نظمي يوسف سلسع
(Nazmi Yousef Salsaa)
الحوار المتمدن-العدد: 8521 - 2025 / 11 / 9 - 23:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كيف ترسخت الديمقراطية بإسبانيا بعد خمسة عقود سبقها عقود اربعة من الحكم الشمولي المتفرد للحزب الواحد وحكم العسكر؟
وكيف جرى هذا التحول والتغيير وسط تصاعد الحرب الباردة والازمة النفطية العالمية وارتفاع اسعار النفط الخام؟!
وكيف لعب العراق دورا إيجابيا في تخطي تلك الأزمة..
وكيف تعايش الشيوعي والاشتراكي واليساري في إطار النظام الملكي؟!
شكلت وفاة الجنرال فرانسيسكو فرانكو في العشرين من تشرين الثاني / نوفمبر عام 1975م، مرحلة جديدة ومنعطف حاد لكافة القطاعات واشكال الحياة بإسبانيا، فبعد حكم عسكري وحزب يميني متسلط تفرد بالسلطة، لأكثر من أربعة عقود، أغلقت أوروبا خلالها الحدود مع اسبانيا، وشددت الحصار، السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى وفاة فرانكو إلى ان تولى الملك خوان كارلوس الأول عرش إسبانيا، بعد يومين فقط من اعلان الوفاة..
واقع الأمر كانت المرحلة الانتقالية في بدايتها متوافقة وسلسه، فقد جاءت تنفيذا لوصية ومشيئة الديكتاتور الراحل، الذي أوصى بعد رحيله، بنظام ملكي دستوري يتولاه الملك خوان كارلوس الأول، وكان لدى اسبانيا حينها بنية أساسية تنموية اقتصادية قوية وراسخة تم انشاؤها طيلة الحصار الحديدي الاوروبي، مما جعل اسبانيا في ذلك الوقت تحتل المرتبة التاسعة عالميا في النمو الصناعي، حتى ان الازمة النفطية العالمية لم تؤثر على تطور وازدهار صناعاتها نتيجة الإتفاق الخاص الموقع مع فنزويلا بتزويد اسبانيا حاجاتها من النفط الخام بأسعار تفضليه منخفضة وبدون الحاجة الى سوق الدولار، واستمر الاتفاق ساري المفعول رغم الارتفاع المتصاعد للأسعار، وكذلك كانت "كاراكاس" قد عقدت اتفاقا مماثلا مع كوبا، اي تعاملت فنزويلا مع نظامين على طرفي نقيض سياسي، اقصى اليمين بإسبانيا وأقصى اليسار بكوبا، غير ان لهذا النظام سمة مشتركة : نظام شمولي للحزب الواحد الوحيد الحاكم والانتماء الثقافي والاجتماعي ..
ومن المعروف ان فنزويلا قد تبوأت صدارة الدول المنتجة للنفط (اوبك) مطلع السبعينيات وخلال (فورة) ارتفاع الاسعار و(ثورة) مراحل الوعي للدول النفطية للسيطرة والحفاظ على ثرواتها الطبيعية.. وكانت كراكاس حينذاك، وما تزال، تطمح وترنو إلى قيادة وتكامل دول القارة الامريكية الجنوبية مستغلة امكانياتها المالية النفطية، فقامت بمد يد العون والمشاركة والتعاون وتنمية دول القارة على كافة الاصعدة، وهذا ما اثار غضب حكومة الجارة الشمالية إذ اعتبرت الادارة الامريكية طموحات فنزويلا "تدخل سافر في شؤونها وشجون جمهوريات الموز وحدائق واشنطن الخلفية"!، وهذه واحدة من اهم اسباب العداء وحرص واشنطن (تدمير) الاقتصاد وإفشال الدولة الفنزويليه لكبح هذا الطموح والافكار والاهداف السياسية البوليفارية في وحدة وتكامل جنوب القارة.. منذ ذلك الحين والى اليوم ما تزال فنزويلا هدف الصراع الدائم مع الولايات المتحدة الامريكية.. وعليه توقفت كاركاس عن تزويد اسبانيا وكوبا بالنفط الخام، فاستعانت الثانية بالرفاق في الاتحاد السوفيتي، فيما جاء العراق ومد يد العون والمساعدة لإسبانيا..
ففي ربيع عام 1974 قام الرئيس الراحل صدام حسين، وكان حينذاك نائب الرئيس العراقي، بزيارة رسمية لإسبانيا، جرى خلالها التوقيع على عديد من الاتفاقيات والتعاون المشترك ومنها تزويد اسبانيا بالنفط الخام حتى تتخطى ازمة توقف النفط الفنزويلي، وحينها اعلن الرئيس صدام حسين وهو يوقع القرار ان سعر النفط سيكون من خلال اتفاقية المبادلة، وهذا "هدية من شعب العراق العظيم الى الشعب الاسباني الصديق" .. يعود السخاء العراقي في اطار "توطيد العلاقات التقليدية التاريخية بين العرب واسبانيا" من جهة ومن ناحية أخرى اكتساب السوق الاسباني للخام العراقي، فالعراق من أوائل الدول التي سيطرت بالكامل على ثروتها النفطية، وكان يبحث عن اسواق جديدة لنفطه خارج هيمنة (الشقيقات السبع) الشركات النفطية الغربية العملاقة، وخاصة ان النفط العراقي، كما هو الفنزويلي، الطلب عليه قليل في الاسواق العالمية بالنسبة لخامات النفط الاخرى وذلك لاحتوائه على نسب عالية من مادة الكبريت ويوصف بالنفط الثقيل، في حين ان مصافي البترول الاسبانية متخصصة ومؤهلة بتكرير نوعية هذا النفط ، كذلك استفاد العراق من التعاون الاسباني على تطوير صناعاته وتأهيل شبابه بالخبرة الاسبانية التي تحققت رغم الحصار الغربي.. لذلك علينا تسجيل هذا الدور الايجابي للعراق في دعم مسيرة الديمقراطية بإسبانيا..
ومن الجدير بالذكر ان تخلي الإدارة الامريكية عن حليفها نظام الشاه في ايران كان بسبب اعتمادها أسلوب المبادلة مع فرنسا وألمانيا، إذا اخذنا بعين الاعتبار ان الازمة وارتفاع أسعار النفط سبعة اضعاف كانت بهدف امريكي خفي بضخ الدم في عروق الدولار الأمريكي الذي فقد هيبته وقدرته بعد حرب فيتنام وفقدان واشنطن احتياطاتها من الذهب لتمويل عدوانها على فيتنام.
لقد حقق نظام فرانكو للإسبان جميع الخدمات الصحية والاجتماعية والتعليمية وبالمجان، أي ان نظام فرانكو قد استولى على البلاد وقام بتوفير كافة الحاجات والاحتياجات غير انه اختطف الحريات.. المدارس والجامعات والعلاجات الطبية توفر بالمجان وبدون ضرائب.. وكافة الشؤون الاجتماعية وخاصة اسكان الشباب ورعاية الاسر كثيرة العدد.. يعني كان نظام فرانكو نظام شمولي لحزب واحد يميني متشدد – ولك ان تصفه كما تشاء- ولكن اشتراكي من خلال توفير كافة الامور للمواطن.. لذلك كان الاسباني العادي، وخلال المرحلة الانتقالية، لديه هاجس الخشية من التغيير المفاجئ على رفاهيته التي وفرها نظام فرانكو، وفي الوقت ذاته لهفه الشديد نحو التغيير واستنشاق الحريات العامة التي حُرم منها اربعة عقود..
تظل المرحلة الانتقالية بإسبانيا، اي الانتقال الديمقراطي الإسباني من حكم ونظام فرانكو والحزب الشمولي الواحد الى دولة ديمقراطية برلمانية متعددة القوى والاحزاب من أهم المراحل في التاريخ السياسي الاسباني الحديث، ويظل الرئيس ادولفو سواريس، أول رئيس حكومة انتقالية ديمقراطية، الشخصية الرئيسية والمميزة التي قادت السفينة الاسبانية إلى البر والميناء الديمقراطي وسط تلاطم امواج الاحداث والصراعات والخلافات المحلية والاقليمية والدولية ناهيك عن تحقيق مصالحه سياسيه وطنيه ورتق النسيج الاجتماعي والسياسي الذي تفسخ جراء الحرب الاهلية ..
لقد استطاع الرئيس ادولفو سواريس ان يجمع حوله شخصيات سياسية شابة معتدلة ومنحدرة من نظام فرانكو وحزب الكتائب اليميني الفاشي، ومن الديمقراطيين الاشتراكيين والليبراليين والديمقراطيين المسيحيين، وشكل من هذا التجمع حزب اتحاد الوسط الديمقراطي، وبالفعل كان هذا "الخليط" متجانسا وبأفكار وطموحات سياسية "رومانسية" تعتز بتفرد الشخصية الاسبانية وأهمية اسبانيا وموقعها الاستراتيجي وتاريخها المشترك مع امريكا اللاتينية وافريقيا والعالم العربي، بهذا الفريق اصبح ادولفو سواريس بحق رجل المرحلة الانتقالية بلا منازع، حيث انجز مصالحه سياسيه وطنيه أثمرت على إصدار دستور جديد وإقرار منظومة سياسه تحت ظل نظام ملكي برلماني ديمقراطي متعدد الأحزاب .. هذه الانجازات التي نصفها بسطرين قد تحققت خلال عامين فقط، وكان ينتظر ان تتم خلال عقدين من الزمن.. وهي انجازات تاريخية عظيمة وفريدة حققتها اسبانيا وعكست احداثها ومجرياتها على القوى الاقليمية والعالمية وحتى القضايا الدولية.. فجرى استدعاء كافة الاحزاب والقوى السياسية من المهجر، بعد ان كانت تحت الحظر والمطاردة في عهد فرانكو، من اليساريين والشيوعيين والاشتراكيين، ودعوتهم الى العودة وبناء اسبانيا الجديدة.. اسبانيا الملكية البرلمانية الديمقراطية!!...
عاد "الرفاق" الى الوطن والنضال من جديد، وحينها اشار البعض ان قبول اليسار الاسباني المشاركة في الحياة السياسية وبإطار “نظام ملكي" جاء (نكاية) بالديكتاتور فرانكو الذي كان باعتقاده ان احزاب وقوى اليسار لن تعود الى البلاد او تشارك بهذا النظام، غير ان هناك من اضاف القول بانه كان اعجاب قيادات اليسار بشخصية وافكار وحسن نية الرئيس ادولفو سورايس في السعي الى اقامة نظام ديمقراطي يتسع للجميع.. على اية حال سجلت عودة اليسار مفاهيم جديدة، إذ اكدت على امكانية تعايش قوى اليسار والعمل والابداع والتأقلم في إطار ليبرالي متعدد الاحزاب وليس اسقاط نظام واقامة نظام آخر.. فـ"الشيوعية الاوروبية" ابتدعها الحزب الشيوعي الاسباني وامينه العام سانتياغو كارييو حينما عاد الى اسبانيا الملكية، وتبنت افكاره عدة دول اوروبية غربية وشرقية، بمنظور الأخذ بالنسيج الشيوعي وتفصيله والخياطة وفق مقاس وحجم وحاجة المجتمع والامكانيات المتاحة، فإن الفكر اليساري سينمو ويزدهر ويتفاعل مع الليبرالي من خلال البحث وتوفير العدالة الاجتماعية للطبقة الفقيرة لو كان في إطار نظام ملكي!
عام 1977 جرت اول انتخابات تشريعية عامة فاز الرئيس ادولفوا سواريس وحزبه (اتحاد الوسط الديمقراطي) على جميع القوى السياسية وشكل لجنة برلمانية كجمعية دستورية من اجل اقرار الدستور الذي أصبح ساري المفعول عام 1978.. وبعد ذلك تقدمت اسبانيا بطلب الانضمام الى المجموعة الاوروبية، فقد كانت لديهم قناعة راسخة واعتزاز بإمكانيات ودور اسبانيا الكبير في تعزيز مكانة المجموعة الاوروبية حال انضمامها، فالفكر السياسي الاسباني حينذاك كان يرى انضمام اسبانيا لا يعني دخول اسبانيا اوروبا بل ان اسبانيا ستحمل وتقود المجموعة الاوروبية الى آفاق واسعة نحو امريكا اللاتينية وافريقيا والعالم العربي .. هنا كانت المفاجأة، وهي الشروط والطلبات من اسبانيا والتي لم تكن لها علاقة بالديمقراطية أو الحريات العامة ولا بالاقتصاد ولا حتى في اوروبا.. وفي الواقع لم تكن شكل مفاجأة بل صدمة لأول قيادة وحكومة ديمقراطية اسبانية منتخبة حينما جاء الجواب بل الاشتراط الاوروبي على طلب انضمام اسبانيا الى المجموعة الاوروبية الاعتراف أولاً واقامة علاقات دبلوماسية مع اسرائيل؟ !!
لا يعني ذلك ان "اسرائيل" تتمتع بهذه القوة والهيمنة على اوروبا بقدر ان هذا الكيان في الاساس صنيعة اوروبا الاستعمارية وان المجموعة الاوروبية اتضحت "رهينة" الولايات المتحدة الامريكية، وريثة مشاريعها الاستعمارية بفضل مشروع مارشال الامريكي الذي ساعد على اعادة بناء اوروبا اعقاب الحرب العالمية الثانية، وبالتالي كان المطلوب من اسبانيا التأقلم والاصطفاف والالتحاق بالسياسة الاطلسية الغربية، بما يعني أن الحديث عن: ديمقراطية.. حريات عامة.. احزاب.. انتخابات.. جميعها غطاء وقشور براقة تحجب جوهر اطماع ومصالح الغرب وسياسة حلف الناتو في خضم الحرب الباردة بمواجهة حلف وارسو..
لم تستوعب حكومة سواريس الاشتراط الاوروبي.. وكأن اوروبا في وادي واسبانيا في وادٍ آخر، فكيف تقيم علاقات مع "اسرائيل" وما تزال مدريد وبفضل بغداد، عاصمة جبهة الصمود والتصدي العربي ضد اتفاقيات كامب ديفيد، تتلقى النفط الخام العراقي بالمبادلة، وهذا ما ساعد اسبانيا على تخطي الازمة النفطية العالمية، ناهيك على انها قد استعادت علاقاتها الطبيعية مع المغرب وانهت استعمارها للصحراء المغربية.. لذلك واصلت اسبانيا وحكومة سواريس العمل ومحاولة افهام المجموعة الاوروبية انها "مختلفة"..
وشعار (اسبانيا مختلفة Spain is different) كان يافطة وعنوان حملة ترويج سياحي نفذتها وزارة السياحة الاسبانية عام 1960 ونجحت في الخروج من العزلة السياسية والاقتصادية المفروضة عليها من قبل اوروبا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد جذبت الحملة استثمارات اجنبية هائلة لتطوير القطاع السياحي، حيث شهدت، منذ ذاك الحين، تدفق الملايين من السائحين على الشواطيء والجزر والمدن الاسبانية للتعرف والتمتع بطبيعتها الخلابة وطقسها الرائع المعتدل وطيب طعامها وطيبة اهلها..
في الواقع تختلف اسبانيا عن باقي دول المجموعة الاوروبية، خاصة بجغرافيتها المطلة على منفذ البحر الابيض المتوسط وسكانها من مختلف اصول ومنابت الحوض المتوسط وشمال اوروبا، حيث استوطنت بها كافة الحضارات وتلاقحت عليها الثقافات والديانات السماوية وغير السماوية.. كاليونانية الوثنية والرومانية المسيحية والبربرية الامازيغية والعربية الاسلامية، وبما تواصلت ووصلت الى بلاد الهند وفارس، وانصهرت جميعها في بوتقة واحدة لتأتي صورة اسبانيا الجميلة والمختلفة بهوية متوسطية مميزة، عكس الدول الاوروبية التي تقوقعت بكينونتها وخاصيتها كالألمانية والفرنسية والايطالية.. الخ.. لذلك رأت حكومة ادولفو سواريس انه اذا كان لا بد من الاعتراف بالكيان الاسرائيلي فمن الواجب الاعتراف بالحق الفلسطيني، لهذا اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ودعت السيد ياسر عرفات لزيارة رسمية الى اسبانيا واتخذت هذا القرار في اطار التأكيد على اهمية اسبانيا للمجموعة الاوروبية من اجل تعزيز دور ومكانة اوروبا في القضايا الدولية، وان تبادر اسبانيا الى الريادة لا ان تكون تابعا لسياسة اطلسية غربية احادية الجانب، وهذا ما "جّن جنون الغرب" واصبح المطلوب رأس ادولفو سواريس.. وهكذا كان..
اذ تم ذلك بواسطة حركة انقلاب العسكر يوم 23 فبراير/ شباط 1981، لم يفشل الانقلاب العسكري كما قيل، فالهدف لم يكن اجهاض الديمقراطية الوليدة بإسبانيا كما يشاع، فالجنرال فرانكو قد اوصى بهذا التغيير والانفتاح بعد وفاته، فالهدف إذن إنهاء وتصفية حكومة ادولفو سواريس وحزبه الحاكم اتحاد الوسط الديمقراطي، وهذا ما جرى في العام التالي اذ تم اسدال الستار على دور ادولفو سواريس وتشتيت حزبه وابعادهم خارج الحياة السياسية الاسبانية..
#نظمي_يوسف_سلسع (هاشتاغ)
Nazmi_Yousef_Salsaa#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟