|
شعار الدولة الاجتماعية بين المقتضيات الموضوعية و زيف الدعاية الشعبوية
محمد الحباسي
الحوار المتمدن-العدد: 8485 - 2025 / 10 / 4 - 18:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الإطار العام لا يكاد يمر ظهور إعلامي للرىيس التونسي قيس سعيد دون أن يؤكد فيه على دوره بوصفه الضامن للدولة الاجتماعية، وهو شعار يكرره باستمرار في سياق سعيه لتبرير سياساته و توسيع سلطاته. ويتطلب الوقوف على حقيقة هذا الادعاء، النظر في تطور النماذج التنموية في الدولة الليبرالية الحديثة و الصيغ التنموية المتبعة في تونس منذ عام 1956 وسنتعرض أيضا إلى مقتضيات الدولة الاجتماعية كما شرحتها مكونات الاقتصاد السياسي ذات الصلة بالوضع لننتقل بعد ذلك إلى تحليل زيف الشعارات التي يرفعها سعيد والتي تدعو إلى التمسك بهذه المفاهيم دون أن تتجسد عمليًا على أرض الواقع. الشعبوية لا تمتلك مشروعا اقتصاديا متسقا و متكاملا بل تستحضر عدة شعارات من تيارات فكرية و سياسية مختلفة و متباينة، وهو ما يعزز قدرتها على استيعاب و مغازلة جمهور واسع و متنوع. و من بين الشعارات التي يؤثث بها الشعبوي التونسي قيس سعيد خطابه هو شعار الديمقراطية الشعبية، وهو ما سنحاول التوقف على مدى مصداقيته من خلال تناول علمي لكلّ الموضوعات ذات الصلة بهذا الشعار. تطور النماذج التنموية في الدولة الليبرالية تُعدّ الدولة الحديثة نتاجًا لتطور تاريخي طويل ارتبط بتحولات اقتصادية، اجتماعية و فكرية عميقة. الدولة ليست مؤسسة محايدة بل هي تجسيد لخيارات و مصالح طبقية، وهو تعريف ينطبق على الدولة البرجوازية التي تركزت دعائمها بشكل نهائي و واضح منذ القرن السادس عشر. إلاّ أنّ الصراع الطبقي و نضال الطبقة العاملة و التطورات الاجتماعية و الاقتصادية، أثرت على أدوار الدولة الليبرالية. وقد تجلّى هذا التطور في أشكال مختلفة من الدولة بحسب طبيعة وظائفها و دورها في المجتمع و الاقتصاد. وقد عرف تطبيق النموذج الليبرالي للدولة ثلاث صيغ متعاقبة: الدولة الليبرالية الحارسة، الدولة المتدخلة والدولة المعدلة. ففي البداية، برز نموذج الدولة الليبرالية الحارسة في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر مع صعود الفكر الليبرالي الكلاسيكي القائم على تمجيد الحرية الفردية و اعتبار السوق أداة التنظيم الأساسية للحياة الاقتصادية حيث أنّ تبني هذا التصور في طور البرجوازية التنافسية و الصاعدة. ويعد آدم سميث و ريكاردو و جون باتيست ساي و ستيوارت ميل من أبرز المدافعين عنه. الدولة هنا لا تتدخل إلا في أضيق الحدود، إذ يقتصر دورها على حفظ الأمن الداخلي و الخارجي، ضمان احترام القوانين و حماية الملكية الخاصة. هي دولة "الحارس الليلي" التي تكتفي بمراقبة المشهد دون التدخل في تفاصيله. هذا التصور كان انعكاسًا لإيمان عميق بقدرة السوق على تحقيق التوازن الذاتي وفق آليات العرض والطلب (اليد الخفية) و لخوف من أن يؤدي تدخل الدولة إلى تهديد الحريات الفردية. لكن مع تعمّق التناقضات الاجتماعية و تفاقم الأزمات الاقتصادية، خاصّة مع أزمة الكساد الكبير في 1929، ظهر نموذج جديد هو الدولة المتدخلة أو دولة الرفاه. فقد بات واضحًا أنّ السوق لا يمتلك دائمًا القدرة على تصحيح اختلالاته ذاتيًا و أنّ غياب تدخل الدولة قد يؤدي إلى انهيارات كبرى. يستند هذا النموذج على التصور الكينزي الذي نقد أفكار سميث و اعتبر أنّ تدخل الدولة ضروري لضمان تطور منسجم، متوازن و دائم. الدولة يجب أن توظف استثمارات و تساهم بالتالي في خلق عرض لتحقيق التوازن المنشود بين العرض و الطلب كما أن التحسين في القدرة الشرائية و الرفع في الأجور و تخفيض الضرائب و تقديم جملة من الخدمات للمواطنين على قدم من المساواة كلّها عناصر تساهم في تحقيق التوازن بين العرض و الطلب و تحقق التشغيل الشامل هنا بدأ دور الدولة يتسع ليشمل مجالات متعددة: من التخطيط الاقتصادي، توجيه الاستثمارات وضمان الخدمات الاجتماعية إلى وضع سياسات تهدف إلى تحقيق العدالة و تقليص الفوارق الطبقية. وقد عرف هذا النموذج تطبيقات مختلفة كان أبرزها النموذج الفرنسي من خلال نموذج المرفق العام كما طبقته بقية الدول العربية وكان بصيغة أقل راديكالية إثر الحرب العالمية الثانية و حتى أواخر السبعينات. ومن بين الأسباب المفسرة لاعتماد هذا النموذج، هو نضالات العمال و الفئات المستغلة من أجل تحسين أوضاعهم المهنية أضف إلى ذلك تخوف الدول الرأسمالية من أن تحذو الطبقة العاملة في هذه الدول حذو نظيرتها في الاتحاد السوفيتي فتفتك السلطة و تؤسس لنموذج جديد. فوجدت هذه الدولة نفسها مكرهة على تقديم تنازلات لصالح الطبقة العاملة و بقية الفئات الشعبية. ومع مرور الزمن، وبروز تحديات جديدة مثل العولمة و الأزمات المالية و تراجع دولة الرفاه، تطور النقاش نحو صيغة أكثر مرونة عُرفت بـ الدولة المعدلة. و هذه الصيغة الجديدة لا تمثل عودة إلى الصرامة الليبرالية الأولى و لا تستمر في التدخل الشامل للدولة الكينزية، بل تحاول إيجاد توازن بين الحرية الفردية و الحماية الاجتماعية. الدولة المعدلة تؤدي دورًا "منظِّمًا" أكثر من كونها متدخلة بشكل مباشر. فهي تضع القواعد، تراقب الأسواق و تعمل على تصحيح الانحرافات دون أن تحل محل المبادرة الخاصة. إنّها دولة تُعترف بدور السوق في خلق الثروة و لكنها ترفض أن يُترك الأفراد لمصيرهم في مواجهة قوى اقتصادية جامحة وغير عادلة. إنّ الدولة هي جهاز محايد حيث دوره يقتصر على الحفاظ على التوازنات الاقتصادية الكبرى و التداخل لتحقيق وطأة العولمة خاصة على الفئات الهشة و محدودية الدخل و تمثل مدرسة شيكاغو الاقتصادية و ميلتون فريدمان الإطار النظري لهذا التيار. لقد تعرض الدور التدخلي للدولة إلى انتقادات كبيرة خاصة من رواد الليبرالية على غرار فريدريك هاياك الذي ألف كتاب حول عودة العبودية من خلال الدولة المتدخلة التي ترمز إلى عودة عهد التسلط وتعطيل السير الطبيعي لقانون السوق. تناول الفكر الليبرالي اتجاهان: هناك من يرى أن الدولة المعدلة هي عودة صريحة لنموذج الدولة الليبرالية القديمة ولذلك يسمى هذا النموذج بالنيوليبرالية وهناك اتجاه ثان يعتقد أن النموذج الحالي هو نموذج فريد فالأمر لا يتعلق بتخلي كلّي للدولة عن أدوارها لتتحول إلى دولة الحد الأدنى بل بإعادة تعريف أدوار الدولة لتتحول من فاعل رئيسي أو فاعل من فاعلين كثر داخليين و خارجين وهو ما يفرض عليها الالتزام بالحياد، فتكون بمثابة قائد أوركسترا لا يتدخل كثيرا و لكنه قادر على ضبط التطور العام بشكل متناسق و بشكل عادل و مستدام مما يتطلب حماية الفئات الهشة و محدودي الدخل. و تتوفر الدولة في طرازها المستحدث على عدّة آليات للتعديل في كلّ القطاعات (الهيئات التعديلية). كما تعتمد على قانون مرن هو نتاج لمسار تشاركي . إنّ الانتقال من الدولة الليبرالية الحارسة إلى الدولة المتدخلة ثم الدولة المعدلة يعكس مسارًا تاريخيًا في البحث عن الصيغة الأمثل لتحقيق التوازن بين الحرية والعدالة، وبين الكفاءة الاقتصادية و الانسجام الاجتماعي. فكلّ نموذج جاء ليعالج حدود النموذج السابق، في سياق تطورات ظرفية و فكرية. أمّا من وجهة نظر ماركسية فان فشل التجارب الاشتراكية الأولى أفضل إلى عودة النموذج الليبرالي و إعادة هيمنة البرجوازية وما تم الحفاظ عليه من مكاسب فهو يرجع إلى مقاومة الطبقة العاملة و نضالها من أجل الإبقاء على تلك المكاسب التي ظلت دائما محكومة بموازين القوى. فماذا عن النموذج التونسي؟ النماذج التنموية في تونس عرفت تونس بعد الاستقلال ثلاث تجارب تنموية كبرى عكست اختيارات دولة البرجوازية في ظلّ التحولات الاجتماعية و السياسية الداخلية و التوازنات الاقتصادية و الجيوستراتيجية الخارجية. 1. رأسمالية الدولة (الستينات) إعتمدت سياسات الحزب الدستوري الاشتراكي، الذي حكم البلاد عبر جبهة تضم كلّ المنظمات الوطنية بعد إلحاقها قسرا بحزب الدستور، على دور الدولة المركزي في قيادة الاقتصاد. تم إنشاء الأقطاب الصناعية الكبرى (الصناعات الثقيلة، النسيج، الأسمدة،...)، و نظام التعاضد في الفلاحة و التجارة و الخدمات، وهو برنامج مستلهم من البرنامج الاقتصادي و الاجتماعي للاتحاد العام التونسي للشغل الذي عهد لأمينه العام السابق بتطبيقه بعد أن أصبح وزيرا أولا و يباشر كلّ الوزارات الاقتصادية في البلاد. أمّا خارجيا فقد تأثرت السلطة الحاكمة وخاصة العناصر ذات الميول اليسارية فيها والقادمة من المجال النقابي والاتحاد العام التونسي للشغل بالنماذج الاشتراكية والتخطيط المركزي (في الاتحاد السوفياتي، مصر الناصرية، يوغسلافيا وحتّى فرنسا مع التخطيط الخماسي). كما لقي هذا الخيار دعما من الولايات المتحدة الأمريكية خاصة في ظل ضعف الرأسمال المحلي و ضرورة تدخل الدولة لتحقيق التراكم الرأسمالي الأولي. وتجسد هذا الخيار من خلال هيمنة الدولة على وسائل الإنتاج و الاستثمار و اعتماد التعاضد كصيغة لتنظيم الفلاحة و الخدمات و اعتماد التخطيط الخماسي لتوجيه الموارد و الخيارات الاقتصادية. وهو ما مكن من إنشاء أقطاب صناعية كبرى (صناعة الفوسفات، الطاقة، النسيج). علاوة على تنظيم التعاونيات الفلاحية وتأميمها تدريجيًا. كما تم تأميم بعض المؤسسات الاستعمارية القديمة. ورغم كلّ المكاسب التي حققتها هذه التجربة، فقد آلت إلى الفشل و يعود ذلك إلى الطابع القسري و الفوقي و البيروقراطي للإجراءات المتبعة وما خلفه ذلك من مقاومة اجتماعية خاصة من الفلاحين الصغار الذين رفضوا التعاضد باعتباره استثنى كبار الملايين العقارين و اقتصر عليهم. أضف إلى ذلك غياب الانسجام داخل الحزب الدستوري بين مؤيدين ومعارضين للتجربة و عجز الدولة عن ضمان تمويل دائم للمشاريع. وقد انتهت التجربة بانهيار مشروع التعاضد (1969) و إبعاد أحمد بن صالح. 2. الانفتاح الاقتصادي و تعايش القطاعات الثلاثة (السبعينات – الثمانينات) على إثر أزمة تجربة الستينات وما خلفته من إحباط اقتصادي و اجتماعي. اتجه النظام البورقيبي إلى اعتماد الخيار الليبرالي عبر سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تقوم على تعايش ثلاثة قطاعات وهي القطاع العام، الخاص و المختلط. وقد تزامن ذلك خارجيا مع بداية انفتاح أوروبا الغربية على الضفة الجنوبية للمتوسط، خاصة عبر اتفاقية 1976 مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية ومع الأزمة النفطية (1973) التي منحت تونس موارد إضافية عبر تحويلات العمال في الخارج و الاستثمارات النفطية. كما ازدادت في السياق العربي وتيرة تشجيع المؤسسات الدولية على التجارب الليبرالية المعتدلة. وقد ركزت هذه التجربة على الاستثمار الخاص و جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة خاصة في النسيج و السياحة (قانون 1972) مع الحفاظ على الدور الاجتماعي للدولة (دعم المواد الأساسية، الخدمات العمومية). وشهدت هذه الفترة إنشاء مناطق صناعية موجهة للتصدير و توسع قطاع السياحة و الفلاحة الموجهة للتصدير. وقد ركزت حكومة الهادي نويرة على تطوير البنية التحتية في المدن الساحلية. وسرعان ما بين هذا التوجه حدوده حيث تفاقم التفاوت الجهوي (الساحل مقابل الداخل) وتبين عدم استدامة التنمية و ضيق أفق هذا التمشي ويرجع ذلك خاصة إلى هشاشة القطاعات المصدرة التي تعتمد على اليد العاملة الرخيصة. كما تعمقت أزمة المديونية وافضى تدهور الأوضاع المعيشية إلى أزمات اجتماعية متتالية، كانت ابرزها أزمة 1978 و القطيعة بين حزب الدستور و الاتحاد العام التونسي للشغل. 3. الخصخصة و التكيف مع العولمة (التسعينات – العقد الأولمن الألفية الحالية( في منتصف الثمانينات، دخلت تونس أزمة مالية خانقة بسبب تراكم العجز و المديونية. فُرضت عليها اللجوء إلى صندوق النقد الدولي و البنك العالمي ممّا أدى إلى تبني برنامج الإصلاح الهيكلي سنة 1986. هذا النموذج ارتكز على الليبرالية الاقتصادية: تحرير السوق، تقليص دور الدولة و الاندماج في الاقتصاد العالمي. وقد شرعت تونس إثر ذلك في تنفيذ برنامج واسع للخصخصة شمل مؤسسات عمومية عديدة وتخلت عن جزء كبير من الدعم عبر تحرير الأسعار تدريجيًا وتقليص منظومة الدعم. وتأكد هذا التوجه خاصة بتوقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995 و الانخراط في العولمة. رغم نجاحه في استعادة التوازنات المالية ولو بصفة مؤقتة و تحقيق نسب نمو مرتفعة نسبيا جراء عائدات الخصخصة، إلا أنّ هذا النموذج كشف عن إخلالات هيكلية على غرار تفاقم البطالة خصوصًا لدى الشباب و حاملي الشهادات و تعمّقت التفاوتات الجهوية نتيجة تمركز الاستثمارات في الساحل و العاصمة. كما تأكدت هشاشة الاقتصاد لاعتماده على قطاعات غير مستدامة مثل النسيج و السياحة. هذه الأوضاع ساهمت في تغذية الاحتقان الاجتماعي و السياسي الذي فجّر ثورة 2011. وبالمحصلة فإن النماذج التنموية في تونس تراوحت بين الدور المركزي للدولة (الستينات)، الليبرالية المعتدلة (السبعينات والثمانينات) و الاندماج في العولمة (التسعينات). لكنها جميعًا لم تحلّ المعضلات الكبرى باعتبارها لم تخرج عن نموذج دولة البرجوازية التابعة التي تجسد انخراط تونس في التوزيع العالمي للعمل بشكل يخدم مصالح المراكز الإمبريالية و الأقلية المحلية المرتبطة بها على حساب أغلبية الشعب فكان أن افضى تطبيق هذا النموذج إلى إخلالات هيكلية و بنيوية سماتها الرئيسية تتمثل في: ● اقتصاد هش غير منتج للثروة و بشكل مجرد اقتصاد مناولة لحساب اقتصاد دول المركز ● التفاوت الجهوي ● التبعية للخارج ● هشاشة التشغيل ● غياب العدالة الاجتماعية وفي فترة ما بعد الثورة ورغم تغير النظام السياسي و إضفاء جرعة أو مسحة ديمقراطية عليه والتحول الهام الذي طرأ على شكل السلطة، فإنّ مضمون الدولة و جوهرها و التوجهات التنموية و الخيارات الاقتصادية و الاجتماعية لم تتغير وهو ما خلف حالة من الإحباط و فقدان الأمل والثقة لدى التونسيين و الذين ازدادت أوضاعهم الاجتماعية تدهورا و خابت أمالهم و تطلعاتهم في التغيير وأصبح عددا كبيرا من التونسيات و التونسيين يكن النقمة و العداء للثورة و النخب السياسية التي برزت على مسرح الأحداث عقب 2011. استغل الشعبوي قيس سعيد هذا الوضع و تبنى خطابا ثورجيا، فقدم نفسه في هيئة المنقذ من ظلال القوم عن سبيل الثورة القادم من خارج السيستام و القائد المنتظر المبشر بالعدالة الاجتماعية الذي سيطهر البلاد من الفساد و من النخب الفاسدة و كان أحد المكونات الفارة لخطابه السياسي هو شعار الدولة الاجتماعية. فهل التزم حقا بهذا الشعار؟ الدولة الاجتماعية: مقوماتها و ممارساتها نموذج الدولة الاجتماعية هو منوال تنموي متأثر بالتصور الكينزي للاقتصاد. ولئن تراجع هذا الطراز تحت ضغط العولمة و النيوليبرالية، فإنّ الكثير من الدول تتمسك بدور فعال للدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية و إعادة توزيع الثروة بشكل عادل و اختارت العديد منها الارتقاء بهذا الالتزام إلى درجة المبدأ الدستوري فالدستور الألماني لسنة 1949 ينصّ في المادة 20 على أنّ "جمهورية ألمانيا الاتحادية دولة ديمقراطية اجتماعية اتحادية"، ما يعني التزامها بمبدأ العدالة الاجتماعية والضمانات الاجتماعية أمّا دستور إسبانيا لسنة 1978 فيحدد هوية إسبانيا باعتبارها "دولة اجتماعية وديمقراطية قائمة على القانون" (المادة 1). وفي البرازيل، فإنّ دستور 1988 ينص في مادته الأولى على أنّ البرازيل "دولة ديمقراطية اجتماعية" ويقرّ بالتزامات واسعة في مجالات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي. وتعتبر الدول الاسكندينافية (السويد، النرويج، الدنمارك، فنلندا، أيسلندا) النموذج الأبرز لما يُعرف بـ الدولة الاجتماعية (État social / Welfare State)، حيث تبلور فيها مفهوم متقدّم للدولة الضامنة للحقوق الاجتماعية و الاقتصادية إلى جانب الحقوق السياسية و المدنية. تقوم الدولة الاجتماعية على منظومة متكاملة من المقومات الهيكلية و الفكرية، التي تضمن تحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية بشكل متوازن و عادل. وفيما يلي، عرض لهذه المقومات ضمن إطار منهجي يعكس وظائفها و أدوات تطبيقها: 1. التخطيط الاستراتيجي والتوجيه الرؤيوي الهدف: تقوم الدولة الاجتماعية على امتلاك رؤية واضحة و طويلة المدى لمستقبل المجتمع مع تحديد الأهداف الكبرى التي تُترجم إلى مشاريع وطنية و خطط شاملة قطاعية قابلة للتنفيذ. الأدوات: برامج و خطط و سياسات عمومية و قطاعية مدروسة تعكس الأولويات الوطنية و تستجيب للحاجات الفعلية للمواطنين. الأثر: يمكن من خلال التخطيط المنتظم إنتاج التنمية بشكل متدرج و ضمان توزيع عادل لثمارها على جميع فئات المجتمع، بمّا يقلل الفوارق و يعزز العدالة الاجتماعية. 2. الدور الاستثماري للدولة الهدف: تتحمل الدولة مسؤولية استثمار الموارد العامة لتعزيز التنمية الاقتصادية و البنية التحتية. الأدوات: زيادة حجم الميزانية العامة، رفع مستوى الاستثمار العمومي، دعم القطاعات الإنتاجية و تشجيع الاستثمارات الاستراتيجية التي تعود بالنفع على المجتمع ككلّ. الأثر: يساهم الدور الاستثماري الفعال في خلق فرص عمل، رفع مستوى الدخل القومي وتحفيز الابتكار ممّا يعزز استقلالية الدولة الاقتصادية و قدرتها على خدمة المواطنين. 3. المرافق و الخدمات العامة الهدف: توفير خدمات عامة متطورة تلبي حاجات المواطنين و تضمن جودة حياتهم. الأدوات: تطوير البنية التحتية، التعليم، الصحة، النقل، الاتصالات والخدمات الرقمية، مع تبني معايير حديثة و إدارة كفءٍ للموارد. الأثر: يسهم في تقليص الفوارق بين المناطق و الفئات الاجتماعية و يعزز شعور المواطن بالعدالة و الانتماء. 4. حماية الطرف الأضعف الهدف: حماية الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية للأفراد و الفئات الضعيفة في المجتمع، لا سيما العمال والفئات الهشة. الأدوات: سن قوانين وتشريعات عمالية، ضمان اجتماعي شامل، مؤسسات رقابية و إجراءات حماية قانونية تمكن من تحقيق توازن القوى في العلاقات المهنية. الأثر: يضمن تعزيز الكرامة الإنسانية، يمنع الاستغلال و يؤسس لبيئة عمل عادلة ومستقرة. 5. التوزيع العادل للثروة الهدف: الحد من الفوارق الاقتصادية و الاجتماعية و تحقيق العدالة في توزيع الموارد. الأدوات: سياسات دخل متقارب، عدالة ضريبية و ضرائب تصاعدية، دعم مباشر للفئات المحتاجة و برامج تحويلية لتحسين مستوى المعيشة. الأثر: يؤدي إلى مجتمع أكثر تماسكًا يقل فيه الاحتقان الاجتماعي و يزيد فيه شعور المواطن بالمساواة و الانتماء. 6. المشاركة التشاركية في اتخاذ القرار الهدف: تعزيز الديمقراطية التشاركية لضمان أن تكون القرارات الهامة ممثلة لمصالح كافة الفاعلين. الأدوات: حوار مستمر مع الأطراف السياسية و الاجتماعية و المدنية، مجالس تشاركية، مؤسسات استشارية واستراتيجيات إشراك المواطنين في رسم السياسات العامة مع مأسسة الحوار الاجتماعي و دسترته ( ألمانيا). الأثر: يعزز الشرعية الديمقراطية، يخلق مساحة للمساءلة و المراقبة و يضمن تنفيذ السياسات بمّا يخدم الصالح العام. تؤكد الدولة الاجتماعية من خلال هذه المقومات على أن التنمية المستدامة و العدالة الاجتماعية ليستا مجرد شعارات، بل نتاج رؤية متكاملة تستند إلى التخطيط الفعال، الاستثمار الذكي، حماية الفئات الضعيفة، توزيع الثروة بشكل عادل و إشراك المجتمع في صناعة القرار. كلّ هذه العناصر تعمل معًا لتشكيل منظومة متكاملة تجعل الدولة قادرة على الاستجابة لحاجات مواطنيها وتعزيز رفاههم العام. فإلى أي مدى تستجيب حصيلة حكم قيس سعيد لهذه المقتضيات؟ بخصوص التخطيط الاستراتيجي والرؤيوي يفتقد قيس سعيد لأحدى أهم لوازم الدولة الاجتماعية فالرجل لم يتقدم بأي مشروع أو رؤية وهو الذي صرح في اكثر من مرة بعظمة لسانه أنّه لا يمتلك برنامجا أو وعودا انتخابية أو سياسية. وبالنظر إلى افتقاده لمشروع، فقد ركب قيس سعيد قطار التسيير العادي للدولة الذي لم يتغير وهو تسيير تشرف عليه الأجهزة الإدارية و البيروقراطية وفق أطر موروثة ويتجلى من خلال مخططات التنمية وبذلك يتم الإعداد للمخطط الخماسي 2026/2030. ولئن يعطي هذا المسار انطباعا بتشريك المجالس المحلية والجهوية ومجالس الأقاليم في إعداد هذا المخطط (جلسة عمل نظمتها 279 مجلسًا محليًا، إضافة إلى 154 اجتماعًا للمجالس الجهوية و 12 اجتماعًا لمجالس الأقاليم، وقد تمّ اقتراح حوالي 35,435 مشروعًا، نحو 90.6٪ منها مشاريع محلية صرفة)، فإنّ نظرة بسيطة على طبيعة هذه المجالس التي بني انتخابها على باطل وهي التي كانت ثمرة مسار انقلابي وبنسب مشاركة ضعيفة فإنّ أداءها ظلّ محدودا و هي تفتقد للرؤى السياسية البديلة و فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه . لا توجد دلائل واضحة على أن هذه الاجتماعات ساهمت في تحديد أولويات وطنية واضحة تُغير من المعادلات القائمة أو تعكس إعادة توزيع حقيقي للسلطة. من الممكن أن تكون المجالس المحلية مجرّد غرف و أجهزة لتلقي التوجيهات من سلطة الأمر الواقع و دون القدرة على التأثير الاستراتيجي في التوجيه الأساسي للدولة. كما أنّ هذه المشاريع و المقترحات سينتهي مآلها إلى ما يشبه مآل مشاريع الدستور التي أعدتها لجنة عينها الحاكم بأمره ليتنكر لها لا حقا و يقر دستورا أعده بنفسه و لنفسه. وقياسا على ذلك، فإنّ الأمر سينتهي إلى عملية فلكلورية و شكلية و سيتم اعتماد الرؤية و التصور التقني المنسجم مع الخيارات القديمة التي تربت عليها الأجهزة البيروقراطية للدولة. الدور الاستثماري للدولة من خلال قراءة تطوّر ميزانيات الدولة في تونس، يتبيّن أنّ عهد قيس سعيّد لم يشهد أي تحوّل بنيوي في منطق صياغة الميزانية مقارنة بالأنماط السابقة. إنّ العنصر المشترك بينها هو محدودية التمويلات المخصصة للتنمية و استحواذ نفقات التصرف و نفقات خدمة الدين العمومي بالنصيب الأكبر من ميزانية الدولة فقد ظلّت اعتمادات التنمية محدودة لا تتجاوز في المعدّل 6 مليارات دينار (أي حوالي 15% فقط من مجمل الميزانية). في ميزانية 2025، بلغت نفقات التنمية 6.2 مليار دينار من أصل ميزانية إجمالية تناهز 82.9 مليار دينار، أي بنسبة لا تتجاوز 7.5%. في حين بلغت ميزانية التصرف حوالي 40 بالمائة و 30 بالمائة من النفقات تذهب لتغطية نفقات خدمة الدين العمومي. وفي ظلّ انكماش الاستثمار الخاص و عدم قدرته على تحريك رافعات الإنتاج و خلق دينامكية اقتصادية لأن هذه النسبة المتواضعة المخصصة للاستثمار العمومي ستبقي الاقتصاد التونسي هشا وبعيدا عن خلق الثروة . المرافق العمومية تعتبر المرافق العمومية من أبرز ملامح الدولة الحديثة و قدرتها على ضمان خدمات أساسية متكافئة في الصحة و التعليم و النقل. غير أنّ تونس، في عهد قيس سعيّد، تشهد تدهورًا متسارعًا في هذه المرافق، نتيجة غياب رؤية إصلاحية واضحة وانكماش الاستثمار العمومي. ففي القطاع الصحي، أضحت المستشفيات العمومية عاجزة عن توفير الأدوية الأساسية نتيجة ديون الصيدلية المركزية، فيما يواصل الأطباء هجرتهم بمعدل يقارب 1200 طبيب سنويًا، تاركين فراغًا متزايدًا في الجهات الداخلية. وعلى مستوى النقل العمومي، أكثر من 60% من أسطول الحافلات خارج الخدمة و المترو الخفيف بالعاصمة يشكو أعطالًا متكرّرة، ممّا حوّل التنقل اليومي إلى معاناة جماعية. أمّا التعليم العمومي، فالاكتظاظ وصل إلى أقسام تضم أكثر من 45 تلميذًا، مع بنية تحتية متداعية في أكثر من 3000 مؤسسة تربوية وقد عاش التونسيين على فاجعة المزونة المؤلمة وتتواصل مآسي أحداث سقوط جدران المدارس و أسيجتها بشكل مستمر في كلّ مكان من تراب الوطن أمام عجز المنظومة الحاكمة. وهو ما يفسر ارتفاع نسبة الانقطاع عن التمدرس (100 ألف تلميذ سنويا) و تراجع الثقة في السلم الاجتماعي و المدرسة العمومية كمنظومة قييمية. إنّ فشل السلطة في إصلاح هذه القطاعات الحيوية لا يعبّر فقط عن أزمة مالية بل عن أزمة في تصوّر دور الدولة ذاته: من دولة راعية للمصلحة العامة إلى دولة مسيّرة للأجور و الديون. حماية العمال و الطرف الضعيف في العلاقات الشّغلية بالنظر إلى المعطيات المتاحة حول فترة حكم قيس سعيد منذ 2019 وحتى الآن، يمكن القول إن نظامه لم يحقق فعليًا أهداف حماية الطرف الأضعف و الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية على نحو ملموس ومستدام، لعدة أسباب: 1. غياب التشريعات العمالية الفعالة: لم يتم سن قوانين جديدة قوية تكفل حماية العمال والفئات الهشة، بل تم اعتماد إجراءات ترقيعية أو ترقيعات مؤقتة لم تضع حلولاً مستدامة. وحتى ما وقع إقراره بتعديل مجلة الشغل بمقتضى القانون عدد 9 لسنة 2025 الذي يتعلق بتنظيم عقود الشغل ومنع المناولة، إلاّ أنّه لا يخرج عن السياق الشعبوي العام دون تأثير كبير في تحسين أوضاع العمال والشغيلة. فرغم تنصيص الفصل الأول من هذا التنقيح على صياغة حازمة في منع المناولة وعقود الشغل الوقتية ألا أن الفصل 6.4 من نفس التنقيح نفس المبدأ الذي جاء به الفصل الأول وفتح الباب على مصراعيه أمام الاستثناءات وتهم الوضعيات التي يقتضيها زيادة في الإنتاج أو بالتعويض أو القيام بأعمال موسمية حسب العرف والتقاليد وهي تقريبا استثناءات تهم أغلب مجالات المناولة المتعارف عليها (الفلاحة، الصناعات الغذائية و السيارة) وهو ما يعني أنّ الأمر لا يتجاوز حجم الدعاية الشعبوية المتهافتة على صنع الأحداث الزائفة والحال أن المنجز لا يتجاوز الدعاية و البروبقندا الفاشوشية. الضمان الاجتماعي: النظام الحالي لم يوسع نطاق الضمان الاجتماعي ليشمل كلّ الفئات الهشة ولا توجد برامج شاملة تقلل من الفقر أو البطالة بشكل كبير. 2. المؤسسات الرقابية: ضعف دور النقابات أو إضعافها مع السياسة الممنهجة لتحجيم دور الاتحاد العام التونسي للشغل و فشل هياكل للرقابة و التفقديات في حماية العمال من الاستغلال أو من الطرد التعسفي. 3. التوازن في علاقات العمل: مع التنقيحات المداخلة على مجلة الشغل، أصبحت العلاقة بين الدولة و الشركات الخاصة أو المستثمرين تميل أكثر لدعم الأخير على حساب العمال، ممّا يضعف مبدأ العدالة في سوق العمل ولم ينجح التعديل الأخير في تحقيق إعادة التوازن. النتيجة: على أرض الواقع، فإن أهداف حماية الطرف الأضعف لدى النظام الحالي لم تُلبَّ إلا بشكل محدود جداً ولم تتجاوز حدود المبادرات الرمزية أو المؤقتة. لذلك يمكن القول، إنّ مدة تحقيق هذه الأهداف لم تتجاوز منذ 2019 أقل من أي تقدم ملموس، ولم تتضح مؤشرات على إمكانية تحقيقها في المستقبل القريب دون إصلاحات جوهرية. التوزيع العادل للثروة منذ تولي الرئيس قيس سعيد السلطة في 2019، تواجه تونس تحديات اقتصادية و اجتماعية جسيمة، تتجلى في ارتفاع معدلات البطالة، تفشي الفقر، التهميش الجهوي و تزايد الفوارق في توزيع الدخل. ورغم كثرة الشعارات و بعض المقاربات التشريعية، لم تشهد هذه القضايا تحسنًا ملموسًا بل استمرت في التأثير سلبًا على الاستقرار الاجتماعي و الاقتصادي. 1. البطالة والفئات الأكثر تضررًا بلغ معدل البطالة في تونس 15.3% في الربع الثاني من عام 2025، بعد أن كان 15.7% في الربع الأول من نفس العام. ومع ذلك، تكشف الأرقام عن تفاوتات كبيرة بين الفئات المختلفة: ففي سقف النساء: بلغ معدل البطالة بين النساء 20.9% في الربع الثاني من 2025، مقارنة بـ20.3% في الربع الأول. أمّا بالنسبة لخريجي التعليم العالي: يعاني خريجو الجامعات من معدلات بطالة مرتفعة، تصل إلى 23.4% في الربع الأول من 2024، مع تفاوت بين الذكور و الإناث. كما تواصلت البطالة بين الشباب بنسبة مرتفعة: يواجه الشباب تحديات كبيرة في سوق العمل، حيث تشير التقديرات إلى أن معدل البطالة بين الشباب في تونس يتراوح بين 30% و 35% . وفي المقابل، تتواصل سياسة التقشف وغلق باب الإنتدابات في الوظيفة العمومية رضوخا لإملاءات المؤسسات المالية الدولية. فقانون المالية 2025 فتح حوالي 21 ألف خطة إنتداب جديدة فقط علما وأنّ المغادرين تقاعدا بعنوان 2024 حوالي 12000 موظفا أي أنّ العدد الدقيق للخطط الجديدة هو 9 آلاف خطة. وهو عدد قليل و مخجل و فاضح لسلطة تدعي أنّها ملتزمة بمبادئ الدولة الإجتماعية. تشير الإحصائيات إلى أن نسبة الفقر في تونس بلغت 15.2% في عام 2025، مع تفاوتات بين المناطق: المناطق الحضرية: سجلت المناطق الحضرية معدل فقر بلغ 10.1% . المناطق الريفية: ارتفع معدل الفقر في المناطق الريفية إلى 26.0% . كما يُلاحظ أن مؤشر جيني، الذي يقيس التفاوت في توزيع الدخل، إرتفع من 32.8 في عام 2015 إلى 33.7 في عام 2021، مما يشير إلى زيادة في التفاوت الاجتماعي. ومن بين مظاهر اشتداد الأزمة الاجتماعية، ارتفاع معدلات الجريمة في تونس و غياب الأمن. و يتم مواجهة ذلك ليس بالبحث عن الأسباب الجذرية والعميقة عبر حلول تنموية فعالة بل من خلال مقاربة سلطوية أمنية. وتعرف السجون في تونس في عهد قيس سعيد نسبة اكتظاظ تتراوح بين 180 و 200 بالمائة، وهي نسبة مفزعة. وحسب تقرير للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان (فترة 2022-2025)، بلغ عدد السجناء حوالي 33 ألف سجين في حين أنّ طاقة استيعاب السجون التونسية الرسمية تتراوح بين 17 ألف إلى حوالي 18 ألف سجين. في الدول الاجتماعية حقا، تكون السجون فضاءات ومؤسسات للإصلاح وليس لإعادة إنتاج مجرمين جدد كما تفعل العقوبات البديلة بشكل قوي ناهيك أنّ العديد من الدول السكندنافية لا يتجاوز فيها المساجين بعض العشرات. 2. التهميش والتفاوت الجهوي مع افتقاد السلطة الحالية لرؤية تنموية بديلة، تستمر الفوارق الجهوية في التأثير على التنمية في تونس، حيث تتركز التنمية الاقتصادية في المناطق الساحلية، بينما تعاني المناطق الداخلية من نقص في الخدمات و البنية التحتية. تشير التقارير إلى أنّ المناطق الجنوبية و الداخلية، مثل قفصة، قصر هلال و توزر، تعاني من معدلات بطالة مرتفعة تصل إلى 45% في بعض الحالات . كما يُلاحظ أنّ نسبة الفقر في المناطق غير الحضرية بلغت 26.0%، مقارنة بـ10.1% في المناطق الحضرية، مما يعكس التفاوت الكبير بين الجهات . 3. الفوارق بين الفئات في توزيع الدخل تشير البيانات إلى أنّ متوسط الدخل في تونس بلغ حوالي 128,407.2 مليون دينار تونسي في عام 2025، مع تفاوتات بين القطاعات المختلفة: القطاع العام: سجلت إيرادات القطاع العام حوالي 31,858.8 مليون دينار تونسي . القطاع الخاص: بلغ إجمالي إيرادات القطاع الخاص حوالي 96,194.5 مليون دينار تونسي . هذا التفاوت في توزيع الدخل يعكس الفجوة بين القطاعين العام و الخاص، ويشير إلى أنّ القطاع الخاص يستحوذ على حصة أكبر من الدخل الوطني، ممّا يعزز الفوارق الاقتصادية والاجتماعية. ويبقى غياب العدالة الجبائية و ارتفاع العبء الجبائي إحدى ركائز منظومة قيس سعيد ف70 من الموارد الداخلية يدفعها الأجراء. كما أنّ ارتفاع المديونية (80 سنة 2025) و خدمة الدين العمومي بعمق أزمة المالية العمومية و نسب عجز الميزانية والتي لا تمتلك منظومة قيس سعيد لمجابهتها من حلول غير التقشف وهو ما يفسر تراجع الاعتماد لا المرصودة التأجير ( كتلة اجور 13 بالمائة) وللدعم وهو ما يجسد انخراط منظومة قيس سعيد في الخيارات المفروضة من صندوق النقد الدولي رغم الدعاية و الشعارات الزائفة حول التعويل على الذات و استقلالية القرار السيادي. التمشي التشاركي في صياغة القرار في سياق تونس الراهن، يتضح بجلاء أنّ قيس سعيد ماض في تركيز دعائم نظام الحكم الفردي سواء من خلال القضاء على كلّ المؤسسات والهيئات الدستورية التعديلية و معاداته للأجسام الوسيطة التي من شأنها أن تحد من سلطته و تخلق نوعا من توازن القوى السياسية و الاجتماعية في البلاد. هذا التوجه يظهر بوضوح من خلال معاداته للاتحاد العام التونسي للشغل، الذي طالما لعب دورًا محوريًا في تاريخ تونس الحديث حيث كان باستمرار فاعلا أساسيا في المشهد السياسي من خلال جمعه بين الأدوار السياسية و النقابية. تتمثل مظاهر هذا التحجيم الممنهج للاتحاد في: 1. محاولة تهميش دوره في التفاوض الاجتماعي: من خلال استبعاد الاتحاد من مداولات رسم السياسات الاقتصادية و الاجتماعية وتقليص مشاركته في القرارات المصيرية المتعلقة بالعمل و الحماية الاجتماعية. 2. وقد ترافق ذلك مع إصدار منشور حكومي يمنع على المسؤولين الإداريين من إبرام محاضر جلسات دون الرجوع إلى رئاسة الحكومة. 3. وقد تأكد عزم السلطة الحاكمة على الإجهاز على الاتحاد من خلال سحب البساط من تحت قدميه تدريجيا وحرمانه من الاضطلاع بدوره الطبيعي غبر غلق باب المفاوضات الاجتماعية وحتى تقليد الحوار الاجتماعي الثلاثي الذي كان يتم بدورية منتظمة كل 3 سنوات، فقد تراجع عنه قيس سعيد رغم تدور الأوضاع المعيشية و ارتفاع الأسعار والتضخم . وبالتوازي مع ذلك يشجع الحاكم بأمره، من خلال خطابه، المجموعات المنفلتة من عقاب العقل و التي تشتغل بالفضاء الأزرق على مواصلة سن حملات التشويه في حق الاتحاد. 4. تركيز السلطات في مؤسسات خاضعة مباشرة للسلطة التنفيذية: مثل مجلس التربية أو المؤسسات الأخرى التي يتم تشكيلها دون تمثيل فعلي للنقابات، ممّا يضعف قدرة الأجسام الوسيطة على المشاركة في صياغة السياسات. 5. خلق بيئة قانونية وإدارية تحد من فعالية الاتحاد: عبر تعديل قوانين الشغل والسياسات الاجتماعية بطريقة تقلص من تأثير النقابات على الساحة العامة. يمكن القول، إنّ هذه السياسات تصب في اتجاه تكريس الحكم الفردي و تقويض أي آليات تشاركية كانت تساهم في تحقيق توازن حقيقي بين السلطة و الحقوق الاجتماعية، وهو ما يهدد بشكل مباشر المكتسبات النقابية و يضعف أدوار الأجسام الوسيطة في تونس.
خاتمة يتضح من خلال استقراء تطوّر الدولة الليبرالية الحديثة، وتجارب تونس التنموية منذ الاستقلال، أن شعار الدولة الاجتماعية الذي يرفعه قيس سعيّد لا يجد ترجمة عملية في سياساته، بل يظلّ جزءًا من خطاب شعبوي يهدف إلى كسب الشرعية وإخفاء العجز عن تقديم مشروع اقتصادي واجتماعي بديل متماسك. فالدولة الاجتماعية ليست مجرّد شعارات أو وعود، بل هي منظومة متكاملة تقوم على التخطيط الاستراتيجي، الاستثمار العمومي، المرافق العامة المتطورة، حماية الفئات الهشة، العدالة الجبائية، والمشاركة التشاركية في القرار. وكلّها عناصر غابت عن التجربة الراهنة التي أعادت إنتاج نفس الاختيارات القديمة: بيروقراطية عاجزة، استثمار محدود، تراجع في الخدمات، وتهميش للعمال والفئات المستضعفة. ومن ثَمّ، فإنّ الشعبوية السياسية عندما توظّف مفهوم الدولة الاجتماعية دون توفير أدواتها، لا تسهم سوى في تعميق أزمة الثقة بين المواطن والدولة، وتغذية الإحباط الجماعي. إنّ الرهان الحقيقي لتونس اليوم لا يقوم على الوعود الفضفاضة، بل على تأسيس مشروع وطني ديمقراطي شعبي قوامه خيارات وطنية حقيقية و دولة مدنية ديمقراطية اجتماعية، تحترم الحقوق والحريات، وتضمن الحياد في تسيير المرفق العام، وتعيد الاعتبار إلى الوظيفة الاجتماعية للدولة عبر سياسات عادلة وشفافة وتنمية وطنية مستقلة حقا و بذلك وحده يمكن تجاوز مأزق الشعبوية ومن وراءه مأزق المنظومة الحاكمة عبر رؤية جديدة تفتح أفقًا للتنمية والعدالة والاستقرار الحقيقي .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثقافة ثورية : النسوية، الجندر الطبقة والتنظيم
-
كيف يحدد الاقتصاد أخلاق الطبقات والفئات الاجتماعية الأساسية
...
-
محمود عباس ، رجل فقد ظله.
-
هل يتعرض راشد الغنوشى لمحاكمة سياسية ؟
-
أزمة الرأسمالية وراهنية البديل الاشتراكي
-
فشل الرأسمالية وراهنية البديل الاشتراكي
-
في الذكرى العاشرة للثورة التونسية : حول راهنية شعار الشعب ير
...
-
في الذّكرى العاشرة للثّورة: في راهنيّة شعار “الشّعب يريد إسق
...
-
كورونا والشعبوية كماشتا الرأسمالية اللتان تعصران الشعوب
-
تونس ، هذه التجاعيد السياسية
-
حول حقيقة حملة الاعتقالات الاخيرة لبعض رموز الفساد في تونس:
...
-
الى الرفيقات والرفاق بمناسبة 8 مارس
-
تهنئة الى رفيقاتي ورفاقي بمناسبة 8 مارس
-
الماركسية والدين
-
أكثر من عام على حكومة الائتلاف اليميني: الشعب التونسي بين مط
...
-
هل تقبل ممارسة الجنس مع مسيحية ؟
-
لقد قتلته يا سيد صحبى عتيق ، لقد قتلته.
-
ايقاف العملاء..الجرائم السياسية...الامن اللبنانى
-
في ذكرى رحيل عبد الغني بوستة: لا نبدل الرجال بشسع النعال
-
الهرولة والتهافت الانتخابي في المغرب/3
المزيد.....
-
نتنياهو يوضح -هدف- فريق التفاوض الإسرائيلي المتجه إلى مصر
-
ترامب ينذر حماس: تحركوا بسرعة وإلا ستصبح كل الرهانات لاغية
-
ترامب يبعث بصهره كوشنر وموفده ويتكوف إلى مصر للبحث في الإفرا
...
-
بعد رد حماس وترحيب ترامب.. سيناريوهات خطة ترامب
-
أنباء عن تسليم فضل شاكر نفسه للجيش اللبناني في مخيم عين الحل
...
-
الشرطة الجورجية تبعد المحتجين عن القصر الرئاسي
-
-استغراب- يفكك شخصية إيلون ماسك.. عبقرية أم فوضى تُغير العال
...
-
لماذا حظرت كوت ديفوار مظاهرات المعارضة؟
-
الحرب على غزة مباشر.. إسرائيل توافق على خط الانسحاب الأولي و
...
-
حادث مأساوي في العراق ينهي حياة مدرب كرة قدم
المزيد.....
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|