب الّذي ضاق بكلام الآخرين، وزهد بإلقاء نظرة أخيرة على وجه أمّه الرّاحلة". وأضاف: "والأقرب إلى سؤالك، رواية غسّان كنفاني "رجال في الشّمس"، عن لاجئين تاهت خطاهم، وبحثوا عن نعمة مستحيلة، أودت بهم إلى الهلاك".
يعود إلى الغربة، فيقول (ص42): "إنّ الغربة تنهش بعنف روح الغريب، يخاف وينكمش وينزوي ويتضاءل، يتقلّص وينحسر، ويلوذ بما لا يُرى".
يقول أيضا (ص43): "اللّاجئ متّهم في وطنيّته، متّهم إن بقي في وطنه أو خرج منه، في الحالة الأولى خاضع جبان، وفي الثّانية متطفّل، وواقع الأمر أنّ غربته خطيئة، جاء بها عنف التّاريخ، ومأساة صدرت عن عماء الوجود".
يطالعه الصّديق كمال أبو ديب بسؤال (ص48): "ما الفرق بين منفى اللّاجئين وغيره من المنافي؟". فيجيب: "منفى البعض أشدّ قسوة من غيره، أمّا المنفى الفلسطينيّ، فالأكثر بؤسا في المنافي، إنّه إقامة في اللّاإقامة". "المنفى يُعاش ولا يعرّف، حال الحكايات، يفيض معناها على سردها".
وكي لا نفقد الذّاكرة أو تأكلنا الضّباع، على حدّ قول الأديب الرّاحل سلمان ناطور، يكتب درّاج (ص36): "الذّاكرة سجلّ الرّوح"، وعن أهميّتها يقول (ص72): "الفقد والحرمان يلزمان الفلسطينيّ بانتظار مرير، إن سقط من الذّاكرة، زاد نقص الفلسطينيّ نقصا، وانهدم كيانه". ويكتب (ص85): "تظلّ الذّكريات الحالمة عزيزة على قلوب المهزومين".
يتناول أسئلة اللّاجئ قائلا: "كيف كنت قبل اللّجوء؟ وما الّذي أصبحته بعده؟ وهل كنت بين الزّمنين أشبه غيري من غير اللّاجئين؟".

السّيرة.. نبض الوطن وذاكرته:
تترسّخ الذّاكرة واللّجوء والمنفى في هذه السّيرة، متجاوزة مكانة الأفكار العابرة؛ لتغدو "موتيفا" متجذّرا وأداة نقديّة تفكّك الواقع، وتكشف أنّ الألم الشّخصيّ ليس إلّا صدىً للألم الجمعيّ.
هذا الموتيف يشكّل بنية السّرد العميقة، ويؤكّد أنّ الهويّة الفلسطينيّة قد تشكّلت في ظلّ هذا الثّالوث، الّذي يوضّح أنّ النّفيَ ليس جغرافيّا فقط، بل هو نفي للذّات والهويّة، فالكاتب يروي اللّجوء كحالة وجوديّة تتبعه، وتعيد تعريف علاقته بالعالم، يدوّن ما انتُزِعَ منه، مؤمنا أنّ الثّقافة حصن منيع، فيستحضر سيرة لم تَخبُ جذوتها، وذاكرة تمنح الأمكنة صوتها؛ لتكون بوصلة للوعي وسجلّا للوقائع والأحداث. وفي هذا كلّه، يتجلّى سلطان اللّغة الّذي يعيد تفسير الواقع، ويصوغ معنى الوجود في زمن التّيه والخذلان، فاللّغة هي عون الرّوح في منفاها، وأداة البناء الّتي يقيم بها الكاتب وطنا فوق الورق.
أمّا أسلوبه، فهو أدبيّ بديع وغنيّ، يبحر في عمق المعنى بسلاسة، يحمل القارئ في رحلة من الأفكار والمشاعر، بعيدا عن أيّ تكلّف أو تعقيد، لا يطغى عليه الجانب الفكريّ ولا يبتعد عن رصانة المعرفة الّتي تثري الوجدان وترتقي بالفكر.
ما يميّز هذا الأسلوب، هو عنصر التّشويق الّذي ينساب خفية بين السّطور، إذ لا يكتفي الكاتب بسرد الوقائع، بل يبثّ فيها روحا من الترقّب؛ ليتحوّل النّصّ من سيرة إلى رحلة استكشافيّة، تُبقي العقل والقلب في حالة من اليقظة حتّى النّهاية.
لقد ابدعت هذه السّيرة بشقّيها الذّاتي والغيّريّ، في مداراتها تتشكّل الأنا من جديد، معبّرة عن عمق الهويّة وفراد الخصوصيّة، هي مرآة متعدّدة الأبعاد تعكس جوانب الكاتب الخفيّة والظّاهرة، كما اشار إلى ذلك عمالقة في هذا المجال، أمثال: جيمس أولني، جورج غوسدورف، ودوبروفسكي، وغيرهم.
على هدي هذه الرّؤى، أضفى "فيليب لوجون" طابع الميثاق، حيث يلتزم الكاتب بأمانة السّرد وصدق النّقل، ويتوقّع القارئ منه هذا الصّدق، كعهد من الوفاء بينهما.
في هذا الكتاب.. يتلألأ هذا الفهم العميق للسّيرة، يبني جسرا من الوعي المشترك بين الأنا والآخر، فيجمع بين ما هو شخصيّ وما هو وطنيّ، يعزّز ثقة القارئ، مسلّطا الضّوء على فرادة السّيرة الفلسطينيّة وتشابكها الوثيق، مع الذّاكرة الجمعيّة وحكاية الفرد ومأساة شعب بأكمله.

الخاتمة- فيصل درّاج.. الكلمة والأثر:
في نهاية رحلتنا مع الدّكتور فيصل درّاج، تتجلّى لنا سيرته عملا فريدا، يعكس نضجا استثنائيّا. هي إضافة نوعيّة للمكتبة العربيّة، وبصمة تثبت أنّ الكتابة فعل مقاومة، وأنّ الذّاكرة درع حصين لا يُختَرق، وأنّ الجسد قد يغادر الأرض، لكنّ الرّوح تبقى متجذّرة فيها، وأنّ الفلسطينيّ لا يملك ترف نسيان نكبته، لأنّه باختصار يحملها معه أينما ذهب؛ ليشهد بوجوده على قضيّة لن تموت. وفي الحقيقة، لا يمكننا في هذه العجالة أن نحيط بكلّ ما جاء في هذا الكتاب الثريّ، الّذي يفوق محتواه حدود مقالة كهذه، فهذا العمل يحتاج إلى دراسة تتقصّى أبعاده المختلفة، فهو مرجع فكريّ وأدبيّ، يستوجب الوقوف عنده، وقد حاولت أن أقدّم لكم ما تيسر لي من إيجاز، لعلّ هذا الإيجاز يفتح شهيّتكم للاطّلاع على هذا الكتاب القيّم، والغوص في عوالمه الفكريّة والأدبيّة، ففيه من الفائدة والمتعة ما لا يمكن حصره.
نعتزّ بهذه القامة النّقديّة الكبيرة الّتي نتعلّم منها كلّ يوم، نعبّر عن فخرنا بمسيرته الملهمة، ونشكره على عطائه.



#صباح_بشير (هاشتاغ)       Sabah_Basheer#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سمو الرّوح..رحلة إلى أفق النّقاء
- -أغنية المجنون- لعادل خزام، رحلة الوعي بين قسوة الواقع ونداء ...
- آباء على ثرى الوجع
- صباحات القدس.. قصيدة فجر وأسرار روح..
- وشائج الرّوح واللّغة.. سرّ الأدب
- رواية -أولاد جلوة- للرّوائيّ قاسم توفيق، جذور ورمال، وحكاية ...
- الفكر النّسويّ عند ماجد الغرباوي، قراءة في كتاب جديد
- يوم المرأة العالميّ، احتفال بالحقوق أم ترسيخ للصّور النّمطيّ ...
- -صيّاد.. سمكة وصنّارة-، كتاب يغوص في ذاكرة البحر
- قصيدة -مطر على خدّ الطّين-.. بحث عن الذّات في محراب الحبّ وا ...
- رحلة في أعماق الذّاكرة والوجدان: قراءة في رواية -منزل الذّكر ...
- -والي المدينة-.. ومضات سهيل عيساوي تضيء عوالم مكثّفة
- رحلة في ذاكرة المدينة
- -راحوا وما عادوا-، رحلة في ذاكرة الأحبّة للدّكتور نبيه القاس ...
- الاحتفاءً برواية -فرصة ثانية- للأديبة صباح بشير في نادي حيفا ...
- قراءة في المجموعة القصصيّة -لماذا فعلت ذلك يا صديقي؟- للدّكت ...
- التّراث الفكريّ في رواية -حيوات سحيقة- للرّوائي الأردنيّ يحي ...
- إصدار جديد للأديبة صباح بشير: -طريق الأمل- قصّة تبعث الأمل ف ...
- في متاهات الذّاكرة.. قراءة في رواية -ممرّات هشّة- للأديب د. ...
- كتاب -صيّاد، سمكة وصنّارة-


المزيد.....




- فيلم -درويش-.. سينما مصرية تغازل الماضي بصريا وتتعثّر دراميا ...
- شهدت سينما السيارات شعبية كبيرة خلال جائحة كورونا ولكن هل يز ...
- ثقافة الحوار واختلاف وجهات النظر
- جمعية البستان سلوان تنفذ مسابقة س/ج الثقافية الشبابية
- مهرجان الجونة 2025 يكشف عن قائمة أفلامه العالمية في برنامجه ...
- بيت المدى يحتفي بمئوية نزار سليم .. الرسام والقاص وأبرز روا ...
- الرواية الملوَّثة التي تسيطر على الغرب
- تركيا تعتمد برنامجا شاملا لتعليم اللغة التركية للطلاب الأجان ...
- مسرحية -طعم الجدران مالح-.. الألم السوري بين توثيق الحكايات ...
- مهرجان الأردن لأفلام الأطفال.. غزة وحكايا النزوح والصمود في ...


المزيد.....

- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح بشير - فيصل درّاج وذاكرة لا تمحى.. قراءة في كتاب “كأن تكون فلسطينيّا”