حسام موسي
كاتب وباحث وناقد ومؤلف مسرحي مصري
الحوار المتمدن-العدد: 8472 - 2025 / 9 / 21 - 22:47
المحور:
الادب والفن
من بين السمات التي تميّز مسرح الشارع وتجعله فناً متفرداً في المشهد المسرحي العالمي، تبرز جدلية الخصوصية المحلية والمعنى الكوني بوصفها محوراً أساسياً في صياغة التجربة المسرحية. فالعرض الذي يُقدَّم في كركوك لا يمكن أن يتطابق مع العرض نفسه إذا قُدّم في القاهرة أو رام الله أو برلين؛ ذلك أن كل مدينة تحمل تراكمات من الجراح والأحلام والذاكرة، وكل جمهور، بمشاركته الفاعلة، يُعيد صياغة العمل المسرحي من خلال منظومته الثقافية والاجتماعية والسياسية. هنا، لا يعود النص أو الفعل المسرحي مجرد بنية جاهزة، ولكن يصبح حدثاً متجدداً يتشكل داخل فضاء المدينة بالتواطؤ مع المتلقي، ليستمد معناه من تفاصيلها الحيّة.
إن مسرح الشارع، بطبيعته المنفتحة على الناس العابرين في الساحات والشوارع، يستحضر الهويات المحلية بوصفها مادة خام للعمل الإبداعي. قد يتمثل ذلك في استخدام اللهجة الدارجة، أو في استدعاء رموز من التراث الشعبي، أو في استلهام قضايا يومية تشغل سكان المكان. فالعرض في كركوك مثلًا قد يتغذى على تنوعها الثقافي والتاريخي، وعلى التوترات الاجتماعية والسياسية التي صنعت وجدان أهلها، فيصير خشبةً مفتوحة على نبض المدينة وذاكرتها، ويصبح فيها المتفرج شاهدًا وشاركًا في وقتٍ واحد. وهذا يختلف بالضرورة عن عرض في القاهرة، حيث تتداخل صور الزحام والفوضى مع تاريخ طويل من الثورات والمقاومة، ليخلق الجمهور من خلال تفاعله معها معاني جديدة؛ أو في رام الله، حيث يقترن المشهد المسرحي بحكايات الحصار والمقاومة والبحث عن الحرية. ويتجلى هذا بوضوح في عرض "زعبوبة في مهب الريح" للمخرج محمد الجنايني، والذي عُرض في شارع المعز بالقاهرة؛ هذا الشارع الأثري بمعماره الفاطمي، حيث تداخلت فيه صور الزحام والفوضى مع تاريخ طويل من الثورات والمقاومة عبر العصور. فتحول العرض إلى حوارٍ حي بين الماضي والحاضر، بين التراث الحجري الثابت والهمس البشري المتحرك.
لقد نجح العرض في توظيف هذا الفضاء التاريخي ليس كخلفية زخرفية فحسب، وإنما كشخصية فاعلة في النص، حيث انصهرت حكايات الشخصيات الشعبية مع همسات الجدران القديمة، لتروي قصة مدينة لا تنتظر مقاومتها في المتاحف، ولكن تصنعها يوميًا في شوارعها. وهكذا، يصير مسرح الشارع أشبه بمرآة عاكسة للروح الجمعية، وورشة مفتوحة لإعادة صياغة الهوية باستمرار، حيث لا ينتهي العرض بنهاية المشهد، وإنما يظل يتردد في أذهان المشاهدين، محفزًا إياهم على تأويل واقعهم وإعادة ابتكاره.
لكن قوة مسرح الشارع لا تكمن فقط في قدرته على ترجمة الخصوصية المحلية، إنما في نجاحه في أن يمنحها أفقاً كونياً يتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، وهو نجاح لا يتأتّى إلا من خلال االمشاركة المباشرة للجمهور. ويمكن ملاحظة هذه القوة بوضوح في عرض "صلاة بعد منتصف الليل" للمخرج نهاد الأسمر (العراق)، حيث حوّل الممثل المنهك حقيبته وقماشة البيضاء إلى رموز مفتوحة على تأويل الجمهور: فبينما قد ترمز القماشة للوطن الذي يُوقع أبناؤه على موته مجازياً، قد يقرأها آخرون ككفن أو راية استسلام. سؤال الشخصية المركزي "أهاجر أم أبقى؟" ليس سؤالاً عراقياً خالصاً، بل هو معضلة إنسانية وجودية تلامس وجدان كل من عانى من انتماءٍ مشوّه أو وطنٍ غادر. لقد حوّل تصفيق الجمهور وانخراطهم في توقيع القماشة هذا المشهد المحلي إلى لحظة عالمية، حيث لم يعد المتفرج شاهداً على مأساة شخصية بعينها، وإنما أصبح شريكاً في صياغة سؤالها الجمعي عن معنى الانتماء والموت تحت وطأة الخيانة. فالصورة البسيطة لممثل محاصر بحبل قد تُقرأ في كركوك كرمز للقيود السياسية والاجتماعية، بينما قد يتلقاها مشاهد في القاهرة بوصفها استعارة عن الاستبداد أو القمع، وفي أوروبا كرمز وجودي يعكس عبودية الإنسان لآلة الحياة الحديثة. هذه القراءات المتعددة لا تولد من الفراغ، ولكن تُستفزّ باستمرار من خلال تفاعل الحضور؛ فتصفيقهم، صمتهم، تدخلاتهم اللفظية، أو حتى ابتسامتهم، كلها إشارات تُغني العرض وتوسع من دوائر معناه. هذه المرونة التأويلية التي يصنعها الجمهور تمنح مسرح الشارع طاقته العالمية، إذ يظل قادراً على التكيّف مع عوالم متعددة دون أن يفقد صلته بجذوره المحلية.
غير أن هذه الجدلية لا تخلو من تحديات جمالية وأخلاقية، أبرزها خطر الوقوع في فخ "الترويج السياحي" للخصوصية، حيث تتحول الرموز والعناصر المحلية إلى مجرد ديكور غرائبي يرضي نظرة الآخر المستشرق، من دون أن يحمل عمقاً حقيقياً أو نقداً ذاتياً. كما أن السعي وراء العالمية قد يقع أحياناً في فخ العمومية والخطاب الفضفاض، فيقدم رسائل كونية مجردة تفتقر إلى الجذور والأرضية الملموسة التي تمنحها المصداقية والعفوية. الفشل في تحقيق التوازن بين هذين القطبين يحوّل العرض إما إلى فولكلور سطحي أو إلى خطاب وعظي ممل، يفقدان معاً القدرة على إثارة الحوار الحقيقي مع الجمهور.
ويعود ذلك إلى أن لغة مسرح الشارع ليست لغة معقدة أو نخبوية، وإنما هي لغة جسدية وبصرية ورمزية قادرة على اختراق الحواجز اللغوية والثقافية وإشراك المشاهد بشكل تلقائي. الإيماءة، الحركة، التشكيل البصري، جميعها أدوات تتيح للعرض أن يُقرأ في أكثر من سياق، وأن يحوّل المتفرج من كائن سلبي إلى "مشاهد- مشارك" يستثير فيه العمل أسئلة كبرى عن الحرية والعدالة والوجود الإنساني. بهذا المعنى، فإن مسرح الشارع يشبه مرآة مزدوجة: تعكس الوجه المحلي بما يحمله من تفاصيل دقيقة، وتعكس في الوقت نفسه الوجه الكوني بما يحمله من أسئلة إنسانية مشتركة، على أن هذه المرآة لا تكتمل صورتها إلا بانعكاس رد فعل الجمهور عليها.
إن هذه الجدلية بين المحلي والكوني ليست مجرد إضافة جمالية، ولكن هي جوهر قوة مسرح الشارع، وهي جدولة لا تتحقق بمعزل عن الجمهور. فالفن الذي ينغلق على محليته دون أفق عالمي يتحول إلى خطاب ضيق الأفق، فيما يفقد الفن الذي يكتفي بالخطاب الكوني صلته بالناس والأرض. وحده مسرح الشارع، بفضل حضوره المباشر في الفضاء العام وتفاعله الحي مع الجمهور، قادر على نسج هذا التوازن الدقيق بين الانغراس في الواقع والقدرة على التجاوز.
ولا يقتصر الأمر على المعنى، وإنما يمتد أيضاً إلى التجربة الجمالية ذاتها. فاختيار الساحة، والتفاعل مع الجمهور، وطبيعة التكوين البصري، جميعها عناصر تتلون وفق البيئة المحلية، لكنها في الوقت نفسه تظل قابلة للقراءة على مستوى عالمي. فعرض يُقدَّم وسط سوق شعبي في القاهرة يختلف في إيقاعه وحرارته ونوعية تفاعل جمهوره عن عرض يُقدَّم أمام مبنى أثري في روما، ومع ذلك فإن المتفرج في الحالتين يشعر أنه أمام تجربة حية يساهم هو نفسه في تشكيلها، تكشف له عن معنى يتجاوز حدود المكان.
لقد أثبتت تجارب كثيرة أن قوة مسرح الشارع تكمن في توحيد التجربة الإنسانية رغم اختلاف البيئات. فالعطش إلى الحرية، والرغبة في العدالة، والخوف من القمع، كلها قضايا يتقاطع فيها الإنسان أينما كان. والمتفرج، من خلال استجابته العاطفية والجسدية، هو من يحول هذه القضايا المجردة إلى تجربة حسية مشتركة. وعليه، فإن الخصوصية المحلية ليست حاجزاً أمام المعني الكوني، إنما هي بوابته الأصيلة. فالانطلاق من المحلي يمنح العرض صدقه ودفئه، بينما الانفتاح على الكوني من خلال حواره مع الجمهور يمنحه عمقه واستمراريته.
#حسام_موسي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟