أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - هاني جرجس عياد - مدارس الأحد في الكنيسة الأرثوذكسية المصرية: تحليل سوسيولوجي لوظائفها وأدوارها التربوية والاجتماعية















المزيد.....

مدارس الأحد في الكنيسة الأرثوذكسية المصرية: تحليل سوسيولوجي لوظائفها وأدوارها التربوية والاجتماعية


هاني جرجس عياد

الحوار المتمدن-العدد: 8509 - 2025 / 10 / 28 - 06:57
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تُعدُّ مدارس الأحد إحدى أهم الظواهر الدينية والاجتماعية في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ليس فقط لأنها شكلت إطارًا تربويًا لنقل الإيمان والعقيدة، بل لأنها أصبحت أيضًا مؤسسة اجتماعية بالمعنى السوسيولوجي الكامل، تُسهم في بناء الهُوية القبطية والحفاظ على التماسك الداخلي للمجتمع الكنسي. فمدارس الأحد، منذ نشأتها على يد الأرشيدياكون حبيب جرجس في أوائل القرن العشرين، لم تكن مجرد نشاط تعليمي ديني، بل كانت استجابة اجتماعية وروحية لواقع متغير، سعت من خلاله الكنيسة إلى إعادة تشكيل علاقتها بالمجتمع القبطي، وإعادة إنتاج خطابها الديني في مواجهة تحديات التحديث والعلمنة.

إن نشأة مدارس الأحد في مصر تزامنت مع مرحلة مفصلية من تاريخ الكنيسة القبطية والمجتمع المصري على السواء. ففي النصف الأول من القرن العشرين، كانت مصر تشهد تحولات فكرية وتعليمية عميقة، أبرزها انتشار التعليم المدني الحديث وتراجع دور التعليم الديني التقليدي. ومن هنا جاءت فكرة حبيب جرجس لتأسيس نظام تعليمي موازٍ داخل الكنيسة، يهدف إلى غرس القيم المسيحية الأرثوذكسية في نفوس الأطفال والشباب، وتعويض النقص الذي خلفه غياب التعليم الديني في المدارس العامة. ومع مرور الزمن، تحولت مدارس الأحد إلى مؤسسة متكاملة لها تنظيمها الداخلي، ومناهجها الخاصة، وهيكلها الإداري، لتصبح واحدة من أكثر مؤسسات التعليم الديني تأثيرًا في العالم القبطي.

من وجهة نظر علم الاجتماع الوظيفي، يمكن النظر إلى مدارس الأحد على أنها تلعب أدوارًا متعددة داخل البنية الكنسية والمجتمعية. فهي تقوم أولًا بوظيفة التنشئة الاجتماعية، إذ تُلقّن الأجيال الجديدة منظومة القيم والمعتقدات والسلوكيات التي تحدد علاقتها بذاتها وبالمجتمع. فالمعلم أو الخادم في مدارس الأحد لا يُقدّم المعرفة الدينية فحسب، بل يشكّل نموذجًا سلوكيًا يحتذي به التلميذ، مما يجعل العملية التعليمية فيها وسيلة فعّالة لدمج الفرد في الجماعة الدينية وإعادة إنتاج الثقافة الكنسية. كما تؤدي مدارس الأحد وظيفة ضبط اجتماعي، إذ تعمل على تقويم السلوك من خلال تعاليم الكنيسة، مما يسهم في استقرار النظام الاجتماعي داخل المجتمع القبطي. وهي أيضًا وسيلة تكامل اجتماعي تجمع بين فئات مختلفة من المجتمع داخل فضاء كنسي واحد، ما يعزز روح التضامن والانتماء.

من جهة أخرى، تمثل مدارس الأحد منصة لإعادة إنتاج الهوية القبطية، خصوصًا في ظل التغيرات الاجتماعية والسياسية التي مر بها الأقباط في مصر. فهي تُرسّخ الشعور بالانتماء إلى الكنيسة بوصفها جماعة روحية وثقافية متميزة، وتغرس الوعي بالتاريخ والتراث القبطي في وجدان الجيل الجديد. هذه الوظيفة تتجاوز البعد الديني لتصبح عملية ثقافية بامتياز، إذ تسهم في حماية الذاكرة الجمعية من الذوبان في ثقافة الأغلبية. بهذا المعنى، تصبح مدارس الأحد ليست فقط مؤسسة تعليمية بل آلية مقاومة ثقافية، تستخدمها الجماعة القبطية للحفاظ على ذاتها في مجتمع متغير، وهو ما ينسجم مع فكرة "الحفاظ على الهوية الجماعية" التي تحدث عنها علماء الاجتماع الثقافي مثل بيير بورديو وإميل دوركايم.

أما عند تطبيق نظرية الصراع على تحليل مدارس الأحد، فإننا ننتقل من رؤية الوظائف الإيجابية إلى تحليل علاقات القوة داخل المؤسسة ذاتها. فوفقًا لكارل ماركس وبورديو، تعمل المؤسسات الاجتماعية – ومنها التعليمية والدينية – على إعادة إنتاج أنماط الهيمنة الثقافية والرمزية. ويمكن النظر إلى مدارس الأحد من هذا المنظور بوصفها فضاءً يعيد إنتاج السلطة الكنسية عبر آليات التعليم والتلقين. فالخدام يمثلون سلطة معرفية وروحية، يمتلكون "رأس المال الرمزي" (بحسب تعبير بورديو)، بينما يكون الأطفال والمتعلمون في موقع المتلقين الخاضعين لهذه السلطة. هذا لا يعني بالضرورة أن مدارس الأحد تمارس قهرًا، لكنها تُسهم في ترسيخ هرمية معينة للعلاقات داخل الكنيسة، تجعل من التعليم وسيلة لتأكيد المرجعية الدينية والتراتبية الكنسية.

وفي السياق نفسه، قد تُظهر المقارنة بين الكنائس الغنية والفقيرة، أو بين الحضر والريف، وجود فوارق طبقية في تجربة مدارس الأحد. فالإمكانات المادية، ومستوى الخدام، ونوعية المناهج والأنشطة، تختلف من كنيسة إلى أخرى، مما يعكس التفاوت الاجتماعي داخل المجتمع القبطي ذاته. وهنا يتجلى ما يسميه علماء الاجتماع بـ"إعادة إنتاج اللامساواة"، أي أن المؤسسات الدينية – مثل مؤسسات التعليم المدني – قد تُعيد بصورة غير مباشرة إنتاج الفروق الطبقية والثقافية الموجودة في المجتمع الأوسع. وهذا ما يجعل دراسة مدارس الأحد من منظور الصراع الاجتماعي مجالًا غنيًا للتحليل.

في المقابل، لا يمكن إغفال الجانب التفاعلي الرمزي في تجربة مدارس الأحد. فالتفاعل بين الخدام والأطفال، وبين الأطفال أنفسهم، يشكل شبكة من العلاقات الرمزية التي تُسهم في بناء المعنى الديني. داخل هذا التفاعل تُستخدم الرموز الكنسية – كالصلوات والأيقونات والترانيم – كوسائط لبناء المعنى والانتماء. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن مدارس الأحد ليست فقط مكانًا للتعليم بل أيضًا فضاءً رمزيًا يُعاد فيه إنتاج المعاني الدينية بشكل حيّ وتفاعلي. هذه الرموز، بما تحمله من معانٍ روحية وتاريخية، تخلق رابطًا وجدانيًا بين الفرد والكنيسة، وتجعل الانتماء الديني تجربة اجتماعية معاشة وليست مجرد عقيدة نظرية.

ومع تطور المجتمع المصري ودخول التكنولوجيا الحديثة إلى الحياة اليومية، أصبحت مدارس الأحد تواجه تحديات تربوية وثقافية جديدة. فالأجيال الجديدة تتعامل مع مصادر معرفية متنوعة تتجاوز الكنيسة، كما تتأثر بثقافة رقمية سريعة التغير. وهذا يفرض على الكنيسة أن تُعيد النظر في أساليب التعليم التقليدية، وأن تطور مناهجها لتواكب لغة الشباب وتفكيرهم دون التفريط في ثوابتها اللاهوتية. كما يتعين على الخدام اكتساب مهارات تربوية ونفسية تُمكّنهم من التعامل مع جيل مختلف في تطلعاته وأسئلته وقيمه. فالنجاح الحقيقي لمدارس الأحد لا يكمن في حفظ النصوص الدينية فقط، بل في قدرتها على تحويل الإيمان إلى وعيٍ اجتماعي حيّ، وعلى تكوين إنسان مسيحي قادر على المشاركة الإيجابية في مجتمعه.

من زاوية سوسيولوجية أوسع، تُعد مدارس الأحد نموذجًا لتكامل الدين والمجتمع في مصر الحديثة. فهي تجسّد فكرة أن الدين ليس مجرد عقيدة شخصية، بل مؤسسة اجتماعية فاعلة تؤثر في البناء الاجتماعي والثقافي للأمة. ومن خلال مدارس الأحد، استطاعت الكنيسة الأرثوذكسية أن تؤسس شبكة تربوية ضخمة تضمن استمرارية رسالتها وتماسك أتباعها. غير أن استمرار هذا الدور يتطلب وعيًا نقديًا داخل الكنيسة نفسها، بحيث تُوازن بين سلطة التقليد وحاجات التجديد، وبين حفظ الهوية والانفتاح على الواقع.

وفي ضوء ذلك كله، يمكن القول إن مدارس الأحد تمثل ظاهرة اجتماعية متكاملة؛ فهي أداة للتربية، ووسيلة لبناء الهوية، ومنصة لإعادة إنتاج الثقافة الدينية. لكنها أيضًا مجال للصراع الرمزي والطبقي والمعرفي داخل الكنيسة. وتحليلها من منظور علم الاجتماع يُظهر كيف تعمل المؤسسات الدينية على تشكيل الوعي الجمعي، وكيف تساهم في الحفاظ على التوازن بين الاستقرار الاجتماعي والتجديد الثقافي. إن مدارس الأحد ليست مجرد فصل دراسي كنسي، بل تجربة إنسانية وروحية وثقافية تعكس تفاعل الدين والمجتمع في مصر، وتكشف عن عمق العلاقة بين العقيدة والهوية والواقع الاجتماعي.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المتوحّد بين رؤية ابن باجه وتحولات العصر: تأملات طالب بدأت ب ...
- الإنترنت المظلم: عالم خفي يهدد الأمن ويغذي الجريمة والتطرف
- التربية الإعلامية ومهارات الشباب العربي في عصر المنصات الرقم ...
- الذَّكَاءُ وَالسُّلُوكُ الْإِجْرَامِيُّ: الْعَلَاقَةُ بَيْنَ ...
- مُؤَسَّسَاتُ الرِّعَايَةِ وَإِعَادَةِ تَأْهِيلِ الأَحْدَاثِ
- قهر الوصمة وكسر قيود التمييز: نحو مجتمع أكثر إنصافًا وشمولية
- الوصمة المزدوجة: تداخل العوامل الاجتماعية وتأثيراتها على الأ ...
- الموظف والسوشيال ميديا: التأثير السلبي والإيجابي لوسائل التو ...
- الإعلام والسياسة: من يقود من؟
- حق المؤلف بين النظرية والتطبيق
- الشخصية الإدارية
- فن الاتصال والتأثير على الناس
- لمحات من حياة القديس مارمرقس مؤسس الكنيسة المصرية
- نظرية الوصم (الجذور التاريخية والافتراضات النظرية)
- إدارة التنوع في الموارد البشرية
- العواطف في العمل
- النسوية العربية: رؤية نقدية
- الفرق بين المهارات الصلبة والمهارات الناعمة
- «العربية» في أفريقيا
- الجامعات الافتراضية: إيجابياتها وسلبياتها


المزيد.....




- نتنياهو يعطي الضوء الأخضر لشن ضربات جوية على غزة.. إليكم ما ...
- احتفال ديوالي في سلطنة عمان يثير جدلاً واسعا والمفتي يعلق
- السودان: ماهي تداعيات سيطرة الدعم السريع على الفاشر؟
- بين الضغوط الخارجية وحسابات الداخل.. إعلان أبو مازن الدستوري ...
- صفقات بملايين الدولارات.. كيف أصبحت الإمارات بوابة ترامب الج ...
- زحمة موفدين في بيروت: مصر تعرض المساعدة لتثبيت الاستقرار فهل ...
- بتهمة الانتماء لحماس.. انتقادات حادة تطال القناة العامة الأل ...
- DW تتحقق - هل ستلغى أسواق عيد الميلاد في ألمانيا؟
- نتنياهو يتهم حماس بخرق اتفاق وقف إطلاق النار ويأمر بشن -غارا ...
- عمليات بحث عن رفات رهائن إسرائيليين  في غزة


المزيد.....

- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - هاني جرجس عياد - مدارس الأحد في الكنيسة الأرثوذكسية المصرية: تحليل سوسيولوجي لوظائفها وأدوارها التربوية والاجتماعية