أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - السعدية حدو - دراسة سيميائية لفصل -باقلاء الفرات- من كتاب -ذاكرة الأشياء- لاعتقال الطائي: تفكيك أنظمة العلامات في سردية المنفى والذاكرة















المزيد.....


دراسة سيميائية لفصل -باقلاء الفرات- من كتاب -ذاكرة الأشياء- لاعتقال الطائي: تفكيك أنظمة العلامات في سردية المنفى والذاكرة


السعدية حدو
قارئة مهتمة بنقد نقد تحليل الخطاب

(Saadia Haddou)


الحوار المتمدن-العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 12:04
المحور: الادب والفن
    


تقديم:

في ظل تفكك السردية الوطنية العراقية الجامعة وتآكلها بعد عام 2003، برزت سرديات المنفى والذاكرة كفضاء ادبي بديل يحاول استعادة ما تهدم من روابط جماعية، لا عبر الخطاب السياسي المباشر، بل عبر التمثل الرمزي للهوية في الاشياء اليومية. ومن بين هذه السرديات كتاب "ذاكرة الاشياء"(2010) للدكتورة اعتقال الطائي. يحتل فصل "باقلاء الفرات" من نفس الكتاب مكانة استثنائية ليس فقط لحساسيته الشعرية، بل لقدرته على تحويل الباقلاء — كغذاء شعبي عابر — إلى علامة مركزية تحمل طبقات دلالية متراكمة: من الحنين، إلى المقاومة، إلى الشهادة، إلى الحداد. وتنطلق هذه الدراسة من إشكالية مركبة: كيف يعيد النص السير-ذاتي بناء الهوية الوطنية المهددة عبر آليات الترميز السيميائي للاجسام المادية في سياق منفى مزدوج — جغرافي وسياسي؟ ولفهم هذا التحول لا يكفي ان نصف العلامات، بل يجب ان نستكشف كيف تنتج هذه العلامات داخل النص، وكيف تتفاعل مع بعضها البعض لتشكيل نظام دلالي متماسك يقاوم التفكيك الطائفي. فالسؤال الاعمق اذن هو: ما البنية السيميائية التي تسمح لباقلاء ان تتحول من طعام إلى شهادة، ومن ذكرى إلى نص مقاوم؟


اولا: الاطار النظري: تداخل السيميائي والسردي في تحليل الذاكرة الاغترابية


لا يمكن فصل التحليل السيميائي لنص كهذا عن بعده السردي، اذ ان الذاكرة في السرد السير-ذاتي لا تعمل كمرآة سلبية، بل كـ فعل انشائي يعيد تركيب الزمن والمكان عبر شبكة من العلامات. ولذلك، يستند هذا الدراسة إلى تداخل منهجي دقيق بين ثلاثة محاور نظرية:

اولا، يعتمد على السيمياء البنيوية عند رولان بارت، لا في شكلها الاول (كان تحليل العلامات في الاعلان او الموضة)، بل في تطورها اللاحق نحو تحليل الايديولوجيا الخفية في الخطاب. فبارت، في اعماله المنهجية مثل "عناصر السيميولوجيا" و"نقد وحقيقة" ، يميز بين التعبير الظاهر والمعنى الكامن، ويشير إلى ان كل خطاب يحتوي على "بنية سطحية" (الكلمات، الجمل) و"بنية عميقة" (القيم، المواقف) — وهو تمييز يعكس صلب منهجه في تفكيك الاسطورة. وفي "باقلاء الفرات"، تظهر البنية السطحية كسرد لزيارة عابرة للوطن، لكن البنية العميقة تكشف عن صراع دلالي بين نظامين علاماتيين: نظام الطائفة (القاتل) ونظام الانسانية (الشهيد). والعلامة "شيعي" ليست مجرد تصنيف ديني، بل علامة ايديولوجية قاتلة تستخدم لتبرير العنف، بينما "عراقي طيب" هي علامة مضادة تعيد تعريف الهوية خارج الاطار الطائفي.

ثانيا، تستفيد الدراسة من نظرية النص عند يوري لوتمان، التي ترى ان النص الادبي ليس مجرد ناقل للمعنى، بل نظاما دلاليا ذاتي التنظيم يحتوي على "ذاكرة داخلية" تعيد انتاج المعنى عبر التناقضات. فلوتمان يميز بين "المركز" و"الهامش" في النص الثقافي: المركز يحتوي على القيم المهيمنة، والهامش يحتوي على القيم المهمشة او البديلة. وفي فصل "باقلاء الفرات"، يقدم الوطن كـ"مركز دلالي" (حتى في غيابه)، بينما يقدم المنفى كـ"هامش جغرافي"، لكن الذات تنقل المركز إلى الهامش عبر زراعة الباقلاء، اي عبر استعمار رمزي للمنفى باعادة انتاج رموز الوطن فيه. هذا التحول يظهر ان الذاكرة لا تستعاد فحسب، بل تنتج من جديد في فضاء الغربة.

ثالثا، تستحضر الدراسة المنطلقات التفكيكية عند جاك دريدا، لا كنفي للهوية، بل ككشف للاختلاف الداخلي الذي يهدد كل نظام علاماتي. فدريدا، في "الكتابة والاختلاف"، يشير إلى ان كل علامة تحمل في طياتها "اثرا" للغياب. وفي هذا النص، كل علامة تحمل اثرا مزدوجا: الباقلاء تحمل اثر الوطن، لكنها تحمل ايضا اثر الموت (مقتل البائع)؛ الفرات يحمل اثر الحياة، لكنه يحمل اثر الشموع الذائبة (اليأس)؛ الجسر يحمل اثر الذاكرة، لكنه يحمل اثر القصف (الدمار). هذا التناقض الداخلي لا يضعف العلامة، بل يعمقها، ويمنحها طابعا تراجيديا يعكس واقع العراق الممزق بين الحنين والعنف.


ثانيا: المنهجية: خطوات التحليل السيميائي للنص السير-ذاتي


لتحليل فصل "باقلاء الفرات" سيميائيا، اعتمد هذا البحث منهجا تحليليا تكامليا يجمع بين السيمياء البنيوية والتحليل السردي للذاكرة، مع استثمار بعض ادوات التفكيك الدلالي لرصد التوترات الداخلية في العلامات. ويتضمن هذا المنهج اربع خطوات تحليلية متتالية، كل منها تحقق هدفا دلاليا معينا، وتبني على التي سبقتها:

1. تحديد الوحدات الدلالية الاساسية (Unites semantiques)
في هذه المرحلة، تم قراءة النص قراءة اولية لاستخلاص العلامات السطحية التي تحمل دلالة محتملة، مع التركيز على ثلاثة انواع رئيسية:

الاجسام المادية: باقلاء، شمعة، جسر، نهر، بذور، قنينة، اعمدة.
الكائنات الحية: الفاختة، الخضر (صاحب الزمان)، الشاب البائع.
الافعال الرمزية: عد، غرس، حفظ، ذوبان، قتل، انتظار.

لم يتم اختيار هذه الوحدات عشوائيا، بل وفق معيار التكرار او التحول الدلالي؛ اي ان العلامة التي تظهر مرة واحدة لكنها تخضع لتحول دلالي جذري (كالباقلاء) تعتبر اكثر دلالة من علامة تتكرر دون تغيير. كما تم استبعاد العلامات ذات الدلالة المحايدة (كاسماء الشوارع او التواريخ) ما لم تكتسب دلالة رمزية في السياق (كـ"جسر الجمهورية").

2. تحليل البنية الدلالية عبر التقابلات (Analyse des oppositions semiques)
بناء على مبدا الثنائية البنيوية عند سوسير وغريماس، تم تحليل العلامات ضمن ازواج مقابلة تولد التوتر الدلالي في النص. وقد تم رصد ثلاث ثنائيات مركزية:

الوطن / المنفى: لا كفضاءين جغرافيين، بل كنظامين علاماتيين متعارضين (الدفء مقابل البرودة، الذاكرة مقابل النسيان، الوجوه مقابل الغربة).
الحياة / الموت: ليس كحالة بيولوجية، بل كوضعية دلالية (الموت "المالوف" في الوطن مقابل الموت "غير المالوف" في المنفى).
الهوية الجامعة / الهوية المجزاة: "عراقي طيب" مقابل "شيعي"، حيث تم تحليل الصراع بين نظام علاماتي يوحد ويشيع القيم الانسانية، وآخر يجزئ ويستخدم الانتماء الطائفي كاداة عنف.

كل تقابل تم تحليله من حيث الوظيفة الدلالية التي يمارسها في بناء المعنى، وليس كمعارضة منطقية مجردة.

3. تتبع التحولات الدلالية للعلامات (Evolution semantique des signes)

في هذه المرحلة، تم تتبع مسار كل علامة رئيسية عبر النص لرصد كيف تتحول دلالتها من مستوى إلى آخر. وقد استخدم مفهوم الكونوتاسيون المتراكمة عند بارت لفهم كيف تكتسب العلامة طبقات دلالية جديدة مع تقدم السرد. على سبيل المثال:

الباقلاء: بدأت كـ علامة دينوتاتيفية (طعام)، ثم تحولت إلى علامة كونوتاتيفية (حنين)، ثم إلى علامة اسطورية (مقاومة)، ثم إلى علامة شهادة (حداد).
الشمعة: من علامة نذر (امل) إلى علامة ياس (ذوبان دون ظهور الخضر).

تم تسجيل هذه التحولات في جداول تحليلية داخلية، مع ربط كل تحول بحدث سردي معين (كزيارة الوطن، او خبر مقتل الشاب).

4. تفكيك الايديولوجيا الكامنة في النظام العلاماتي (Decodage ideologique)

في المرحلة النهائية، تم تحليل النص كـ خطاب ايديولوجي خفي، وفق منهج بارت في تفكيك الاساطير. تم طرح السؤال التالي: ما القيم التي يروج لها النص عبر نظامه العلاماتي؟ وما القيم التي يقاومها؟ وقد تبين ان النص يروج لقيم الوحدة الانسانية، الطيبة، الذاكرة الجماعية، ويعارض قيم الطائفية، التجزئة، النسيان القسري. وقد تم تحليل الجملة الختامية ("عراقي طيب") كـ فعل تاسيس ايديولوجي يعيد تعريف الهوية خارج الاطار الطائفي.


ثالثا: التحليل التطبيقي: تفكيك آليات انتاج العلامة في "باقلاء الفرات"


1. الفضاء كبنية دلالية متناقضة ومتحولة

لا يبدا النص بوصف المكان، بل بـاعادة تعريف الموت عبر المكان: "الموت في الشتاء يقترن بالاشجار العارية في هذا البلد البارد... الا ان الوطن لم يعرف الموت في الاشجار، بل اقترن اسمه بالاحبة والغرباء". هذه الجملة التاسيسية لا تقارن بين مكانين، بل تعيد ترميز الموت نفسه. فالموت في المنفى "غير المالوف"، اي منفصل عن الطقوس، عن الوجوه، عن الذاكرة؛ بينما الموت في الوطن "مالوف"، اي مرتبط بالسياق الانساني. هذا التقابل لا ينتج فقط شعورا بالحنين، بل يعيد تعريف الوطن كفضاء دلالي حي، حتى في غيابه الجسدي. فـ"مياه دجلة تنساب غير آبهة بكل ما جرى ويجري" — هذه الجملة ليست وصفا طبيعيا، بل علامة على استمرارية الوجود العراقي رغم الحروب. فالنهر هنا ليس جغرافيا، بل رمز للديمومة الثقافية التي تتجاوز الدمار السياسي. والجسر، الذي "قصف بعد غيابنا وأعيد بناؤه"، يصبح بدوره نصا معماريا يحمل في طياته سيرة العنف والتدمير، لكنه يظل قائما، كانه شاهد على ارادة البقاء. وهكذا، يحول النص الفضاء من كونه خلفية سردية إلى كونه فاعلا دلاليا ينتج المعنى.

2. الاشياء اليومية كعلامات ديناميكية تخضع لتحولات دلالية

السمة الابرز في النص هي قدرته على جعل الاشياء الصغيرة تخضع لعملية تحول دلالي ديناميكية لا ثابتة. فالباقلاء، على سبيل المثال، لا تقدم كغذاء، بل كـ رمز مركب يمر بمراحل تحول دلالي متتالية. في البداية، هي رغبة طفولية ("قررت الا اعود بدونها")، اي علامة على الارتباط الحسي بالمكان. ثم تتحول إلى فعل مقاومة رمزي حين تزرع في "ارض تجهل لغتها"، اي محاولة لاعادة انتاج الوطن في قلب المنفى. واخيرا، بعد مقتل البائع الشاب، تحفظ في "قنينة" كـ ايقونة حداد، اي كشاهد صامت على جريمة لا يمكن نسيانها. هذه القنينة ليست وعاء فحسب، بل ضريحا رمزيا يحتفظ بذاكرة لا يمكن دفنها، ويجسد فكرة "التحنيط العلاماتي" التي تجمد الرمز في لحظة الالم لحمايته من الاندثار. واللافت ان هذا التحول لا يحدث خارج السياق التاريخي: فمقتل البائع "لانه شيعي" هو الحدث الذي يعيد ترميز الباقلاء من رمز للحنين إلى رمز للشهادة. وهكذا، تصبح الباقلاء علامة سياسية تدين العنف الطائفي.

واذا كانت الباقلاء تحمل وجع الوطن، فان الفاختة تحمل سؤال الوجود. فصوتها لا يغني فقط، بل يسأل: "وين اختي؟". هذا السؤال المتكرر يحول الطائر إلى علامة على التيه الجماعي للعراقيين: تيه العائلة، تيه الوطن، تيه الهوية. والكاتبة، حين تدعى "الفختاية" في طفولتها، لا تسخر منها، بل تدمج في نسيج المدينة كابنة لها، لانها، مثل الفاختة، تسائل الغياب. وهكذا، يصبح الطائر رمزا للهوية العراقية التي لا تكف عن البحث عن ذاتها في زمن التمزق. والسؤال هنا ليس سؤالا لغويا، بل فعلا وجوديا يعيد انتاج الهوية عبر التساؤل عنها.

3. الانهار كمرايا زمنية ونظام رمزي منهار: من الفرات إلى الدانوب

لا يقتصر ترميز الذاكرة في النص على الاجسام المادية المرئية فحسب، بل يمتد إلى الانهار كعلامات وجودية ومرايا زمنية، بل ويتجاوز ذلك إلى الرموز الميثولوجية المرتبطة بها. فالنص يقدم ثلاثية نهرية لا تعبر عن جغرافيا فحسب، بل عن مراحل تحول الذات عبر الزمن: "رايت وجه الطفلة والمراهقة في الفرات، والشابة في دجلة، ثم الدانوب حتى مرت السنون ومعها العمر".

هنا، يتحول كل نهر إلى مرآة دلالية تعكس مرحلة عمرية معينة:

الفرات يحتضن "الطفلة والمراهقة"، اي براءة البدايات وانتماء الجذور.
دجلة يعكس "الشابة"، اي مرحلة النضج والانخراط في الحياة (كما في مشهد جسر الجمهورية).
الدانوب، نهر المنفى، لا يعكس مرحلة عمرية محددة، بل الشيخوخة الزمنية ("مرت السنون ومعها العمر")، اي تحويل الزمن إلى عبء وجودي.

وهكذا، لا تكون الانهار مجرد فضاءات مائية، بل اوعية ذاكرية تحفظ صور الذات عبر مراحلها. لكن هذه الديمومة نفسها تصبح مسرحا لانهيار الاسطورة الشعبية المرتبطة بالنهر. ففي الثقافة العراقية، يرتبط الفرات خصوصا بالخضر (صاحب الزمان)، رمز الغائب المنتظر الذي سيحقق العدل. وتقول الساردة: "اين هو الخضر الذي طالما انتظرناه مع امي... عبثا نذرت له الشموع حيث بقيت تطفو وتطفو في نهر الفرات حتى ذابت وانطفات شعلتها".

هنا، يقدم النص تفكيكا صارخا لهذه الاسطورة: فالشمعة، التي كانت رمزا للنور والرجاء، تذوب دون ان تلتقي بوجه الخضر، اي ان الامل نفسه يستهلك دون ان يتحقق. و"الزمن" لا يقف ساكنا، بل يزداد "من سيء إلى اسوأ"، ما يشير إلى ان الغياب ليس مؤقتا، بل غياب منتج للدمار. ومن منظور رولان بارت، فإن هذا التحول يجسد انهيار "الاسطورة" (myth) كنظام دلالي ثاني. ومن منظور لوتمان، فإن النهر — كجزء من "المركز الدلالي" الثقافي — يحتفظ بذاكرته (الوجوه، الطفولة)، لكنه يعجز عن استقبال الرمز المنقذ (الخضر)، ما يشير إلى اختلال في نظام القيم الثقافية. اما من منظور دريدا، فإن غياب الخضر ليس غيابا بسيطا، بل اثرا للغياب يثبت الياس كحالة وجودية.

والاكثر تراجيدية ان الفرات يستمر في اخذ "شموع جيل بعد جيل"، ليصبح النهر نفسه مقبرة رمزية للامل، لا ممرا للخلاص. وهكذا، لا يدان العنف السياسي فحسب، بل يدان ايضا عجز الانظمة الرمزية التقليدية عن تقديم معنى في زمن الانهيار. والنص، بدلا ان يعيد انتاج الاسطورة، يعيد انتاج نهايتها.

***مقارنة وجودية: انتظار الخضر وانتظار غودو

يكتسب انهيار اسطورة الخضر دلالة وجودية اعمق حين يقارن بانتظار "غودو" في مسرحية صمويل بيكيت "في انتظار غودو". فكلا النصين يقدمان الانتظار كحالة وجودية معلقة، حيث يتحول الزمن إلى حلقة مفرغة لا تثمر حدثا. في "غودو"، ينتظر فلاديمير واستراجون شخصا لا يعرفونه، ولا ياتي، في حين تنتظر الساردة — مع امها — "صاحب الزمان"، الذي لا يظهر رغم تكرار النذر عبر الاجيال. في الحالتين، الغائب لا يغير الواقع؛ بل يثبت العجز كشرط وجودي.

لكن الفارق الجوهري يكمن في المرجعية الرمزية:

غودو هو علامة فارغة، لا خلفية ميثولوجية او دينية له. انتظاره نقد للوهم الميتافيزيقي في عالم ما بعد الحداثة.
الخضر، على العكس، هو علامة ممتلئة، متجذرة في الذاكرة الدينية والشعبية العراقية كرمز للعلم، العدل، والخلاص الغيبي.

لذلك، فإن ياس الساردة ليس ياسا فرديا او فلسفيا مجرد، بل حزن جماعي على موت الاسطورة التي كانت تمنح المعاناة معنى مؤقتا. وحين تذوب الشمعة دون ان يظهر الخضر، لا ينهار فقط الامل الشخصي، بل ينهار النظام الرمزي ككل.

ومن منظور سيميائي، يمكن القول إن النص العراقي لا يكتفي بعرض العبث (كما في بيكيت)، بل يعيد ترميزه عبر الذاكرة: فبدلا من الانتظار، تختار الساردة التحنيط — تحفظ الباقلاء في قنينة، لا كايقونة امل، بل كـشاهد على فشل الامل. وهكذا، يجاب على سؤال بيكيت الوجودي لا بالاستمرار في الانتظار، بل باقفال زمن الانتظار وفتح زمن الشهادة.

4. الأفعال كعمليات دلالية منتجة للمعنى
الافعال في النص لا تصف احداثا، بل تنتج معاني وجودية. فـ"عد الاعمدة" ليس مجرد تصرف طفولي، بل فعل توثيق ذاكرية يحاول تثبيت الماضي المتلاشي عبر التفاصيل المادية. فالعدد "ثمانية عشر" ليس رقما عابرا، بل علامة على دقة الذاكرة، وعلى قدرتها على مقاومة الزمن. و"غرس البذور" ليس مجرد زراعة، بل محاولة تعويض رمزي لغياب الوطن، حيث تحاول الذات ان تزرع جزءا من العراق في تربة المنفى. و"حفظ الباقلاء في قنينة" ليس مجرد حفظ، بل عملية تابيد رمزي تحول الرمز إلى اثر لا يمس. هذه الافعال تظهر ان الذاكرة في النص ليست سلبية، بل فعلا مقاوما يسعى إلى اعادة تشكيل الهوية في وجه التفكيك. واللافت ان هذه الافعال تتم في سياق انقطاع الكهرباء، تحت ضوء شمعة — اي في ظلام يرمز إلى غياب الدولة، حيث يصبح الفعل الفردي (شراء الباقلاء، زراعتها) هو البديل الوحيد للوجود.

5. اللحظة الانقلابية في المنفى: حين يصبح الغربة فضاء للولادة
تكشف لحظة نمو الباقلاء في حديقة بودابست عن تناقض دلالي داخلي في فضاء المنفى ذاته، يثري التحليل وفق منظوري دريدا ولوتمان معا. فبعد أن عرف المنفى منذ البداية كـ"بلد بارد" و"أشجار عارية"، يتحول فجاة إلى فضاء للخصوبة والبهجة: "يا للبهجة نبتت الباقلاء... ازهرت ونمت... وكانت كالكنز". هذه اللحظة ليست استثناء جماليا، بل انقلابا دلاليا مؤقتا يظهر ان الهوية لا تنتج فقط في الوطن، بل يمكن ان تعاد إنتاجها رمزيا في قلب الغربة. وفق لوتمان، فإن هذه اللحظة تجسد كيف ان "الهامش" (المنفى) يمكن ان يحتوي على "جزيرة دلالة" من "المركز" (الوطن)، حيث تصبح التربة الاجنبية "اما" تفهم لغة من زرعتها.

لكن هذا الانقلاب لا يدوم؛ اذ يقصف فورا بخبر مقتل البائع، فيعود المنفى إلى كونه "برودة" و"غيابا"، بل ويكتسب بعدا جديدا: فضاء للجريمة التي تستهدف الهوية ذاتها. وهنا يتجلى مفهوم "الأثر" (trace) عند دريدا: فالوطن لا يغيب كليا في المنفى، بل يترك اثره في الباقلاء النابتة، وفي فرح الذات. لكن هذا الأثر نفسه يصبح موضع اعتداء، لان النظام الطائفي لا يكتفي بقتل الجسد في الوطن، بل يلاحق رموز الهوية حتى في غربتها. وهكذا، يثبت النص ان المنفى ليس غيابا مطلقا، بل فضاء مشبع باثر الحضور، حتى حين يعاد تاكيد غربته بالعنف.

6. تفكيك العلامة الطائفية واستبدالها بعلامة انسانية جامعة

الذروة السيميائية في النص تكمن في الجملة الختامية: "قتلوا الشاب... لأنه شيعي... اعرف شيئا واحدا هو انه عراقي طيب". هنا، تمارس عملية تفكيك واع لنظام العلامات السائد. فالعلامة "شيعي" تستخدم كمبرر للعنف، اي كـ علامة قاتلة تجزئ الهوية وتجعلها قابلة للتصفية. لكن الكاتبة ترفض هذه العلامة، وتستبدلها بعلامة مركبة جديدة: "عراقي طيب". هذه العبارة ليست وصفا بسيطا، بل نداء قيمي يدعو إلى نظام علاماتي جديد تكون فيه الطيبة/الانسانية هي المعيار الأعلى للهوية، وليس الانتماء المذهبي. واللافت ان الكاتبة تقول: "سيان عندي ليكن محمد او علي او عمر او عيسى او موسى"، اي انها تدمج الاسماء الدينية المتناقضة في سياق واحد، كانها تقول: الهوية لا تحدد بالاسم الديني، بل بالفعل الإنساني. وهكذا، يتحول النص من سرد شخصي إلى خطاب سيميائي أخلاقي يدين العنف الطائفي ويدعو إلى وحدة انسانية جامعة.

خلاصة

يؤكد فصل "باقلاء الفرات" ان السرد السير-ذاتي عن المنفى لا يمكن فهمه خارج إطاره العلاماتي. فالنص ليس مجرد ذكرى، بل بناء دلالي محكم يستخدم الأشياء اليومية كأدوات لتفكيك العنف الطائفي، ومقاومة النسيان، وإعادة تأسيس الهوية على قيم إنسانية جامعة. والباقلاء، في قنينتها الزجاجية، ليست مجرد بذور، بل نص مغلق يحتفظ بذاكرة الوطن الممزق. وهي، في صمتها، تعلن ان الهوية لا تقتل بالرصاص، بل تحيا بالذاكرة. وبهذا، يتجاوز النص كونه سيرة ذاتية ليصبح وثيقة سيميائية ضد التفكيك، ونداء اخلاقيا لاعادة ترميز العراق بعيدا عن لغة الطوائف، وقريبا من لغة "الطيبة" — تلك اللغة التي تفهمها الباقلاء، ويفهمها القلب، ولا يفهمها القاتل.

طنجة في 11/07/2025



#السعدية_حدو (هاشتاغ)       Saadia_Haddou#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النور يرقص في سريري: التجلي العرفاني والذاكرة البابلية في شع ...
- قراءة في قصيدة -يا حاجّ- لناصر مؤنس: رحلة كشف صوفية من الحرف ...
- إطار المتنزه: آلية التضمين والوصاية السردية في -انتظار السمر ...
- عندما تخون العتبات المضمون: الإيحاء التناصي بين البراعة الفن ...
- دور النقد في تفكيك الصور الذهنية للكتّاب: من التقديس إلى الو ...
- بين التجريب والسطحية: تعدد الأصوات والتكلف اللغوي في الأدب ا ...
- لاكان : تفكيك الخطاب النظري
- - التفكيك كاستراتيجية نقدية: دريدا/ فوكو/ بارت
- لاعب النرد: قصيدة نقدية
- -فن الرواية- بوصفها مقاومة وجودية: قراءة في رؤية ميلان كوندي ...
- شرعنة الرداءة
- -سوناتا الغراب- بين السيرة الذهنية والوهم الروائي: سؤال التج ...


المزيد.....




- مكتبة حدودية تترجِم سياسات ترامب بعدما جسّدت الوحدة الأميركي ...
- ذكريات مقدسية في كتاب -شمسنا لن تغيب-
- ورشة صغيرة بلوس أنجلوس تحفظ ذاكرة نجوم السينما في -القوالب ا ...
- عائدات الموسيقى على -يوتيوب- تبلغ مستوى غير مسبوق وتحقق 8 مل ...
- الرواية غير الرسمية لما يحدث في غزة
- صدور كتاب -أبواب السويداء والجليل- للكاتبتين رانية مرجية وبس ...
- الممثل التجاري الأميركي: المحادثات مع الصين مهدت للقاء بين ت ...
- الممثل التجاري الأميركي: المحادثات مع الصين مهدت للقاء بين ت ...
- هل تصدق ان فيلم الرعب يفيد صحتك؟
- العمود الثامن: لجنة الثقافة البرلمانية ونظرية «المادون»


المزيد.....

- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - السعدية حدو - دراسة سيميائية لفصل -باقلاء الفرات- من كتاب -ذاكرة الأشياء- لاعتقال الطائي: تفكيك أنظمة العلامات في سردية المنفى والذاكرة