عروب عيبال
الحوار المتمدن-العدد: 8521 - 2025 / 11 / 9 - 21:30
المحور:
الادب والفن
يا صفي العقل: كل ما أكتبه ليس إلا محاولة لإقامة دليل على أنني كنت هنا؛ أرى الكلمات أحجارا يجب رصّها، ليس لبناء قلعة مثلا، بل لحجز مكان مؤقت في الزمن الفاني، قبل أن أغيب في الموت دون أن أترك أيتاما خلفي، أبدأ بالسكوت لتجنب الركاكة التي يسببها الهذر والاتفعال، إذ أنه بمثابة حارس النصوص، حين يكون هو الحبر الوحيد الذي أثق به، أبحث عن الجمل التي لا تحتاج إلى نهاية، والتي يمكن أن تظل معلقة دون أن تسقط في فخ التأويل.
يا صفيّ العقل: القلم لم يكن يوماً محض أداة تدوين، إنما مجرفة تحفر في رمال زمن حياتي الذي ينقص مثل ساعة رملية أضعها أمامي طوال الوقت، أجد في كتابة الجمل التي تبدو غير مترابطة طمأنينة، إذ أن سري بأمان من الكشف والتخلي عن مكمنه. في التفكيك يكمن الوضوح.
يا صفيّ العقل: صرت أميل إلى الكتابة عن الأشياء التي لم تحدث بعد، لأثبت أن الاحتمال قد يكون أقوى من الحقيقة، أستمد قوتي من الكلمات المفقودة، التي لم تُنطق، إذ أن النص الحقيقي يختفي في البياض بين السطور. ومع هذا أنا لست كاتبة بل مساحة فارغة تُجبر النص على الدخول إليها، وحين أترك النص ناقصاً، فذلك هو اخلاصي للحقائق المضمرة التي لا يجب أن تُعرف مطلقا.
يا صفي العقل: هذا سؤال مبتذل، لكن يجب طرحه في نص ثقيل متعب عن الكتابة كاداة استجواب داخلي أكتبه علنا في نص لن تقرأه، كما أخفقت مرارا في قراءة خطي من قبل، أنت العميل السريّ العجوز الذي لا تتقن القراءة، إذ أنني أكتب لأفلت من صفة الحقيقي بشحمه ولحمه وهمه لأتحول إلى كائن ورقي لا يمكنك إمساكه.
يا صفيّ العقل: لقد كتبت تحت ضغط داخلي منهك جنبني التقشف واللغة المسطحة، ومع هذا فإن قيمته تكمن في الضرورة إلى تدوين كل ما يمكن احتيازه داخل هياكل كلامية، لمواجهة الفناء مخلصة لوجودي المؤقت ولحالتي المزمنة، إذ أنني مريضة بها وبك وبعطش هائل، لقد دفعت كلفة باهظة، حينما لم أتمكن من ردم الهوة مع الفضاء الشاسع والمُهين الذي يفصل بيني وبين كل ما عداي
يا صفي العقل: النص مختبر بارد وخطير ومن يدخله يعرض نفسه للعدوى القاتلة حيث يكون لحم النص مكشوفاً دون ساتر.
يا صفي العقل: حسن النوايا دائما ما تتقاطع من سوء الفهم، لهذا أظن لا يجب التعاطي مع النص كمحاكمة أو قنص اعترافات، بل عملية كيميائية قسرية، مزج للعناصر المتنافرة: الماضي الحي، الشك الحاضر، وغواية الكمال المستحيل، منتظرة أن يتخثر هذا المزيج إلى شكل صلب يمكنني تسميته: معنى، نص، متن، إنها عملية تجريد إجبارية لتقوية التدفق، عليَّ أن أخلع عن الأفكار مثاليتها، وألوي عنق الكلمات للتخلي عن وظيفة البناء السهلة الممتعة، إذ كلما كنتُ جادة بما أقوم به كلما شعرتُ بالازدواجية المُرعبة، حين أكون الشاهد والضحية والجاني في مساحة ورقة، أصنع وأُدمِّر وأُفكك في آن واحد. كم هو متعب
يا صفيّ العقل: لقد فعلت ما فعلته، وانا أعني أن أدونه بصيغة إقرار مخجل حين تجرأت على الكتابة بخط رديء، يجب أن لا أنهي النص باكتشاف الحقيقة، بل بنوع من الإنهاك المُطلق وهذا ما يمكنني فعله يومياً وهذا يطول شرحه.
يا صفيّ العقل: حين أقف في منطقة برزخية، ويصعب عليّ التمييز بين المشوه والتجميلي في تلك اللحظة أقف مبتعدة، وتكون الكلمات التي بقيت هي النص، الاعتراف، هي أنا التي رفضت أن تتبخر، هذا التجمد الفجائي يمكنك اعتباره البيان الأكثر شجاعة حول طبيعة الكتابة التي لم تكن إلا إجراء تطهيري قاسٍ بشجاعة الحفّار ولامبالاة الجرّاح.
يا صفي العقل: يمكنني الشرح عن قسوة الكتابة بنصوص منفصلة موسعة دون توقف لكني سأكره ما أقوم به وسأزهد حتى بنفسي، إذ أنها تنبش في جروح الصدق، ومتانة الكذب، الكتابة التي تجبرني على الجلوس وجهاً لوجه مع الكائن الذي أخشى رؤيته أكثر من غيره، عليَّ أن أُجرّد هذا الوجود الصاخب من الطبقات الجيولوجية التي بنتها الأعوام فوقي، وأن أعترف علناً بأعمق شكوكي وأكثر رغباتي ضعفاً، وأحلك أخطائي والشرور التي لم أكن لأرتكبها في ظروف أكثر قتامةً من انفجار نووي يغطي سمائي، فالكلمة المكتوبة لا تغفر، إنها تُثبّت الحقيقة، تمنحها الأبدية، تتركني دون مكان للاختباء.
يا صفيّ العقل: إن من قسوة الكتابة، أنها فخ مؤلم يكمن في التضحية، فلكي تُبنى جملة واحدة ذات وزن يجب أن أقـ+تل مئات الجمل الأخرى، حينئذ تكون الكاتبة القا+تلة التي هي أنا، التي أرى جمال البناء الزائد ومع ذلك اختار الحذف، مدركة أن التكثيف طريق متعرج مرتفع يقطع الهواء المتدفق إلى الرئتين، قسوة الإصرار على أن النص لا يجب أن يترك المتلقي يتنفس ولا يترك لي مخرجا من المصيدة المصنوعة بيدي.
يا صفي العقل: هل أثقلت عليك؟ لا تعذرني، فهذه البيانات الطويلة لن تكون بحال أقسى من غيابك الصارم الذي صار مكانا يشبهه ضريح الأمنيات التي لا تتحقق، أعود للقسوة التي تعرفها كما تعرف قراءة التاريخ، وتناول الفطور وإطعام القطط المشردة في الحدائق العامة، فالكتابة قسوة العزلة، إذ أنها تقتضي الابتعاد عن الضجيج الجماعي، عن سهولة المحادثات، والعلاقات، والثرثرة، عن دفء الانتماء، عليَّ أن أنسحب من هذا كله إلى الركن البارد القصي حيث أكون أنا واللغة ومهمة تحويل الفوضى إلى شكل مُنضبط، هذه العزلة ليست هروباً متكبراً، إنما تمرين إجباري للتخلي الواعي، فصل قسري حتى يصبح ما أُنتجه له وزن وحياة مستقلة.
يا صفي العقل: الكتابة قاسية أيضاً لأنها لا تقبل التسويات، فهي تطلب مني بفظاظة الاختيار بينها وبين أي شيء آخر، هذا الشرط: إما أن أمنحها كلي كاملة أو ألا أمنحها أي شيء، وبهذا أكون اخترت طريقاً لا عودة منه إلى التفاوض، والوسطية والسهولة
يا صفيَّ العقل: هذه هي الكتابة التي أقوم بها منذ كنت في السابعة من عمري حين كتبت قصيدة ومسرحية وقصة في يوم واحد، حصلت من خلالها على اعجاب صديقي المتخيل ووالدي.
وبعيداً عن هذا القنوط الأدبي، أبقى غولة مشوشة، إذ أنني آكل الآيس كريم بالتوست، ورغم ضجيج النصوص في رأسي يوترني صوت ارتطام الملعقة في الطبق، ولأسباب تتعلق بالماضي المشين لمدام بوفاري وزوجة الأم في مديح الخالة لازلت أقرأهما داخل الخزانة تحسباً، لا يعجبني باخ الذي هو واجهة الاجلال المطلق، ذروة الكمال الموسيقي، والصرامة الرياضية، لأن الجميع يحبونه، واترك الهدايا الصغيرة للجنيات في الحدائق ذلك لأني لم أتخل يوماً عن يقيني بظهورهم لي كحدث غير منطقي ساحر، وبعد هذا كله يثير استغرابي بائع الحلوى المنفوشة كغيمة، فاسأله حانقة: "لماذا ليس لديك شعر البنات باللون البنفسجي؟.
يا صفي العقل: النص كله تكريسا لذكرى السيد القوي الذي تعلمت بسببه تسلق الصخور، والصمت الطويل، والتربيت على وحش النهر، حينما وحدي من تجرأت على طلب الغيوم الزرقاء المربعة من بائع السكاكر الضجر العجوز الذي أدار ظهره للعالم مبكرا رغم أن لديه الكثير ليحكيه..
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟