أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام موسي - فن الاختفاء: حين يذوب الممثل في بوتقة الشخصية















المزيد.....

فن الاختفاء: حين يذوب الممثل في بوتقة الشخصية


حسام موسي
كاتب وباحث وناقد ومؤلف مسرحي مصري


الحوار المتمدن-العدد: 8477 - 2025 / 9 / 26 - 21:39
المحور: الادب والفن
    


"لعل أهم مهارة للممثل هي مهارة إخفاء الحرفة." هذه العبارة خاصة بشيخ مدربي فن التمثيل في مصر محمد عبد الهادي، تختزل جوهر فن التمثيل، فهي ليست مجرد رأي، وإنما إعلان عن نهاية مرحلة التمثيل كعرض استعراضي، وبداية مرحلة جديدة يكون فيها الفن أقرب إلى الحياة منه إلى الاصطناع. إنها تشير إلى تلك البراعة العليا التي يتخطى فيها الممثل حدود الحرفة التقنية ليدخل إلى عالم الإيهام الكامل، حيث يختفي الممثل ويولد الشخص.

ولفهم هذه الجملة، يجب أن نعود إلى جذور المسرح. في الحقب الكلاسيكية، كان التمثيل يعتمد على الإلقاء المسرحي والإيماءات المبالغ فيها لتوصيل المشاعر للجمهور في المساحات الشاسعة، فكانت الحرفة واضحة للعيان وكانت أيضًا مصدر إعجاب. لكن مع تطور الفن الدرامي، وخصوصاً مع ظهور المدرسة الواقعية وقائدها قسطنطين ستانيسلافسكي، تحول الهدف من كون الممثل يُظهر المشاعر إلى كونه يختبرها حقاً. هنا بالضبط تكمن إخفاء الحرفة وهي أن تُنسى الجمهور أنك تؤدي دوراً، وأن تمنحهم وهمًا تامًا بالواقع.

ستانيسلافسكي في نظامه الشهير قد قام بدفع الممثل إلى الغوص في دواخل الشخصية باستخدام أدوات مثل "الذاكرة الانفعالية" حيث يستدعي الممثل مشاعر حقيقية من حياته ليجسد بها مشاعر الشخصية، مما يضمن صدقًا انفعاليًا يذيب الفاصل بين الأداء والحياة. وإخفاء الحرفة ليس إنكاراً للجهود الجبارة التي يبذلها الممثل. ولكن على العكس تمامًا فهي الثمرة الناضجة لتلك الجهود، والتي يمكن تفكيكها إلى عدة عناصر:

1. اختفاء التكنيك: فالمتفرج الذكي لا يقول "انظر كيف يبكي بمهارة"، وإنما يبكي هو نفسه مع الشخصية. فعندما يتحول بكاء الممثل من مجرد دموع مصطنعة إلى رعشة في الشفاه، وصوت مكتوم، ونظرة حائرة، فإن التقنية المستخدمة لخلق هذا البكاء تذوب في العاطفة الحقيقية. الممثل المحترف لا يظهر لك أنه يتذكر النص، وإنما يجعل الحوار يبدو وكأنه يخطر على باله في تلك اللحظة بالضبط.

2. اللحظة الصادقة (The Honest Moment): هذه هي الذروة التي يسعى إليها الممثل. هي تلك اللحظة التي يتوقف فيها عن التمثيل ويبدأ في الوجود داخل المشهد. يكون رد فعله طبيعيًا، وعفوياً، وغير متكلف، كما لو كان الأمر يحدث له في الحقيقة. هذه اللحظة لا تخلقها تعليمات المخرج فقط وإنما تنبع من فهم عميق لنفسية الشخصية وظروفها.

3. موت "الممثل النجم": في بعض الأحيان، تعيق شهرة الممثل عملية الإيهام. عندما ينظر الجمهور إلى نجم السينما بدلاً من الشخصية، تكون الحرفة قد ظهرت بكل وضوح. المهارة الحقيقية تكمن في قدرة الممثل النجم على التخلي عن نجوميته، وإخفاء ملامحه الشخصية الشهيرة لصالح ملامح الشخصية التي يؤديها، مما يسمح للجمهور بالغوص في القصة بدلاً من التعلق بهويته الحقيقية.

وإخفاء الحرفة لا يتحقق فقط عبر إتقان الجسد أو الصوت، إنما أيضًا عبر الوجه والعينين، اللتين تعدان نافذتين للروح. كثير من الممثلين العرب جسّدوا هذه القدرة الاستثنائية، فمثلا أحمد ذكي في زوجة رجل مهم، لم يحتج إلى البوح بمشاعره وإنما عيناه وحدهما تكفّلتا بنقل الألم العميق لضابط فقد سلطته وحياته. وعزت العلايلي في المواطن مصري، لحظة تعرفه على جثمان ابنه بالصمت والعيون المرتجفة كانت درسًا في الصدق التمثيلي. أما محمود حميدة في إسكندرية نيويورك، نظراته الثابتة وسط الزحام جسّدت الاغتراب والندم، فذابت التقنية في شعور إنساني صرف. ولكن متي تفشل إخفاء الحرفة؟ فليس كل ممثل قادراً على إتقان هذه المهارة. نرى فشلها جلياً في:

· الأداء الزائد Overacting: حيث يصبح التمثيل صراخاً وعويلاً بدون مبرر درامي داخلي، فيتحول إلى عرض مسرحي فارغ.

· الأداء الآلي Underacting: وهو النقيض، حيث يبدو الممثل بارد المشاعر، وكأنه يقرأ النص من ورقة غير مرئية، مما يكشف عن عدم اكتراثه وانفصاله عن الدور.

· الاعتماد على الصورة النمطية: حين يلجأ الممثل إلى حركات وتعبيرات مكررة لأداء مشاعر معينة (كمسح الجبين للدلالة على التوتر بشكل مبتذل)، بدلاً من استنباط رد فعل فريد من أعماق الشخصية.

إن التركيز على إخفاء الحرفة ينتمي أساسًا إلى الواقعية وستانيسلافسكي، لكنه ليس معيارًا شاملًا لكل المدارس المسرحية. فالمسرح التعبيري يرى أن الحرفة لا تُخفى إنما تُعلن، فالمبالغة الحركية والتشويه المقصود للواقع يفتحان بابًا لقراءة النفس البشرية بعمق. أما المسرح الملحمي عند بريخت، فهدفه فضح "الحرفة" وإبرازها عمدًا من خلال ما يُعرف بتأثير التغريب أو التغريب. هنا، لا يذوب في الشخصية ولكن يذكّر المتفرج بأنه يمثل، ولكن وقد يخاطب الجمهور مباشرةً، حتى يظل الجمهور يقظًا وناقدًا للواقع الاجتماعي والسياسي، لا غارقًا في الوهم العاطفي.

هنا يصبح السؤال: هل المهارة هي الذوبان في الشخصية، أم الوعي بآليات الأداء وإشراك الجمهور فيها؟ الحقيقة أن كليهما مشروع، ويعكس اختلاف الرؤية الفلسفية والجمالية. ففي حين تسعى الواقعية إلى الإيهام بالواقع، يرى بريخت أن كشف اللعبة أكثر فائدة في خدمة الفكر والتغيير الاجتماعي.

في النهاية، تظل جملة "إخفاء الحرفة" أعلى تقدير يمكن أن يناله الممثل. إنها تشبه عمل الساحر المحترف، فالجمهور يعلم أن هناك خدعة، لكن براعة الساحر تكمن في جعلهم ينسون ذلك تماماً وينبهرون بالمعجزة. الممثل العظيم هو من يبذل شهوراً من التحضير، ويدرس النص، ويغوص في نفسية الشخصية، ثم على المسرح أو أمام الكاميرا، يتخلى عن كل هذا العمل الشاق الظاهري ليقدم لنا كائناً حياً ينبض بالصدق. فهو لا يخفي الحرفة ليس لأنه لا يمتلكها، إنما يخفيها لأنه أتقنها إلى درجة التماهي الكامل معها.

إخفاء الحرفة هو غاية كل ممثل عظيم في المدرسة الواقعية، لكنه ليس القيمة المطلقة في تاريخ المسرح. بين أحمد زكي وبريخت، بين المليجي وستانيسلافسكي، يمتد قوس كامل من الرؤى. التمثيل في جوهره يظل فنًا جدليًا، فأحيانًا يسحرنا بالذوبان، وأحيانًا يوقظنا بفضح الحرفة. وفي كلتا الحالتين، يظل هو الفن الذي يذيب الحياة في المسرح، ويعيد المسرح إلى الحياة.



#حسام_موسي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخصوصية المحلية والمعنى الكوني في مسرح الشارع
- مسرح الشارع بين اللحظة العابرة وصناعة المعنى
- مهزلة النهاية: مسرحية تحاكم فكرة النهاية بين العبث والفلسفة ...
- مهزلة النهاية: مسرحية تحاكم فكرة النهاية بين العبث والفلسفة
- عزلة.. حشرات.. خروج
- كارمن: تراجيديا العشق والتمرد في رؤية مسرحية جديدة
- التلقائية في التمثيل
- مسرحية -بلاي- كنموذج لاستخدام مصطلح Teatrum Mundi في المسرح ...
- فن التمثيل بين الرسالة والانحراف
- الناقد المسرحي: نظرة معمقة في قلب العرض
- كيف يمكن للمسرح أن يستعيد جمهوره؟
- تقليص مدد مهرجانات المسرح: أزمة استخفاف أم تحديات معقدة؟
- دنيس ديدرو: المؤلف الموسوعي ورائد الدراما البرجوازية
- رؤية الواقع وثقافة العلوم الإنسانية: أسس النقد والمسرح الحقي ...
- لعبة النهاية: عبثية الوجود بين النص والعرض
- مسرحية الحياة حلم: الباروك وتجلّياته في أدب العصر الذهبي الإ ...
- لغة الوجوه والعينين: نافذة الروح في فن التمثيل
- الفعل التمثيلي بين المراقبة والتفسير: دراسة فلسفية وثقافية
- القوالب الفنية في أوبريت العشرة الطيبة لسيد درويش
- تحديات مسرح الشارع في الفضاء العام: بين الصناعة والتلقي


المزيد.....




- سينمائيون إسبان يوقعون بيانًا لدعم فلسطين ويتظاهرون تنديدا ب ...
- وفاة الفنانة التركية غُللو بعد سقوطها من شرفة منزلها
- ديمة قندلفت تتألق بالقفطان الجزائري في مهرجان عنابة السينمائ ...
- خطيب جمعة طهران: مستوى التمثيل الإيراني العالمي يتحسن
- أعداء الظاهر وشركاء الخفاء.. حكاية تحالفات الشركات العالمية ...
- طريق الحرير.. القصة الكاملة لأروع فصل في تاريخ الثقافة العال ...
- جواد غلوم: ابنة أوروك
- مظاهرة بإقليم الباسك شمالي إسبانيا تزامنا مع عرض فيلم -صوت ه ...
- ابتكار غير مسبوق في عالم الفن.. قناع يرمّم اللوحات المتضررة ...
- طبيبة تمنح مسنة لحظة حنين بنغمةٍ عربية، فهل تُكمل الموسيقى م ...


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام موسي - فن الاختفاء: حين يذوب الممثل في بوتقة الشخصية