|
مسرحية الحياة حلم: الباروك وتجلّياته في أدب العصر الذهبي الإسباني
حسام موسي
كاتب وباحث وناقد ومؤلف مسرحي مصري
الحوار المتمدن-العدد: 8175 - 2024 / 11 / 28 - 22:14
المحور:
الادب والفن
مقدمة تُعتبر مسرحية "الحياة حلم" للكاتب الإسباني بيدرو كالديرون دي لا باركا واحدة من أبرز الأعمال الأدبية التي تجسّد روح الأدب الباروكي. كُتبت هذه المسرحية في القرن السابع عشر، وهي تُبرز التوتر بين الحرية الإنسانية والقدر المحتوم من خلال قصة سيخسموندو، الأمير الذي يتأرجح بين السجن والعرش في سياق درامي مليء بالرمزية والتأمل الفلسفي. إن المسرحية ليست مجرد عمل أدبي بل نص فلسفي يستكشف طبيعة الوجود البشري والعلاقة بين الوهم والحقيقة، مما يجعلها حجر زاوية في الأدب الباروكي. وظهرت الحركة الباروكية في أوروبا خلال أواخر القرن السادس عشر وازدهرت في القرن السابع عشر، في ظل تغيّرات كبيرة شملت الإصلاح الديني وصعود الممالك المطلقة. عكست هذه الفترة شعوراً بالاضطراب والقلق الوجودي الناتج عن التحولات الاجتماعية والسياسية، مثل الحروب الدينية والانقسامات الفكرية. في هذا السياق، أصبحت الفنون الباروكية وسيلة للتعبير عن التعقيد والتناقضات التي عاشها الإنسان الأوروبي، حيث سعت إلى مزج الجمال والغرابة، والدراما والتأمل.
مدخل إلى الأدب الباروكي الإسباني في العصر الذهبي الإسباني، الذي امتد على مدار القرنين السادس عشر والسابع عشر، وصلت إسبانيا إلى ذروة مجدها الحضاري في الأدب والفنون، حيث انعكس الازدهار الثقافي في مجالات الشعر والمسرح والرواية. تزامن هذا العصر مع قوة الإمبراطورية الإسبانية ونفوذها السياسي والاقتصادي، مما أتاح للثقافة الإسبانية أن تصبح مركزًا عالميًا للإبداع والتأثير. شهد هذا العصر مرحلتين رئيسيتين في تطور الأدب الإسباني. المرحلة الأولى، التي ازدهرت في النصف الأول من القرن السادس عشر، ارتبطت بأسماء بارزة مثل ميجيل دي ثيربانتس (1547-1616)، الذي ألف روايته الخالدة دون كيخوتي، التي تعتبر من أعظم الأعمال الأدبية في العالم، ولوب دي بيجا (1562-1635)، الذي أرسى قواعد المسرح الإسباني بأسلوبه الغني والمتنوع. المرحلة الثانية من العصر الذهبي الإسباني، التي ازدهرت خلال النصف الأول من القرن السابع عشر، شهدت تجسيدًا متميزًا للإبداع الأدبي، خاصة في أعمال الكاتب المسرحي والشاعر بيدرو كالديرون دي لا باركا (1600-1681)، الذي يُعد أحد أبرز أعمدة الأدب الباروكي الإسباني. هذا التيار الأدبي تميز بأسلوبه المعقد، تعبيره العميق عن المشاعر الإنسانية، واستخدامه الكثيف للرمزية، مما أضفى على أعماله بعدًا فلسفيًا وروحيًا عميقًا. وُلد كالديرون في مدريد لعائلة نبيلة، ونشأ في بيئة تأثرت بالمآسي الشخصية، مثل فقدان والدته وحبيبته، وهي تجارب تركت بصمتها الواضحة في إبداعه. تلقى تعليمًا متنوعًا في الفلسفة، اللاهوت، والقانون، مما أضفى على كتاباته عمقًا فكريًا وثقافيًا. ورغم اضطرابات شبابه، تحول لاحقًا إلى رجل دين، مجسدًا قيم الشرف والإيمان التي انعكست في مسرحياته الدينية والدنيوية على حد سواء. تميزت أعماله المسرحية، مثل "الحياة حلم" و"الأمير الصامد", بالتفكير الفلسفي والتشويق الدرامي، حيث تناول قضايا الوجود الإنساني، حرية الإرادة، والبحث عن الحقيقة. كما قدم في "قاضي زالاميا" و "مسرح العالم العظيم" معالجة فريدة لقضايا العدالة والمصير الإنساني، مستخدمًا رمزية فكرية ولغة شعرية متقنة. ترك كالديرون إرثًا أدبيًا عالميًا، حيث تُرجمت مسرحياته إلى العديد من اللغات، بما في ذلك العربية، لتصبح جزءًا من التراث الأدبي الإنساني. أعماله لم تكن مجرد نصوص أدبية، بل عكست بعمق التحولات الكبرى في المجتمع الإسباني آنذاك، مثل الصراع بين التقليد والحداثة، والتوتر بين القيم الدينية والطموحات الفردية. العصر الذهبي الإسباني لم يكن فقط ذروة الإبداع الأدبي، بل كان مرآة لتحولات ثقافية واجتماعية وسياسية عميقة، جعلته إحدى أهم المراحل في التاريخ الثقافي العالمي.
خصائص الباروك وانعكاساته في الفنون الباروك كحركة ثقافية شاملة ظهر الباروك في القرنين السادس عشر والسابع عشر كتيار فني شامل يعكس التوترات الاجتماعية والسياسية والدينية الكبرى في أوروبا. تأثر هذا التيار بالإصلاح الكاثوليكي وصراعات الحروب الدينية، مما أضفى على أعماله طابعًا دراميًا يعبر عن جدلية السماء والأرض، الروح والمادة، والإنسان وخطاياه. كان الباروك أكثر من مجرد أسلوب فني؛ فقد مثّل روح عصر بأكمله، متسمًا بالمبالغة في التعبير، والاحتفاء بالجمال المثير والدراما.
الفنون البصرية: النحت والعمارة النحت امتاز النحت الباروكي بالحركة والديناميكية، حيث بدت التماثيل وكأنها تنبض بالحياة. ركّز النحاتون على التفاعل بين الكتلة والفراغ، واستخدموا الضوء والظل لإبراز المشاعر المكثفة. كانت التماثيل الدينية من أبرز ما قدمته هذه الفترة، وغالبًا ما تناولت موضوعات تعبيرية قوية مثل المسيح المصلوب أو مريم العذراء الحزينة. تجلت براعة النحت الباروكي في استخدام خامات جديدة مثل الرخام والجص لإبراز التفاصيل الدقيقة. من أبرز نحاتي الباروك جيان لورينزو برنيني، الذي قدم أعمالًا خالدة مثل اختطاف بروسرينا والإكستازي الديني للقديسة تريزا. تميزت أعماله بقدرتها على المزج بين الجمال الحسي والروحانية العميقة.
العمارة تعد العمارة الباروكية من أكثر أنماط الباروك تأثيرًا وثراءً، حيث ركزت على الزخرفة المبهرة والتصميمات المعقدة التي تأسر العين. في إسبانيا وأمريكا اللاتينية، تميزت العمارة بزخارف مذهبة وتصميمات متشابكة تغطي كل التفاصيل، كما يظهر في كاتدرائية سانتياجو دي كومبوستيلا. أما العمارة الفرنسية، فكانت أكثر تنظيمًا وتميل إلى الكلاسيكية، كما يتجلى في قصر فرساي. أبدع المعماري فرانشيسكو بوروميني تصميمات جريئة تتحدى التقاليد، مثل كنيسة سانت إيفو ألا سابيينزا، حيث جمع بين الجرأة المعمارية والتناغم الفني.
الموسيقى الباروكية كانت الموسيقى الباروكية انعكاسًا قويًا لروح هذا العصر، حيث اعتمدت على التعبير عن المشاعر باستخدام التناقضات الحادة بين الإيقاعات والأصوات. ظهرت الأوبرا لأول مرة خلال هذه الفترة كنوع موسيقي يمزج بين الغناء والمسرح، مما أتاح للملحنين سرد القصص بأسلوب درامي ومؤثر. تميزت الموسيقى الباروكية بالاهتمام بالتآلف الصوتي (الهارموني) وتعدد الجوقات الموسيقية. من أبرز أعلامها أنطونيو فيفالدي، الذي أبدع مقطوعته الشهيرة الفصول الأربعة، ويوهان سباستيان باخ، الذي جمع بين الروحانية والإبداع التقني في أعمال مثل القداس في سي مينور.
الأدب: الشعر والنثر في الأدب، انعكس طابع الباروك في أسلوب معقد ومشحون بالرموز، حيث انتقل الشعر والنثر من البساطة إلى الزخرفة اللفظية. تميز الشعر بالاهتمام بالصور البلاغية المعقدة والمعاني العميقة، وهو ما عُرف بـ"الكولتيرانيزمو"، تيار أدبي اتسم بتكثيف الصور والتعابير المجازية. كان لويس دي جونجورا أبرز ممثلي هذا التيار، بأعماله التي غاصت في الرمزية والتأمل الفلسفي. في النثر، شهد الأدب تطور الرواية والمسرحية الباروكية، حيث ركزت على تعقيدات النفس البشرية والمصير. أعمال كالديرون دي لا باركا، مثل الحياة حلم، تقدم مزيجًا من الفلسفة والدراما، متأثرة بالطابع التأملي للباروك.
الباروك في الرسم في الرسم، اعتمد الفنانون على استخدام الضوء والظل (تقنية التينبريزمو) لخلق تأثيرات درامية تعكس المشاعر المكثفة. موضوعات اللوحات ركزت على الدين والأساطير والحياة اليومية، مع تصوير دقيق للتفاصيل. أعمال كارافاجيو تُعد من أفضل الأمثلة، حيث استخدم التباين القوي بين النور والظلام لإبراز الشخصيات في لوحاته مثل دعوة القديس متى.
انعكاس الباروك على الروح العامة الباروك كان تعبيرًا عن عصر مضطرب، حيث التغيرات الدينية والاجتماعية جعلت الإنسان يتأمل موقعه في الكون. كان الإنسان في تصور الباروك ضعيفًا، معرضًا للإغراءات، لكنه قادر على تجاوز ضعفه بفضل الإيمان والنعمة الإلهية. عبرت الفنون الباروكية عن هذا التوتر بين الأرضي والروحي بأسلوب درامي عاطفي لا يزال يأسر الأذهان حتى اليوم.
"الحياة حلم": ملحمة باروكية التوفيق بين الحرية الإنسانية والقدر الإلهي تتناول الحياة حلم مفهومًا مركزيًا في الفلسفة واللاهوت الباروكي يتمثل في العلاقة بين الحرية والقدر. تأثر كالديرون بالجدالات اللاهوتية بين اليسوعيين والدومنيكان حول أفعال البشر. ففي حين يرى البعض أن أفعال الإنسان محكومة بالإرادة الحرة، يرى الآخرون أنها نتاج للقدر الإلهي. في المسرحية، يقدّم كالديرون رؤية توافقية تجمع بين الإرادة الإنسانية والقدر الإلهي، حيث يتمكن سيجسموندو من تجاوز محنته عبر اتخاذ قرارات تعكس نضجه الداخلي.
سرد متشابك يعكس فلسفة الباروك تدور المسرحية حول الملك البولندي بازيل الذي يقرر حبس ابنه سيخسموندو منذ ولادته، إثر نبوءة تتنبأ بأن الابن سيصبح طاغية. يكبر الأمير معزولًا في سجن مهجور. ومع تقدم الملك في العمر، يقرر اختباره كحاكم بإطلاق سراحه. يستيقظ الأمير في القصر، منبهرًا بمظاهر الفخامة، لكنه يُظهر قسوة وعنفًا يدفعان والده إلى إعادته للسجن. لاحقًا، يثور الشعب ويحرر الأمير الذي يختار أن يكون حاكمًا عادلًا، عافيًا عن والده، ومتصالحًا مع قدره. هذا الطرح يعكس فلسفة الباروك التي تميل إلى تعقيد السرد والرمزية، مما يجعل القارئ أو المشاهد يستكشف طبقات متعددة من المعنى. فسيجسموندو يُمثّل الإنسان المتأرجح بين مصيره المكتوب وإرادته الحرة، وهو محور تأملات أدب الباروك.
بالعودة إلى سيخسموندو الذي يفيق، نراه يتعامل بنوع من القسوة والعنف مع كل من حوله، مما دفع والده إلى إعادته مرة أخرى إلى محبسه. وعندما يفيق الأمير في سجنه، يعتقد أن كل ما مر به كان مجرد حلم لا ينتهي. يتطور الأمر عندما يثور الشعب مطالبًا بأميرهم الشرعي. يقتحم الثائرون محبسه، ويخرجون سيخسموندو وينصبونه أميرًا عليهم. اعتقد الجميع أن سيخسموندو سيصبح طاغية، لكنه، خلافًا للتوقعات، يقرر أن يتصرف بنبل، حتى لو كان ما يعيشه مجرد حلم. يثبت سيخسموندو كرمه ونبله، حيث يغفر لوالده عن كل ما فعله به، ثم يطلب من أستولفو الزواج بـروساورا، ويقبل أستولفو الزواج منها.
من خلال ذلك، يتبنى كالديرون مفهوم التوافقية التي تعلي من شأن الإنسان وفي الوقت ذاته تنصف الإرادة الإلهية. حين تحرر سيخسموندو من سجنه بمساعدة الثائرين، لم يستسلم لطغيانه، بل تغلب على هوى نفسه، متذكرًا تجربته السابقة، فعفا عن والده. بذلك، تحقق الانتصار للقدر والنبوة في الوقت نفسه.
مما سبق نجد : الجدلية بين الوهم والحقيقة في المسرحية، يشكك سيخسموندو في واقعه، متسائلًا عمّا إذا كان ما عاشه حلمًا أم حقيقة. هذا التداخل بين الواقع والوهم سمة بارزة في الأدب الباروكي، حيث ينظر إلى الحياة على أنها وهم عابر، كما يظهر في مونولوجات سيخسموندو التي تتأمل في زوال العالم وهشاشة التجربة الإنسانية:
"ما الحياة؟ إنها حلم. حلم ظاهري! وما الأحلام إلا أحلام داخل حلم."
الزخرف البلاغي والصور الشعرية تميزت لغة كالديرون بالثراء البلاغي والصور الشعرية، وهي إحدى السمات المميزة لعصر الباروك. في وصف روساورا للقصر والسجن، نجد أمثلة على استخدام التشبيهات والاستعارات المعقدة التي تبرز التضاد بين الفخامة والبؤس، وبين النور والظلام. تُظهِر هذه الصور التناقضات التي تميز الأدب الباروكي، وتُبرز الحالة الوجودية للشخصيات.
عندما يفيق الأمير علي هذا المناخ الجديد ينبهر ويخرج وهو مشدوه قائلا:
"يا للسماء ماذا أري ؟ يا للسماء ماذا أشهد ؟ أأنا في قصور رحبة ؟ هل أنا بين وشي وحرير؟ هل أنا يُحيطني الخدم بمثل هذا التأنق والحفاوة".
نلاحظ كيف حلَّ الحوار محل الإرشادات المسرحية، وهذه سمة واضحة في هذا النص في أجزاء كبيرة منه، ومنها مشهد روساورا في الفصل الأول عندما تصف القصر الذي يقطنه سيخسموندو:
"يبدو أن هناك مبنى، وأنه قصر صغير خشن، يولد بين الصخور العارية، لا يجرؤ أن يشرئب للشمس".
كما تصف الحجرة التي يقطنها سيخسموندو:
"أليس هذا مشعلًا خافتًا كنيزك عجوز! أو نجمًا باهتًا بينما يترنح إعياء!"
نلاحظ اهتمام كالديرون بالصور البلاغية، من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز مرسل، التي تنتشر في أرجاء النص المسرحي، وهي إحدى سمات عصر الباروك.
التناقضات والصراعات الداخلية يجسد سيخسموندو الصراع الداخلي بين الجانب الوحشي والنبيل في الإنسان. في البداية، عندما يتصرف بعنف بعد إطلاق سراحه، يعكس ذلك تأثير العزلة والسجن على روحه. لكنه في النهاية يتغلب على هذه النزعات، مما يعكس فلسفة الباروك في التناقض والتوفيق بين الأضداد.
الدين والقدر كعناصر أساسية يمزج كالديرون بين التأملات الدينية والفلسفية، حيث تُظهر المسرحية انتصار القدر الإلهي الذي يتماشى مع الإرادة البشرية الواعية. فقرار سيخسموندو بأن يتصرف بنبل يعكس قدرة الإنسان على تحقيق التوافق مع القيم الإلهية.
إلغاء الحدود بين الفنون كثيرًا ما يستبدل كالديرون الإرشادات المسرحية بالحوار، مما يضفي طابعًا شعريًا على النص، كما يظهر في مونولوج سيخسموندو عند استيقاظه في القصر. هذا الأسلوب يعكس ميل الباروك إلى المزج بين الشعر والمسرح والموسيقى كوسيلة للتعبير عن التجربة البشرية. تُعتبر الحياة حلم انعكاسًا مثاليًا لعصر الباروك الذي يسعى إلى تصوير تعقيدات الوجود الإنساني من خلال التناقضات والصور الغنية. فلسفة الباروك تميل إلى الجمع بين الإحساس بالضعف البشري والإيمان بقوة الإرادة. سيخسموندو، الذي يتحرر من قيود طبيعته المتوحشة ويتصالح مع مصيره، يُجسّد هذه الفكرة بشكل بارز.
التلقي النقدي بين الكلاسيكية والرومانسية وأخيرًا، فإن مسرحية الحياة حلم تعرضت لهجوم من أنصار الكلاسيكية الجديدة، بينما حظيت بإشادة واسعة من الرومانتيكية. فقد انتُقد كالديرون لعدم التزامه بالوحدات الثلاث (وحدة الزمان، المكان، والحدث) التي كانت من أبرز سمات الكلاسيكية. ظهر في المسرحية غياب واضح لوحدتي الزمان والمكان، بالإضافة إلى كسر مبدأ الفصل بين الأنواع الأدبية، حيث جمعت المسرحية بين عناصر الكوميديا والتراجيديا. في القرن الثامن عشر، وجه نقاد الكلاسيكية الجديدة في إسبانيا انتقادات لاذعة لأعمال كالديرون دي لا باركا. ففي عام 1755، وصف الكاتب والناقد الإسباني تريجيروس مسرحية الحياة حلم بأنها "مسرحية بغيضة لا تستحق التقدير المبالغ فيه الذي منحها إياه البعض." وأضاف أن المسرحية كُتبت بأسلوب مفرط في التعقيد، وأن موضوعها وحبكتها يقتربان من "السخف المقنع". وأشار إلى أن العمل يفتقر إلى "جلال التراجيديا وسحر الكوميديا." كما رأى تريجيروس أن مفهوم القدرية الذي اعتمده كالديرون في مسرحيته قريب من التصور الإسلامي، وهو ما اعتبره نقطة ضعف في سياق النقد الكلاسيكي. من جهة أخرى، احتفى التيار الرومانتيكي بكالديرون وأعماله، لا سيما في ألمانيا. فقد أشاد الناقد الألماني ولهايم بمسرحية الحياة حلم واعتبرها نموذجًا مثاليًا لما ينبغي أن تكون عليه الرومانسية في بدايات القرن التاسع عشر. في الفترة بين عامي 1817 و1824، قُدمت مسرحيات كالديرون في ألمانيا بوتيرة تفوق تلك الخاصة بوليام شكسبير. وعند إجراء مقارنة بين أعمالهما، كانت الكفة تميل لصالح كالديرون، مما يبرز مكانته الكبيرة في الأوساط الأدبية الرومانتيكية.
كيف تجسّد "الحياة حلم" الفلسفة الباروكية وتأثيرها على الأدب العالمي في ضوء استعراضنا للعصر الذهبي الإسباني وتجلّيات الباروك في أدبه وفنونه، تظهر بوضوح ملامح هذا العصر كتجربة فريدة صهرت بين التحولات الفكرية، السياسية، والدينية التي شكلت جوهره. الباروك، بما حمله من تعقيد وتوتر، لم يكن مجرد أسلوب فني أو أدبي، بل منظومة فلسفية متكاملة تعكس صراع الإنسان مع مصيره، وتأمله في العلاقة بين الإرادة الحرة والقدر، بين القيم الروحية والمادية، وبين الحلم والحقيقة. مسرحية الحياة حلم لكالديرون دي لا باركا تمثل تجسيدًا بارزًا للفلسفة الباروكية، حيث تمتزج فيها التأملات العميقة حول مصير الإنسان والجدلية بين الحرية والقدر، مع تصوير الحياة كمجاز فلسفي أشبه بحلم عابر. من خلال قصة الأمير سيخسموندو، الذي يجد نفسه عالقًا بين الإرادة الحرة والمشيئة الإلهية، تستعرض المسرحية الطبيعة الهشة للحياة، حيث تتداخل الحقيقة مع الوهم، وتطرح تساؤلات فلسفية كبرى حول المسؤولية الأخلاقية في مواجهة واقع يبدو متغيرًا وغير ثابت. يُبرز كالديرون عبر حبكته المتقنة ورمزيته الشعرية رؤية الباروك التي تسعى إلى خلق توازن بين التوترات الوجودية؛ مثل الروح والجسد، الحياة والموت، والواقع والحلم، مما يعكس تعقيد التجربة الإنسانية وتناقضاتها. في هذا السياق، ترتبط المسرحية بفكر وجودي مبكر، حيث تفتح أفق التساؤل حول ما إذا كان الإنسان سيدًا لمصيره أم أنه محكوم بقوى عليا. وتقدم دعوة فلسفية تحث الإنسان على أن يواجه هذه التساؤلات بشرف ونبل، حتى وإن كانت حياته مجرد وهم. وبرغم النقد الكلاسيكي الذي رأى في المسرحية خروجًا عن قواعد الوحدة الزمنية والمكانية والحدث، إلا أنها ألهمت الرومانسيين بما قدمته من تحرر فني وعمق إنساني. من خلال هذا المزج بين الرمزية والتأملات الفلسفية، أصبحت الحياة حلم نموذجًا خالدًا يعكس جوهر الباروك كتيار أدبي وفني قادر على ملامسة قضايا الإنسان الوجودية في مختلف العصور. تُظهر المسرحية كيف يمكن للأدب أن يستوعب الفلسفة، محولًا الأفكار المجردة إلى تجربة درامية تحاكي صراع الإنسان الأبدي مع معاني الحرية، القدر، والمعنى، مما يجعلها علامة فارقة في الأدب العالمي وتأثيره المستمر. إن قراءة "الحياة حلم" في سياقها التاريخي والفلسفي تفتح أمامنا آفاقًا لفهم ما يطرحه الباروك من قضايا، ليس فقط باعتباره جزءًا من تاريخ الأدب، بل كتجربة إنسانية مستمرة. المسرحية تمثل نموذجًا متجددًا، قادرًا على ملامسة الإنسان في كل عصر، لأنها تطرح أسئلة وجودية أساسية حول ماهية الحياة والحرية والقدر. بينما لاقت مسرحية كالديرون نقدًا من أنصار الكلاسيكية الذين رأوا في ابتعادها عن الوحدات الثلاث (الزمان، المكان، الحدث) خروجًا عن القواعد الأدبية الصارمة، وجد فيها أنصار الرومانسية تعبيرًا رائعًا عن الفردانية والتحرر من القيود الشكلية. هذا الجدل النقدي يعكس أهمية النص وقدرته على تحفيز القراءات المتعددة، مما يثبت مكانته الخالدة في الأدب العالمي. ختامًا، يمكن القول إن الباروك، برغم كونه تيارًا فنيًا تاريخيًا، يحمل في طياته دروسًا عميقة حول الإنسان وتحدياته في مواجهة الزمن والتحولات. من خلال التأمل في أعمال كالديرون وفنون الباروك عمومًا، نجد أنفسنا أمام مرآة تعكس عمق التجربة الإنسانية، حيث يتماهى الواقع بالحلم، ويتصارع الإنسان مع أقداره، ليجد في النهاية فرصة للتصالح مع ذاته ومع الكون. المراجع: سلسلة محاضرات د. علاء عبد العزيز – المعهد العالي للفنون المسرحية، القاهرة. مقدمة صلاح فضل لمسرحية الحياة حلم. سلسلة من المسرح العالمي، وزارة الإعلام بالكويت، ١٩٧٦. ثروت عكاشة، فنون عصر النهضة- الباروك، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،٢٠١١.
#حسام_موسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لغة الوجوه والعينين: نافذة الروح في فن التمثيل
-
الفعل التمثيلي بين المراقبة والتفسير: دراسة فلسفية وثقافية
-
القوالب الفنية في أوبريت العشرة الطيبة لسيد درويش
-
تحديات مسرح الشارع في الفضاء العام: بين الصناعة والتلقي
-
مساعدو الإخراج في المسرح: أدوار محورية في الظل
-
فن الصمت في التمثيل: قوته، تأثيره، ودور المخرج في توجيهه
-
الكوميديا الهزلية (الفارس): دراسة معمقة حول أحد أقدم أشكال ا
...
-
الأنانية لدي الممثل: بين تحديات الفردية والتزام الجماعة
-
التطوع في المهرجانات الفنية
-
استلهام التراث في المسرح: بين التجديد والحفاظ على الهوية
-
سمات ممثل مسرح الشارع: الفن في قلب الأماكن العامة
-
جريمة بيضاء : استكشاف الصراع بين الظاهر والباطن علي خشبة الم
...
-
-مرايا إليكترا: عرض مسرحي يتجاوز التوقعات-
-
بين الصرامة والحب: رحلة تحول الأب في - العيال فهمت -
-
الحياة حلم) بين انتقادات الكلاسيكية الجديدة و الواقعية و احت
...
-
-النقطة العميا- دعوة لتأمل الذات ومراجعة الضمير
-
- النقطة العميا- دعوة لمعرفة الذات
-
دنيس ديدرو والابن الطببعي
-
كالديرون دي لاباركا والمسرح الباروكي
المزيد.....
-
الروائي السوري خليل النعيمي: أحب وداع الأمكنة لا الناس
-
RT Arabic تنظم ورشة عمل لطلاب عمانيين
-
-الخنجر- يعزز الصداقة الروسية العمانية
-
قصة تاريخ دمشق... مهد الخلافة الأموية
-
حلقة جامـدة Kurulus Osman مسلسل قيامة عثمان الحلقة 174 مترجم
...
-
الفنانة جاهدة وهبة تُحيي حفلاً في معرض العراق الدولي للكتاب
...
-
وفاة فنان مصري بعد صراع مع المرض
-
دعوى قضائية ضد جاي زي و-ديدي- بتهمة الاعتداء الجنسي على قاصر
...
-
مسلسل تل الرياح الحلقة 158 مترجمة قصة عشق بجودة عالية HD
-
-جاييكي يا إميّ!-.. كيف تفاعل فنانو سوريا مع سقوط بشار الأسد
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|