أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - زهير الخويلدي - فلاسفة في الطريق إلى الحقيقة، ما بين التأمل الميتافيزيقي والتواصل الإيتيقي














المزيد.....

فلاسفة في الطريق إلى الحقيقة، ما بين التأمل الميتافيزيقي والتواصل الإيتيقي


زهير الخويلدي

الحوار المتمدن-العدد: 8546 - 2025 / 12 / 4 - 07:11
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مقدمة
"الحقيقة ليست شيئاً نملكه، بل طريقاً نمشيه"
منذ أن نزل سقراط إلى ساحة أثينا، ومنذ أن أفلاطون صعد إلى عالم المثل، والفلسفة تتأرجح بين قطبين لا يفترقان ولا يجتمعان تماماً: قطب التأمل الميتافيزيقي الصامت المنعزل، وقطب التواصل الإيتيقي الذي يولد في اللقاء مع الآخر. هذه الدراسة لا تريد أن تختار بين القطبين، بل أن تُظهر أن كل فيلسوف عظيم كان، في اللحظة الحاسمة، مضطراً لأن يمشي على الحبل المشدود بينهما، وأن الحقيقة نفسها تكون دائماً في هذا المشي الخطر. فماهو الطريق الذي يسلكه الفلاسفة بحثا عن الحقيقة؟
التأمل الميتافيزيقي: الصعود المنفرد نحو الواحد
في البداية كانت الكلمة… لكن قبل الكلمة كان الصمت. كل الفلاسفة الكبار بدأوا برحلة داخلية صامتة تقريباً:
بارمنيدس يقف مذهولاً أمام الوجود الواحد ويعلن: «الكائن كائن، وغير الكائن ليس». لا حوار هنا، بل صوتٌ واحدٌ يدوّي في فراغٍ مطلق.
أفلاطون في الفيدروس يصف صعود النفس إلى عالم المثل كتجربة من يُخطف إلى السماء في عربة مجنّحة، بعيداً عن الجموع، بعيداً عن الكلام البشري اليومي.
أفلوطين يطلب من تلميذه أن «يغلق عينيه الخارجيتين ويفتح عينه الداخلية»، ثم يصمت لسنوات، لأن الواحد لا يُنطق به.
ديكارت في غرفته المسخّنة في هولندا يقول: «أنا أفكر، إذن أنا كائن»، ويبني العالم كله من هذه النقطة المنفردة.
سبينوزا يجلس في غرفته الصغيرة في لاهاي، يصقل العدسات، ويكتب الأخلاق بالطريقة الهندسية، كأن الحقيقة يمكن أن تُستنتج وحيداً، دون حاجة إلى وجهٍ آخر.
حتى هيدجر في كوخه في الغابة السوداء يكتب «الوجود والزمان» وهو يستمع إلى رنين الصمت فقط.
في هذه اللحظات يكون الفيلسوف راهباً، عاشقاً منفرداً، متسلّقاً يصعد الجبل وحده. الحقيقة هنا هي الواحد، الثابت، المطلق، الذي لا يتغيّر بتغيّر الوجوه. والطريق إليها هو التنقية، التجريد، الارتفاع فوق الزمن واللغة والجسد والآخر
التواصل الإيتيقي: الحقيقة تولد في وجه الآخر
لكن لا أحد بقي على الجبل إلى الأبد. في اللحظة التي يعود فيها الفيلسوف إلى المدينة، أو يبدأ في الكتابة، أو يُسأل سؤالاً من إنسان آخر، يحدث الانقلاب:
سقراط لم يترك كتاباً واحداً، لأن الحقيقة عنده لا توجد إلا في الحوار الحيّ، في الولادة المشتركة. يقول لثياتيتوس: «أنا لا أعرف شيئاً، لكني أجعل الآخرين يلدون ما في أنفسهم».
أوغسطينوس يكتب الاعترافات مخاطباً الله مباشرة: «أنت كنت داخلي وأنا كنت خارجي». لكن هذا الخطاب موجّه في الوقت نفسه إلى كل قارئ سيأتي بعده، فالحقيقة هنا اعترافٌ يطلب شاهداً.
كيركغارد يكتب بأسماء مستعارة، يتكلم مع القارئ المنفرد الواحد، ويقول إن الحقيقة هي «ذاتية»، أي أنها تولد فقط في الشغرفة المغلقة بين روحين.
ليفيناس يقلب الطاولة كلها: الحقيقة ليست أولاً في الوجود، بل في الوجه. «وجه الآخر يمنعني من القتل، ويأمرني، ويستدعيني إلى مسؤولية لا نهائية». قبل أي ميتافيزيقا، هناك إيتيقا.
حنّة آرندت تقول إن الحقيقة السياسية لا توجد إلا في الفضاء العام، في الحوار بين متساوين، في «العالم المشترك» الذي يولد من الكلام والفعل معاً.
في هذا القطب تكون الحقيقة دائماً علاقة، نداء، مسؤولية، جرحٌ مفتوح. لا يمكن امتلاكها، بل يمكن فقط الشهادة لها أمام الآخر
. التوتر الخلاق: الفيلسوف يمشي على الحبل
كل فيلسوف حقيقي عاش هذا التمزق:
أفلاطون يكتب حوارات، لكنه يجعل سقراط دائماً هو المنتصر، ويضع في فمه أطول مونولوجيا ميتافيزيقية في التاريخ.
سبينوزا يكتب بالطريقة الهندسية، لكن كتابه الأكثر حميمية هو «رسالة في تحسين العقل»، وهي رسالة موجهة إلى صديق.
كانط يكتب نقداً صارماً للعقل الخالص، ثم في النقد الثالث يقول إن العقل العملي (أي الأخلاقي) هو الذي يملك «الأولوية العملية» على النظري.
هيدجر يكتب «الوجود والزمان» كتأمل منعزل، ثم في الخمسينيات يقول إن «اللغة هي بيت الكينونة»، وإن الحقيقة لا تُكشف إلا في الكلام الشعري المشترك.
ليفيناس يكتب «الكلية واللامتناهي» ككتاب ميتافيزيقي صعب، لكنه يبدأه بجملة إيتيقية: «الحقيقة تفترض العدالة».
أربعة أشكال للجمع بين القطبين
أ. الشكل السقراطي: الحوار كطريق إلى الميتافيزيقا
الحوار ليس غاية، بل وسيلة لكي يرى كل واحد الحقيقة في نفسه. الحقيقة تبقى مطلقة، لكنها لا تُرى إلا في وجه الآخر
.ب. الشكل الأوغسطيني: الاعتراف
الصمت الداخلي يتحول إلى خطاب موجه إلى «أنت» مطلق (الله، أو القارئ). الحقيقة اعتراف، والاعتراف يحتاج شاهداً
.ج. الشكل السبينوزي: الهندسة المكتوبة لقارئ مجهول
الكتابة كتواصل مؤجّل، كرسالة في زجاجة نرميها في البحر، عسى أن يجدها إنسان حرّ واحد في المستقبل.
د. الوجه الليفيناسي: الميتافيزيقا تنشأ من الإيتيقا
ليس الصعود إلى الواحد أولاً، بل النزول إلى وجه الآخر. الميتافيزيقا نفسها تولد من الصدمة الأخلاقية أمام اليتيم والأرملة والغريب.
خاتمة
لا توجد حقيقة فلسفية كبرى لم تُدفع ثمنها بهذا التمزق بين الصمت والكلام، بين الجبل والساحة، بين الواحد والوجه. الفيلسوف الحقيقي ليس من يختار أحد القطبين، بل من يظلّ يمشي بينهما، يصعد ويهبط، يصمت ويتكلم، يختفي ويعود، يبكي في الخفاء ويضحك في العلن. في النهاية، الحقيقة ليست شيئاً يصل إليه الفيلسوف يوماً ما، بل هي الحركة نفسها، التنفّس بين التأمل والتواصل، بين الوحدة واللقاء. وهي، فوق كل شيء، الشجاعة على أن يبقى الإنسان في الطريق، عالماً أنه لن يصل، لكنه يعرف أيضاً أن كل خطوة على هذا الطريق الضيّق هي، في ذاتها، الحقيقة. لأن الحقيقة، في النهاية، ليست ما نراه في نهاية الطريق، بل ما نصير نحن، ونصير مع الآخرين، ونحن نمشي. فكيف تظل الفلسفة من خلال فعل التفلسف مفتوحة على الطريق؟
كاتب فلسفي



#زهير_الخويلدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكائن البشري بين الطموح اللامتناهي نحو المطلق والإقرار بالت ...
- ما بين سبينوزا والسبينوزية، مقاربة أخلاقية سياسية
- الحقوق الفلسطينية في الدولة والعودة والإعمار وجذورها الراسخة ...
- السياسة عند فولتير بين أول الفنون وآخر المهن، مقاربة تنويرية ...
- الشعوب الحرة هي التي تصنع تاريخها بإرادتها، مقاربة حضارية
- صدور كتاب لم نحتاج الفلسفة في زمن الذكاء الاصطناعي؟
- القيمة الدائمة للفلسفة هي التطوير المستمر للفكر في كل فرد وك ...
- مشروع القرار الأمريكي بشأن مستقبل غزة والموقف الفلسطيني منه
- الإبستمولوجيا في الفلسفة الحديثة والمعاصرة
- الحرب هي النواة الإشكالية لأهم المعارك الجيوسياسية بين القوى ...
- القرار الأنطولوجي الحاسم للذات الجمعية بفك الارتباط بالمركزي ...
- أسلوب المقاربات بين المعنى اللغوي والدلالة الاصطلاحية والمفه ...
- مخطط تقسيم السودان بين السياق التاريخي، الأسباب، والتداعيات
- الرؤى المتقاطعة كنسيج معرفي متعدد الأبعاد
- أصل وأسس اللاّمساواة بين البشر حسب جان جاك روسو وشروط تحقيق ...
- ممارسة الفلسفة بطريقة أصلية مفيدة للبشرية عند التفكير في الغ ...
- انعقاد قمة مجموعة اسيان بين التفاهمات الاقليمية وبناء قوة اق ...
- الوضع البشري بين التناول السوسيولوجي والتناول البسيكولوجي، ا ...
- هل سحب جيل زد البساط من الهيكليات الكلاسيكية وامسك بزمام الم ...
- في مديح الإنسانية، أو الخطاب ما بعد الاستعماري: مقاربة فلسفي ...


المزيد.....




- إلهان عمر لـCNN: لست مصدومة من ترامب لأنه يلجأ للخطاب العنصر ...
- باللغتين الإسبانية والإنجليزية.. أول تصريح لرئيس فنزويلا عن ...
- سجال لبناني إسرائيلي عقب اجتماع -نادر- لمتابعة الهدنة
- مقتل 5 فلسطينيين على الأقل وإصابة آخرين في قصف إسرائيلي على ...
- هل -وثقت- إيران لحظات تدمير الجيش الإسرائيلي مواقع عسكرية عل ...
- مشاهير عالميون يطالبون إسرائيل بإطلاق سراح القيادي الفلسطيني ...
- عاجل| مادورو: الاتصال مع الرئيس ترامب يمكن وصفه بالودي والمب ...
- ترامب: الصوماليون دمّروا أمريكا.. وإلهان عمر -كارثة-
- كأس ألمانيا.. بايرن يواصل الزحف وشتوتغارت يحافظ على الحلم
- -تانغو- السياسة.. ترامب يكشف -رغبة- بوتين في إنهاء حرب أوكرا ...


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - زهير الخويلدي - فلاسفة في الطريق إلى الحقيقة، ما بين التأمل الميتافيزيقي والتواصل الإيتيقي