حسام موسي
كاتب وباحث وناقد ومؤلف مسرحي مصري
الحوار المتمدن-العدد: 8343 - 2025 / 5 / 15 - 22:47
المحور:
الادب والفن
في نهاية العرض المسرحي (الخروج)، لم يستطع الأب أن يحتمل فراق ابنته لغرفتهما التي صارت سجناً بلا قضبان، وقبراً بلا شاهد. تلك الغرفة التي آثرا العزلة فيها طواعية، كأنما هرباً من دنيا خارجية لم يعد لها في نفسيهما مكان. فلما انكشف لها نور الحرية، وأعلنتها صرخة مدوية تتردد كصدى في أرجاء المكان "إني أبصر طريقي يا أبي!"، كان ذلك القول كالخنجر الذي اخترق قلبه الواهن. فانحنى على مكنسته التي طالما كانت أداة تنظيف وحيدة في مواجهة حشرات الغرفة، فإذا بها تصير رمزاً لكل ما فشل في تنظيفه من قذارات النفس. احتضنها كطفل يحتضن دمية كالتي كانت تحتضنها ابنته، فكانت أنفاسه الأخيرة تتهاوى كأوراق الخريف الذابلة، وانفصلت روحه عن جسده كفراشة تخلع شرنقتها. لقد فارق الحياة كما عاشها، بين المكنسة والمبيد، بين التنظيف والتلوث، بين الحب الذي ادعاه والقيود التي فرضها، لقد هرب كما هربت ابنته ولكن كلا بطريقته.
تجربة إخراجية مبدعة للمخرجة ساندرا سامح ضمن التجارب النوعية والتي احتضنها قصر ثقافة شبين الكوم من تأليف الكاتبة التركية عدلات أغا أوغلو وبرؤية دراماتورجية لخالد توفيق.
بين نص عدلات والمعالجة
وتدور المسرحية في غرفة بلا نوافذ أشبه بسجن ذاتي، يعيش فيه الأب وابنته محاصرين بعالم من القذارة تعكس عزلتهما النفسية والاجتماعية. في علاقة بينهما أقل ما يقال عنها أنها علاقة سامة، علاقة تتسم بالتبعية والخوف يسيطر فيها الأب عاطفياً على ابنته، مما يحول دون نضجها أو انفصالها عنه. تتوق الابنة إلى الحرية والخروج من هذا العالم المظلم، لكنها تخشي المجهول، في حين الأب يتشبث بالواقع رغم بؤسه ويأبي التغيير مبررًا وجودهما بالغرفة عبر الحكايات السخيفة وشراء المبيدات. وبينما تحاول الابنة الهروب عبر اللعبة التي تمثل البراءة والأحلام المكبوتة، وبعد محاولات متكررة تختار المغامرة بالخروج، ولكن الكاتبة تترك النهاية مفتوحة فهل تنجح الابنة في الهروب أم تعود؟ وهل الخروج من الجحيم الشخصي يؤدي إلى الحرية أم إلى جحيم آخر؟ النهاية لا تُجيب، لكن الأب يختار الموت بعد ادراكه أن المبيدات لم تكن حلاً.
أما الدراماتورج خالد توفيق وله نجاحات سابقة في هذا السياق فقد قام بتحويل النص من رمزية عدلات إلي دراما نفسية بتفصيل صراعات شخصية مثل علاقة الابنة بأمها، أو صراع الأب مع الخارج من خيانة وفساد.... مؤكدُا لها أن حبسها في المكان لحمايتها من المجتمع الفاسد. ومع أن هذا التعديل يثري المسرحية ويجعل الشخصيات أكثر تعقيدًا ومأساوية، إلا أنه افقد النص غموضه الرمزي الذي يجعل المتلقي يتأمل وحرمه من اكمال المعني بنفسه وقدم إليه إجابات جاهزة وقلل من شمولية الرسالة. فبينما نص عدلات أوغلو مزج الواقعي المتمثل في العلاقة الأبوية مع الخيالي المتمثلة في الحشرات ككائنات شريرة. إلا أن الإضافات لم تجعل الحشرات مجرد رمزًا بل ارتبطت بحكايات كحكاية الأم مثلاً وحرمت المشاهد من تفسيرها كقمع أو اكتئاب أو خطيئة أو أي معني يحدده مستواه الثقافي. كما أن هذه الإضافات كانت متكررة وأطالت مدة زمن العرض فكانت تكرارا وتأكيدًا علي نفس المعني. في المقابل، أري أن الاضافة الجيدة في العرض كانت مشهد الأقنعة حيث تم إشراك الجمهور ومخاطبتهم مباشرة، مما أكد علي فكرة أن المشاهد شريك في الفوضى كما أوضح أن الأب ليس شريرًا شرًا مطلقًا، ولا الابنة
بريئة براءة كاملة.
بخصوص المنظر المسرحي الذي صممه اسلام جمال مع تميزه بالبساطة والإيجاز إلا أنه كان يحمل دلالات كبيرة، فاشتمل الديكور علي غرفة جدرانها رمادية تعكس العالم الراكد الذي يحياها كلا من الابن والبنت، عالمًا لا يري فيه الأب سوي لون واحد، ومكتب لأعماله بأرجل طويلة واضعًا إياه في منطقة أعلي ليوحي بمدي السيطرة علي ابنته ومحاط بشرائط صفراء مكتوب عليها " احذر منطقة عمل " كأنما يحذرها من الاقتراب من عالمه المُنهار. أما في يمين المسرح فيوجد صندوق يحتوي علي متعلقات ابنته والتي تخرج منه دميتها وشخوصها مع وجود رفوف مليئة بعلب المبيدات معبرة عن الهوس المرضي للشخصيات. هذا التصميم من قبل مصمم الديكور نجح في إظهار العزلة وحالة الاختناق التي تعيشهما الشخصيتين. وعبر عن واقعهما النفسي والاجتماعي ببراعة.
كان الاستعانة بتقنية الفيديو مابينج خيار إخراجي ذكي من مخرجة العرض خاصة في بداية المسرحية وإظهار الحشرات التي تواجه وتهاجم الشخصيات وكذلك في مشهد وجود الابنة في صندوقها واستطاعت تعميق البعد النفسي للابنة ولكن ظهور الأم قدّم إجابات للجمهور عن الأسئلة الفلسفية وحلت الغموض والافضل كان تكثيفه.
الاضاءة التي صممها محمود علاء كانت مناسبة لأجواء العرض وكانت من أسباب نجاحه فقد تراوحت الإضاءة بين اللون الازرق المعبر عن وحدة كلا من الأب والابنة، واللون الأحمر المعبر عن صراعاتهما، واللون البرتقالي الموحى بشرارات الأمل الخافتة. كما نجحت الإضاءة في التعبير عن المسكوت عنه في النص وكشفت الأعماق النفسية للشخصيتين.
ولكي تعكس انسحاق الذات الذي تعانيه البنت، استعانت المخرجة بمصمم الدراما الحركية أحمد حسن، الذي عبّر عن هذه الحالة ببساطة ونعومة. وبرز ذلك أيضًا في الرقصة التي جمعت الفتاة والبنت، حيث تجلّت فيها الثنائية بين التشاؤم والأمل، كاشفةً عن الجانب المفقود من براءة البنت وفرحها المكبوت، لتنشأ مفارقة صارخة بين ضحكتها النقية وواقع الغرفة الكابوسي. واستكمالا لسينوغرافيا العرض وتأكيدا علي العزلة التي تخنق الشخصيتين قدم أسامة حماد موسيقي ذابت في ثنايا العرض، واضافت بعدًا شعوريًا عميقًا، يعكس الصراع بين الرغبة في التحرر والخوف من المجهول.
أما فيما يتعلق بالأداء التمثيلي، فقد نجحت المخرجة في اختيار بطلي العرض، حيث تميزت أميرة رضا في تجسيد دور الابنة، واستطاعت الإمساك بتفاصيل الشخصية منذ اللحظة الأولى وحتى لحظة انهيارها، حين توسلت إلى والدها قائلة اكنسني يا أبي ، رافضةً إنسانيتها ومفضّلة أن تُعامَل كحشرة تُكنس وتُرمى، بعد أن فقدت القدرة على المقاومة، وباتت لا تبحث عن النجاة إلا بالموت، إن كان خلاصًا من جحيمها الداخلي. أما خالد رأفت، فقد أجاد في أداء دور الأب، متنقلًا بسلاسة بين حالاته الشعورية المختلفة، وبلغ ذروة تألقه في مشهد الأقنعة، حيث تنوّع أداؤه بين القسوة الأبوية الجامدة والهشاشة الإنسانية الكامنة.
ان عرض الخروج يتركنا أمام أسئلة وجودية، هل الحرية الحقيقية ممكنة أم أنها مجرد وهم؟ وأين تكمن حدود الحماية الأبوية؟ هل يمكن للفن أن يكون ملاذًا من قسوة الواقع؟ ما مدى مسئولية المجتمع عن عزلتنا؟
في الأخير، يمكن القول إن المخرجة ساندرا سامح حققت إنجازًا مميزاً مميزًا يُحسب لها، خاصة وأنه من أوائل تجاربها الإخراجية، وفي سنّ لا تزال فيه تخطو خطواتها الأولى في هذا المجال. فقد أظهرت حسًا إخراجيًا ناضجًا، وامتلكت رؤية بصرية ودرامية واعية مكّنتها من التعامل مع نص معقد ومشحون بالتأويلات الفلسفية والنفسية. حيث أن تناغم عناصر العرض من أداء تمثيلي، وسينوغرافيا، وإضاءة، وموسيق، وفيديو مابينج، يشير إلى مخرجة واعدة تمتلك أدواتها.
#حسام_موسي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟