أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام موسي - مسرح الشارع بين اللحظة العابرة وصناعة المعنى















المزيد.....

مسرح الشارع بين اللحظة العابرة وصناعة المعنى


حسام موسي
كاتب وباحث وناقد ومؤلف مسرحي مصري


الحوار المتمدن-العدد: 8471 - 2025 / 9 / 20 - 23:44
المحور: الادب والفن
    


يطرح الناقد حسام الدين مسعد في إحدى مداخلاته النقدية أطروحة عميقة حول مسرح الشارع، يقول فيها: «مستقبل مسرح الشارع مرهون بقدرة صُنّاعه على الانتباه إلى التفاصيل الدقيقة للفضاء، والجمهور، والرسائل، والرموز، والانفعالات، بحيث لا يكون العرض مجرد تفاعل آنٍ، بل أداة تغيير معرفي وجمالي. ومع كل عرض جديد، ينبغي أن تنطلق صناعة المعنى من خصوصية المكان، لتصوغ خطابًا نابضًا لا يُقرأ فقط، بل يُعاش ويُشعر.»

هذه الجملة المقتضبة تختصر إشكالية كبرى يعيشها مسرح الشارع اليوم: كيف يتحول من حدث بصري عابر إلى تجربة حيّة تصنع المعنى وتترك أثرًا يتجاوز لحظة المشاهدة؟ من هنا إنطلقتُ في هذا المقال محاولًا تفكيك عناصر هذه الإشكالية، عبر النظر إلى الجمهور، والفضاء، والرموز، والانفعالات، ثم ربطها بجذور هذا الفن عالميًا وعربيًا.

أولاً: مسرح له جذور ممتدة
ليس مسرح الشارع ظاهرة طارئة، إنما امتداد لتاريخ طويل ارتبط فيه الفن بالفعل الاجتماعي والسياسي. فمنذ العصور الإغريقية الأولى، كان العرض المسرحي يقام في فضاءات مفتوحة، بوصفه احتفالًا جماعيًا يعيد صياغة علاقة الفرد بالجماعة. لكن الشكل الحديث لمسرح الشارع ارتبط أكثر بالاحتجاج والتغيير. ففي ستينيات البرازيل، أطلق أوجستو بوال مشروعه الشهير "مسرح المقهورين"، حيث كسر الحواجز بين الممثلين والجمهور، وجعل من الأداء وسيلة للتربية السياسية والتحريض الاجتماعي. فلم يعد الجمهور متلقيًا صامتًا، ولكن أصبح "مشاركًا" أو حتى "ممثلًا بديلًا"، يعتلي خشبة الشارع ليجرب حلولًا لمشكلاته الواقعية. وفي أوروبا، مثّلت فرقة "مسرح الشمس" بقيادة أريان منوشكين نموذجًا مغايرًا، حيث لجأت إلي العروض المفتوحة التي تُقدَّم في ساحات ومخازن ومصانع مهجورة، محاولة ربط الفن بالمكان والجمهور في علاقة أفقية. أما في العالم العربي، فقد ارتبط مسرح الشارع بالمناسبات الشعبية مثل الموالد والاحتفالات الدينية، ثم تطور ليكتسب بعدًا سياسيًا مع الحركات الاحتجاجية. في مصر، على سبيل المثال، وبعد ثورة 2011، انتشرت عروض مسرحية في الميادين والساحات، جعلت من الشارع خشبة طبيعية، ومن المتظاهرين جمهورًا ومشاركين في الوقت نفسه. لقد كان الفن هنا امتدادًا للحدث السياسي، ومختبرًا حيًا للمعنى.

ثانيًا: الجمهور من العابر إلى الشريك
الجمهور هو العنصر الأكثر حساسية في مسرح الشارع. ليس جمهورًا مدعوًا، ولا يجلس على مقاعد معدّة سلفًا. إنه جمهور متنوع، متفاجئ أحيانًا، ومتورط بالضرورة في صناعة اللحظة. هذا التنوّع يفرض على الممثل أن يكون يقظًا لكل تفصيلة: كيف يقف الناس؟ ما الذي يلفت انتباههم؟ كيف يلتقطون الإشارة الأولى للحكاية؟
في إحدى التجارب، وقف ممثل وسط ممر ضيق بين الحشود، محاولًا عبوره بينما يمتد حبل طويل يعوق طريقه. مشهد بسيط، لكنه سرعان ما تحوّل إلى صورة حيّة عن الحصار والرغبة في التحرر. الجمهور التقط الفكرة فورًا، لا عبر الكلمات إنما عبر الإحساس المباشر بالموقف. هنا نكتشف أن الجمهور ليس مجرد متفرج، ولكن هو شريك في بناء المعنى. كل ضحكة، كل همهمة، كل حركة جسدية منه تصبح جزءًا من السيمفونية المسرحية. وهذا ما يجعل مسرح الشارع فنًا حيًا لا يمكن التنبؤ بنتائجه سلفًا.

ثالثًا: الفضاء شريك لا خلفية
الفضاء في مسرح الشارع ليس مجرد خلفية محايدة، إنما حامل للذاكرة والمعنى. كل شارع أو ساحة أو رصيف يحمل طبقات اجتماعية وسياسية وثقافية. لذلك يصبح المكان شريكًا أصيلًا في صناعة العرض. فعرض عن "التهميش"، على سبيل المثال، لا يكتسب صدقيته إذا قُدم في مسرح مغلق. إنما ينبغي أن يُقدّم في منطقة مهمشة، بحيث يصبح الجدار المتشقق خلفية طبيعية، والأصوات اليومية جزءًا من السينوغرافيا. في أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة في شارع المعز، قدّم عرضً للمخرج محمد الجنايني باسم "زعبوبة في مهب الريح " وتناول في طياته موضوع "البطالة": جلس الممثلون بملابس العمل أمام آلات وهمية صامتة، بينما كانت الحياة اليومية تدور من حولهم. لم تكن هناك حاجة لحوار طويل؛ فالمشهد ذاته، في ذلك المكان تحديدًا، كان يصرخ بالمعنى ويجسده لكل من حضر. بهذا المعنى، يصبح الفضاء ليس مجرد موقع عرض، إنما "سينوغرافيا طبيعية" تمنح العمل مصداقيته. الواقع نفسه يتجسد كديكور لا يمكن تزييفه.

رابعًا: الرموز واللغة البصرية
مسرح الشارع يعتمد أساسًا على تحويل الأفكار الكبرى – كالحرية والعدالة والمقاومة – إلى صور محسوسة. فالمعنى هنا لا يُلقَى شعاريًا، وإنما يُبنى عبر الرمز والحركة. فوقوف ممثل على صندوق قديم يمكن أن يصبح رمزًا للسلطة الزائفة. تراجعه إلى ركن مظلم قد يتحول إلى تجسيد للاغتراب. المسيرة الصامتة قد تكتسب دلالات وجودية في رام الله تختلف تمامًا عن دلالتها في القاهرة أو بيروت. الرموز هنا مفتوحة على تأويلات، تُبنى بالاشتراك بين الممثل والجمهور والفضاء.

خامسًا: العاطفة كقوة محركة
يُحرَم مسرح الشارع من تقنيات الإضاءة والمؤثرات الضخمة، لكنه يمتلك قوة العاطفة المباشرة. كل انفعال صادق – صرخة، دمعة، أو حتى همسة – يمكن أن يهز وعي المتلقي. هذه الطاقة الانفعالية تقرّب مسرح الشارع من جوهر المسرح الإغريقي الأول، حين كان العرض احتفالًا جماعيًا يشارك فيه الجميع، ويعيد صياغة علاقة الفرد بالجماعة. هنا يصبح الأداء ليس مجرد تمثيل، ولكن فعل وجداني يلامس الجسد والذاكرة في آن.

سادسًا: الخصوصية المحلية والمعنى الكوني
أحد أهم عناصر فرادة مسرح الشارع هو انفتاحه على الخصوصية المحلية. فالعرض في كركوك يختلف بالضرورة عن العرض في القاهرة أو رام الله. كل مدينة تحمل جراحها وأحلامها وذاكرتها، والمعنى يتشكل وفق هذه الخصوصية. لكن هذا لا يمنع أن يكون للعرض أفق كوني. فالصورة البسيطة التي يجسدها ممثل محاصر بحبل، قد تُقرأ في القاهرة كرمز سياسي، بينما تُقرأ في أوروبا كرمز وجودي عن قيود الحياة الحديثة. هذه القدرة على الجمع بين المحلي والكوني هي ما يمنح مسرح الشارع قوته العالمية.

سابعًا: المعنى كتجربة تشاركية
المعنى في مسرح الشارع لا يُملى من فوق، إنما يُبنى من أسفل، عبر حلقة تشاركية تصل الممثل بالعابر، والفكرة بالواقع. المخرج هنا ليس مُلقِّنًا، وإنما "بستاني" يزرع أسئلة في تربة المكان، ثم يتركها لتُسقى بتفاعل الجمهور حتى تثمر. بهذا المعنى، فإن مسرح الشارع لا يقدّم أجوبة جاهزة، ولكن يفتح أفقًا للأسئلة. قوته تكمن في أنه يربط اللحظة العابرة بسياق أوسع، فيتحول من حدث مرحلي إلى ممارسة معرفية وجمالية.

نحو مستقبل مُعاش
إن مستقبل مسرح الشارع يتحدد بقدرته على أن يكون فنًا معيشًا، لا مجرد فن يُشاهَد. أن يكون خطابًا يسكن ذاكرة الناس بعد انفضاض الجمع، ويترك أثرًا يتجاوز المتعة العابرة. وهنا تحديدًا تتجلى دقة ما قاله حسام الدين مسعد: الانتباه إلى التفاصيل الدقيقة للفضاء والجمهور والرسائل والرموز والانفعالات. هذه العناصر مجتمعة هي التي تصنع المعنى وتضمن لهذا الفن
الاستمرار والتجدد.



#حسام_موسي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مهزلة النهاية: مسرحية تحاكم فكرة النهاية بين العبث والفلسفة ...
- مهزلة النهاية: مسرحية تحاكم فكرة النهاية بين العبث والفلسفة
- عزلة.. حشرات.. خروج
- كارمن: تراجيديا العشق والتمرد في رؤية مسرحية جديدة
- التلقائية في التمثيل
- مسرحية -بلاي- كنموذج لاستخدام مصطلح Teatrum Mundi في المسرح ...
- فن التمثيل بين الرسالة والانحراف
- الناقد المسرحي: نظرة معمقة في قلب العرض
- كيف يمكن للمسرح أن يستعيد جمهوره؟
- تقليص مدد مهرجانات المسرح: أزمة استخفاف أم تحديات معقدة؟
- دنيس ديدرو: المؤلف الموسوعي ورائد الدراما البرجوازية
- رؤية الواقع وثقافة العلوم الإنسانية: أسس النقد والمسرح الحقي ...
- لعبة النهاية: عبثية الوجود بين النص والعرض
- مسرحية الحياة حلم: الباروك وتجلّياته في أدب العصر الذهبي الإ ...
- لغة الوجوه والعينين: نافذة الروح في فن التمثيل
- الفعل التمثيلي بين المراقبة والتفسير: دراسة فلسفية وثقافية
- القوالب الفنية في أوبريت العشرة الطيبة لسيد درويش
- تحديات مسرح الشارع في الفضاء العام: بين الصناعة والتلقي
- مساعدو الإخراج في المسرح: أدوار محورية في الظل
- فن الصمت في التمثيل: قوته، تأثيره، ودور المخرج في توجيهه


المزيد.....




- السينما مرآة القلق المعاصر.. لماذا تجذبنا أفلام الاضطرابات ا ...
- فنانون ومشاهير يسعون إلى حشد ضغط شعبي لاتخاذ مزيد من الإجراء ...
- يوجينيو آرياس هيرانز.. حلاق بيكاسو الوفي
- تنامي مقاطعة الفنانين والمشاهير الغربيين لدولة الاحتلال بسبب ...
- من عروض ايام بجاية السينمائية... -سودان ياغالي- ابداع الشباب ...
- أحمد مهنا.. فنان يرسم الجوع والأمل على صناديق المساعدات بغزة ...
- وَجْهٌ فِي مَرَايَا حُلْم
- أحمد مهنا.. فنان يرسم الجوع والأمل على صناديق المساعدات بغزة ...
- نظارة ذكية -تخذل- زوكربيرغ.. موقف محرج على المسرح
- -قوة التفاوض- عراقجي يكشف خفايا بمفاوضات الملف النووي


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام موسي - مسرح الشارع بين اللحظة العابرة وصناعة المعنى