هيثم أحمد محمد
الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 09:55
المحور:
الادب والفن
منذ عقودٍ طويلة، تتصدر الدراما المصرية المشهد العربي بثقةٍ واحتراف، بينما لا تزال الدراما العراقية تبحث عن موطئ قدمٍ راسخ في ساحةٍ تتسابق فيها العقول والعدسات والسيناريوهات، مشهدٌ يثير تساؤلات عديدة: كيف استطاعت القاهرة أن تحافظ على مجدها الدرامي عبر العقود، فيما تتعثر بغداد في محاولاتٍ خجولة لا ترقى إلى مستوى تاريخها الثقافي العريق؟
الدراما المصرية: صناعة متكاملة ووعي بالمتلقي
من الصعب الحديث عن الدراما العربية دون أن تتصدر مصر المشهد، فمنذ ستينيات القرن الماضي، كانت الدراما المصرية مرآةً للواقع العربي، ومنبرًا ثقافيًا وفنيًا يُصدر القيم والرؤى والقصص التي شكلت وجدان أجيالٍ كاملة.
فمسلسلات مثل “ليالي الحلمية” و**“رأفت الهجان”** و**“الشهد والدموع”** لم تكن مجرد أعمال تلفزيونية؛ بل كانت دروسًا في كتابة السيناريو، وتشكيل الشخصية، وبناء الحدث الدرامي المتصاعد، وفي الألفية الجديدة، واصلت مصر تألقها بأعمال مثل “الاختيار” و**“جعفر العمدة”** و**“البرنس”** و**“الهرشة السابعة”** التي أظهرت قدرة الصناعة المصرية على التطور تقنيًا وجماليًا دون أن تفقد هويتها.
يكمن سر تميّز الدراما المصرية في كونها صناعة منظمة تمتلك كل عناصر النجاح:
• كتّاب محترفون يفهمون نبض الشارع ويحولونه إلى نص درامي مؤثر.
• مخرجون متمكنون مثل محمد سامي، كاملة أبو ذكري، تامر محسن وغيرهم.
• ممثلون متنوعو الخبرة قادرون على تقمص أدوار معقدة بصدقٍ وإقناع، مثل يحيى الفخراني، نور الشريف، أحمد زكي، عبلة كامل، محمود عبد العزيز وغيرهم.
• شركات إنتاج ضخمة تمتلك الإمكانيات التقنية والمالية والتسويقية لتقديم أعمال تضاهي نظيراتها العالمية.
تُعامل الدراما في مصر كمنتج اقتصادي وثقافي في آنٍ واحد، ما جعلها قادرة على المنافسة داخل الوطن العربي وخارجه، هناك رؤية مؤسساتية واضحة تهدف إلى تصدير الدراما كقوة ناعمة تعكس الوجه الثقافي لمصر.
الدراما العراقية: محاولات جادة ولكن بخطى السلحفاة
على الجانب الآخر، تقف الدراما العراقية عند مفترق طرقٍ صعب، فعلى الرغم من تاريخها الفني الغني منذ عقود السبعينيات والثمانينيات، حين كانت أعمال مثل “ذئاب الليل” و**“الأماني الضالة”** و**“حامض حلو”** تُعدّ علاماتٍ مضيئة في الإنتاج المحلي، إلا أنّها لم تنجح في مواصلة المسيرة بنفس الوهج بعد التغيرات السياسية والاجتماعية التي عصفت بالبلاد.
في العقدين الأخيرين، ظهرت محاولات لإحياء المشهد الدرامي العراقي عبر أعمال مثل “حامض حلو” (النسخة الحديثة) و**“كمامات وطن”** و**“هوى بغداد”**، لكن أغلبها ظل حبيس حدود الإمكانيات المحدودة وغياب الرؤية الإنتاجية المتكاملة،
الدراما العراقية اليوم تُعاني من عدة أزمات بنيوية يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1. ضعف النصوص الدرامية التي كثيرًا ما تعتمد على الكوميديا السطحية أو القصص المكررة الخالية من العمق الدرامي.
2. قلة الاستثمار في الإنتاج الفني، إذ لا تزال الشركات المحلية عاجزة عن توفير ميزانيات تنافسية تضمن جودة الصورة والمونتاج والإخراج.
3. غياب التدريب الأكاديمي للممثلين الشباب، مما يؤدي إلى أداء تمثيلي متكلف يفتقد الإحساس الطبيعي والصدق الفني.
4. انعدام الرؤية التسويقية، إذ تبقى الأعمال العراقية حبيسة السوق المحلي دون أي حضور على المنصات العربية الكبرى مثل “شاهد” أو “نتفليكس” أو حتى القنوات الإقليمية المؤثرة.
إنها دراما تسير بخطى السلحفاة في زمنٍ يتسابق فيه الجميع نحو التطوير الرقمي والابتكار البصري.
الاختلاف في فلسفة الإنتاج والتفكير الفني
في مصر، تُنتج الدراما عبر منظومة مؤسسية متكاملة تبدأ من الكتابة وتنتهي بالتوزيع العالمي، بينما في العراق لا تزال أغلب الإنتاجات تُبنى على الاجتهاد الفردي،
المسلسل المصري عادةً ما يُكتب ويُراجع من قبل لجنة فنية، ثم تُخصص له ميزانية ضخمة، ويُنفذ بجدول زمني مضبوط، أما في العراق، فغالبًا ما تُكتب النصوص وتُصور بسرعة لتُعرض في موسم رمضان فقط، دون عملية تطوير أو مراجعة نقدية جادة.
كذلك، يختلف الوعي الجمالي والبصري بين المدرستين؛ فالإخراج المصري أصبح يعتمد على كاميرات سينمائية حديثة وإضاءة متقنة وتصحيح ألوان احترافي، بينما ما زالت أغلب الأعمال العراقية تُعاني من ضعف في جودة الصورة والمونتاج، ما يفقدها روح الإبهار البصري التي تُعد عنصرًا جوهريًا في نجاح الدراما الحديثة.
الممثل بين الاحتراف والارتجال
يمثل الممثل حجر الزاوية في أي عمل درامي. في مصر، يخضع الممثل لتدريب مستمر ويُقيّم بناءً على قدرته على التطور والتمكن من أدواته. أما في العراق، فالكثير من الوجوه الجديدة تدخل الميدان دون تأهيل كافٍ.
بينما نجد ممثلين مصريين يقدمون أداءً يتراوح بين الواقعية العالية والتجريب الفني، نجد في المقابل أداءً عراقياً متأثراً بالمسرح التقليدي المبالغ في تعبيراته.
هذا لا يعني أن الساحة العراقية خالية من المواهب؛ فهناك ممثلون أثبتوا قدرتهم على حمل الدراما العراقية بأداء صادق وقوي، إلا أن هؤلاء يظلون استثناءات لا ظاهرة عامة.
الإنتاج في خدمة الفكرة أم العكس؟
ما يميز الدراما المصرية هو أن الفكرة تأتي أولًا، ثم تُخدم بميزانية وإخراج وتقنيات عالية، في المقابل، نرى أن الدراما العراقية كثيرًا ما تُنتج أعمالًا فقط لملء الفراغ البرامجي الرمضاني، دون طرح أفكار جديدة أو معالجات جريئة لقضايا المجتمع،
قلة من الأعمال العراقية تجرأت على مناقشة قضايا الهوية والانقسام المجتمعي أو التحديات الاقتصادية، بينما نجد الدراما المصرية تلامس هذه القضايا بجرأة وبراعة في أعمال مثل “الاختيار” و**“القاهرة كابول”** و**“تحت السيطرة”**.
المطلوب: صناعة لا هواية
ما تحتاجه الدراما العراقية اليوم ليس ممثلًا جديدًا أو كاتبًا موهوبًا فقط، بل مشروع وطني لصناعة درامية حقيقية، تدعمها مؤسسات الإنتاج، والأكاديميات الفنية، ووزارات الثقافة والإعلام،
ينبغي تأسيس صندوق وطني لدعم الإنتاج الدرامي، وإطلاق برامج تدريب لصقل المواهب الشابة، وفتح الباب أمام التعاون العربي المشترك، خاصة مع مصر التي تمتلك خبرة طويلة في إدارة الإنتاج الفني.
كما يجب أن يتغير النمط الذهني لصانعي الدراما في العراق، من منطق “الإنجاز الرمضاني” إلى “الاستثمار الثقافي طويل الأمد”، الدراما ليست ترفًا، بل أداة فاعلة في تشكيل الوعي الوطني وصناعة الصورة الذهنية للبلد في الخارج.
خاتمة: ما بين ضوء القاهرة وبطء بغداد
في النهاية، يمكن القول إن الدراما المصرية لم تتفوق صدفة، بل لأنها آمنت بأن الفن صناعة وثقافة ورسالة، أما الدراما العراقية، فلا تزال أسيرة واقعٍ متعثر بين نقص التمويل وضعف الإدارة وفوضى الإنتاج،
ومع ذلك، تبقى بوادر الأمل موجودة؛ فجيل جديد من المخرجين والممثلين العراقيين بدأ يخطو نحو الاحترافية، ويتطلع إلى تجاوز الواقع المحلي نحو آفاقٍ أوسع.
حين يدرك القائمون على الدراما العراقية أن الفن لا يُصنع بالحماسة فقط، بل بالرؤية والاحتراف والإصرار، عندها فقط يمكن لبغداد أن تستعيد مكانتها في المشهد الدرامي العربي وتتحول من خطى السلحفاة إلى قفزاتٍ تليق بتاريخها الحضاري العريق.
#هيثم_أحمد_محمد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟