أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عيسى بن ضيف الله حداد - الجذور التاريخية لتشكل الهوية العربية / البوتقة الحضارية /















المزيد.....



الجذور التاريخية لتشكل الهوية العربية / البوتقة الحضارية /


عيسى بن ضيف الله حداد

الحوار المتمدن-العدد: 8514 - 2025 / 11 / 2 - 16:29
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الجذور التاريخية لتشكل الهوية العربية / البوتقة الحضارية الجذور التاريخية لتشكل الهوية العربية " تشكل البوتقة الحضارية"
د- عيسى بن ضيف الله حداد
يتوزع البحث على عنوانين رئيسيين الأول - مدخل وكليات الثاني – من التجريد إلى التجسيد - في عناوين فرعية
- حوض النيل – الإسهام في تشكيل البوتقة الحضارية - حوض ال ارفدين - الإسهام في تشكيل البوتقة الحضارية - المناطق البينية والممتدة ودورها - الاسهام بتشكل البوتقة الحضارية - المظاهر المتعددة للبوتقة الحضارية - المسار من البوتقة إلى الطفرة = الاسلام
(الجزء الأول) - مدخل و كليات
أول القول: قطعاً، لم يكن من دواعي عرضي، أن أطل على المنج ازت الحضارية لقديمنا، إنما ينصب اهتمامي على الحلقة المبهمة فيه لكونها تحتل الأساس البدئي في انطلاقة وجودنا، وسيكون عرضي مهتماً بتشكل هذا الأساس في الزمن الأول والبحث في روافده الأولى، لأنه في خلفية التشكل ومساارته، تكمن محركات الحضارة، ومشهد التاريخ
وتطوره، الذي من خلاله نبتت هويتنا.. ونحن إن لم ندرك الأساس القديم للبوتقة الحضارية، التي احتضنت هويتنا، نكون قد
خدعنا أنفسنا، ونعيش محنة الاضط ارب والاستلاب، ولا مناص فالعقل الباطن المختبئ في خفايا ذواتنا الجمعية، سوف يسعى لزعزعة توازننا، وهذا ما ألنا إليه، وإن لم يكن، هو جل ما نخشاه..

رؤى ومواقف
انغلز في م ارسلته لماركس، يذكر: إن الإمب ارطورية الآشورية وكذلك البابلية، قد تم أشادتها من قبل القبائل البدوية في ذات المكان الذي قد تم فيه في عصر تاٍل تأسيس خلافة بغداد. إن الكلدانيين المؤسسين للإمب ارطورية البابلية ما ازلوا يعيشون في نفس الموضع
بذات الاسم بني خالد.. 1..
بيير روسي في مدينة ايزيس " هذه القوميات المسماة خدعة بالساميات والتي هي في الحقيقة عربية.. لكي نتجنب الخطأ التقليدي الذي يحطم مساحتها الجغ ارفية، ليدرسها د ارسة منفصلة بينما هي عناصر لجسم واحد، عناصر تحيى حياة واحدة. - كان الأمر استم ار ار لا انقطاع فيه قد تركز في الشرق، استم ار ار للفكر، استم ار ار للاقتصاد. سيكون
بسيطاً جداً، لو تكلمنا عن العرب بدلا عن الساميين، ذلكم الشعب الحقيقي والذي يمتلك
وجودا اجتماعيا مستم ار، وجودا ثقافيا ولغويا، يعطي حياة وتوازنا لهذا البحر المتوسط منذ ًًًًًً ً
عدة آلاف من السنين.- " إن لغة واحدة مكتوبة ومتخاطب بها انتهت إلى فرض نفسها وتغطية هذا المجموع الكبير: إنها اللغة الآ ارمية، ثم تطورت طبيعياً ودون معارضة إلى اللغة العربية التي وجدت نفسها منذ ذلك الحين وارثة الماضي المصري والكنعاني والحثي والبابلي". - باسم السامية المزعومة، ُفصل العرب عن المجموع الثقافي الثلاثي، المصري
والكنعاني البابلي.2
تلكم هي هويتنا، التي أصبحت هدفاَ من لبلبلة وجودنا واخ ارجنا من التاريخ، لنصبح مجرد أدوات، كرق جديد مستلب في ظل سيطرة من يسعى للهيمنة على العالم.. الهوية في تعريف عصري: الماركسي الفرنسي رودونسون: حينما ذكّرته نخب المؤسسة
اليهودية بأصله اليهودي، وهو ينافح عن العرب، أعلن لهم: أن مرجعيته الثقافية هي الفرنسية، وأن لغته الأم هي الفرنسية، والأغاني التي يطرب لها هي الأغاني الفرنسية.. ولا شأن لمنبته اليهودي بهويته. 3
1 المراسلات مع ماركس الطبعة الفرنسية الجزء الثالث 1853، ص 374 2 بيير روسيي مدينة إيزيس، ص 42 و 24 و 25 و 32 3 في مقدمة كتابه Peuple Juif ou Problème Juif
ً

على ذات السبيل – تتمثل الهوية في الإحساس النفسي أكثر من المظهر السياسي، وهي في حالتنا كذلك..
وهي بمقدار ما لها في ماهيتها من حضور شعوري على مستوى التجّلي النفسي، تتظاهر الصعوبة فيها في معرفة طرق انبثاقها وتشكلها الفعلي.. ولا م ارء، من حيث كل ما هو إنساني واجتماعي، بقدر ما هو متوافق، هو عصي على التطابق.
الهوية معطى تاريخي واجتماعي = تتظاهر، عبر ذاكرة جمعية وعقل جمعي
وفقاً للمفهوم المتداول، تكون الهوية القومية هي نتاج تاريخي لمسيرة حضارية طويلة، متعددة الم ارحل والأطوار، استطاعت أن تتمتع عبرها العديد من الأقوام بسمات ثقافية نفسية مشتركة.
على ضفاف هذا القانون الأساسي الخاص بالتكّون القومي، نشير على أن الهوية القومية لا يمكن أن تكون وليدة جنس أو اشتقاق من عرق. وهي لا تنطوي في كيانها على حواجز فاصلة بينها وبين غيرها من أخريات الهويات، ولكم يكون قد ظهر ما بين البشر من مشتركات، وما كانت البشرية في كينونتها وحضارتها إلا التجلي الفذ لجدل
التنوع في إطار الكل.
الهوية تشكل
أبداً، لم يكن التاريخ ولا الحضارة ولا تشّكل القوميات والأمم من صنع رجال أفذاذ، إنما هو وهي وتلك، قد أتت بمجملها بمثابة نتاج تشّكل وفعل وسيرورة، تفرزها منظومة عوامل متداخلة، يتفاعل فيها البيئي مع البشري..
فيما يتعلق في مسألة الهوية والقومية كمعطى اجتماعي وتاريخي، لا يمكن أن تكون من نتاج مرحلة بعينها ولا حصيلة زمن أحادي، إنما هي من نتاج أزمنة متعددة وعوامل نشوء وتكّون، قيض لها أن تتفاعل وتتداخل عبر أحقاب الأزمنة، تماماً كحال
الجولوجيا..

الجدير بالبيان، أن شأن الهويات الجمعية لا يمكن اخت ازله بالعامل البيئي والجغ ارفي، على الرغم من أهميته- فشأن هذه المسألة أكبر وأعقد من هكذا اخت ازل..- ونرى وجود جملة من العوامل والمكونات التي أسهم كل منها بدوره في تشّكل أية هوية جمعية، قد تم
وفق عملية ت اركم وتداخل جدلي، فيما بينها بكليتها. بيد أن هذا الت اركم لا بد أن يؤدي لحدوث الطفرة النوعية، التي من شأنها صهر ما سبق من فعاليات عوامل ومكونات، في صياغة قرب كلية لكينونة الهوية الجمعية. بصدد موضوعنا الخاص بالهوية الجمعية العربية، أرى أن حدثية الطفرة النوعية قد أنجزها الإسلام كدور وحضارة.. بمعنى أوضح، لما كان قطعاً لهذة الطفرة النوعية أن تحقق الهوية العربية المنبثقة عنها، لو لم يسبقها جملة من المقدمات المهيئة لحضورها، التي يمكن اخت ازلها بواقعة تشكل البوتقة الحضارية في المنطقة، وما حط عليها من تطو ارت. والدليل الواضح لهذه المقولة تظهر جلّية في التباين ما بين جغ ارفية الهوية العربية عن جغ ارفية الانتشار الإسلامي.. على ضوء مما تقدم، يتلخص المشهد في خطاطة، ثلاثية المحتوى والعلاقة، وهي:
ٍ
نويات تشكل بوتقة حضارية متدرجة ومتكاملة – يليها مسار – تلاه انبثاق الطفرة النوعية المتمثلة بالإسلام.. يبدو لي، أن الد ارسات وفق مظهرها المدرسي السردي أو صيغها المفككة، لم يكن من اهتمامها الكشف عن المتصل والمتواصل في قوامها. وبقيت تحلق في ف ارغ.. والسؤال في هذا المجال: هل يمكن وعي الهوية من دون معرفة التاريخ..! على ضفا ٍف مما تقدم، لي قول: هناك فرق نوعي بين تشكل الأمم الحديثة وهويتها في ظلها، وتشكل الأمم القديمة وهويتها. تشكلت الأولى عبر تشكل السوق ال أرسمالية وارتبطت به، بينما قد تشكلت الثانية في ظل تكون الحضا ارت النهرية القديمة، بيد أن الاقتصاد كان له دوره الفعال في مجالها..
في مؤدى تلك الحقيقة، يظهر مسارين لتشكل الهويات: نمط يمثله النموذج الغربي، حيث تم تشكلها في ظل الدولة، القائمة على منحى السوق الاقتصادي - والنموذج

الثاني القائم على سير التشّكل في المنحى الحضاري - [كأمثلة للأمم القديمة: العرب، الصين، الهند، روسيا= المتمثلة بحضا ارت الأنهار]
البدايات: وقفة سريعة مع الزمن السديمي وظهور الأنسان الكوني
عبر التحري عن اطلالة الهومو سابين، Homo sapiens، الإنسان العاقل الكوني، تظهر المفاجئة عبر ظهوره في منطقتنا، مغربنا.. في عام 2017، تم الكشف عن بوادر ظهور الإنسان العاقل في موقع جبل Irhoud، قبل 300000 عام، أي قبل 100000 من ظهوره في شرق أفريقيا (Sciences Humaine عدد 309 ديسمبر
2018 ص 48)
المشهد الأول: صح ارء وماء: في تلك الصح ارء المغربية انهمرت أمطار صيفية غزيرة، ارتفعت بكثافتها نحو الشمال، مما وهب الصح ارء نعم الاخض ارر. في ظلها تفاعلت المجموعات البشرية القاطنة، مما أدى إلى ظهور طلائع النوع البشري العاقل في جبل أيغود، الواقع في منطقة صافي الجبلية في المغرب، تلاها ظهوره في شرق أفريقيا والشرق
العربي والجزيرة العربية.
تعلن الد ارسة ذاتها (ص48) بكون السر يكمن في الصح ارء، ففي الأزمنة الجافة تعم العزلة بين الجماعات البشرية القاطنة فيها، أما في الأزمنة الماطرة فترنو تلك المجموعات نحو التبادل والتفاعل البيولوجي والثقافي.4
من جانبي أرى، أن الصح ارء بتحولاتها مدعاة للعمل من اجل البقاء، وللرحيل بحثاً عن الماء، والحبكة هي هنا لنا ولغيرنا، وهذا هو الأساس.. قبل أي قياس..
على وقع التحولات المناخية على صعيد الكرة الأرضية، ُفتحت الآفاق لموجات التحرك
الهائل للإنسان الكوني، الماثل في الهومو سابين، والسيطرة الكلية من قبله على الأنواع
البشرية الأقل تطو ار... ً
عدد 309 ديسمبر 2018 ص Sciences Humaine48 ص Jean Jacques Hublin48 4
على ضوئها، أجهض الهومو سابين المنتمي لصح ارء مغربنا، مقولات السلالات العرقية، ودورها في صنع الهويات المنبثقة منها، المتمثلة بالسامية والحامية والآرية.. حتى انسان نينديرتال الأوربي اختفى بدوره، حتى لو بقي البعض من جيناته في جعبة جينات
الإنسان الكوني.. لم يبقى في الساح سوى الهويات المستندة على الثقافات..
ليس ذلك فحسب، إنما قد فتح الباب لإد ارك جدل التواصل بين الصح ارء وبقاع الماء، أمام إد اركنا لبداياتنا تاريخاً وحضارة.. وانبثاق هويتنا على إيقاعها..
كليات: بدايات، عوامل ومسا ارت في ملخص:
جغارفياوديموغارفيا= أقاليمناوالصحارء
الإقليم الآسيوي: يتمثل في جزيرة العرب: كما تظهره جغ ارفيته، هو في واقعه، إقليم موحد ممتد من بحر العرب جنوباً إلى شمال جبال طوروس شمالاً. تشكل الصح ارء عمودها المركزي، من الربع الخالي إلى شمال بادية الشام، بلا انقطاع..
يحيط في هذا المحور المركزي الصح اروي، سوار مائي بحري ونهري.. - في زمنه
القديم احتوى هذا المحور أنها ار غزيرة، جفت وتصحرت، مما دفع للاندفاع نحو بقاع ً
الماء، في نطاق من ح ارك سكاني واسع عبر م ارحل وموجات، في ذات الإقليم الجيو جغ ارفي..
الأقليم الإفريقي: الممتد من حوض النيل والغرب منه حتى الأطلسي. تشكل فيه الصح ارء الكبرى بامتداداتها سوا ار حول النيل، وبدورها تمثل القاعدة الواسعة لإقليم الغرب العربي.
وجدل التواصل ما بين الصح ارء وبقاع الماء ماثل هنا، بأشكال عدة..
وقفة أولية: جدل العناق بين الصح ارء وبقاع الماء، يتلخص بما يسمى بظاهرة التلاؤم مع المكان.. – مع الإد ارك بكون صحارينا، كانت ذات ماض مائي عريق..
على ضوء من ذلك، يتقلد العامل الجغ ارفي، المؤسس لظاهرة التلاؤم مع المكان، دو ار ً
أساسياً في ظل ما يسمى بالبنية التحتية، التي بدورها لها شأنها في حسم تشّكل البناء ّ
ً

الفوقي المميز للفضاء العربي، ومن بينه الهوية ذاتها.. في ظل من ذلك اندمج العامل الاقتصادي، كرديف وفاعل أساسي في تشكل العناصر المكونة للبناء الفوقي، حسب التعبير الماركسي.
الح ارك السكاني ما بين الصح ارء وبقاع الماء:- يمكن القول بكون الصح ارء مثلت في مدى الزمن الأول حال الخ ازن البشري، أو قل المغزل الدائم الدو ارن، في الدفع السكاني نحو الم اركز الأولى للبناء الحضاري، الموافق للزمن الأول لتشّكل الفضاء العربي..
(بيير روسي، في مدينة ايزيس ص 46) يقول: في العالم القديم، كان الانتقال يتم عن طريق قبائل كاملة، أو أمم أو اسر للاستق ارر في مكان آخر، هذا التحرك العجيب، للأرازق والمعادن الثمينة وللسفن وللأفكار والعقائد وللآلهة..
في هذا المؤدى، نطل على المفتاح الأساسي المؤدي لتشكل البوتقة الحضارية في المنطقة المتمثل بجدل العلاقة بين الصح ارء وبقاع الماء."وخلقنا من الماء كل شيء حي".
مفهوم المثلث الحضاري، المتمثل في الجزيرة العربية ووادي النيل وال ارفدين
أصل الشعلة:5 حينما أ ارد مؤلف قصة الحضارة التحري عن نقطة البداية، فوجدها في بابل ومصر. بالاعتماد على كون ز ارعة الشعير والذرة والقمح وتربية الماشية ظهرت
ى
لأول مرة في مصر وبلاد ال ارفدين، وحين تحّر أكثر لفت شوينفرت نظره إلى الأصل
الأكثر قدما، مشي ار إلى وجودها في بلاد اليمن وبلاد العرب القديمة. ًً
فيأريثاٍن، مرجعفرنسييحملعنوانمدخلللتاريخالقديم:يذكرفيهذهالحقبة الزمنية التي أطلق عليها Proto urbaine، قبل الحضري، فيما بين 4300 - 3100 ق م، شهدت المنطقة تفاعل وتواصل ثقافي مكثف ما بين مجمل الحواضر والمكونات المدينية على مدى المساحة الممتدة من مصر حتى الهضبة الإي ارنيةـ ثم يذهب إلى وجود فضاء عام تم فيه التفاعل المتبادل ما بين التجمعات الأولى للمكونات الحضارية، مما
5 قصة الحضارة، المجلد الأول، الفصل الثالث ص 43
أدى إلى تشكل الدول الكبيرة في العصر البرونزي، من مصر حتى عيلام ومرو ار بسومر ًّ
وآكاد.6
أرى، ثمة تكامل بين الرأي الأول والثاني، تكون فيه مقولة المثلث الحضاري هي منبع البداية، لتجد تكاملها عبر ال أري الثاني، من خلال مسار انتشار الحضارة من منابع مواقعها الأولى.. لكون الانتشار الحضاري لا يعرف التوقف، اشعاعه كالشمس يخترق
الآماد والأبعاد..
في هذا المضمار أعرض الخطاطة التالية التي سنجدها أينما وكيفما توجهنا. – 1 المنطلق: حال التفاعل بين الصح ارء وبقاع الماء – تقوم الصح ارء فيه بدور المغزل، ترسل خزينها السكاني باتجاه بقاع الماء، كاستجابة لمقتضيات الحاجة – 2 التطور
ي
الاقتصادي والحضار بأسسه القائمة في جغ ارفية حوضي النيل وال ارفدين، يستدعي
الانتشار في البقاع البينية بينهما ومحيطهما، كما لو كان يجري بآلية شبيهة بمجرى الأواني المستطرقة.. – 3 سعت مجمل هذه المجريات إلى أن تتوسع باستم ارر على تخومها وفيما بينها.. أدى هذا المؤدى لربط أقاليم المنطقة، في تشكيلة البوتقة
الحضارية، كبنية تحتية مؤسسة لهويتها.
وقفة مع الحوضين النيل وال ارفدين- في التطور الاقتصادي الاجتماعي، كملخص في خطاطة..
في البدء كانت المشاعية البدائية.. - سرعان ما دفعت الجغ ارفيا النهرية كقوة إنتاجية إلى انبثاق الثورة الزارعية - على مهادها تكونت حضارة الأنهار - وبدافع من تنظيم الري وضبط فيضان النهر، برزت الدولة المركزية في ظلها. – في ظل من ذلك النمو الاقتصادي يت اركم - تظهر ثورة المعادن ودورها في رفع وتيرة النمو الاقتصادي، المتمثل
في الإنتاج الحرفي..
6 Introduction à l histoire de l Antiquité ص 132.
بالتوازي، يظهر تطور في محتوى النظام الاجتماعي: – المشاعية البدائية تسير في مجرى التفكك - يتنامى شأن الملكية – تتوالد منظومة طبقية متجددة – تت اركم الثروات وفائض الريع الاقتصادي لدى الشريحة المسيرة للنظام الجديد والمتجدد – مع تعالي وتيرة النمو وت اركم الثروات، يتصاعد شأن الفروق بين الطبقات، والبحث المتزايد عن
ابتداع وسائل للرفاه، وأخي ار تظهر نزعة التوسع والتمدد باتجاه التخوم والجوار. ً
على وقع من هذه التحولات، تجّلى اكتساب جملة من المعارف والأنظمة المتساوقة مع ٍ
وقائعها.. كما ت ارفقت في صداها نقلة أولية في معالم التدين، أدت إلى لاهوت الولادة والخصب، الذي ط أر على مضمون اللاهوت الأولي المتمثل باللاهوت الحلولي في الطبيعة، المتسم ببدائيته وغموضه..
ظهور التجارة كفعالية اقتصادية: في البدايات ظهرت محلياً، وانتقلت إلى الجوار، ومن بعدها بين الحوضين وما و ارء الحوضين.. شكلت بدورها عامل تواصل ثقافي ومعرفي..
النظام الريعي: مع ارتفاع وتيرة التطّور العام وتعالي سطوة النظام السياسي، دخل على الخط نظام الآتاوة أو المكوس المفروض على البقاع التابعة، ليمد القوى المهيمنة بمزيد من الثروات.. أدى هذا المؤدى إلى تصاعد منظومة النظام الريعي..
كان من شأن هذا النظام مد النخب الحاكمة بالث ارء التدريجي، مما فتح شهية هذه الش ارئح لتذهب بعيداً للتوسع فيه وتعميمه على المجال الإقليمي.. غدت الحروب تجلب أعداداً غفيرة من الأسرى الذين كونوا بدورهم طبقة من الأرقاء أو أشباه الأرقاء، كأيدي
عاملة رخيصة، مما قد وفر قوة فاعلة في رفع وتيرة الإنتاج الاقتصادي..
تداخل وتمفصل بين العديد من أنماط المنظومات الاقتصادية - في ظل هذا المدى ظهر تقاطع وتكافل بين العديد من أنماط الاقتصاديات، تميزت بسيطرة نمط ريعي في ظل نظام طبقي- مع وجود علاقات تجارية داخلية في دوائرها - مع نمو مطرد لعلاقات تجارية بعيدة في مداها.. بدأت في صلات تجارية محكمة بين الحوضين (النيل
وال ارفدين) وتوابعها في المنطقة، ثم توسعت في تدرجها إلى ما و ارئها..

تشكل أولي لسوق اقتصادية تجارية: أهم ما نجم عن سيرورة مجمل التطّو ارت بملامحها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، قد تمثل بتشّكل تدريجي لسوق اقتصادية تربط ما بين الحوضين: النيل وال ارفدين. - تمدد هذا السوق التدريجي إلى جوارهما، مما قد شّيد تدريجيا معالم أولية لبنية تحتية ناشئة ومتطورة، ظهرت على رباها بنية فوقية متمثلة، بلغة، ولاهوت، ونظام معيشي، الشأن الذي ترك بصماته على التطوارت
اللاحقة.
لم تكن هذه اللوحة بألوانها الاقتصادية الاجتماعية المختلطة والمتعددة الأشكال حك ار على ً
المركزين النيلي والبابلي، انما عكست ذاتها على محيطهما، المتمثل ببقاع الجزيرة العربية ومدى البقاع الممتدة من النيل غرباً وجنوباً.
ولنعلم، أن التواصل التجاري في الأزمنة القديمة، ينطوي مع نقل البضائع على نقل الأفكار.. فمن خلال القوافل وعلى ظهور الجمال كانت البضائع تعبر في ثناياها المعارف بكل ما كانت عليه، بما فيها الآلهة واللغة..- مما نعثر فيها على صورة تلاقي فذ ما
بين البنية التحتية، والبنية الفوقية، كما كانت عليه في عصرها..
لم تتحقق تلك المسيرة بين ليلة وضحاها، إنما قد تمخضت عن سيرورة بطيئة ومعقدة، تدخلت فيها تحولات وتغي ارت طبيعية وتطو ارت جيوسياسية واحتضنت ص ارعات وعنف حربي،وتواصلتجاريوثقافيمضطرد،وحاركسكانيمستمر..-- كانمنشأننتائج
تفاعلات تلك الظواهر، وضع الأسس الأولية للبوتقة الحضارية..
العامل الثالث في تأسيس البوتقة الحضارية – المنبثق من الفعالية التجارية
في التاريخ مرجل يصهر ويفعل ويتنقل في دروب الفعل -- أكثر من يمثل هذه الظاهرة ما اسميه بالذ ارع التجاري الفينيقي، في تواصل مضطرد مع مسار الازدهار الاقتصادي في ظل المركزين..

تشير الدلائل التاريخية في كون كنعان عبر موقعه المتوسط بين الحوضين، أصبح ملاذًا للقبول الواقعي من قبل المركزين، بل وتشجيعهما لحاجتيهما إليه في موقعه الجغ ارفي، ودوره البحري..
في ظل من ذلك، أقام الكنعانيون قواعدهم التجارية والحضارية في كل الأمكنة التي وصلوا إليها. لم تكن ثمة موانع، فالعالم القديم ما ازل للجميع تتحرك فيه قوافل الناس حيثما تشاء.. تجّول فيه الفينيقيون كرواد يجلبون معهم المعطيات الحضارية المتمثلة بالسلعة والمعرفة، وهكذا تمدد الذ ارع التجاري والحضاري الكنعاني دونما ممانعة من أوغاريت وصيدا وصور وبنت جبيل وعكا وغزة، إلى الإسكندرية وقرطاجة والأندلس
وسواحل العالم القديم كافة.. وظهرت قرطاجة كمركز ومشعل..
على ضوء من ذلك، َقيضت الوقائع التاريخية والجغ ارفية والحضارية، أن تضطلع كنعان وفينيقيا، من خلال الأنشطة التجارية بدور حضاري تأسيسي في العالم القديم، لم يكن ذلك فقط، إنما قد وضعوا الأساس التحضيري للمستقبل العربي في الشمال الأفريقي..
وفقاً لهذه اللوحة بعناصرها المتعددة، تتكامل فعاليات العوامل المؤدية، إلى تشكل البوتقة الحضارية التي كان من شأنها تأسيس الفضاء العربي، بما أنطوى عليه من تاريخ قادم وهوية متطورة في ظله..
معالم كاشفة
من أبرز ما يلزم لعملية الكشف عن معالم تشكل الهوية في الأزمنة القديمة، يتمثل في التحري عن معالمها في منظومة البنية الفوقية.. ولكم قد كشف المرئي عن اللامرئي.. من حيث كون البناء الفوقي (المرئي)، يتولد عن الأساس التحتي (اللامرئي)، ويكون أداة فعل في هذا الأساس، ويسهم بدوره في تطوير هذا الأساس.. بتعبير آخر، يظهر
كالمرآة له..
أرى، من ظاهرتي اللغة ورموز اللاهوت في تطورهما، ما يشير إلى مجرى ما جرى، من حيث لهما في الزمن القديم، قصب السبق في تحديد معالم البنية الفوقية، ومن ثم الإشارة

بكيفية ما إلى مجرى ما جرى في محتوى البنية التحتية.. وما كان لهذه البنية الفوقية أن تتشكل، لولا الفعالية النشطة للبنية التحتية..
من الأهمية بمكان، أن ندرك مدى التفاعل الجدلي بين هاتين البنيتين، وتداخلهما وتواصلهما الدائب والجدلي، لاسيما في ذلك الزمن البدائي... كان من شأن التمازج والتفاعل الفذ بين هاتين البنيتين، وضع حجر الأساس لمسار تلك العملية التاريخية المؤدية لتشّكل البوتقة الحضارية الممثلة لهذا الفضاء، وتكّون الهوية العربية في ظله..
في هذا السبيل، أتعرض لمسألتين واضحتين، تتمثلان، باللغة واللاهوت..
مع اللغة كعنصر واسم في مسار التشّكل: اللغةَمعلم أساسي فائق الأهمية، يقف في َ
الصدارة من بين عناصر البنية الفوقية، ولاسيما في تلك الأزمنة. واللغة وفق ما ظهرت عليه، ما كان لها أن تتحقق لولا حضور تلك البنية التحتية، المتمثلة هنا بوجود واقع اجتماعي وتاريخي وثقافي عمل على إنتاجها..
نعثر على ما يدعم منظورنا في طبيعة الحارك السكاني، من حيث كونه متداخلاً
ومتشابكاً وشاملاً، وأنه قد حد ْث في ذات المكان، وبالأحرى في بيئة البوتقة الحضارية َ
ذاتها. وما كان لهذه اللغات، فيما تبديه من تشابه وتداخل وشمولية، تم سيرها الحثيث نحو التوحد، لولا ظاهرة التداخل والتفاعل السكاني في المجال الحياتي والحيوي والفكري..
على وقع من ذلك، برزت ظاهرة جديرة بالاهتمام، تمثلت في التحّول التدريجي والعفوي من بوتقة لغات متقاربة، بدت كأخوات أو بنات عمومة، إلى تبني لغة مشتركة، تمثلت أولاً بالأكادية، تلاها الآ ارمية، ومن ثم قد واصلت مسارها في سعيها الحر نحو تكامل الكل في اللغة العربية.
يظهر الواقع: أن بوتقة لغوية كانت دائمة الحضور في الأزمنة القديمة، في ظل هيمنة اللغة الأكادية في زمن سيطرتها، وفي ظل هيمنة اللغة الآارمية في زمن حضورها بدورها، حتى ظهور اللغة العربية التي وحدت الجميع في ظل حضارتها..

يحمل هذا التحّول أو بالأحرى هذا التطّور اللغوي دلالة فائقة الأهمية، ولاسيما في الزمن القديم، حيث لا سيطرة مركزية ولا مدارس ولا سياسة تعليمية ولا ميديا.. تم كل ذلك بطريق عفوي، دونما إك اره أو افتعال، فرضه التمازج والتفاعل الديموغ ارفي على
مدى الأزمنة.. -
تشكل هذه الظاهرة اللغوية بكليتها وتفاصيلها بمثابة شاهد عيان على تطّور متدرج، فرض ذاته على مستوى تشّكل بنية تحتية اقتصادية - متمثلة بسوق تجارية مشتركة- نجم عنها بنية اجتماعية وثقافية متماثلة، ضمت في حوزتها لغة مشتركة..
في اللاهوت: بالتوازي مع خط التحّول في المنحى اللغوي، يمكن ملاحظة تحّول م ارفق، بقدر ما، في النظام اللاهوتي، على نسق مرتسم، كالآتي:
في الزمن التالي – اللغة العربية
في زمن تال – اللغة الآ ارمية
– فيما تلاه من زمن تعدد في اللغات المتماثلة
في أول الأزمنة لغات متعددة
تت ارفق عمليا بظهور الإسلام
تت ارفق بقدر ما مع ظهور المسيحية
يت ارفق مع منظومة الآلهة المتعددة والمتعايشة
تت ارفق مع اللاهوت القديم المتمثل في الظواهر الطبيعة
بصورة مبهمة
كما هو معلوم، في تلك الأزمنة، قد مثل اللاهوت عنوان الثقافة ورمزها الأسمى، من حيث كونه قد سيطر على المنظومة المعرفية لدى الناس في تلك الأزمنة..
مهما يكن من شأن، يشّكل اللاهوت واللغة علامتان فارقتان تمثلان مجمل البنى الفوقية..- كما أرينا- يتولد عن الأساس لكي يخدم هذا الأساس، وهو أداة فعل في الأساس، ويشّكل بالتالي، كأداة للدلالة على محتوى الأساس.

والأهم في شأن هذا الأساس، هو تشكل سوق تجارية متطورة عابرة للمنطقة، مما قد أسهم في تأسيس نمط من الوحدة الثقافية، البادية في تطور المسألة اللغوية، وظهور مظاهر تشكل اللاهوت المتماثل..
أرى في مجمل ما جرى، ظهور معطيات تؤكد السير نحو توحيد المجال، وظهور البوتقة الحضارية كحاضنة تاريخية لتشكل الهوية التي ستجد تكاملها في ظل ظهور الاسلام .. -- وللتاريخ حكمته ومشيئته التي علينا إد اركها..
الجزء الثاني- من التجريد الى التجسيد
يأتي هذا الجزء من تطور البحث، بمثابة تجسيد لمجمل المفاهيم والنظ ارت التي قد ظهرت عليها فق ارت الكليات (في الجزء الأول من البحث) يتلخص هذا التجسيد في البحث عن منحى العلاقة الثلاثية المحتوى، وهي: نويات تشكل بوتقة حضارية متكاملة – يليها مسار – يليه انبثاق الطفرة النوعية المتمثلة بالإسلام.. في هذه العجالة، ليس بوسعنا الغوص بالتفاصيل، وكتقديم لها نعرض جملة من المقولات في الآتي:
قول أول: بكل اليقين، ينطلق معظم َمن تمتع بموقع الصدارة في الممارسة السياسية،
بما توفر لديه من قوى ومما يترآى حوله من وقائع، ليوظفها بكليتها لخدمة نظامه
ومصالحه.. وهو عبر مسيرته تلك، لم يكن تشغل هواجسه كثي ار، إلى أين يسير به ً
مرجل التاريخ إلى أي محطة.. هذه نظرة كلية، لا تخص الفعاليات الجارية في الحوضين أنما تنطبق على الجميع.. وحتى عصرنا هذا..
قول ثان، أرى فيه، أن المجال الجيو سياسي والواقع الديموغ ارفي والبعد الاقتصادي، هو المؤدي الفعلي لرسم المشهد القادم بمجمله وتفاصيله... هذه النظرة بدورها تظهر كقانون عام عابر للزمان والمكان..

قول ثالث، يتعلق بالعلاقة ما بين المركزين النيل وال ارفدين - أستمد من توماس طمسن قوله الفذ في وصفه للمشهد السياسي الجاري في المنطقة، في تلك الحقبة الزمنية: كانت السياسة الحقيقية في تلك المنطقة تتحدد عن طريق التفاوض أو الن ازع المستمر
بين ملوك بلاد ما بين النهرين وملوك وادي النيل. 7
في سمات العلاقات بين الحوضين: النيل وال ارفدين - أدت جملة من العوامل المتوفرة فيهما وفيما بينهما إلى ظهور هذه العلاقة المترنحة بين التفاوض والن ازع، نوجزها في عوامل عدة: 1- نزعة التوسع في السيطرة والثروة لذوي النفوذ / 2- غا ارت القبائل (الرحالة) على البقاع التابعة لهذين المركزين، مما دفع القوة المهيمنة نحو التوسع في تنظيم القوة العسكرية على سبيل ضبط إيقاع البقاع المتاخمة، وبسط الحماية والإتاوة عليها / 3-عامل التجارة بين المركزيين المتطورين وفيما حولهما، مما استدعى العمل إلى ضبط طرق التجارة وشحذ أبواب التوسع وبسط النفوذ وعلو شأن العسكرتاريا 4 التجارة البعيدة المدي وتطورها ودورها في ت اركم للثروات والخب ارت، وإحداث المزيد من
الاستقطاب الطبقي والتقدم في مسار البناء الحضاري..
على ضوء من ذلك، كان الأمر يجري في المنطقة على مختلف الأصعدة، بما يماثل مجرى الأواني المستطرقة. في منحى الإسهام في تشكيل البوتقة الحضارية..
قول اربع - ينطبق ما ذكرناه في الجزء الأول من هذا العمل، على واقع الحوضين في جل مجالاته، والتي هي مصدر تألقه.. قول خامس – كل المعطيات تؤكد، أن الواقع الديموغ ارفي الجغ ارفي في تلك الأزمنة، كانت في مداها الفعلي أوسع مما هو قائم الآن.. مما يلزمنا النظر إليها كمجالات انطوت على فعاليات كان من شأنها تشكيل سماتها الحضارية في عصرها..
1
دور حوض وادي النيل
7 ص 291 منكتاب الماضي الخرافي، التوراة والتاريخ
كتلخيص مكثف لما أتى من عرض ومقولات، نحدد ما قد توصلنا إليه في الآتي..
مع حوض وادي النيل: لم يكن قطعاً ما مجرى ما جرى في وادي النيل ممثلاً له بحد ذاته فحسب، إنما قد مثل وعكس المجال الجيو ديمغ ارفي بمداه الغربي والجنوبي الأفريقي، وتحديداً ليبيا وما بعدها غرباً، والنوبة وما بعدها جنوباً، وكذلك المجال الجيو ديموغ ارفي
في المجاور الشرقي الآسيوي..
مصر في التطلع نحو المحيط
كان التطّلع نحو المحيط دائم الوقوع، وحينما يخفت صوت هذا التطّلع، كان المحيط لمصر يتطّلع، وهذا ما عبرت عنه الديموغ ارفبا في أس اررها، والجغ ارفية في مداها، وسبل النمو الاقتصادي بما يتملكه من فعل ونزوع حضاري.
انطوى هذا التطلع على تواصل ودي سلمي، وحربي عند اقتضاء الضرورة، مما أدى لنسج علاقات التفاعل ما بين مصر ومحيطها.. لعل ضبط إيقاع هذا التطلع، يظهر في صلاته، بما يشبه المماثلة لمجرى الأواني المستطرقة، التي تأبى الف ارغ.. ون ارها في
تك اررها..
وعلى سبيل التلخيص ألجأ إلى أسلوب الخطاطة: نزوع التطلع إلى المحيط بكل اتجاهاته، ظهر على الدوام لدى: الدولة القديمة، والوسطى، والحديثة.. وكان بمثابة تطلع توسعي سياسي، يخفي بدوره، طموحات اقتصادية وتجارية..
ى
والمحيط بدوره يتطلع للفعل في المجر السياسي لحوض وادي النيل - ظهر هذا
التطلع، من شرق مصر وغربها وجنوبها... وهو قد أدى إلى تنشيط فعاليات التواصل والتفاعل، مما قد أسهم بدوره في مسار تشكل الفضاء..
سورية إلى الميدان: في أواخر عهد هذه الأسرة (19)، ظهر نوع من الضعضعة في سيرة الحكم، حاول خلالها أمير من أصل سوري يسّمى أرسو، أن يستولي على العرش الملكي.. ولعل هذه الظاهرة مع غيرها تشّكل دلالة تاريخية على دخول سوريين وليبيين
على خط الن ازع الداخلي للسيطرة على السلطة العليا في البلاد..

ليبيا على الخط: أول السؤال، هل تم النظر إلى الليبيين المتواجدين في مصر آنذاك كغرباء، بل وهل كانت الجغ ارفيا الليبية حاضرة في الذهن المصري كما هي عليه في يومنا ؟ أم أن للأمر وجهة أخرى..
ظهر عدد من الغا ارت القادمة من الأ ارضي الليبية على الإقليم المصري (حسب مفهومنا الحالي لهذا الإقليم؟).. يمكن إد ارك ذلك، من خلال مفهوم الأواني المستطرقة في ص ارع المركز مع المحيط، أو العكس.
بالتوازي، حضر كثيرون من الإقليم الغربي (ليبيا) إلى مصر، وكانت في معظمها ملحقة بمصر، ومارسوا التجارة والزارعة وسكنوا وسط البلاد وشمالها " وتمصروا "، أما عن وجودهم في الجيش فما هو إلا من قبيل ما يشبه المواطنة، لا كمرتزقة، أما صعودهم
إلى السلطة، فهذا من شأن العسكر الذين يلتقطونها بمجرد ما تتزعزع شرعيتها..
يؤسس شيشونق الليبي الأسرة الثانية والعشرون، يقوم هذا الفرعون القوي باستعادة النفوذ المصري على فلسطين، وقد تلاشى أو بالكاد من قبل في عهد الأسرة السابقة..
والنوبة الجنوبية لها دورها: في عهد الورثة (أسرة23 و24) تضعف السلطة المركزية.. ويفتح المجال لقادمين جدد من الجنوب، بالتعاون مع كهنة آمون البلاد- منذ 740 ق م، أستطاع أحد رموزهم شاباكو تأسيس سلالة نوبية حاكمة، هي الأسرة الخامسة
والعشرون..
كحال ف ارعنة ليبيا أتى ف ارعنة النوبة، لاسيما كانت لغتهم وديانتهم وتقاليدهم مصرية الماهية من دون أدنى فرق، لم يعتبروا أنفسهم قط كغرباء. لا يتعدى ظهورهم على المسرح السياسي أكثر من ص ارع جهوي محلي، تلا حصول شرخ في الشرعية السياسية للنظام
الو ارثي الأسري السابق..
من التطلع إلى نسج العلاقات -- مع بلاد الشام: لمصر ولع خاص في بلاد الشام. تجاوز الشأن فيه مجرد فتوحات وإتاوات. وظهر كمجال حيوي وتجاري، وحماية للطرق التجارية المتفرعة، نحو بقاع الجزيرة العربية والجغ ارفية الآسيوية..

في خلاصة يعلنها توماس طمسن (ص 291): منذ القرن الخامس عشر ق م، جاءت القوة الحقيقية المحققة للاستق ارر في فلسطين من المصريين، إذ حاولوا الحفاظ على طرق التجارة بوضع فلسطين تحت السيطرة المباشرة للجيوش المصرية.. سمح هذا الوجود المتمثل بحامياته وادا ارته، لكبرى البلدات المحافظة على ازدهارها في مواجهة اقتصاد آخذ بالتدهور.. كما رسخت مصر وجوداً عسكرياً دائماً في نهاية القرن الخامس عشر، بإنشاء قواعد عسكرية في بيت شان (الشمال) وفي غزة (الجنوب).. كلف هذا الوجود الخزينة المصرية مبالغ طائلة. شجع هذا الوجود مناطق أخرى على الاعت ارف
بهيمنة مصر.
لقد أدى بسط الحماية على الحكام المحليين، إلى سيطرة مصر على الم اركز السياسية والاقتصادية لعموم المنطقة.. كان الهدف الأول هو وضع اليد على النشاط التجاري، طرقاً وتنظيماً.. كان من نتائج تلك السياسة استقرار الأوضاع في المنطقة وازدهارها أثناء القرنين، ال اربع والثالث عشر – كما حمى وجودها مصالح مصر المتمثلة بالطرق التجارية مع سورية وما بين النهرين، وتواصلها مع م ارفئ الشمال، كأوغاريت وبلاد
الاغريق كطروادة..
ما بين مصر وبابل- تدلي قصة الحضارة بدلوها لتوضح لنا أبعاد هذه المسألة، فتقول: نحن نعلم أن مصر وبلاد ما بين النهرين كانتا تتبادلان التجارة...8
في أمثلة أخرى توضح عمق هذه العلاقة، يذكر بيير روسي،9بينما كانت الهيروغلوفية المصرية تستعمل في بابل، فإن المسمارية كانت مستعملة في مصر.."- كما كانت " إن آلهة مصر يقفن في ذات الزمن على ضفاف على الف ارت.."
أدى مجمل تلك الفعاليات التي سادت في حوض النيل، إلى بروز دائرة اقتصادية تجارية وثقافية: فإن كانت مصر قد تمددت في عمق الأ ارضي السورية وأ ارض أخرى في الغرب والجنوب منها، فقد تم لدوافع است ارتيجية واقتصادية، من بينها فعاليات التجارة الدولية
8 قصة الحضارة الفصل الثالث ص 43
9 مدينة ايزيس (ص63- 64، ص277):
الناهضة في المنطقة. على وقع من ذلك، شكلت مصر وسورية دائرة وسطى قائمة بين: غربها وجنوبها وشرقها، أدت إلى بداية تبلّور دائرة مركزية لسوق اقتصادية تشمل مصر وسورية، تمد ب أرسها إلى بلاد ال ارفدين، لتمتد فيما تلا إلى ما أحاط بها من تخوم.
على صعيد فعلي، كان من نتائج مجمل الفعاليات التي دارت رحاها في حوض النيل، فتح الباب لتشكيل البوتقة الحضارية في المنطقة، والسير بها لتلتقي مع المشهد المقابل المتشكل في حوض ال ارفدين..
ملاحظة - رسائل تل العمارنة تؤكد مجمل ما قد ذهبنا إليه – يقال ظهر لها حتى الآن 379، جًلها باللغة الأكادية..
2
دور حوض ال ارفدين في تشكيل بنية البوتقة الحضارية
وقفات في مقتطفات 1- لا يخامرني الشك بكون ما تقدم بشأن مصر يتماثل إلى حد بعيد مع تطو ارت
الأحداث التي غمرت حوض ال ارفدين..
2 – ظهر على الدوام علاقة وثيقة جغ ارفية وديموغ ارفية: بين حوض ال ارفدين مع جنوبها متمثلا بمنطقة الخليج وباقي أج ازء الجزيرة العربية، ومع غربها المتمثل ببلاد الشام، مما جعلها تشكل بواقعها مجالا مت اربطاً.. امتدت العلاقات لتصل في مداها إلى
حوض النيل بشكل مبكر..
على سبيل التلخيص: يمكن ان نوزع تطور الفعالية الحضارية في حوض ال ارفدين على زمنين: - أدت مسيرة الزمن الأول بجملته، إلى تأسيس المركز الحضاري البابلي لهذا الحوض في المرحلة العمورية، وخلق قوة ديناميكية محركة لحال المنطقة ومستقبلها.
في واقع الحال، كانت التجارة في بابل، كمدينة ومركز، على وتيرة عالة جداً من النمو والفعالية، إلى درجة قد قيل معها، أن لدى بابل من التجار بأعداد نجوم السماء.

توفر لبابل ثلاثة عوامل، من شأنها أن تجعل من بابل مركاز للأرسمالية التجارية ً
المسيطرة وقتئذ في العالم القديم، تتمثل بسعة المجال- بالوتيرة الفائقة لنمو الإنتاج الصناعي في البقاع التي تحت سيطرتها،10- في الموقع الاست ارتيجي القائم، بين الغرب المتمثل بمصر والبحر المتوسط، والشرق الآسيوي..
لي من اليقين، في كون تشريعات حمو اربي، تقدم أوفى توثيق عن مدى تنوع الفعاليات الحضرية ومستواها، مما يعكس عن مدى التمدن في بابل، من خلال الاهتمام الفائق بشؤون الصناعة وتنظيم العمل فيها، والتجارة القريبة والبعيدة، وعلاقات التجار الكبار بالصغار، والمواصلات وتنوعها، والشؤون المالية المتمثلة في: الديون والرهون والفائدة، والشاركة والصيرفة والسمسرة والعقود والمبادلات.. كما ظهر حضور لنقابات مهنية
وورشات صناعية.. كما لو كنا نتجول في مجتمع أرسمالي متطّور.. تمثل هذه النصوص التشريعية في جوهرها مظه ارً يعكس مجمل البنية الفوقية، التي
تأتي بدورها كمرآة نتعرف من خلالها على مدى تطور البنية التحتية..
على صعد واقعي، ظهر ت ازمن وتفاعل وتكامل بين المركزيين المصري والبابلي، مما أدى إلى تأسيس سوق تجارية مركزية ممتدة من وادي النيل إلى حوض ال ارفدين، تتجمع وتتقاطع فيها ولديها الطرق التجارية للعالم القديم - غدت بابل حمو اربي معها، عقدة الموصلات الدولية ومرك از للتجارة العالمية... - في ظلها، ظهرت اللغة الآكادية
كسائدة على المستوى العام، كما تظهرها م ارسلات تل العمارنة..
كان من مؤدى مجمل ما سبق، طبع مستقبل بقاع هذه المنطقة بطابعه الخاص عبر الأزمنة الآتية، وجعل منها مشروع بقعة حضارية واعدة.. تحمل في طياتها بوادر تشكل البوتقة الحضارية في المنطقة.
في نقلة نوعية على منحى الزمن الأول يطل الزمن الثاني، الآشوري الكلداني: اعتبا ار ً
من القرن العاشر قبل الميلاد سيطر الآشوريون على بلاد النهرين، وعلى بلاد الشام،
َ
10 نعيم فرح ص 134
واحتلوا مصر لحقبة قصيرة من الزمن.. ظهر للآشوريين اهتمام خاص ببناء الأساطيل الحربية، وتعاونوا مع الفينيقيين بشأنها، وصانوا وجودهم.
انبثق معهم تطور جديد، تجّلى بالعمل على توحيد المنطقة بأساليب عدة، أهمها:1 الهيمنة المباشرة، -2 اعتماد ما يمكن اعتباره دمج سكاني وتأهليهم للمواطنة، واعتبارهم كآشوريين تابعين لدولتهم، - 3 تعميم اللغة الآارمية واعتبارها اللغة
الرسمية..
الكلدان على خط أشور بالمجمل والتفصيل، مع فارق وحيد يتجلى في علاقة إيجابية مع مصر – بعد فترة تصادم وتدخل في شؤون مصر الداخلية..
إطلالة تاريخية على السياسة السكانية لآشور وكلدان
كثي ار ما تأتي الحروب أكلها في نتائج غير منظورة حال لحظة حدوثها، من حيث كونها ً
تخلق وقائع جديدة على الأرض، وقد يؤدي ت اركم فعل هذه الوقائع بفعل استم اررية الزمن إلى ظهور نتائج فائقة الأهمية في زمن بعيد عنها.. والحروب بدوافعها لا تأتي عبثاً إنما لدوافع وهدف، وهي هكذا كانت لآشور وكلدان..
مهما يكن من أمر، إن حروب بابل ليست حروباً بالمعنى المتداول، أي لم تكن لهم عدوانية، إنما هي دفاعية ضد الغ ازة القادمين من الشمال والشرق، ال ارغبين في نهب الثروات، ومن جهة ثانية لها نمط من التدخل في مجالها الجيو جغ ارفي والديمغ ارفي ولنقل
الحضاري، وبالتحديد تلك المناطق البينية القائمة بينها وبين الحوض المقابل- النيل..
الجدير بالبيان، كان من شأن السوق الاقتصادية في المنطقة حينما غدت محط التجارة الدولية ومركزها المنظم، وما نجم عنها من بنى فوقية، دفع القوة الأساسية الفاعلة في ظلها، لتعمل بلا هوادة على إعادة تنظيمها على مختلف الأصعدة.. بما يكفل ويتسق
مع امتداد السوق الاقتصادية وتطوره، وتعميم الاستق ارر والرخاء في جوانبه..

وقفة مع البنية السكانية في تلك البقاع البينية المتمثلة أساساً ببلاد الشام بما قد ظهرت عليه: كيانات مفتتة، متصارعة، ومتناحرة فيما بينها، وما لبث معظمها يترنح ما بين حالة الاستق ارر واللا استق ارر، في بقاع فلاحية وبدوية صح اروية، كنصف م ازرعين ونصف مرتحلين ومترحلين، ما عدا بعض المدن الساحلية كصيدا وصور، وبالإضافة
لدمشق وحلب..
ولنعلم، أن الناس عهدئذ لم يكن قد ترسخ لديهم أحاسيس الانتماء لبقعة محددة من الأرض، وهم بما ما ازلوا عليه من حالة الترحل و نصف الترحل..!! فكل شيء يجري في مسار التشّكل بما فيها العواطف والعقل الجمعي..
من جانب آخر، لقد ظهر فيما بين البقاع البينية، جماعات درجت على قطع طرق التجارة الدولية، مما شكل والحالة هذه، قلقاً مستديماً للمركزين، الأمر الذي دفع بابل، كمركز للتجارة الدولية، لتبني سياسة إعادة تنظيم الوسط في نسق سكاني مستحدث..
ومما يجب اد اركه، كون الفعالية الاقتصادية المتنامية باضط ارد متسارع تتطلب، المزيد من اليد العاملة، مما دفع إلى المزيد من القدوم السكاني، وطالما كان القدوم دون الكفاية، تطلب الأمر اعتماد سياسة الجلب القصري.. ومما يؤكد مجمل هذه الوقائع،
أنه في الزمن الفارسي، رفض معظم اليهود إغواء التشجيع لمغادرة أرض بابل..
على وقع مما تقدم، كان من شأن قوة بابل الصاعدة المتمثلة بالثنائي الآشوري الكلداني، أن يعتمدا منحى إعادة ترتيب المنطقة، وصياغتها من جديد، وتوحيدها في ظل التاج الآشوري ورديفه الكلداني، مما أدى إلى اعتماد جملة من الإج ارءات ومن بينها المجال
السكاني..
على هذا الأساس بلغ بهما المطاف إلى تبني سياسة سكانية، استدعت ترحيل جملة من السكان مع نخبهم ونقلهم إلى عرين بابل وحوض ال ارفدين.
في هذا الصدد، يذكر مرجع فرنسي يحمل عنوان تاريخ البشرية: " في نهاية القرن العاشر ق م اندفع الآشوريون لاحتلال الطرق التجارية والمناطق الغنية بالمواد الأولية. في

عهد Teglath-Phalasar III (727-744 ق م)، المؤسس الفعلي للإمب ارطورية الآشورية - امتدت الدولة من إي ارن حتى المتوسط وتم احتلال مصر مدة عشرين عاماً. عمل فيها هذا الحاكم على ترحيل سكان المناطق المفتوحة، حاملين معهم عوائلهم وثرواتهم وآلهتهم، وعمل على إسكانهم في مناطق بعيدة عن أوطانهم، وعاشوا في حالة نصف عبودية.. في نهاية المطاف أصبح هؤلاء يشكلون النسيج السكاني الز ارعي لآشور، وتبنى
الجميع اللغة الآ ارمية. واستمر حكام آشور وكلدان على هذا النهج من دون كلل.. "11 في منظور أشمل لدى طمسن، يتحدث فيه عن سياسة كلية معتمدة، لا انتقائية يذكر فيها.." لقد أدخل الجيش الآشوري سياسة التدخل السكاني التي كانت تتضمن نقل وترحيل الشعوب عبر الإمب ارطورية. ثم حّول ما كان بدأ به كسياسة عسكرية للحكم المحلي الإقليمي، إلى سلاح سياسي مصمم للسيطرة على كل المقاطعات والجماعات السكانية للمدن الآشورية الكبيرة. وسمح للحكام والدول الذين كانوا متفقين مع المصالح الآشورية بالبقاء سليمين كتوابع للإمب ارطورية. أما النسيج الاجتماعي للدول التي قاومت بشكل مباشر الجيوش الآشورية فقد واجه التمزيق المنظم.- و" أعاد الآشوريون توطين قسم كبير من المهجرين في المدن الآشورية بالإضافة إلى البقع المضطربة الأخرى من الإمبراطورية. - بهذه الطريقة أقامت الحكومة الإمب ارطورية جماعات ضمن السكان، الرعايا الذين كانوا معتمدين كلياً على السلطات. فكان بالإمكان اعتبارهم موالين." "وفي بعض الأحيان كان يتم ترحيل قرى كاملة من مناطق مفتوحة وتستخدم
لترميم وإعادة بناء المدن..."12
كان لهذه السياسة حسب طمسن، أبعاداً أخرى من بينها، رفد الجيش بالرجال، كشكل من أشكال التجنيد الإل ازمي العسكري، فالإمب ارطورية الآخذة بالاتساع كانت تتطلب دوماً إمداداً مت ازيداً من الشبان لأجل جيوشها.. 13-- لعل هذا الشأن ينطوي بكيفية ما على نمط من
11 من إصدار اليونسكو(عام 2001، في ص 150 Volume II -Histoire de l humanite)11 12 طمسن 296 و 297 الماضي الخرافي، التوراة والتاريخ 13 طمسن 297 و298

التأهيل وغرس في المواطنة - حسب التعبير العصري- كي تصبح هذه المجموعات المنضمة للتشكيل العسكري مندمجة نفسياً وسلوكياً وتكويناً مع موقعها هذا.
وللبعد المهني الاقتصادي، دوره الفاعل في انتهاج هذه السياسة: ومن طمسن: كان يتم جلب الحرفيين والعمال المهرة إلى المدن الآشورية، بينما كان من نصيب المدن الأخرى العمال الأقل مهرة، لأجل بناء النصب التذكارية ومد الأقنية وإقامة التحصينات
والمستوطنات الحدودية بمحاذاة الثكنات العسكرية على طول حدود الإمب ارطورية.. 14
تأتي شهادة أخرى ت اروح في ذات المكان، وردت في كتاب أس ارر بابل (ص69)، 15تذكر أن نبوخذ نصر قد " ساق نحو 700 من المحاربين الأشداء، 10000 من الحرفيين "، وهذا ما يؤكد أحد الأهداف الأساسية من السياسة الديموغ ارفية.
في سجلات سرجون أتى: لقد حاربت أهالي السامرة، الذين اتفقوا وتآمروا مع ملك معاد لي على أن لا يتحمّلوا الخدمة، وألا يقدموا الإتاوة لآشور، وخضت معركة مستعيناً بقوة الآلهة العظيمة، أربابي، لقد عددت 27280 نسمة أخذتهم كغنائم مع عرباتهم لقواتي الملكية، وأعدت إحلال الناس في السامرة أكثر من ذي قبل. لقد جلبت إليها أناساً من البلدان التي فتحتها بيدي، وعينت مفوضي كحاكم عليهم، واعتبرتهم كآشوريين..16 -
ها هنا نحن هنا أمام لوحة سياسة ديموغ ارفية واضحة المعالم.
لعله من نافلة القول القول، بكون الناس آنئذ من النمط الخام، لم تستقر أقدامهم حيث هم، وما ازلوا رّحل أو نصف رّحل. لم تتبلّور لديهم أحاسيس قوية للارتباط بمواقعهم. ولم يمتلكوا على نحو كاف بما يكافئ الشعور بالانتماء إلى بقعة ما أو هوية متميزة.. وهم بلا تردد على دين حكامهم، وكان من السهولة بمكان تحويلهم إلى مواطنين
آشوريين، ففي هذا نعمة ما بعدها نعمة..
14 طمس 295
15 أسرار بابل ص69 16 طمسن ص 295

الغريب في الأمر، يرى مؤلف أس ارر بابل: إن الشعب ألآشوري قد مات وذاب في لجة
سكان الإمب ارطورية المنصهرين باللغة الآ ارمية.17.
من جانبي أرى: لا لم يمت أبداً الشعب الآشوري، إنما قد وحد المنطقة وذاب أو ذوبها ّّ
بما يليق فيهاـ انتظا ار منها للآتي. لم يكن الشعب الآشوري ينظر لذاته، خارج الانتماء لحوضه، وهذا ظاهر في سلوكه وثقافته المعبر عنها في مكتبة آشور بانيبال الغنية بمحتوياتها، ولم يكن تبنيه للغة الآ ارمية، خارجة عن مشهد الأحداث ومنطق مسيرتها.. في ظل من ذلك، لا يخرج الترحيل في أغلب الأحيان عن دائرة إعادة التنظيم أو حتى
التأهيل، مع عدم تجاهل البعد السياسي في فحوى هذه السياسة الديموغ ارفية... فيما أرى، ليس من الصدفة بمكان، أن تتعانق وتتفاعل فيه ظواهر عدة في ظرف واحد تتجّلى: بتشكل سوق اقتصادية تضم المنطقة بحوضيها النيلي والرافدي وتوابعهما/ وعملية توحيد سياسي واسع في ظل التاج الآشوري والكلداني/ ودمج وتأهيل وتنظيم ديمغرافي واسع / يترافق بمجملها ببنية فوقية تتمثل ببروز لغة واحدة، أكادية، تلتها الآرامية، وفي مستقبل الأيام ورثتها العربية،
ولاهوت متماثل في منابعه وماهيته ورموزه، يستمد وجوده من مظاهر الطبيعة أساسًا. 3
وقفة موجزة مع المناطق البينية والمتاخمة
يتمثل دور المناطق البينية بشكل أساسي، بالقبائل الآ ارمية والكنعانيين، مع التفرعات التي انبثقت عنهم.. - كنا فيما سبق قد أشرنا إلى الدور المركزي للمجموع الفينيقي، الذي قد تجّلى فيما و ارء البحار والشمال الإفريقي..
عن الآ ارميين: لقد تجّلى بشكل أساسي بالدور المركزي في العمل التجاري ولا سيما في الوصل والتواصل بين المركزيين، فضلاً عن دورهم مع شمال الجزيرة العربية، فقد كانوا جزءاً من المنظومة المهيمنة على التجارة الداخلية خاصة، وحتى في صلاتها مع الخارجية.. ومما يؤكد المستوى الرفيع لفعالياتهم هو كون لغتهم الآ ارمية قد فرضت
17 أسرار بابل ص 27
نفسها وبعفوية مطلقة على المنطقة بكليتها، وبلغ الأمر من مدى رسوخها، تمثل بكونها قد أصبحت اللغة الرسمية للإمب ارطورية الفارسية نفسها..
مع الجزيرة العربية: كانت الجزيرة العربية حاضرة على الدوام في صح ارئها، منها ينطلق الخزين السكاني عبر روافد وموجات، فض ًلا عن دورهم الفعال في التجارة مع المركزين وغيرهما، ولا سيما عبر الطرق العابرة للصح ارء، من أقصى شمالها حتى الثغور البحرية في جنوبها.. كما لا تخلوا أط ارفها متمثلة باليمن وعمان ودلمون من اقامة كيانات سياسية وحضارية فعالة، تربطها خاصة بحوض ال ارفدين.. فضلاً عن دورهم التجاري البحري مع
سواحل المحيط الهندي.. ولنعلم أن دلمون كانت تغطي القسم الأعظم من الساحل الشرقي للجزيرة، ويعتقد أنها
قد شكلت الأصل السكاني للكنعانيين، كما كانت المرتع لأساطير سومر..
والصح ارء ذاتها، في أعماقها، كان لها رصيدها، حيث قد أظهرت بوادر عربية صح اروية لها موقعها خاصة في بلاد الشام وبوادي ال ارفدين: كالأنباط، وتدمر ومكة.. بما تمتعوا بها من دور تجاري أساسي، وأحياناً في البعد السياسي..
ومرة أخرى، لم تعد الصح ارء مجرد خزين سكاني، ومغزل يرسل موجات من السكان، حسبما ما تمليه الضرورة الثنائية للعلاقة القائمة ما بين الصح ارء وبقاع الماء- إنما قد أصبحت القلعة الاقتصادية للتجارة الخارجية، غدت فيها سواحلها نوافذ ومحطات للتجارةـ باتجاه آسيا البحرية الجنوبية، وشرق أفريقيا عبر البحر الأحمر.. كان من شأن قوافلهم والجمل إقامة الروابط بين الطرق التجارية المتجهة العابرة في الشمال، ما بين المتوسط وأعماق آسيا، عبر طريق الحرير.. وبين الشمال والجنوب الماثل في
الهلال الخصيب والبحر المتوسط وشواطئ المحيط الهندي..
وأكثر من ذلك، أضحت برمالها قلعة حماية للعرب ودورهم الاقتصادي خاصة، لم يستطع أحد على اقتحامها من الإمبارطوريات الغازية، وبها احتمى الأنباط في نشاطهم

الاقتصادي والسياسي، وصدوا الاغارقة أكثر من مرة، وصمدت أمامهم عاصمتهم البت ارء، حتى ولوج العصر الروماني..
5
كخلاصة كلية، تكامل المشهد في تشكل البوتقة الحضارية في تجلياتها الآتية:
تشّكل جغ ارفية اقتصادية تجارية مركزية، تشمل بين النهرين ووادي النيل وبلاد الشام وشمال الجزيرة العربية، مع سوق اقتصادية فرعية بين شمال الجزيرة وجنوبها، وفرعية أخرى بين شمال النيل وغربه وجنوبه. كان من شأن هذا السوق احتلال حجر الرحى في اقتصاد العالم القديم، كملتقى للطرق التجارة الدولية، وكمحطة مركزية لفعاليات
التبادل والتواصل بين أج ازء العالم المتحضر.. تشّكل جغارفية ديموغارفية، ظهرت عبر تمازج سكاني اجتماعي واسع النطاق بين مختلف البقاع والأنساق، أتى كتاج عن: 1) عن التكامل الجغ ارفي للمكان. 2) الح ارك السكاني الناجم عن التبدل المناخ، وجدل العلاقة بين الصح ارء وبقاع الماء. 3) التبادل التجاري الواسع.4) أسرى الحروب والعمالة في المشاريع الكبرى في مصر وبابل.5) السياسة السكانية للنظام الآشوري الكلداني= المتمثل بالدمج.
تشّكل جغ ارفية سياسية، نجمت عن تناوب السيطرة السياسية بين المركز المصري والبابلي على مجمل المنطقة وتخومها. لم تكن البنى السياسية المتناثرة فيما بينها سوى مشتقات أو توابع لهذه الم اركز..
تشّكل جغارفية ثقافية ولغوية: تدشن هذه الجغارفية محتوى الجغارفيات السابقة ولاسيما: الاقتصادية والديموغ ارفية، على نسق من جدل العلاقة بين جغ ارفية الأساس (البنية التحتية)، وبين جغ ارفية المرآة (البنية الفوقية). تتبدى هذه الجغ ارفية في شمولية
اللغة والتشابهات في اللاهوت..
وقفة مع اللغة: في البداية ظهرت بوتقة لغوية متقاربة ومتداخلة (من أصل واحد أم لا؟)، سادت في ظلها الآكادية ثم الآ ارمية، كمقدمات للغة عربية. كانت تلك اللغات في

حقيقتها منذ انبثاقها تمثل واقع ثقافي لا اثني، وتواصل توارث هذه اللغات وتسلسلها يلخص مسار تطور البوتقة الحضارية في المنطقة..
في واقع الأمر، تشكلت تلك الأنماط الجغارفية الممثلة لحالة بنيات، ظهرت على نحو من تكامل تدريجي، في ظل من أنظمة متتابعة ومتداخلة، متعاونة وحيناً متصارعة.. بيد أنها قد اكتسبت كما أرى، سمات أنظمة وطنية، التي توفر لكل منها من حين لآخر، بما يماثل كتلة تاريخية متعاقبة حينا، ومتعانقة حيناً آخر، ومتنافسة – متصارعة في أحيان أخرى.. وهذا ما قد أدى لهذه الأنماط الجغ ارفية بما قد ظهرت عليه، من وجود
واقعي في ساحة التاريخ..
وقفة أخيرة، في ظل الإمب ارطوريات العابرة – كموجز (وهي تستدعي د ارسات خاصة
بها)
لكم وقفت دوماً، أمام روعة البوتقة الحضارية التي هي فيها ومنها بداياتنا، والتي هي
في حقيقتها الشعلة الأولى لحضارة البشرية بكليتها، وإن لم تكن ككل، تكون هي الأهم..
في وقفتي كل مرة، لكم كانت الدهشة تغمرني في سري وعلني.. على مشهد من غياب
اد اركنا لها.. بحيث قد غدت الحلقة المفقودة من وعينا لذواتنا.. وتركناها ليعبث غيرنا
بها، ويقدمها لنا، مبعثرة، مج أزة في أشلاء، وفصلوها عنا وعن وعينا، كما لو هبطت
من السماء، ثم استدعتها السماء لذاتها لترحل بها عنا..
ٍ بكل من يقين، لا ورثة لهذه البوتقة سوانا، إن لم ن ُكن نحن، من سيكون اذن.. الذين أ اردوا
اقتلاعنا منها فشلوا.. - هذه الإمب ارطوريات التي غزت بوتقتنا رحلت.. نهبت ما نهبت.. واكتسبت ما اكتسبت، من معرفة وثروة.. حتى الابجدية والكتابة تلقنوها منا، ناهيكم عما تلقفوها من تقنية ومعرفة كانوا يجهلونها.. في مقارنة موجزة، كان دور بوتقتنا الحضارية العطاء الدائم = وكنموذج لها: أسلافنا في فينيقيا وكنعان عبر خوضهم في بحار العالم القديم، بنوا حيثما حلوا قواعد للتبادل
6

التجاري والترويج في ظله للمنجز الحضاري.. وكان المجال الذي حطوا به رحالهم،
ما ازل غارقاً في الزمن البدائي، حملوا إليهم في زوارقهم مع البضاعة، الأبجدية والكتابة
والأرقام والحساب والمعرفة.. لم يكن أبدا استعما ار ونهبا، كان تبادليا وعطاء، فالجغ ارفية ًًًً
والتاريخ كانا في لحظة الابتداء.. لا مندوحة من التيقن، بكون التطور الحضاري المتنامي في بوتقتنا، كان مدعاة لتكالب الإمب ارطوريات الناشئة علينا، من فرس وإغريق وروم، التي كانت في تطورها من دوننا حضارة وتقدم.. من اليقين بمكان، كان من يحتل بقعتنا الحضارية سوف يسود العالم، وكانت هذه الحقيقية هي مدعاة للص ارع والتحارب بينهم، وهو ما حدث بين الإغريق والفرس، ثم الرومان والإغريق، ثم في الأزمات الداخلية بين الرومان أنفسهم، مما أفسح المجال لبروز دور بيزنطة.. من المؤكد، أن التطور المتنامي في البوتقة الحضارية في منطقتنا، هو ما جعل الأنظار تتوجه لبلادنا، والسعي للهيمنة عليها وجني خي ارتها.. والسؤال، ماذا كان بحوزة بنية السكان ونخبها في المنطقة لحماية مما تبقى لديها من ممكنات وفرتها لهم الوقائع المستجدة.. ثمة عوامل عدة أسهمت في صيانة البنية العميقة التي تشكلت عبر تتالي الأزمنة:
- العامل الأول، لقد كان من شأن البوتقة الحضارية، أن تتحّول لما يماثل البنية العميقة التي يحتمي بها قاطني هذه المنطقة، ولا سيما، قد بقيت منظومة الشبكة التجارية – كاقتصاد بأيديهم.. وما كان بوسع أحد أن ينتزعها منهم، ولهم من الصح ارء ما يحميها، بما امتلكت أط ارفها البحرية من محطات تجارية ارسخة في بنيتها.. فضلاً عن الطرق البرية التي تشق الصحاري والبوادي والبارري، ولا سوى قوافل الجمال لعبورها.. والجمل ابن الصح ارء ورفيق لها، وهي مع أصحابها
لفي ت ارفق عميق..

- من جهة أخرى، استمرت الم اركب البحرية وثغورها في معظمها مخلصة لروادها الأوائل، فينيقيا.. وما كان لأحد، أن يحل محل ما اكتسب تلك التقنية وما ارفقها من المعرفة والخبرة المكتسبة عبر الأزمنة.. من المؤكد تمكن دخول عناصر
أخرى في هذا المشهد، بيد أن ذلك لم يغير من الوقائع كثي ار.. ً
- العامل الثاني، وجود النظام الملي المعتمد منذ أقدم الأزمنة، الذي وجد مكانه كبديل للمشاعية البدائية.. حافظ هذا النظام على وجوده في ظل الأنظمة الوطنية المتوارثة التي قد شكلت البوتقة الحضارية.. ولعل النظام القبلي، يحمل في ماهيته ومحتواه آثا ار للمشاعية البدائية.. كان ذلك سائدا في الأرياف وواحات
البوادي والصحاري.. أما في الحواضر والمدن فقد تمثل البديل بنظام مللي له كنه تديني..
- لقد وفر هذا النظام الملي، بأي شكل قد ظهر فيه نوعاً من الحماية للفرد وللمجموعة المندرجة فيه.. ونمطاً من الاستمرار بما كانوا عليه..
- العامل الثالث: حالما هيمنت الإدا ارت الإمب ارطورية المتتابعة، وجدت ذاتها أمام هذين المظهرين، كان من الصعب عليها أن تمسهما بسوء، ثم وجدت أنه من المفيد لها الاحتفاظ على هاتين الظاهرتين المتمثلتين ببقاء شبكة الفعاليات الاقتصادية، والنظام الملي على حالهما، لأنه لم يكن لدى إدا ارت الإمب ارطوريات من بديل، لا سيما قد انحصر اهتمامهم في الحصول على اقصى الريع، والعمل
ما استطاعت على اقتطاع ما شاءت من الثروات التي تجنيها شبكة التجارة.. ضمن هذه الوقائع حافظ أهل البلاد على شبكتهم التجارية كاقتصاد، وعلى منظومتهم الاجتماعية الملية- كإدارة.. لعل هذه الواقعة تتماثل في طبيعة بنيتها، مع المقولة
السائدة في زمننا، بما يدعى بالدولة العميقة.. على ضوء من ذلك، وجدت إدارة الإمب ارطورية الرومانية وغيرها، أن من مصلحتها اتاحة المجال لظهور أنظمة سياسية عربية متعاونة معها، ولا سيما في البقاع المتاخمة للبوادي والصحاري، وحتى بالقرب من المحطات التجارية لحمايتها من غا ارت البدو،
ًً

مما وسع المجال لنخب من أبناء المنطقة من تأسيس أنظمة تتمتع بالإدارة الذاتية والاستقلال النسبي.. كمثال، نظام هيرودس وأولاده في فلسطين، والغساسنة والمناذرة، ودويلات أخرى..
في ظل الامب ارطوريات حصل ت ارجع واسع في مستوى النمو الاقتصادي الحضاري، بيد انه قد كان ممكننا أن تحافظ المنطقة على فعالية منظومة شبكتها التجارية - كاقتصاد، والحفاظ على النظام الملي المتوارث الذي يبيح للملة من تسيير شؤونها بقدر ما -
كإدارة... لعل تلك الوقائع التي تمثل نمطاً من بقاء نمط البنية التحتية المت ارجعة، قد أسهمت في حماية المنج ازت المتوارثة المتمثلة في لغتها ولاهوتها.. ومما يؤكد هذا المنحى، ظاهرة استم ارر بقاء اللغة الآ ارمية وثقافتها، مما يشكل دلالة واقعية على تواصل حضور البنية الفوقية، كممثل رمزي وواقعي لتواصل بقاء تلك البنى التحتية.. كانت هذه اللغة بحد ذاتها، تمثل اللغة المهيمنة على عالم التجارة والعلاقات الدولية.. حتى أن الإدارة الفارسية قد تبنتها كلغة سائدة، وأبقت الوضع القائم بمكوناته على حاله، والاكتفاء بالحصول على الريع واحتجاز ما شاءت من الثروات.. في زمن الهيمنة الإغريقية: حضر الإغريق بكثافة لمنطقة البوتقة الحضارية، محاولين الاندماج في النسيج الاجتماعي الممثل للبوتقة، والتسلل لعالم التجارة، كأحد الفروع المؤسسة للبنية التحتية، في ظلها حاولوا نشر الهلينة اللغوية.. بيد أن الفشل كان
حليفهم.. تمثل هذا الفشل ببروز عاملين: تجّلى الأول، بالتمسك الوطني باللغة الآ ارمية من قبل المكونات الديموغ ارفية في المنطقة- أما العامل الثاني، فقد أعلن عن نفسه بض اروة، متمثلة هذه المرة، بتدفق القوة النبطية الناشئة، التي كان من شأنها حماية التجارة وبقائها واستم اررها، بيد شبكتها الحاملة لها.. كما استمرت فينيقيا، المتمركزة في الشريط الساحلي الشامي، والساحل القرطاجي الاستم ارر الفعلي بالدور التجاري وقواعده الحامية له.. وبما يبنى عليه من مفر ازت البنية الفوقية الممثلة له..

ما بين الأنباط والإغريق: في ظل الأنباط تم جمع شمل القبائل العربية في منطقة الحجاز وجنوب بلاد الشام والنقب وسيناء والامتداد في الجانب الشرقي لدلتا النيل ووصولاً إلى أرس الخليج مخترقة بادية الشام. سيطر الأنباط على ملتقى الطرق التجارية البرية، بما فيها تقاطعاتها البحرية، وهيمنوا على التجارة الدولية في مداها
ييي ي التجار البر الآسيو والإفريقي، وأطلوا على المدى البحر ، عبر ميناء غزة والجنوب
والخليج العربي.. حاول الإغريق اجهاض القوة النبطية الصاعدة بالحملات العسكرية، التي كانت نتائجها كارثية للإغريق.. شكل الأنباط بنظامهم السياسي الاجتماعي، حصن الصمود والحماية لعناصر البوتقة الحضارية بكليتها.. تميز نظامهم السياسي بم ازيا اشت اركية وديمق ارطية مشتركة، وانفتاح كلي على محيطهم الاجتماعي، بما قد تجّلى في معبد البت ارء من رموز آلهة البوتقة الحضارية بكليتها، كما تمسكوا باللغة الآ ارمية كلغة تواصل مع المحيط، فضلا عن ممارسة لغتهم الخاصة التي كانت بمثابة الإطلالة الأولية على تشكل اللغة العربية - بقي النظام النبطي قائما بدوره حتى لحظة إجهاضه سياسياً على يد الرومان في 106 م.. إلا أنهم تركوا و ارءهم أرثاً كان ملهماً ونموذجاً للقادم من الأيام.. في زمن الهيمنة الرومانية: أقام الرومان نظاماً إمب ارطورياً معتمداً – كما ذكرنا - على بقاء منظومة الملل، وترك الواقع على ما عليه، مع الغلو في نهب الثروات.. في ظلهم ظهرت الدويلات العربية، كمحطات تجارية، مما أتاح لها الاستمرار بثقافتها، وتطوير تشّكل لغتها العربية.. مظاهر سياسية في الحقبة الرومانية: تماماَ وبما ما يماثل ظاهرة انتقال الربيع العربي في حاضرنا، أ اردت تدمر متأثرة بالنمط النبطي، أن تتحّول بدورها إلى مركز مهيمن على منطقة تقاطع الطرق التجارية الدولية.. ظهر مشروعها في بدايته في ظل الإدارة الإمب ارطورية الرومانية.. لعل الرومان قد أدركوا أن السيطرة على الصح ارء هو منوط بأبنائها بالضرورة، دونما غيرهم.. على هذا النحو تطور الدور السياسي والتجاري للمشروع التدمري، إلى درجة حدت

بتدمر، أن تضيق ذرعاً بالتدخل الروماني بشؤونها، فأعلنت زنوبيا ثورتها، ونجحت في مد سيطرتها على المجال الممتد من حدود بابل إلى الإسكندرية غربا.. كمخاض لا بد منه، إن كانت زنوبيا قد فشلت في سعيها، بيد أن الصح ارء بما لها من امتداد شاسع ما يوفر لها البديل.. فإن كانت الصح ارء بدورها لم تنجح سابقاً في أطارفها العليا، فلها من عمقها طوق نجاة.. وكانت هذه المرة، مكة كقلعة للتجارة الإقليمية بل والدولية.. وهكذا كان.. الرومان والمسيحية: كان من قدر هذه المنطقة أن تصبح في ظل الرومان المجال الحيوي لظهور المسيحية، التي كان من شأنها، تعزيز النظرة اللاهوتية الكونية، والغوص في العمق النفسي، كحل هروبي من الأزمات الدنيوية المتفاقمة، والبحث عن الخلاص في انتظار مملكة السماء.. وحالما قد ظهر للمسيحية انتشار واسع لدى المدى السكاني في الإمب ارطورية، تبنتها الإدارة الرومانية وجعلت منها دين الدولة.. في ظل هذه التحولات، ظهر في المنطقة ص ارع داخلي لدى المسيحية ذاتها، الذي يحمل بحد ذاته رؤية سياسية خفية، بين تيار مسيحي آ ارمي عربي، وتيار مسيحي
ِ
لاتيني، يدور في ظاهره حول ماهية يسوع، هل هي لاهوتية أم بشرية..
الجدير بالبيان، إن هذا التيار المسيحي الوطني، منذ أوائل ظهوره، قد أتخذ موقفًا لاهوتياً وسياسياَ معاً، تجّلى على الخصوص لدى الفريق المسيحي الشرقي، الذي قاده بولس السميساطي (سامو ازت السوري)، وهو من بلدة ال ًسميساط على شاطئ شمال الف ارت (القرن الثالث م)، وكان اسقفاً في انطاكية (260 م)، تبنى هذا التيار الماهية الإنسانية النبوية ليسوع، ارفضاً منظور التأليه، وفي الجانب السياسي ظهر حليفاً
لزنوبيا، وقد كان نائباً عنها في انطاكية.. على خط بولس السميساطي، تابعه لوقينوس الانطاكي الشامي، وتلاه آريوس الليبي وتابعه آخرون كثيرون18..
18 يوسف زيدان، اللاهوت العربي وأصول العنف الديني، ص 111- 116
لعل ما قد ظهر في الوسط المسيحي العربي في أزمنة تالية، ما يدعم ظهور بيئة مسيحية عربية متمردة معلنة أو خفية، كحالة تمرد الملكة العربية ماوية التنوخية، ضد بيزنطة، وانفجار معركة ذي قار ضد الفرس.. على صدى ما أتى، وبعد احباط المشروع السياسي التدمري، ومن قبله النبطي، برز دور مكة، كمركز تجاري وثقافي وسياسي، وشكلت من نخبها المتقدمة نواة الإسلام الأولى..
في خضم من ذلك، تطل اللغة العربية ب أرسها منذ العهد النبطي، وتزدهر في الصح ارء العربية وبلاد الشام وفي حواضر من بلاد ال ارفدين.. ويطل الشعر العربي كظاهرة لوعي الذات، فضلاً عن غنى الذاكرة بما توحي به الصح ارء في أعماقها، من قيم وصفاء.. لعل لتشّكل اللغة العربية مع تدفق نبع الشعر، وظهورهما المتساوق في المدى الصح اروي وعلى تخومها، وفي صلة وثيقة وعميقة مع اللغة الآ ارمية ومشتقاتها- من شأنه إظهار الدوافع الدفينة، المنبثقة من العقل الجمعي الكامن، في خفايا أعماق الأجيال المتحدرة من البوتقة الحضارية.. ولعل هي الصح ارء، قد مثلت من جديد مواقع الرجاء..
من المدهش حقاً أن تطل الصح ارء مرة أخرى على بقاع البوتقة الحضارية المتشكلة في المنطقة لنجدتها فيما قد آلت إليه من نكسات حلت عليها.. ولعلها قد تذكرت أنها قد كانت هي الأصل والمنهل، في مسار التشكل الحضاري والتاريخي لحضارتها وهويتها..
من الت اركم إلى الطفرة مع سيرورة الت اركم في منحى الأزمات والاحباطات، وما ارفقها من تفاعلات وإرهاصات، تنبثق الطفرة النوعية المتمثلة في الإسلام، بعد طول انتظار.. في ثورة الاسلام، يتم على الفور دحر الإمب ارطوريات وتحرير المنطقة من ركائزها، وبسرعة مذهلة.. ولولا التفاعل الإيجابي وتعاون القاطنين فيها، لما تم هذا النصر بسرعة تثير الدهشة.. ومما لا شك فيه، للذاكرة الجمعية المتشكلة في اعماقها دورها، في تلبية تلك الظاهرة..

أجل: ليس من الصدفة بمكان، أن يتقدم الإسلام منذ أول حضوره، على مدى بلاد البوتقة الحضارية في المنطقة، المتمثلة في جغارفية الانتشار المشرقي المتمثل في الثلاثي البابلي والآ ارمي والعربي، ومنطقة الانتشار المغربي المتمثل بحوض النيل وغربه المتمثل في الحوض الحضاري لقرطاجة وما تلاها في غربها.. وقد كانت هذه المنطقة بمعظمها مجالاً للمسيحية الشرقية وعريناً لها، وبحالة تأزم تجاه المسيحية الغربية..
فضلاً عن وجود مهم لليهودية والوثنية أيضاً..
في هذا الصدد، أتوقع أن معظم أتباع المسيحية الشرقية قد تحولوا إلى الإسلام، ولا سيما أولئك الذين رفضوا ألوهية يسوع، معتقدين في نبوته كالإسلام تماماَ.. يذكر د عبد العزبز الدوري: إن مجموع من شارك في فتوح الع ارق والشام ومصر لم يتعد الستين الفاً، ومن شارك في فتح غرب مصر حوالي اثني عشر ألفاً في عهد عثمان (27 ه)، جل هؤلاء جاء متطوعاً.. كان من بين من شارك في الفتح عرب لم
يتعرفوا على الإسلام بعد، أي وثنيون، ولعل ذلك كان بمثابة استجابة تلقائية للعقل
الباطن فيهم، بكون هويتهم هنا..
ليس من المستبعد كون المسيحية الشرقية كانت بمجملها، قد أسهمت بطريقة أو بأخرى
بنصرة الجيش العربي الإسلامي وكونت له الحاضنة، مما جعل قوات خالد بن الوليد
تتحرك بحرية مطلقة من أرض بلاد ال ارفدين إلى أرض الشام.. في مواجه واحدة مع
إمب ارطوريتين عملاقتين، ودحرهما معاً..
والجدير بالبيان، أن الخلافة تبنت سياسة مع الأ ارضي في البلاد المفتوحة، في ترك
الأ ارضي لأصحابها، وترفض توزيعها بين المقاتلة..19 (أليس هذا تحري ار وعودة البلاد ً
لأهلها.. وليس فتحاً أو احتلالاً!)
وماذا نقول أمام المشهد، الذي انتقلت فيه العاصمة من يثرب إلى دمشق على نحو سريع.. ألا يعني أنها انتقلت في مجالها وديارها.. !
َ
19 القومية العربية بين الفكر والممارسة، اصدار مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، 1980- ص 62
لقد جاء انبثاق الإسلام بمثابة الطفرة النوعية، التي أكدت حضورها بسرعة إنجا ازتها على صعيد البوتقة الحضارية، وعلى مستوى تغيير العالم ومسار التاريخ.. - ما يؤكد تلك الحقيقة كونه قد ظهر كاملاً ومتكاملاً على مستوى انبثاق النصوص، ومت ارفقاً
بفعاليتها في تغيير الواقع بكليته ومسار التاريخ بجملته..
في تباين عما جرى لدى الديانات الأخرى: في الإسلام لم يتأله النبي كعيسى، ولم يصعد للسماء كموسى.. وفي الإسلام " من كان يعبد محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإنه حي لا يموت "، وفي الإسلام، " إّنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ".. أي لا لأحد أن يكون شعب الله المختار.. أجل: تلكم هي لغة جديدة فريدة من نوعها في عالم الديانات.. على ذات النسق، ت ارفق انتشار الإسلام بخطى وئيدة في مجال انتشار اللغة العربية، وفق عملية حلول تدريجي وطوعي محل اللغة الآ ارمية، التي سلمت الراية بكل طواعية لشقيقتها والمشتقة منها المتمثلة باللغة العربية، ودعمتها بقيام مظهرها السرياني، بممارسة الترجمة كوسيط بين اللغة الإغريقية والعربية، مما قد جعل اللغة العربية، لغة
الحضارة والإبداع الكوني في عصرها ذاك..
أجل، هو تحول داخلي، في ذات المكان والزمان، وفي تواصل وتوافق كلي مع الواقع والتاريخ.. يظهر الواقع والتاريخ: إن بوتقة لغوية كانت دائمة الحضور في الأزمنة القديمة، في ظل هيمنة اللغة الأكادية في زمن سطوعها، وفي ظل هيمنة اللغة الآ ارمية في زمن حضورها بدورها، ولما ظهرت اللغة العربية وحدت جميع اللغات المتداولة في بوتقتها.. كما لو ا اردت أن تحتض الجميع في كيانها..
على مدى انتشار اللغة العربية وثقافتها الممثلة لحضارتها، تم تبلور تشكل الهوية العربية – كهوية ثقافية، حضارية، لا عنصرية.. منطلقة في أساسها من: وخلقنا من الماء ك َل شيء حي - وأنتم أدرى بشؤون دنياكم - وخلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..
ىى
على ضوء من ذلك، تغير مجر التاريخ، وأصبح له سيرورة أخر .. التي تستدعي
د ارسات ود ارسات، من منظور مغاير للمروي في الحاضر.. وإننا لفي انتظار..
أشكر لكم حسن استماعكم.. ودمتم ذخائر لهويتنا وأوطاننا..



#عيسى_بن_ضيف_الله_حداد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تداعي / رؤية ليلية
- من البنية التحتية إلى البنى الفوقية في الزمن الجاهلي
- التعريف التاريخي/ بالآشور كعرب
- وقفة مع كنعان وفينيقيا/اجدادنا
- أمم وفضاءات
- من شعري / اللحظة تكتبني / لا أكتنبها
- ممختارات شعرية
- مقاربة أولية مع الزمن الجاهلي
- بابل من رمز الازدهار إلى حضيض الانهيار
- من أوراقي/ حزيرانيات
- العرب القدامى في ظل الإمبراطوريات
- نظرة عجولة في الإسلام
- شعراء الغرب يمجدون النبي محمد / من فيكتور هوجو الفرنسي حتى غ ...
- قصيدة كتبتها غداة الثورة التونسية / نسيت نشرها
- في الشعر / مع دبوان/ أناشيد القهر والحداد
- مع الشعر/ أناشيد القهر والحداد
- على خطى بودلير / ما بين الفرنسية والعربية
- من التراث المسيحي
- ساموزات نبي التحالف العربي الآرامي
- ما بين العرب ومعهم الفينيق ضد الاغريق


المزيد.....




- وزير الطاقة الأمريكي يوضح ما قصده ترامب بشأن -إجراء تفجيرات ...
- مصرع خمسة متسلّقين ألمان في انهيار جليدي شمالي إيطاليا
- مصادر لبي بي سي تنفي التوصل إلى هدنة إنسانية في السودان، وشا ...
- ألمانيا - توقيف سوري بشبهة التخطيط لهجوم جهادي في برلين
- إشهار كتاب دم على أوراق الذاكرة
- الجيش الإسرائيلي يعلن تسلم الصليب الأحمر جثث ثلاث رهائن في غ ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن تسلم الصليب الأحمر جثث ثلاث رهائن في غ ...
- كاتب إيطالي: هل تحقق القاعدة سابقة وتسيطر على دولة مالي؟
- بلجيكا تحقق في رصد طائرة مسيرة فوق قاعدة عسكرية
- عودة الكبار ورهان على التنوّع.. خريطة المسلسلات الخليجية موس ...


المزيد.....

- كتاب دراسات في التاريخ الاجتماعي للسودان القديم / تاج السر عثمان
- كتّب العقائد فى العصر الأموى / رحيم فرحان صدام
- السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية) / رحيم فرحان صدام
- كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون / زهير الخويلدي
- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عيسى بن ضيف الله حداد - الجذور التاريخية لتشكل الهوية العربية / البوتقة الحضارية /