أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام موسي - مسرح الشارع في زمن الغضب: صوت الشعب حين تعجز المنصات الرسمية














المزيد.....

مسرح الشارع في زمن الغضب: صوت الشعب حين تعجز المنصات الرسمية


حسام موسي
كاتب وباحث وناقد ومؤلف مسرحي مصري


الحوار المتمدن-العدد: 8514 - 2025 / 11 / 2 - 01:00
المحور: الادب والفن
    


في لحظات الأزمات الكبرى، حين يتكثف الدخان ويختلط الرصاص بصمت رسمي خانق، ينهض مسرح الشارع كصرخة لا تُقمع. إنه الفن الذي يتجاوز الهامش ليصبح ضرورة وجودية، حيث يتحول الرصيف إلى منصة، والجمهور إلى شريك، والواقع المثقل بالسياسة والعنف إلى نص لا يعرف التزييف. وتشهد منطقتنا العربية، وفلسطين على وجه الخصوص، واحدة من أقسى مراحل المعاناة الإنسانية. هناك، تُسكت الأصوات تحت وطأة الاحتلال، وتُشوَّه الحقائق عبر ماكينة إعلامية منظمة.

في هذا السياق، تتراجع المؤسسات الثقافية الرسمية، مُكبَّلة بالروتين وبالقيود السياسية والرقابية، عاجزة عن التعبير عن غضب الجماهير أو احتضان آمالها. في هذا الفراغ يتدخل مسرح الشارع، لا ليملأه وحسب، وإنما ليصوغ خطابًا جديدًا يتسم بالحرية والمباشرة والالتصاق بالإنسان.

لكن قوة مسرح الشارع لا تكمن في خطابه السياسي فقط، ولكن في آلياته وتقنياته الفنية. فهو يعتمد على التفاعل المباشر مع الجمهور، حيث لا يفصل بين "خشبة" و"مقاعد"؛ المتفرج هنا ليس متلقيًا سلبيًا ولكن عنصرًا مشاركًا يغير مجرى الحدث بكلمة أو حركة. كما يستند إلى الارتجال، إذ يتشكل النص أحيانًا لحظة العرض، متأثرًا بمكان الأداء وبردود فعل الجمهور، مما يمنحه طابعًا حيًا ومتجددًا. وإلى جانب ذلك، يشتبك هذا المسرح مع الفضاء العام، فيحوّل السوق أو الساحة أو حتى الحاجز العسكري إلى مسرح رمزي يفرض على المتلقي إعادة التفكير في علاقته بالمكان والحدث السياسي.

ولعل أبرز مثال على ذلك عرض "زعبوبة في مهب الريح" (إخراج محمد الجنايني) الذي قُدِّم في شارع المعز بالقاهرة. حيث جسّد العرض قضايا الفساد والقمع عبر قصة شاب بسيط اتُّهم ظلمًا بالرشوة يوم زفافه، لتتحول فرحته إلى مواجهة مباشرة مع الشرطة والبيروقراطية. وفي مشاهد ساخرة ومرّة في آن، تناول العمل فساد قطاع الصحة، إذ نسي طبيب مقصًا في بطن مريض ثم اتهمه بسرقته! بلغت ذروة العرض عندما طُرحت على الجمهور مباشرةً جملة: "هل يمكن أن يكون لك رأي؟"، ليشارك الحاضرون بالهتاف الجماعي "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، في اندماج فريد بين الممثلين والجمهور جعل الشارع نفسه يتحول إلى فضاء ثوري.

مسرح الشارع ليس ترفًا فنيًا ولا نزوة إبداعية عابرة؛ إنه شكل من أشكال المقاومة الثقافية. يعمل في الساحات العامة بعيدًا عن القاعات المغلقة، ويتحرر من قيود التصاريح والميزانيات والخطوط الحمراء. وهو، قبل كل شيء، يستمد شرعيته من قضيته ومن جمهوره، من الإنسان البسيط الذي يجد نفسه فجأة جزءًا من عرض مسرحي يعكس همومه اليومية ويعيد إليه الإحساس بكرامته. ولأن هذا المسرح يتوجه مباشرة إلى الناس في مواقعهم الطبيعية، فإنه يكتسب قوة مضاعفة. فهو يظهر في الأزقة، عند الحواجز العسكرية، في مخيمات النزوح، وحتى في الأسواق الشعبية. العرض المسرحي في هذه الحالة لس مجرد فعل جمالي، إنما حدث سياسي بامتياز، ومشاركة جماعية في صياغة الوعي.

وفي مواجهة الرواية الصهيونية المهيمنة إعلاميًا، يشكل مسرح الشارع وسيلة لفضح الادعاءات وكشف التزييف. إنه يعيد كتابة التاريخ لا بالوثائق الجامدة، إنما بالجسد الحيّ والحكاية التي تخرج من فم الأمهات والأطفال والشيوخ. وهنا نستعيد ما كتبه البرازيلي أوجستو بوال عن "مسرح المقهورين"، حيث لا يبقى المتفرج متلقيًا سلبيًا، إنما يصبح فاعلًا مشاركًا في صناعة الحدث. أما المسرح الرسمي، ورغم مكانته التاريخية، فقد أصبح في كثير من الأحيان أسير الجدران والموازنات وضغوط الرقابة. إنه مسرح محاصر بضرورة أن يكون "مهذبًا"، آمنًا، غير مقلق، وغير قادر على تجاوز جدران الصالة. في المقابل، يرفض مسرح الشارع هذه التبعية، لأنه مسرح طوارئ لزمن الطوارئ، مسرح يعلن أن الفن لا بد أن يكون في قلب المعركة.

اليوم، في ظل أحداث تُشكّل وعي جيل كامل، تبرز الحاجة الملحّة لدعم هذه العروض الشعبية. فهي ليست مجرد ترفيه، وإنما توثيق للحاضر، وشحن للهمم، وإشعال لفتيل الأمل في قلوب المقهورين. يمكن النظر إليها كخلايا ثقافية حيّة تعمل داخل جسد الأمة، تحفظ ذاكرة الناس وتعيد إليهم القدرة على الحلم.

من هذا المنطلق، لا يمكن اعتبار مهرجان كركوك لمسرح الشارع والذي ينطلق خلال أيام مجرد تظاهرة فنية. إنه رسالة تضامن وصوت إصرار على أن الفن يجب أن يكون في الصف الأول، لا في مقاعد الانتظار. هو منصة حرة تمنح الفرصة للفنانين الذين يؤمنون بأن دورهم يتجاوز الترفيه إلى المقاومة والتذكير والإلهام.

إن مسرح الشارع في زمن الغضب هو الردّ الثقافي على الغطرسة، وصوت الذين صودرت أصواتهم. إنه يذكّرنا بأن الكلمة الحية، والحكاية الصادقة، والجسد الحرّ أقوى من الدبابات، وأبقى من أي احتلال. فهو يكتب بعرق الناس ودموعهم صيرورة جديدة، تثبت أن الفن ليس انعكاسًا للواقع فحسب، وإنما أداة لتغييره.



#حسام_موسي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أين ذهبت الجمل المضيئة في المسرح العربي؟
- مسرح الشارع .. حين تتحول الساحات العامة إلى منصة للتغيير
- فن الاختفاء: حين يذوب الممثل في بوتقة الشخصية
- الخصوصية المحلية والمعنى الكوني في مسرح الشارع
- مسرح الشارع بين اللحظة العابرة وصناعة المعنى
- مهزلة النهاية: مسرحية تحاكم فكرة النهاية بين العبث والفلسفة ...
- مهزلة النهاية: مسرحية تحاكم فكرة النهاية بين العبث والفلسفة
- عزلة.. حشرات.. خروج
- كارمن: تراجيديا العشق والتمرد في رؤية مسرحية جديدة
- التلقائية في التمثيل
- مسرحية -بلاي- كنموذج لاستخدام مصطلح Teatrum Mundi في المسرح ...
- فن التمثيل بين الرسالة والانحراف
- الناقد المسرحي: نظرة معمقة في قلب العرض
- كيف يمكن للمسرح أن يستعيد جمهوره؟
- تقليص مدد مهرجانات المسرح: أزمة استخفاف أم تحديات معقدة؟
- دنيس ديدرو: المؤلف الموسوعي ورائد الدراما البرجوازية
- رؤية الواقع وثقافة العلوم الإنسانية: أسس النقد والمسرح الحقي ...
- لعبة النهاية: عبثية الوجود بين النص والعرض
- مسرحية الحياة حلم: الباروك وتجلّياته في أدب العصر الذهبي الإ ...
- لغة الوجوه والعينين: نافذة الروح في فن التمثيل


المزيد.....




- كوينتن تارانتينو يعود إلى التمثيل بدور رئيسي
- لونُ اللّونِ الأبيض
- أيقونة صوفية
- تــــابع كل المسلسلات والأفلام الهندي والعربي.. تردد قناة زي ...
- إطلاق ملتقى تورنتو الدولي لفن اليوميات وفلسطين ضيفة الشرف
- افتتاح المتحف المصري الكبير بعد عقدين من الزمن في أرضٍ لا يُ ...
- ماذا حدث عندما ظهر هذا النجم الهوليوودي فجأة بحفل زفاف مستوح ...
- (غموض الأبواب والإشارات السوداء)
- تــــابع كل المسلسلات والأفلام الهندي والعربي.. تردد قناة زي ...
- المتحف المصري الكبير.. هل يعيد كتابة علاقة المصريين بتاريخهم ...


المزيد.....

- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام موسي - مسرح الشارع في زمن الغضب: صوت الشعب حين تعجز المنصات الرسمية