أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عذري مازغ - رمضان وصياح الديك















المزيد.....

رمضان وصياح الديك


عذري مازغ

الحوار المتمدن-العدد: 8516 - 2025 / 11 / 4 - 02:53
المحور: الادب والفن
    


في بداية السبعينات من القرن الماضي، كنت طفلا، لكن بذاكرة قوية، في قرية تيط إفسثن (بالعربية: "العين الصامتة")، وهي قرية صغيرة كل الأسر فيها هي من قبيلتي. كانت تلك قرية جبلية تشبه جزيرة من نوع خاص حيث تحيط بها الغابات من كل جهة وليس البحر. كان لدينا "فقيه" من ناصية القول أنه كان من حفظة القرآن، وليس لأنه ملم بعلوم الدين ليكون في مرتبة شيخ. لكنه كان يملك معارف اولية حول أركان الاسلام ، علاوة على خزعبلات أخرى! أذكر أنه أوصى نساء القرية بتقبيل الماء في أي إناء إذا لم يتوفر غطاء له، مع تلاوة التعويذة ثلاث مرات حتى لا يلقي الشيطان في الإناء أي مكروه. وكان أيضاً بمثابة طبيب القرية لأمراض مختلفة من خلال كتابة الحروز أو التعوايذ التي تعلق في العنق؛ أو يُشرب صمغها (تكتب التعويذة على ورقة، ويغسل المكتوب في إناء ليُشرب، وهو ما يُعتبر في لغتنا الآن بالرقية). وكانت نية الناس صادقة بصدق إيمانهم بالله الذي يمثله الفقيه؛ لذا، فلا أحد كان يشك في بركته. وأذكر أن امرأة حامل انقلب جنينها أثناء الوضع، وكادت أن تموت لولا الألطاف الإلهية. وقتها، لم يكن لنا بد في القرية إلا الاستعانة بالفقيه، الذي سهر معها، وكلما سألناه عنها، يخبرنا أنها مصابة بمس تارة، وتارة يبلغنا إنها أكلت مادة سامة. وكان من ألطاف الإله أن حضر حارس الغابة، واقترح على أهلها أن ينقلها في عربته المخزنية إلى المستشفى بالمدينة. وهذا ما حصل، لنعرف في الأخير انها تعرضت لعملية إجهاض قصرية بسبب موت الجنين في بطنها. وربما، لا ادري صراحة، أن الجنين إنما مات بسبب كثرة ما تناولته مما يصاحب التعويذات وخرافات النساء "الطبية" ممن تعرضن سابقا لما يشبه أوجاع تلك السيدة. تلك النساء العاملات بمبدأ "سل المجرب ولا تسأل الطبيب".

في ذلك الوقت، كان هناك القليلون ممن يملكون ساعة لضبط الوقت، أو مذياعاً لكونهم من الطبقة الميسورة. وغالبا ما كان هؤلاء يتركون القرية مهاجرين للسكن إلى المدينة. أنذاك، ما كان للوقت أهمية كبرى في مجمل سيرورة السنة إلا من خلال نسبيته: يبدأ النهار بالقصر بدءاً من دخول الخريف، ثم الشتاء، ويبدأ في الطول ابتداء من مارس حتى الصيف. وكان أهل القرية يعرفون بالحدس الغريزي المتوارث عبر الأجيال ما حدد في المغرب بـ "اليومية الفلاحية"، التي تحولت مع صعود الوعي بالأمازيغية إلى اعتبارها: "السنة الأمازيغية" التي تحدد الآن بكونها تحسب من سنة صعود الفرعون الأمازيغي بمصر سيشناق (أو شيشنق) عرش الفراعنة، ليؤسس مملكة الأسرة الثانية (أو الثالثة) والعشرين الفرعونية (شخصياً، لا أميل إلى الرواية التي تخنشل التاريخ المصري كون شيشنق أمازيغياً هو بالضرورة ينتمي إلينا بقدر ما أميل إلى أن الشعوب الامازيغية كانت تنتشر في شمال إفريقيا من مصر إلى المغرب وجنوبا إلى الصحراء الكبرى. كما أن الكثير من أسماء الفراعنة المس فيها مفردات امازيغية مثل أخناتون، و حتشبسوت، نفرتيتي، ونفرتاري، وحتى اسم إيزي أو إيزا التي هي أسماء لنساء امازيغيات مستوحاة من الإلهة إيزيس). وبشكل عام، كان التأثير متبادلاً بين سكان شمال إفريقيا شرقها بغربها لدرجة أننا نلمس ذلك في رواية "التحولات" (الحمار الذهبي) لأبوليوس الذي يخلص إلى القول في ختام الرواية بأن الأوربيين قد خنشلوا آلهة مصر بتبديل الأسماء فقط . فإلهة الجمال عند الإغريق أفروديت أو عند الرومان فينوس ليسا سوى نسخاً لصورة إيزيس المصرية. والمسيح نفسه ليس سوى نسخاً لصورة الإله "حورس" ابن إيزيس نفسه (عيسى ابن الله وحورس ابن إلهة، بحيث أن الفرق هو فرق في الإنتقال من مجتمع أميمي إلى مجتمع أبيسي). اللعنة على شيشنق وأبوليوس الأمازيغيين الذين جرا علي هذه الاستنتاجات. عموماً، ليس هذا موضوعي هنا؟

قلت انه في بداية السبعينات من القرن الماضي في تيط إفسثن، لم يكن الناس يهتمون بضبط الوقت كما هو الحال في زمننا العمالي هذا، بل كانوا يعيشون ضبطه عبر تأقلم حياتهم بالزمن البيولوجي او الفيزيقي من خلال نسق الأعمال الفلاحية. وكانت العبادات كالصلاة مرهونة بتقدير الناس لحساب أوقات اليوم. في الظهيرو، تكون الشمس في مستوى معين، والعصر في مستوى آخر، وهكذا ذواليك. وكان تأخير الصلاة أو تقديمها على أوقاتها متاحاً بسبب عدم دقة ضبط الوقت. وهو ما خلق مرونة فعالة في التعاطي مع عبادات الدين (الإسلام دين يسر وليس دين عسركما يقال). وهذا القول يطبَّق في المغرب بشكل جميل: إسلام الناس البسطاء قبل أن يهاجر إلينا الإسلام الوهابي والإخونجي الذي شكك أصلا بطقوس عبادة آبائنا، ليفرض هؤلاء علينا أن أي حركة بدون بسملة ليست من الاسلام الصحيح، وأن حجب النساء مقدس عند الله لأنهن فتنة، وأن تقديم اليمين على اليسار خير في الإسلام.. وهلم جراً من كثير الخزعبلات التي تشكك بكينونتنا الذاتية. وقتها، كان الناس في القرية يحرسون على ضبط الزمن في شهر رمضان بالتحديد، وكان هذا الضبط مستوحى من التاريخ العتيد لإسلام الأمازيغ. كان رمضان مقدساً في تيط إفسثن، ويفترض أن يكون له وقت مضبوط. وهذه القدسية لهذا الشهر ليست أيضا لصرامته الدينية وإن حضرت، بل لأمر آخر. فبالإضافة لكونه ركناً من أركان العبادة، فهو أيضاً امتحان لقدرة التحمل: ان تصوم طيلة النهار يعني قدراً معيناً من التحمل. وأن تواظب على ذلك طيلة أيام معلومة (شهر رمضان كاملا) هو قدْرٌ كبير من قوة التحمل. والذي يفطر بسبب الأعمال الشاقة التي يزاولها لا يُتهم عندنا بالردة كما في إسلام الوهابية وإسلام اللحي. وأذكر أن الرمضان المتزامن مع أعمال الحصاد كان الفلاحون يهيؤون الطعام والماء لعمال الحصاد ممن لا قدرة لهم على الصيام. أما الذين يصومون منهم رغم ذلكف يحسب لهم أن لديهم قدرة أكبر على التحمل (تحمل الجوع والعطش)، ويسمون بـ "إيريازن" (رجال بمعنى القوة) ليس لأنهم صاموا رغماً.

لكن، وهذا ما أريد الوصول إليه، كان لضبط الزمن الرمضاني نكهة رائعة في غياب وجود آلات ضبط الوقت كالساعة أو المذياع. وهذا ما يريد صديقي العزيز من العراق حسين علوان حسين أن أتحدث عنه (ومقالي هذا هو نزولا عند رغبته)، رغم ان الأمر لم ينضج عندي مرحا كما أريد شخصياً (ربما علي أن انتظر أكثر لكي ينضج). كان اقتراب رمضان عندنا هو بمثابة الانتعاش لاحركة اقتصادية العارمة في مجتمعنا المغربي بشكل عام. وإذا كان الناس يتجهون إلى الأسواق لتبضع حاجاتهم من الحلويات وشتى المأكولات الليلية الغنية. في ذلك الزمن التيطيفسثيني من القرن الماضي، كانت الديوك تحظى باهتمام أكبر لدى شلة البدويين من سكان الجبل والغابات وكل من يجاور مملكة القرود بالأطلس المتوسط, كانت للديوك ميزة خاصة في ضبط الوقت، فهي تصيح في الفجر عندما يظهر نجم الثريا، وتصيح في منتصف النهار وفي العصر وفي المغرب . أي أنها تمثل بذلك ساعة بيولوجية اعتمدها أهلنا طيلة قرون. وشخصياً، أنا أنتمي إلى الجيل الأخير ممن اعتمدوا صياح الديك في شهر رمضان. ولا أدري هل هي ثقافة محصورة عندنا كشعوب أمازيغية أم أنها حاضرة أيضاً لدى الشعوب الأخرى. ويقال، وقرأت أيضاً حول الأمر في المصادر (مقالات كتبت في الجرائد قرأتها عندما كنت في المغرب) وهذا حكي آخر موازي لثقافة ولادة التاريخ في المغرب مع فجر الأدارسة الذين شكلوا إمارة صغيرة في المغرب (والحقيقة كانت إمارة بمنطقة مكناس - فاس الحالية) زمن هيمنة الإمارة البورغواطية في المغرب التي امتد حكمها من زمن هزيمة الامويين في معركة الأشراف وإنتهاء هيمنتهم على منطقتنا (وهذا ما تتجاهله المصادر التاريخية العربية) ويتجاهله أيضا مؤرخو التاريخ المعاصر من ابناء الحركة القومية الناصرية العربية. عندما هزم الامويون في معركة الأشراف، أرسل البورغواطيون بعثات من نبهائهم إلى المشرق للتعرف على الدين الإسلامي من مصادره - وليس إسلام الغزاة الذين ارتكزوا في غزوهم على الإتجار بالجواري والعبيد - لكي يطلعوا على أسس الديني وطقوسه: ضبط أوقات الصلاة وضبط أوقات رمضان وغير ذلك، وفي زمن بدوي لم تكن فيه آليات ضبط الوقت، لاحظ هؤلاء النبهاء ان مواقيت الصلاة بما تتناسب مع مواقيت صياح الديكة. حيث أن الديك قبل ان يصيح يعمل حركة معينة بجناحيه، وقيل (والله أعلم) أن الديك حين يفرك جناحية، إنما يفعل ذلك لأن أحد الملائكة يقذفه بحجر، لذلك فإنه ينتبه للأمر أثناء الفجر، وكذلك حين تكون الحركة خاملة كما يحصل في وقت الظهر لكونه وقت نوم القيلولة. وعليه فإن مواقيت الصلاة كانت تتطابق عندهم مع صياح ةالتي بها أيضا يقام رمضان ، إضافة إلى ذلك تراقب حركة الأجرام السماوية كالقمر والشمس ونجم الثريا.



#عذري_مازغ (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حول الثرثرة الرقمية
- المجتمعات البغلانية
- طعم آخر للفرح
- فايسبوك -تانعيمالت-
- هواجس وجودية
- السخرية حين ترقص تلقائيا
- المهرولون
- الغباء الاستراتيجي
- طريق الحرير الصيني الماركسي
- معنى أن تكون شيوعيا في المهجر
- ذو المعاشين
- الجيل المهذب
- تيوولين! (قلبيات أوالقلب بالقلب)
- سجن في سبيل الله!
- روميو وجولييت الأمازيغيين: -إيسلي- و-تيسليت-
- الإضراب!
- في فلسفة الألوان: ضد -تزميل- المجتمعات الإنسانية
- هل يمكن ان تنجح وساطة عربية أو دولية في حقن العلاقات المغربي ...
- مشكلة الهوية داخلية
- هنيئا للطبقة العاملة في يومها العالمي برغم افتراس وحدتها


المزيد.....




- أول فنانة ذكاء اصطناعي توقع عقدًا بملايين الدولارات.. تعرفوا ...
- د. سناء الشّعلان عضو تحكيم في جائزة التّأليف المسرحيّ الموجّ ...
- السينما الكورية الصاعدة.. من يصنع الحلم ومن يُسمح له بعرضه؟ ...
- -ريغريتنغ يو- يتصدّر شباك التذاكر وسط إيرادات ضعيفة في سينما ...
- 6 كتب لفهم أبرز محطات إنشاء إسرائيل على حساب الفلسطينيين
- كفيفات يقدّمن عروضًا موسيقية مميزة في مصر وخارجها
- عميل فيدرالي يضرب رجلًا مثبتًا على الأرض زعم أنه قام بفعل مخ ...
- انقطاع الطمث المبكر يزيد خطر الإصابة بمتلازمة التمثيل الغذائ ...
- إشهار كتاب دم على أوراق الذاكرة
- مثنى طليع يستعرض رؤيته الفنية في معرضه الثاني على قاعة أكد ل ...


المزيد.....

- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عذري مازغ - رمضان وصياح الديك