رشيد عبد الرحمن النجاب
كاتب وباحث
(Rasheed Alnajjab)
الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 04:54
المحور:
الادب والفن
علمت من الصديق د. جهاد حمدان بوجود رواية للكاتب الأردني الأستاذ هاشم غرايبة بعنوان "سنة واحدة تكفي"، ولم يطل بي الوقت حتى كانت الرواية بين يدي، كما لم يطل الوقت حتى أتممت قراءتها، وفي طقوس القراءة أن أمر بالغلاف بوجهيه، والإهداء وغير ذلك من العتبات أو النصوص الموازية كما يفضل البعض تسميتها.
وقد حمل الغلاف اسم المؤلف وصورته وهو يستعرض كتابا ما، إضافة إلى عنوان الكتاب، "سنة واحدة تكفي"، ثم نوع العمل الأدبي "سيرة ذاتية"، وفي صفحة الغلاف الثانية تقديم بقلم د. صلاح خصاونة يليه تعريف بالكاتب متضمنا أهم أعماله أو جلها.
ما أثار اهتمامي في هذه الجزئية بالذات هو غياب روايته الموسومة ب "القط الذي علمني الطيران" من بين أسماء أعماله المدرجة! ترى هل سقط هذا سهوا؟ وبقي ذلك السؤال يراوح في المكان مع تتابع تفاصيل السيرة وتشابهها مع رواية "القط الذي علمني الطيران" لا بل اشتباكها حد التقاطع لأكتشف أنها كتاب واحد بعنوانين؟!! وإن عرف الكتاب الجديد على أنه سيرة ذاتية وأبقى على القديم بصفته رواية، سؤال يبقى بحاجة لجواب.
حمل الفصل الأول من السيرة عنوان:" صعود الجلجلة" في إشارة إلى المكان الذي صلب فيه السيد المسيح، فأي دلالات أراد الكاتب تضمينها في عنوان هذا الفصل؟! وفي هذا الحدث التاريخي ما فيه من دلالات الفداء والتضحية دون أن يغيب عن بال القارئ فعل الغدر والوشاية وتأثيرهما.
"ميري منكي جمنا هتف عساف ملوحا بيديه"ص5، ومطلع أغنية شهيرة من فيلم "سنجام" الالسجن .ة الذي ذاع صيته في ستينيات القرن العشرين، لم يكن عساف مرحبا بهاشم بدافع شراكة العمل السياسي أو إكراما لتجارب النضال المشترك، بل هي رابطة الدم والقرابة، وربما ذكريات صبيانية قديمة ربطت الكاتب "هاشم" مع ابن عمه "عساف" الذي ربما أعاقته علة في لفظ حرف الراء ما بين "ياء" و "غين" ولكنها لم تعقه أبدا عن فنون النصب الذي لم يبدأ بسرقة حمار من على البيادر حملهما إلى إربد، ثم تخلى عنه عساف في صفقة غذاء للنمور في السيرك مقابل تذكرتين لحضور السيرك له ولهاشم، ولم تنته باستغلال اسم عم الباشا في واحدة من عملياته مرورا بعديد المغامرات ثم كان مآله السجن .
عساف هذا واحد من عشرات المساجين بتهم جزائية، والذين أمضى "هاشم" بينهم ما يقارب السنة قبل أن ينتقل إلى سجن آخر، كلهم سجناء سرقة وقتل واغتصاب وما شابه، ناهيك عن "نزلاء أفندية" مترفين يقيمون في جزء من السجن اسمه "الدار البيضاء" وتهم بالرشوة والتزوير والاختلاس إلى غير ذلك مما يليق ببعض الموظفين من ذوي الرتب المتقدمة.
ولعل هذا المشهد يقودنا إلى الظرف العام الذي وجد الكاتب نفسه فيه متهما بالشيوعية، وكان "هاشم" هو المعتقل السياسي الوحيد،
ولعل في المشهد التالي مزيدا من إضاءة على وجود سجين شيوعي بين اللصوص فقد التقى شرطيان في أحد ممرات السجن وكان كل منهما بصحبة سجين ودار بينهما هذا الحوار: ص 14
- مرحبا حيدر
- أهلا يونس
- ويسأله عن سيجارة ثم يتبادلان السؤال المعتاد "عن السجين المرافق"
- لص؟
- لا قاتل وسجينك؟
- شيوعي
- عوذا
"أشاح يونس جانبا، ومال بجذعه الطويل مثل صندوق العجب وتفل في عبه ثلاثا "، إلى هذا الدرك عبث الإعلام المضلل بسمعة الشيوعيين، ولم يدرك يونس وغيره أن هذا المتهم وأمثاله هم أول من يدافع عن قضاياهم، وأن مرجعياته الأخلاقية تسمو عاليا فوق كل ما يشاع.
وبالرغم من صموده أمام محاولات مدير السجن "الحج ملقي" الذي حاول عبثا إقناعه بتوقيع كتاب الاستنكار، الأمر الذي أفضى به إلى السجن محكوما بعشر سنوات سجن، إلا إن هاشم عاد ليخط هذه الوثيقة بيده ويحتفظ بها، وقد راودته فكرة تقديمها مرارا، وربما ساعدت السطور التالية في الدلالة على الأفكار التي ظلت تتنازعه
يبدأ هاشم بالمقارنة بين ما خارج السجن وداخله فيقول في ص34 "لسر ما كان لكل باب رائحته، غابت بوابة الياسمين وحضرت بوابة العطن شعرت بعتبة باب السجن كأنها عتبة بين عالمين"
وهو إذ ينتقل إلى هذا العالم يتردد في ذهنه ما يقوله ويمضي في تقييمه في هذا الحوار الداخلي: "يقولون في حوارة: هاشم مفتاح سجنه بيده، أي وقت بده يطلع من السجن يستنكر ويطلع. رأسمالها يكتب ورقة..."
- ورقة؟ ما أثقل هذه!
- أهذا هو المفتاح؟
ثم يتابع حواره الداخلي؛ "المفاتيح في السجن ليست مفاتيح، بل مغاليق تخشخش هنا ليل نهار لتذكر السجين بأنه سجين. ومفتاح فَرجي ورقة تذكرني دائما بأني حر. ما أصعب هذا؟"
وبالرغم من علاقاته الطيبة مع معظم السجناء إلا إنه ظل يشعر بنوع من الغربة كونه السجين السياسي الوحيد، وقد عبر عن ذلك عندما تقرر نقله إلى سجن المحطة إثر ثورته ضد مدير السجن الجديد "عطالله" ويتساءل في ص 159: "سجن المحطة أوسع وفيه قسم خاص بالمعتقلين السياسيين وفيه ملاعب" ويستمع بقدر من التجاهل لتهكم السجين الملقب "الختيار" إذ يقول السجن سجن ولو كان في الريفيرا يا رفيق
لكن الرفيق كان حقا يبحث عن الرفاق، فقد نما في وجدانه أن تجمع الرفاق في الجفر كان حصنا ضد الضعف وضد المفتاح الذي صاغ نصه وخبأه برسم الاستخدام. هل كان لورقة الاستنكار علاقة بعنوان هذا الكتاب ولأي شيء يشير فعل الكفاية في العنوان؟
وبالرغم من ظروف السجن، والمبيت في القبو أحيانا والمشاحنات والتحديات مع إدارة السجن، والسكنى فيما سمي "الدار البيضاء" مع المرفهين في ظل تنافر متبادل، إلا إن السرد لم يخل من "ساعات فجاج" تتخلل زرقة السماء فيها بعض الغيوم وربما تشرق الشمس فيفرح بها كما فرح بها المناضل التركي ناظم حكمت ووثقها شعرا.
ولكن تبدو فرحة الرفيق هاشم ناقصة فيقول في صفحة 45: "بالشمس وزرقة السماء فيقول في صفحة 45: "قطعة السماء الصغيرة المعلقة فوق السجن مشرّمة الحواف، منفصمه عن مساحات السماء الرحبة، لا ليست هذه القطعة من السماء العامة إنها قطعة غير متقنة في عباءة المدينة الواسعة"
يبدو السرد برغم الأجواء القاتمة سلسا يتمتع بقدر جيد من الجاذبية، تزينه الأمثال الشعبية أحيانا، ولا تغيب عنه بعض ملامح الفكاهة والسخرية، ناهيك عن استخدام الشعر أحيانا سيما في معرض الحديث عن حبيبته التي باتت تزوره بانتظام لا بل انتظمت في العمل حزبه. ولم يخل السرد برغم المعاناة من شذرات شعرية.
أما الياسمين فكان الحب والشوق والانتماء، وكان الروح المعنوية العالية التي تزدهر سيما مع زيارات مها، وكان طوق النجاة:
"تفوح رائحة الياسمين ببساطتها المذهلة، ويحضر طيف أمي بجدائلها الخصبة المدلاة كحبل نجاة"
ويستعين بالياسمين عندما خطر بباله ذات مساء أن يقدم الورقة:
"هل أخذل غصن الياسمين؟"
"هل أخذل أختي التي يفاخر بي بلا هوادة؟"
لقد كان غصن الياسمين حبل النجاة.
#رشيد_عبد_الرحمن_النجاب (هاشتاغ)
Rasheed_Alnajjab#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟