أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح بشير - رواية -عين الزّيتون- للأديب محمّد علي طه. وثيقة صمود في سجلّ الذّاكرة















المزيد.....

رواية -عين الزّيتون- للأديب محمّد علي طه. وثيقة صمود في سجلّ الذّاكرة


صباح بشير
أديبة وناقدة

(Sabah Basheer)


الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 20:49
المحور: الادب والفن
    


صباح بشير:
رواية "عين الزّيتون" للأديب محمّد علي طه.
وثيقة صمود في سجلّ الذّاكرة

صدرت عن الدّار الأهليّة للنّشر والتّوزيع (2025م)، رواية "عين الزّيتون"، للأديب محمّد علي طه، وتمتدّ على مائتين وأربع وتسعين صفحة من القطع المتوسّط، يتزيّن غلافها بلوحة للفنّان سليمان منصور، وتتجسّد فيها كنوز السّيرة الجمعيّة، لتغدو وثيقة أدبيّة في سجلّ الذّاكرة الفلسطينيّة.
الرّواية.. شهادة على النّكبة:
تتناول الرّواية أحداث النّكبة، موثّقة أدقّ التّفاصيل؛ لتبقى حيّة لا يطالها النّسيان، تصف الأماكن في تلك الفترة من المدن والقرى، مستعيدة نبض الحياة الغابرة في جغرافيا الغياب القسري.
يحيك الكاتب نصّه على ميزان التّضاد المتأرجح بين يوتوبيا الوطن الكامن في حنايا الذّاكرة، وديستوبيا النّكبة وتبعاتها، فيتشكّل بناء السّرد من تقابل الماضي والحاضر، من اصطدام الحلم بوقع الحقيقة، ومن مزاوجة الخصب السّابق بوحشة الجدب اللّاحق.
هذا النّوع من الأدب، يعالج التّاريخ ويؤوّله من خلال المتخيّل السّرديّ، ما يسمح بتقديم صورة حيّة للواقع، ويحوّل الأحداث إلى تجربة وجدانيّة عميقة.
يُجمِعُ العديد من المفكّرين والنّقاد كإدوارد سعيد وفيصل دراج وسعيد يقطين على أنّ الأدب الفلسطينيّ، هو جزء لا ينفصل عن عمق النّضال الثّقافيّ، إذ يتحوّل القلم إلى أداة بناء روحيّ، وإلى معول يحفر عمق وجودنا.
أمّا النّاقدة "باربرا هارلو" فتضمّ في كتابها "أدب المقاومة" رؤية نقديّة خاصّة لهذا النّوع من الأدب، باعتباره نتاجا ينبع من رحم تجارب الشّعوب المقهورة، وفي الوقت ذاته يغرس في النّفوس شعلة الأمل والتّطلّع إلى غد أفضل.
دلالات العنوان ومفاتيحه الرّمزيّة:
يحمل العنوان "عين الزّيتون" مزيجا من الدّلالات، فهو يجمع بين العين الّتي تشير إلى البصر والوعي، والزّيتون الّذي يجسّد الجذور.
العين هي عين الرّواية الّتي نرى الحقيقة من خلال أحداثها وشخوصها، وهي عين الكاتب الّتي ترصد الواقع بكلّ تعقيداته. تشير أيضا إلى ينبوع الماء، مصدر الحياة والخصوبة، ما يربط العنوان بدلالات التّجدّد والأمل والبقاء.
أمّا كلمة الزّيتون، فهي تضفي على العنوان بعدا روحانيّا وإنسانيّا عميقا، ففي كلّ قطرة زيت تنبض حكاية، وتتمثّل بركة السّلام في التّراث الدّينيّ والثّقافيّ.
هذا الشّجر المبارك هو رمز لجوهر الهويّة الفلسطينيّة، فشجر الزّيتون بالنّسبة للفلسطينيّ ليس إلّا سِفر الصّمود المقدّس الّذي يُقرَأ، جذوره الغائرة في التّربة هي عمق التّجذّر وشهادة على الوجود الأزليّ.
كما يحمل العنوان بعدا نفسيّا، إذ يربط بين الذّات والعالم الخارجيّ، فالعين هي بوّابة الرّوح والنّفس، وهي الوسيلة الّتي يدرك بها الإنسان محيطه، وعندما ترتبط بالزّيتون، فإنّ ذلك يوحي بأنّ النّصّ يتناول علاقة الإنسان الفلسطينيّ بأرضه؛ كعلاقة روحيّة ونفسيّة عميقة.
ملخّص الأحداث:
هذه الرّواية هي كيان متّحدّ، فكلّ ما فيها يُسهِمُ في صناعة الحدث وفكرة النّصّ الكليّة، الشّخوص فيها كائنات واقعيّة لا ترتدي ثوب المثاليّة، بل تتشابك فيها دوافع الخير والشّر، ما يجعلها أكثر قربا من الواقع الإنسانيّ.
يتّخذ السّارد من مقهى السّلطان في عكّا القديمة، منطلقا لسرد حكايته، يحكي كيف كانت عكّا ملتقى للزّجالين والشّعراء والفنّانين القادمين من دمشق والقاهرة، بيروت وبغداد. وبين السّطور تطلّ علينا شخصيّة "فارس" الّذي نهل العلم وحبّ العربيّة في طفولته من معلّميه، وعاش فترة في قريته، سادت فيها قيم الأخوّة والتّكاتف، قبل أن تفرّقهم النّكبة.
شاءت الأقدار أن يُنتشَل من ويلات مذبحة قريته، فقد كان للمصير تدبير خفيّ حين تحصّن في حظيرة الأغنام، وأصبح بديلا للرّاعي "خميس" الّذي يعمل عند أبيه.
وبعد انقضاء تلك الأيّام، قرّر مغادرة الزّريبة ليطمئنّ على والديه، فتسلّل بخطواته على تراب يحفظ بصماته الأولى، ليجد بيته أطلالا باكية، غادره الوالدان وسكنه الصّدى، وحين التفت لطريق الهرب، وجد الجميع قد غادر، لكنّه وحده عقد العزم على الثّبات، متجاهلا نداء النّزوح، فتوجّه بطريقة خلافا لجهة الهاربين، رافضا المغادرة ومصرّا على البقاء.
انطلق بعد ذلك يتنقّل بين القرى حتّى استقرّ في مدينة عكّا. هو من عائلة "آل خطّاب" الّتي استُبدِل اسمها بعد النّكبة بـ "الشّيخ" ثمّ "الصّفدي". يقول (ص 28): "النّكبة ضيّعت الأصل والنّسب، وضيّعت البيت أيضا".
تصف رحلته المريرة قرى خالية من أهلها، وخلال ذلك، يشرع في رحلة مضنية للحصول على بطاقة الهويّة الزّرقاء، يضطرّ للعمل عامين بلا مقابل ماليّ، ليكون ذلك ثمن حصوله على الهويّة.

ويحصل عليها أخيرا باسم ومكان ميلاد مختلفَين، ثمّ يعمل في الزّراعة، ويلتقي بأبي جمال؛ ليتمكّن بعدها من تبادل الرّسائل مع والده في الشّتات، ثمّ ينتقل إلى عكّا ويغيّر عنوان هويّته بصعوبة بالغة.
في خضمّ هذا التّرحال القسريّ، يجد المأوى عند صفوان، وهناك لم يسلم من الغواية الّتي هبّت من زوجة مضيفه، "سعديّة"، وعلى امتداد الصّفحات، تلاحقه فتن أخرى كإغواء الضّابط ذي الميول الشّاذة، لكنّه لا يتخلّى عن ضميره ويرفض العمالة، مقتنعا أنّ الوطن حقّ أصيل لا يساوَم عليه.
بين السّطور، يتّضح أنّ قيد التّعسّف لم يكتفِ بخنق الصّامدين في الأرض، بل امتدّ ظلّه ليلفح العائدين المتسلّلين ممّن أُجبِروا على الرّحيل، وعلى شفا الحدود، كان المصير يتربّص بهم، حيث تتلقّفهم السّلطات، لكنّهم بعزيمة يغافلون سطوة القهر، ويعودون كرّة بعد كرّة، صوب مرابع الحنين.
سرد الكاتب مأساتهم بحرقة، راسما بألم وهم الأمل الخادع بالعودة الّذي استبدّ بنفوس المهجّرين حين فرّوا هاربين، حيث تردّدت على أفواههم عبارة كانت أشبه بأمنية: جمعة مشمشيّة، تمضي سريعا، وإلى الدّيار نعود.

هذه الأحداث يحيكها أديبنا بريشة حميميّة، فتبدو كينونة دافئة تعانق الأرواح، وعبر التّفاصيل، رسم لوحات للصّمود، يقول (ص267): "كان لهم عين في كلّ مقهى، وفي كلّ مطعم، وفي كلّ ساحة، وكلّ مسجد".
ويظلّ العنصر الأشدّ إبهارا هو التّصعيد المتواتر، الّذي لازم تنقّلات فارس القسريّة. هذا الإصرار دفع بالسّلطات إلى محاولة رميه خارج الوطن، لكنّ إرادة العودة كانت أقوى، فقد أبى الإذعان وعاد خلسة إلى أحضان أسرته وزوجته، وذلك بعد رحلة قاسية من الظّلم والتّعذيب والتّشريد، وبعد أن نجا من موت محقّق، وقف على التّلّ وحدق في أدغال الصبّار وكأنّه يناجيها قائلا (ص 287): "أنا منك وأنت منّي، أنت باقية وأنا باق".
كأنّه بذلك يشير إلى صمود شعبنا وتمسّكه في أرضه، مدركا أنّ هناك الكثير من القصص الّتي لم تُروَ بعد. يقول (ص289): "لكلّ قرية قصّة، ولكلّ عائلة قصّة، ولكلّ فلّاح قصّة، ولكلّ كرم زيتون وقطعة أرضٍ وبئرٍ ونبعٍ قصّة".
هكذا.. يدور النّصّ في جوهره حول معاناة فارس وعذاباته وصموده في وجه التّحدّيات بعد النّكبة، وبصموده.. يجيب فارس عن سؤال جوهريّ يطرحه الكاتب: كيف بقي هذا الشّعب صامدا حتّى الآن، رغم كلّ محاولات اقتلاعه من جذوره ومكانه؟
وخلال سير الأحداث، يكشف عن عشق الفلسطينيّ لأرضه وارتباطه بها. يقول (ص 172): "الفلّاح الفلسطينيّ متعلّق بأرضه، أنسن قطع الأراضي، فلكلّ قطعة أرض اسم حتّى لو كانت صغيرة".
بناء الرّواية، الأسلوب والسّمات الفنيّة:
يُقرّب هذا النّصّ القارئ من روح الفطرة، ساحبا إيّاه من ضجيج العصر إلى سكينته الأولى، فيتجلّى ذلك النّقاء الكامن في صميم الإنسان حين يمتزج بالطّبيعة، وكأنّ العمل يذكّرنا أنّ العودة إلى الأصل هي مفتاح السّكينة. وفي تلك السّلسلة من الأحداث المتشابكة، استثاراتٌ إنسانيّة، تأتي على لسان شخوص العمل، وتأخذنا اللّغة بسلاستها وصورها المركّبة، فتوقظ دواخلنا على جرح غائر.
يتمّ ذلك عبر صور ومشاهد متلاحقة، تتحرّك بحيويّة بين السّطور؛ لتؤدّي دورها في نمو الحدث، فمن الذكّريات والأحلام والمشاعر، إلى الوصف والتّفصيل والتّداعيات، والحبكة الاسترجاعيّة، والتّشبيهات، والصّور الفنّيّة، وكلّها تجتمع في هاجس واحد؛ لتُسكِنَ المتلقّي في حالة من التّأمّل، وتشدّ من إدراكه إلى ذلك الزّمن الماضي، حيث الدّهشة وجموح التّخيّل والذّاكرة وأصداء الأصالة.
وفي سياق تتبّع فكرة الصّمود ورفض الهجرة، تظهر عزيمة البقاء في الأرض بلا إذعان أو تنازل وهي موتيف متكرّر يعزف على أوتار السّطور. هذا الموتيف هو موتيف الصّمود، الّذي يتجسّد في الأدب الفلسطينيّ؛ كوتر جوهريّ، لا ينفكّ يعزف لحنا واحدا، هو لحن البقاء، الّذي يمثّل رفضا قاطعا لمحو الهويّة، يصوّر تمسّك البطل بذاكرة المكان، ورفضه لفكرة التّهجير النّفسيّ حتّى قبل الجغرافيّ.
ويظلّ هذا الموتيف مضيئا للصّفحات، مبقيا على وهج القضيّة متّقدا في قلب النّصّ، فتظهر العزيمة؛ لتحوّل التّشبّث بالأرض إلى قصيدة خالدة، تُرَتَّل لتترسخ في الذّاكرة الجمعيّة، فالأرض في هذا النّصّ هي ميثاق روحيّ يربط الحفيد بالجدّ، ويجعل من كلّ حبّة تراب شاهدا صامتا على أصالة أهله.
أمّا أسلوب الكاتب، فقد جاء على منهج السّهل الممتنع، مطرّزا بخيوط فكاهة رقيقة، تسري فيها مسحة ساخرة خفيّة.
يكمن العمق النّقديّ في المزاوجة بين الأسلوب السّهل الممتنع والسّخرية، الّتي نصفها بآلية تكيّف نفسي للشّخصيات، تعمل كترياق ضدّ اليأس وتكسر النّمط التّراجيديّ، وهي ترسخ مفهوم الصّمود الحيويّ بالقدرة على إيجاد الفكاهة في المأساة، ما يمنح الرّواية واقعيّة نفسيّة مركّبة.
ودعما لهذا التّوجّه، يتعمّد الكاتب تطعيم نصّه بجرعات من الحكم الشّعبيّة ونبض اللّهجة العامّية، الّتي تنحدر كالماء في طرق الأرض وتنبع منها، متّخذة شكل المكان الّذي اختمرت فيه. وبذلك، تغدو الرّواية لوحة ناطقة تحاكي أصالة البيئة الشّعبيّة.
كما اتّخذ السّارد من تقنيّة الأحلام قناة للعبور نحو التّأمّل الفلسفيّ والرّوحيّ، مانحا المعاني بعدا رمزيّا مضافا، أمّا في نهاية الفصول، فنشهد تنوّعا، حيث تنتهي المشاهد تارة بأبيات الشّعر، وتارة أخرى بكلمات الغناء؛ ليتوقّف المشهد عند نقطة تأمّل معلّقة، تدفع القارئ إلى متابعة رحلة البطل، وتترك في نفسه صدى اللّحظة الأخيرة.
تشير تلك النّهايات المعلّقة، إلى عدم اكتمال السّرد الفلسطينيّ ذاته، فالحكاية لم تنتهِ بعد والعودة لم تتحقّق، ما يجعل البناء الفنّيّ للرّواية مرآة دقيقة للحالة الوجوديّة للقضيّة.
لقد نجح الكاتب في تمرير رؤاه الفكريّة على امتداد النّصّ، حيث استثمر كلّ التّداعيات السّرديّة؛ لتكون في خدمة سياق الشّخصيّة الرّئيسة المسكونة بالحنين إلى الأرض.
نعم، فالحنين هو من أهمّ الأعمدة الّتي قام عليها البناء السرديّ، فقد رصد تغيّرات الواقع القاسية وانسلاخه عن طبيعته الأصليّة.
لم يكن لفارس أن يظلّ في أرضه أو يعود إلى أطلال بيته لو لم يكن مشتعلا بالحنين، الّذي رُسِمَت به صور القرى المهجرة، فمنحها قوة الحضور وبقاء التّفاصيل، وتقمّص شكل الذّكريات السّاكنة فيها، والرّواية المحكيّة وأغاني الشّوق إليها. تلك الصّور هي الأكثر ألفة وإمعانا في الجمع بين لوعة الغياب ويقين الحضور.

كما تمّ استخدام تيّار الوعي في طيّات هذا العمل، ما أتاح للكاتب الكشف عن الفوضى في أفكار الإنسان، فمن تداخل الذّكريات والرّغبات والإشارات وجموح الأحلام والتّخيّل، إلى سيل التّداعيات العاطفيّة والألم، الّذي يجرّ المتلقّي إليه، منجرفا في دوّامة من الانفعالات.
هذا التّيار المتدفّق، أضفى على الشّخوص أقصى درجات الصّدق والواقعيّة، ومنح إطلالة على الموضع الدّاكن من نفوسهم، فأصبح القارئ يرى ما يشعرون به وما يجول في أفكارهم.
السّرد بلسان البطل وأثره النّقديّ:
في هذا النّصّ، يتشابك صوت الضّمير الجمعيّ مع الأصوات الغائبة والقرى المهجّرة، ما يجعله سجلّا للأحداث ويرفعه من سيرة إلى ملحمة سوسيولوجيّة، تعكس الفوضى الوجدانيّة والاجتماعيّة الّتي خلّفتها النّكبة. لقد أكّد الحوار الدّاخليّ قوّة حضور البطل كراوٍ أصيل، فهو لم يكتفِ بسرد الأحداث، بل حوّلها إلى مناجاة علنيّة، ثنائيّة البعد، تقام بينه وبين ذاته وبينه وبين القارئ.
هذا التّعاقب المتقطّع لشرارات الأفكار، يتحوّل إلى مشاركة وجدانيّة مع القرّاء، فبدلا من الوصف الخارجيّ المباشر، نعاين كيف ترتبط الذّكريات الماضية بفعل الشخصيّة الحاليّ. وبذلك، تتعمّق الواقعيّة النّفسيّة بعد أن اعتمد السّرد على الرّاوي العليم، لتغدو الأحداث بعين الشّاهد الأصيل محمّلة بثِقَل الواقع التّاريخيّ.
يمنح هذا الاختيار للرّاوي مصداقيّة مباشرة، وهو ما يضفي على السّرد قوّة لا يمكن تحقيقها من خلال راوٍ خارجيّ، فبطل الرّواية هو رمز لذاكرة شعب، من خلال حديثه عن قريته وأهله وأصوله ورحلته، يستعيد تاريخا كاملا، وهذا ما يعطي للنّصّ بعدا تاريخيّا وثقافيّا، حيث يصبح مرجعا لجيل جديد لا يعرف هذه التّفاصيل.
نماذج من شخوص الرّواية:
عن اسم فارس، فاختياره ليس صدفة. هو فلّاح بسيط يجسّد كلّ أبعاد الإنسان الفلسطينيّ الّذي واجه النّكبة، يشتعل شوقا إلى الألفة المشتهاة والسّكينة البعيدة، ينقّب في رماد الذّكريات عن طفولته المتروكة على قارعة العمر المهاجر، ويحنّ إلى والديه وإلى الدّفء والأمان. كان محمّلا بكلّ أصالته وأحلامه، توحّدت روحه وذاكرته مع روح المكان وذاكرته، فاصطبغا بصبغة واحدة.
أمّا شخصيّة المختار، فتُقدِّم نموذجا مركّبا لمن يبرّر خياراته بالبقاء، مظهرا بسلوكه تحوّلا من الزّعامة التّقليديّة إلى الانتهازية. هو شخص أدرك أنّ البقاء في ظلّ القوّة الجديدة يتطلّب تقديم التّنازلات، كما أنّ تذرّعه بالآيات القرآنيّة يبرز جوانب شخصيّته الوصوليّة، فهو يضفي شرعيّة دينيّة على مواقفه وتحريفه للمفاهيم.
وعن شخصية زوجة المختار، فتقدم صورة إنسانيّة متضاربة تتجاوز التّصنيف السّطحيّ، فهي تظهر تعاطفا في مواقف معيّنة، وتُقدِم على فعل الخيانة في موقف آخر. هذه الخيانة تضيف إلى شخصيّتها طبقة من التّناقض، وتثير تساؤلات حول دوافعها، فهي شخصيّة شجاعة تدافع عن الحقّ ولا تخشى المواجهة.
يظهر ذلك في موقفها مع الضّابط الّذي هدّد فارس بسحب هويّته، فتدخّلت بقوّة واستعادت بطاقة الهويّة من الضّابط قائلة (ص106): "إنت عارف إنو فارس في بيتنا، وهذا اعتداء على حرمة البيت، هات الهويّة".
ترمز هذه الشخصيّة إلى التمزّق الّذي أصاب المجتمع بعد النّكبة، فقد انقسمت بين نزعة الخير وإغواء الشّر، بين العاطفة والخيانة، وبين الولاء والعصيان.
يمكن قراءة هذه الشخصيّة أيضا كمرآة ناقدة، تعكس مظاهر التّنازل والتّدهور الّتي تستشري في المجتمعات المسحوقة، ففيّ ظلّ هيمنة اليأس يكون الانهيار الحتميّ لحاجز القيم الأخلاقيّة آخر المعاقل.
لقد تعمّد الكاتب إخفاء مبرّرات الخيانة عند هذه الشخصيّة، فهل كان ذلك التّغييب مقصودا؛ ليجعل القارئ يعاين هذا التمزّق؛ كقدر لا تفسير له في المجتمعات المنهارة؟


المكان.. شواهد الذّاكرة وروح الهويّة:
يتجلّى المكان في هذا العمل؛ ككائن حيّ، يُسقِط على شخوصه روحه وتفاصيله، يصوغه السّارد بأبعاد طوبوغرافيّة دقيقة، متّشحا بشواهده التّراثيّة والاجتماعيّة، ليضفي على الخطاب انسجاما وعمقا.
استحضر قرية عين الزّيتون كلوحة مشرقة، مشيرا إلى موقعها القريب من صفد، راسما ملامحها بوصف أراضيها الّتي ارتوت من زيت الزّيتون وكروم العنب، لكنّ هذا الاستذكار الحميميّ لا ينفصل عن حزن خفيّ، إذ يأتي في سياق حديث يتذكّر فيه القرى المهجّرة الّتي غابت عن الوجود، وكأنّه بذلك يقيم لها نصبا تذكاريّا في متن الكلمات.
كما يزخر النّصّ بالأمكنة المختلفة من القرى والمدن، ليبقى المكان في معيار السّرد أرجوحة الحاضر والماضي، تتشابك فيه ظلال الغياب بأطياف البقاء، ويصبح بذلك مصدرا للتّأريخ المرويّ ومَعلَما من نور.
الأدب كفعل وجوديّ:
إنّ قوّة الرّواية تكمن في تحويلها الفقد إلى فعل وجوديّ، حيث تصبح اللّغة مرآة الهويّة الّتي تقاوم زوال ذاكرة المكان، ويصبح الأدب ملاذا ووسيلة للتّحصّن من النّسيان، ويغدو القلم مؤرّخا، يسرد سيرة الأرض بصوت الإنسان، وتحت لواء اللّغة، تنهض الذّات ويتجدّد عهدها بالوجود والتّاريخ، لتغدو أرشيفا يضطلع بمهمّة صون الذّاكرة من الاندثار، ويرفع من فعل البقاء كعمل وجوديّ وموقف أيديولوجيّ، ويتحوّل دور الفلسطينيّ من مترقّب للفرج إلى حارس مؤتمن على الذّاكرة الجمعيّة والأرض المفقودة.
وهنا، أنهي بهذا المقطع المقتبس من قصيدة للشّاعر محمود درويش، حيث يقول:
وَقَفْتُ عَلَى الْمَحَطَّة
لَا لِأَنْتَظِرَ الْقِطَار
وَلَا هُتَافَ الْعَائِدِينَ؛ مِنَ الْجَنُوبِ إِلَى السَّنَابِل
بَلْ لِأَحْفَظَ سَاحِلَ الزَّيْتُونِ وَاللَّيْمُون
فِي تَارِيخِ خَارِطَتِي.



#صباح_بشير (هاشتاغ)       Sabah_Basheer#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -في بعض تجلِّيات السِّيرة الفِلَسطينيَّة- للأديب محمود شقير. ...
- صدور كتاب “نفحات من النّقد” للأديبة والنّاقدة صباح بشير
- فيصل درّاج وذاكرة لا تمحى.. قراءة في كتاب “كأن تكون فلسطينيّ ...
- سمو الرّوح..رحلة إلى أفق النّقاء
- -أغنية المجنون- لعادل خزام، رحلة الوعي بين قسوة الواقع ونداء ...
- آباء على ثرى الوجع
- صباحات القدس.. قصيدة فجر وأسرار روح..
- وشائج الرّوح واللّغة.. سرّ الأدب
- رواية -أولاد جلوة- للرّوائيّ قاسم توفيق، جذور ورمال، وحكاية ...
- الفكر النّسويّ عند ماجد الغرباوي، قراءة في كتاب جديد
- يوم المرأة العالميّ، احتفال بالحقوق أم ترسيخ للصّور النّمطيّ ...
- -صيّاد.. سمكة وصنّارة-، كتاب يغوص في ذاكرة البحر
- قصيدة -مطر على خدّ الطّين-.. بحث عن الذّات في محراب الحبّ وا ...
- رحلة في أعماق الذّاكرة والوجدان: قراءة في رواية -منزل الذّكر ...
- -والي المدينة-.. ومضات سهيل عيساوي تضيء عوالم مكثّفة
- رحلة في ذاكرة المدينة
- -راحوا وما عادوا-، رحلة في ذاكرة الأحبّة للدّكتور نبيه القاس ...
- الاحتفاءً برواية -فرصة ثانية- للأديبة صباح بشير في نادي حيفا ...
- قراءة في المجموعة القصصيّة -لماذا فعلت ذلك يا صديقي؟- للدّكت ...
- التّراث الفكريّ في رواية -حيوات سحيقة- للرّوائي الأردنيّ يحي ...


المزيد.....




- لازلو كراسناهوركاي.. الكاتب الذي عبر من الأدب إلى السينما وص ...
- صورة المعلم في الرواية العربية: دراسة نقدية منهجية تطبيقية ت ...
- أسماء أطفال غزة الشهداء تقرأ في سراييفو
- الكاتب المجري لاسلو كراسناهوركاي يفوز بجائزة نوبل للأدب
- تامر حسني يعيد رموز المسرح بالذكاء الاصطناعي
- رئيس منظمة الاعلام الاسلامي: الحرب اليوم هي معركة الروايات و ...
- الدكتور حسن وجيه: قراءة العقول بين الأساطير والمخاطر الحقيقي ...
- مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني ...
- مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني ...
- صدور كتاب تكريمي لمحمد بن عيسى -رجل الدولة وأيقونة الثقافة- ...


المزيد.....

- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح بشير - رواية -عين الزّيتون- للأديب محمّد علي طه. وثيقة صمود في سجلّ الذّاكرة