أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - فرج الحطاب - القمح مقابل الكتب















المزيد.....

القمح مقابل الكتب


فرج الحطاب

الحوار المتمدن-العدد: 8520 - 2025 / 11 / 8 - 10:00
المحور: قضايا ثقافية
    


في عام 2014، بدأت رحلتي الأكاديمية في قسم دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بجامعة أريزونا، وسط أجواء علمية بحتة لا تمتّ للسياسة بصلة. كل شيء بدا منضبطاً حتى اللحظة التي ذكرت فيها أستاذتنا، عرضاً، اسم قانون غريب في أول محاضرة. دوّنت رقمه سريعاً في دفتري، دون أن أدرك أن تلك الملاحظة العابرة ستقودني بعد سنوات إلى واحدة من أكثر القصص طرافة ودهشة في تاريخ تداول المعرفة العربية.

كانت الصدمة الحقيقية في المكتبة. خلال الجولة التعريفية، شعرت بالرهبة أمام حجم رفوف الكتب العربية. آلاف مؤلفة، بل مئات الآلاف، من المجلدات التي تغطي كل شيء، من الأدب القديم إلى الدوريات المعاصرة. ولكن ما أوقفني هو رفوف الكتب العراقية. وجدت طبعات نادرة ونفيسة يصعب العثور عليها في بغداد نفسها، ومجلات عربية مختلفة وكاملة الأعداد، بل وحتى أعمال لم يتخيل عقلي وجودها هنا: روايات وقصص ودواوين "المعركة" التي صدرت عن دار الشؤون الثقافية في الثمانينات، ومؤلفات ميشيل عفلق، وكتب صدام حسين وطارق عزيز وشبلي العيسمي، وشعراء غير معروفين هذه الأيام مثل محمد جميل شلش وعلي الحلي وغيرهم. كانت كميات الكتب مهولة، بعضها لا يزال يحمل بطاقات الاستعارة الورقية القديمة، وكأن لا أحد استعارها قبلي!

تحولت المكتبة إلى بيتي الثاني لست سنوات، وأصبح ممر الكتب العراقية "مربعي" الخاص. ومع كل كتاب أستعيره، كان السؤال يكبر في ذهني: كيف، ولماذا، وصلت هذه الثروة الفكرية، التي تُقدّر بمئات الآلاف من المجلدات العربية، إلى رفوف جامعة في عمق الصحراء الأمريكية؟
الجواب لم يكن في الأرشيفات ولا في الوثائق السرية، بل كان مكتوبًا بخط صغير في تلك الملاحظة الأولى" القانون 480".

من هنا تبدأ القصة، قصة لم تُروَ من قبل، على الأقل في دراساتنا العربية. قصة تروي كيف حوّلت الولايات المتحدة فائضها الزراعي من القمح إلى نفوذ أكاديمي، وكيف أصبحت مصر، دون أن تدري ربما، جسراً لإعادة تدوير المعرفة بين الشرق والغرب.
في عام 1954، أقر الكونغرس الأمريكي القانون (Public Law 480)، المعروف باسم "الغذاء من أجل السلام" (Food for Peace) ، كان الهدف الأولي للبرنامج مزدوجاً: التخلص من الفائض الزراعي الهائل (القمح بشكل رئيسي) الذي كدسته الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه تقديم معونة إنسانية واستراتيجية للدول النامية. وقد نص القانون، وتحديداً في بنده الأول، على إمكانية بيع المنتجات الزراعية للدول الصديقة مقابل عملاتها المحلية بدلاً من الدولار الأمريكي.

بعد مدة من الزمن تراكمت العملات المحلية المتحصلة من مختلف البلدان التي استفادت من القمح، وأصبحت هذه العملات تمثل تحدياً بيروقراطياً لواشنطن، إذ كان يجب إنفاقها داخل تلك البلدان المستفيدة من استيراد القمح الأمريكي. وهنا ظهر الحل العبقري في تحويل هذه الأموال "المحلية" إلى رأسمال فكري استراتيجي. ففي تحول غير متوقع، نجح أمناء المكتبات والمسؤولون الأكاديميون، مدفوعين بالحاجة إلى بناء "مستودعات معلومات" لمواجهة الحرب الباردة، في الضغط لتعديل القانون. هذا التعديل سمح باستخدام هذه العملات المحلية لتمويل برامج اقتناء الكتب الأكاديمية من الخارج، مما حول برنامج الإغاثة الزراعية "الغذاء من أجل السلام" إلى أكبر مشروع لاقتناء الكتب في التاريخ الأكاديمي الأمريكي.

كانت الفكرة الجوهرية للبرنامج هي استغلال العملات المحلية المتراكمة التي لا يمكن تحويلها إلى دولار، لشراء أصول دائمة، أي الكتب. كانت التكلفة الفعلية التي تدفعها الولايات المتحدة في هذه العملية "صفر دولار أمريكي"، حيث كانت الأموال المستخدمة هي أموال "فائضة" من مبيعات القمح، وكانت هناك حيرة في كيفية التخلص منها. لقد وفر هذا المخطط فرصة لا تُقدّر بثمن للجامعات الأمريكية الكبرى للحصول على مواد عربية نادرة وضخمة بتكلفة زهيدة جداً.

لعبت مصر دوراً محورياً مزدوجاً في نجاح هذا البرنامج، وصارت بمثابة الجسر الاستراتيجي لتدفق ملايين المجلدات من الدول العربية إلى أمريكا. والسبب وراء ذلك، كونها المتلقي الأكبر للقمح الأمريكي. كانت مصر من أكبر مستوردي القمح، مما أدى إلى تراكم مبالغ ضخمة من الجنيه المصري في حوزة الحكومة الأمريكية. هذه المبالغ كانت الوقود المالي الذي دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى عملية اقتناء الكتب بصورة كبيرة.

كانت القاهرة في الستينيات والسبعينيات عاصمة النشر بلا منازع في العالم العربي. لهذا السبب، اختيرت القاهرة لتكون المقر الإقليمي لـ مركز مكتبة الكونغرس (LOC)، الذي أُسس تحديداً في عام 1962. لم يقتصر دور المركز على جمع الكتب المصرية فقط، بل عمل كـ "كمركز" لجمع الكتب والدوريات من مصر ودول عربية أخرى.
تمكن هذا المركز من بناء شبكة واسعة من باعة الكتب الذين كانوا يزودونه بمطبوعات من دول لم تكن للولايات المتحدة علاقات جيدة أو اتفاقيات مباشرة معها. على سبيل المثال، تم اقتناء أعداد هائلة من المنشورات والدوريات الحكومية من العراق وسوريا ولبنان عبر التعامل مع وسطاء وباعة كتب في القاهرة، مما يضمن تدفقاً مستمراً للمعلومات حتى من البلدان التي كانت تعتبر "معادية" لأمريكا.

بدأ مركز الاقتناء في القاهرة عام 1962 العمل بكامل طاقته. وفي فترة زمنية قصيرة، وتحديداً بين عامي 1962 و1971، قام المركز بشحن أكثر من مليوني كتاب ومجلة للمكتبات الأمريكية. وبحلول عام 1980، ارتفع هذا المجموع ليصل إلى حوالي 4.3 مليون مجلد من المواد العربية.

شكلت هذه المجموعات، في كثير من الجامعات التي شاركت في البرنامج، أكثر من 90% من مجموعاتها العربية. وبدلاً من أن تكون دراسات الشرق الأوسط في أمريكا تعتمد على نصوص قديمة أو أوروبية، أصبحت تعتمد على مصادر أولية حديثة نُشرت في المنطقة نفسها.

لم يكن مكسب الولايات المتحدة مجرد رفوف مليئة بالكتب، بل كان مكسباً استراتيجياً عميقاً له أبعاد أكاديمية وسياسية. أتاحت هذه المجموعات غير المسبوقة لجيل كامل من الباحثين وطلاب الدكتوراه إمكانية إجراء أبحاث معمقة تعتمد على مصادر أولية. هذا الأمر أرسى "الأساس الفكري" لدراسات الشرق الأوسط الحديثة في المؤسسات الأمريكية الرائدة، مما عزز مكانتها العالمية في هذا المجال.

يبدو أن الهدف النهائي كان هو كسب "الحرب الباردة الفكرية" من خلال إنشاء جيل من الخبراء قادرين على فهم تعقيدات المنطقة وصياغة سياسات أمريكية أكثر فعالية. كانت الكتب العربية بمثابة "بيانات خام" لا غنى عنها لإنتاج التحليل الاستخباري والسياسي الذي تطلبه صناع القرار. ومن خلال تجميع هذه المواد بشكل هائل في الغرب، ضَمِنت الولايات المتحدة أنها ستكون المتحكم الرئيسي في تحليل وتصنيف وإتاحة هذه المعرفة. هذا أتاح لها تأطير الأبحاث وتوجيه الأسئلة الأكاديمية المتعلقة بالمنطقة.

في حين كانت مصر هي الجسر والمحور المالي، فإن البرنامج شمل دولاً أخرى بشكل مباشر أو غير مباشر. حيث كانت الهند وباكستان من أكبر المستفيدين من ذلك القرار عالمياً، وشكلت أموالهما المحلية مصدراً ضخماً لاقتناء الكتب في اللغات الآسيوية أيضاً. من بين أكثر الدول العربية الموردة لتلك الكتب والدوريات فضلاً عن مصر الراعي المباشر، العراق، سوريا، لبنان، والأردن. حيث تم اقتناء مطبوعاتهم عبر شبكة القاهرة، مما عزز بشكل كبير محتوى المكتبات الأمريكية من هذه المناطق دون الحاجة لاتفاقيات مباشرة.

وهكذا تمكنت الولايات المتحدة من تحويل مشكلة فائض القمح إلى فرصة استراتيجية للاقتناء الثقافي، حيث تبادلت سلعة استهلاكية سريعة الزوال (القمح) بأصول فكرية دائمة (الكتب)، مكنت الأكاديمية الأمريكية من التفوق في دراسات الشرق الأوسط.



#فرج_الحطاب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانتخابات العراقية… بين مهرجان السخرية وجدية الأمل
- من هو المثقف العراقي الوطني؟
- كتاب -في اليُتْم الوجودي-: جمال علي الحلاق يتأمل الكتابة كنا ...
- البحث عن الذات المحضة في مجموعة (النوم في محطة الباص) لعبد ا ...
- أسلوب المناجاة في مجموعة (مرد روحي) للشاعر عباس اليوسفي
- حرية الذات ومفهوم السعادة المطلقة في نظرية المعرفة الصوفية ع ...
- داعش ودولة الخلافة الإسلامية :آخر نتاجات الحرب الباردة
- النظريات الحديثة لدراسة علم الأديان (3)
- النظريات الحديثة لدراسة علم الأديان (2)
- النظريات والمناهج الحديثة لدراسة علم الأديان (1)
- الهوية المحلية في شعر بدر شاكر السياب


المزيد.....




- ذعر بحيّ إيرلندي من أسد هارب.. فهل كان أسدًا فعلًا؟
- صور أولى لطائرة -كانتاس- للرحلات المباشرة بين سيدني ولندن ون ...
- بمشاعل مضيئة وألعاب نارية.. متظاهرون يعطلون حفلًا موسيقيًا إ ...
- فيديو متداول بمزاعم وجود -آثار مٌقلدة في المتحف المصري-.. هذ ...
- فشل محادثات اسطنبول بين باكستان وافغانستان.. وكابول تؤكد أن ...
- الدنمارك ستحظر بعض وسائل التواصل للأطفال دون هذا السن!
- هاف بوست.. بايدن تجاهل معلومات بشأن انتهاك إسرائيل القانون ا ...
- نجاة عائلة أحرق مستوطنون منزلها في رام الله والاحتلال يعتدي ...
- استمرار اعتداءات المستوطنين على تجمعات بدوية بالأغوار
- إسرائيل تتحكم في كميات وأسعار وأصناف الغذاء الداخل لغزة


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - فرج الحطاب - القمح مقابل الكتب