أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عروب عيبال - حجر اليشب















المزيد.....

حجر اليشب


عروب عيبال

الحوار المتمدن-العدد: 8524 - 2025 / 11 / 12 - 17:27
المحور: الادب والفن
    


مذكرات. الدفتر الخامس
تشرين الأول. 2015
كانت الأيام تُصادر من حياة رجل اسمه زحل، كما تُصادر الرسائل من يد سجين بلا ضوضاء، لكن بأثرٍ مزمن وأثمان لا يمكن سدادها، لم يكن يتذكر متى توقف عن الإحساس بالتسلسل الطبيعي للوقت، لكنه يعيش في متسع معلق حيث تتجاور كل اللحظات المُحتملة، ولأنه لا يعيش في زمن واحد دفعة واحدة، لم يكن وجهه مجرد تقاسيم بشرية واضحة ومحددة الوظائف، إنما صفحة شفافة كُتبت عليها جميع سنوات العزلة التي فرضها على نفسه، وعلى الرغم من بروده وثرائه بالأسرار والقصص التي تصلح أن تتواتر بين الناس مثل أساطير مروية، وجهه لم يبدو بشرياٰ خالصاً فقد ظهر بشكل مرايا قديمة مجمعة، كل واحدة تعكس جانباً فلنقل عمليا من جوانبه: الأنانية كمرآة مقعرة تستقطب الأرواح تجمعها مثل الطوابع في ألبومات غامقة مهملة، والمادية كمرآة تُعيد صياغة الأشياء بقيمة العملة وأسعار الصرف وحركة المال في العالم.
زحل رجل متقلب، بحيث لو وضعت أمامه كوب ماء، يتجمد في لحظة، وفي أخرى يغلي دون نار موقدة تحته، بلحظة قد يدعو متسول إلى وجبة غداء فاخرة وفي اللحظة التالية ينساه، وقد يستيقظ مسرورا دون سبب وبعد عشر دقائق ينقلب إلى وحش حزين لا شيء يقدر على اسعاده، هذا التقلب ليس بسبب مزاجه المعكر باستمرار ولا بسبب سوداويته المصطبغة بفلسفات عصرية لم يعرفها زينون الرواقي مثلا، تسويغ هذا يعود إلى إدمانات غير مرئية، مثل غبار العواصم المُتراكم في رئتيه، أو الاستعجال، أو ربما الجوع، أو التذكر بشدة، والنسيان مثل مصاب بمرض عقلي نادر، إنه يعيش تحت قواعد غير متسامحة، مخاوفه وصراعاته الداخلية وتقلبات مزاجه التي تصيب من يلاحقها بالدوار تظهر مثل فراشات سوداء وصفراء تطير حوله، تبتعد عنه كلما حاول الهاء نفسه، لتعود أشدّ كثافة.
حينما يتظاهر باللامبالاة، يتخذ جلده لون حجر اليشب؛ صلب، بارد، فاخر، قاس، كريم لكن لا يعاش معه، وتُصبح عينه ثقب أسود يمتص النصائح والتوجيهات التي من الممكن أن تنقذه من لحظات تهور مقصودة ومغامرة يصنعها بنفسه مثل عطار عجوز صنع كل ما يمكنه من خلطات عطور، أو علاجات بالأعشاب النادرة، وتجميل الخدود المنطوية، وتطويل الشعر وتحسين نغمات الصوت، ووصفات سحرية لأغراض سرية للغاية، إنه يرفض الاعتراف بوجود أي خطأ في حياته التي يكمن فيها جانب درامي لا يُحتمل، إذ لا يمنح نفسه فرصة ليفرح أو يحزن إنه يعيش مثل خوارزمية مكتوبة بقلم من اللامبالاة والجمود لا يخدش ولا يشعر، على سبيل المثال إنه لا يتعرق، لا تسقط حبات العرق ولا تتجمع عند حافة جبينه، إنها تتحول إلى قطعٍ صلبة من الملح تجرح حلقه كلما حاول ابتلاع ريقه المختلط بمشاعره، وعندما يمر زحل من أمام مرآة، لا يظهر انعكاسه بل يترك صدى صوته الداخلي محبوساً لمدة دقيقة كاملة، وهو صوت زاعق يكفي لإفزاع الطيور في محيط ثلاثين مترا مربعاً، ما كان يسبب له مرضاً غريباً يجعل جسده يرتجف وكأنه محركٌ قديم متكلس، حيث تتحول مشاعره الجوانية إلى جسيمات حادة تتراكم في أطرافه فتصبح جارحة تجعل لمسه أو الاقتراب منه أو عناقه مؤلماً وربما قاتلا أيضاً، أما جلده فتظهر على سطحه بقع بنية صغيرة تنتشر مثل النجوم، تغوي بلمسها وإحصاءها، أظن وكما أخبرني طبيبي الحاذق أن هذا أمر يتعلق بكوابيس لم يشفٓ منها تحوّلت إلى جرح يقع في مكان ما بين كتفه وقلبه، ينزف كل يوم بشكلٍ دائري، الألم علمه النضوج كفاكهة من الجنة، نضوجٌ مبستر بطبقة ثخينة من الجليد، جعله باردا ومسيطرا مثل رجل آلي.
صورته عن نفسه محصنة تماماً؛ إذ يظن أنه جسرٌ معلق في الفراغ، لا تحكمه قوانين الفيزياء الكونية، لكنه في الحقيقة روح تتجول في المتاهة الجليدية المحترقة التي بناها لنفسه ولا يرى الناس حدودها.
زحل رجل الكلمة الواحدة، والفعل الحاد، لا يسمح أن يقاومه أحد لدرجة أن الهواء نفسه لو قاوم خطوته، لتوقف قلبه عن النبض. جانب الظل فيه مثير للاهتمام، فهو شربر بالمطلق، لكنه شر لا يرتكب فيه الآثام والخطايا إنه شر القوة الصامتة شر خاص بالرجال الطيبين، ولديه خلف هدوء وجهه الذي يبدو وجه قديس كنعاني، ميول سادية تظهر قسوة مخبئة بٱحكام خلف مسوح من التطرف، جعلني أشعر بضرورة وجوده، لقد تحوّل إلى قوة جاذبية خارقة للعادة، فعندما يقترب، تطلق روحه خيوطاً من الكهرمان الساخن تلتف حولي في شكل حاجة إلى إراحة روحي المُتعبة داخل عزلته الزجاجية، حتى لو كان الثمن هو أن أظل في عناقه الذي يُشبه السقوط العنيف نحو النعيم، حيث تلتقي غواية السيطرة مع قسوة حتمية هروبي، إن هذا القيد هو الشكل الوحيد من الحرية الآمنة التي يجب أن أبحث عنها، هذا الالتفاف كان يثير في قلبي لوعة غامضةً كي يمتلكني، يمتد ليلاً كذراع خفيّة تكسر أي قاعدة كتبتها لنفسي.
سجنه الشاسع، انتظاره الأبدي لشيءٍ ما، انتظار يصدر ضجة داخلية لا يمكن لأي قوة أن تخفيها، متخذاً من جموده أداة لإخفاء الندوب وتجميلها، مُغلق كصندوق تذكارات ضاع مفتاحه في قاع بحر من اللهب، إنه يكاد لا يرى العالم إلا من خلال فتحة صغيرة صنعتها خيبة أمل تتكرر بلا نهاية، وعلى الرغم من أن مسؤولياته الجسيمة قيود من الحديد الخالص تلتف حول معصمه وقلبه، تمنعه من الانحناء أو الاعتذار، كان يعيش فراغاً وقلقاً جعلاه طفولياً في عناده، إذ كان مكابراً لدرجة أنه لو اعترف بخطأ واحد، لقامت المدينة بأكملها لتقف على رأسها من الدهشة.
الألم، وحده الألم، من علمه النضوج، لكنه نضوج لم يصلح المكسور لم يسمح لنفسه بالتعافي أو تقبل الضعف العابر، لقد نسي أنه مخلوق من الفناء، روحه ضائعة، تتجول في المدن، منتظرة الثمن الذي عليه أن يدفعه، ثمن كونه الحر مثل نورس لا أحد يعرف أين بيته، والذي يُفضل أن يرى صورته عن نفسه مهشمة لكنها خارجة عن الواقع، على أن يرى الحقيقة كما هي.
يقف زحل إلى جوار طوطم من المادية المصمتة التي كانت بالنسبة له درعاً يحميه من أي تماس حقيقي، فهو مادي لدرجة أن الكلمات الخارجة من فمه تتحول إلى قطع نقدية نحاسية وذهبية تسقط على الأرض دون قيمة، ذلك أنه يرى النصوص والقطط والسكاكر كأدوات صرف يمكن تبديلها وتحطيمها واستثمارها، كان لئيماً وبارداً مستفزاً، بخلطة من الصفات صنعها كيميائي حاذق ومنعزل تقف كمسافة أمان بين أنها ليست عيوباً بقدر ما هي دروغ حماية تُبنى حول هشاشته الداخلية التي يحرص أن لا يراها أحد.
لم يكن يمتلك القدرة على التعبير إلا من خلال التلاعب، فكل جملة يقولها كانت في الحقيقة مناورة شطرنج محسوبة بدقة، روحه المتجولة تحمل ثمناً عليه أن يدفعه، ثمن كونه المتمرد على السلطة مهما كانت، الرجل الذي لا يعترف بالرتابة أو الولاء، ثمن هذا كله هو الضجيج الأبدي لشيء لا يدركه، يظل هذا الرجل كائناً نزقاً تحت الأضواء، يحتضن مشاعره العميقة، ويخفق كل يوم في تصحيح أخطائه، ليصبح استمراراً مأساوياً لجرح يتلوى، شاهداً على أن التجريد الفج المطلق لا يحدث إلا بالشتات القاتل والتضحيات الد+موية...
يعيش زحل الآن حياته كنجم قصيٌ، يحلم بأن يوقظه أحد من هذا النوم الصارم، الذي أودى به عندما اشتد ضجيج العيش في رأسه، أن يفرغ نفسه من كل شيء حيث قام بتقطير قلقه وفراغه وماضيه وحزنه في زجاجة صغيرة، ليتحول هذا كله إلى عطر بارد برائحة العنبر الأبيض وبتلات المنغوليا كمزيج غامض يثير هوساً حيوانياً جهوريا من الحسية الباردة والفتنة المعقدة، وجود أثيري يخنق من يحاول اختراقه.
وفي اجراء من إجراءاته الصارمة غير المفسرة، قام بضخ رذاذ من هذا العطر على الشال المفضل الذي تنام فوقه قطة الروح الحرة، في اللحظة التي لامس فيها الرذاذ الشال، تحول الزمن إلى موجة باردة ابتلعت زحل والقطة مع شالها، لم يعد يستطيع المغادرة، لقد صار وجوده ملكاً لقوّة جبرية لا يمكن تأويلها، توقف الزمن عن الدوران في محيطه، لم يعد هناك الآن أو المستقبل، الوقت صار مجرد ماض زمهريري، الزمن نفسه تم تقطيره هو الآخر، النقطة التي بدأ منها عاد لها، دون أن يدرك أن الحقيقة التي كسر القوانين والقلوب والمنطق والعهود لأجلها، هي السجن الفاره المترف الذي يفضح الطفل المختبء خلف عيونه المستطيلة، أصبح الرجل الذي اسمه زحل معطّراً بالخلود.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أثقل من أن يحمله الهواء
- مادي مرة أخرى
- باب الحرية
- صفي العقل
- نوايا طيبة
- ست قطط تنام على سريري
- الغولة


المزيد.....




- -العطر والدولة- لكمال القصير يبحث في تناقضات وتحولات الوعي ا ...
- مؤسسة منتدى أصيلة تفوز بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون ...
- فيلم ”نسور الجمهورية” في مهرجان ستوكهولم السينمائي
- هل انتهى عصر الألعاب حقًا؟.. الشاشات هي العدو في الإعلان الت ...
- -شر البلاد من لا صديق بها-.. علاقة الإنسان بالإنسان في مرآة ...
- غانا تسترجع آثارا منهوبة منذ الحقبة الاستعمارية
- سرقة قطع أثرية ذهبية من المتحف الوطني في دمشق
- مصر.. وضع الفنان محمد صبحي وإصدار السيسي توجيها مباشرا عن صح ...
- مصر: أهرامات الجيزة تحتضن نسخة عملاقة من عمل تجهيزي ضخم للفن ...
- حضور فلسطيني قوي في النسخة الـ46 من مهرجان القاهرة السينمائي ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عروب عيبال - حجر اليشب