أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جورج منصور - الفنانة هديل كامل: الحياة.. كجملة ناقصة















المزيد.....

الفنانة هديل كامل: الحياة.. كجملة ناقصة


جورج منصور

الحوار المتمدن-العدد: 8472 - 2025 / 9 / 21 - 04:57
المحور: الادب والفن
    


تفاجأت حين وصلني كتاب الفنانة هديل كامل (الحياة.. كجملة ناقصة)، وهو عمل نثري يضم 93 قصيدة تبدأ ب "حريق الدمع" وتنتهي ب "تصفية حساب"، وصدر مؤخراً عن دارَّي غولدن بوك للنشر و لندن للطباعة والنشر، في 154 صفحة من القطع المتوسط. كنتُ أتوقع أن يكون الكتاب عن سيرتها الفنية الحافلة، وهي التي بدأت التمثيل في سن الرابعة في تمثيلية (تضحية وجدار)، بينما كانت بدايتها الفعلية من الإذاعة والتلفزيون في سن الرابعة عشرة.
هديل كامل الحاصلة على شهادة الدكتوراه في الإعلام من جامعة بيروت العربية، تكتب عن الحياة التي تراها جملة ناقصة: تبدأ بحرفٍ كبير، لكن نهايتها تظل مفتوحة على الاحتمالات. نولد كأننا الكلمة الأولى، ثم تتراكم حولنا الأفعال والصفات والظروف، إلا أن الفاصلة دائماً تسبق اكتمال المعنى.
هي تحاول أن تكمل الجملة بالحب، بالعمل، بالنجاحات الصغيرة، وحتى بالخذلان. ومع ذلك، يبقى فراغ يطالب بكلمة لم تُكتب بعد. كأن الحياة مشروع متواصل لإضافة كلمة، ثم تلو أخرى، حتى تصل لحظة الصمت الأخيرة التي تُشبه النقطة.
لكن ربما يكمن جمالها في نقصها؛ فلو كانت مكتملة لما بقي فينا شغفٌ بالسؤال ولا توقٌ إلى ما وراء. إن الناقص يفتح باب الاحتمال، والاحتمال يمنحنا معنى يتجاوز حدود العبارة.
الحياة، إذن ليست نصاً يُقرأ، بل نصاً يُكتب، لا جملة تامة بل سطراً مفتوحاً، حيث لكلٍّ منَّا الحق في أن يضيف كلمته الخاصة قبل أن ينتهي السطر الأخير. فالحياة في جوهرها، لا تُشبه الرواية المكتملة الفصول، ولا القصيدة التي تصل إلى قافيتها الأخيرة في انسجامٍ تام، بل هي أقرب ما تكون إلى جملة ناقصة تُقرأ وتُعاش في حالة من التوق والترقب. جملة تبدأ بحرف كبير كما تبدأ طفولتنا بالدهشة الأولى، لكنها تظل مفتوحة على احتمالات لا حصر لها، كأن الكاتبة تتردد أو تترك المجال للقارئ كي يضع الكلمة التالية.
تعيش الكاتبة في هذا الفراغ بين الكلمات، تحاول أن تمنح الجملة معناها؛ غير أنَّ كل إضافة لا تلغي شعورها بأن شيئاً ما لم يُكتب بعد. وإن هناك كلمة غائبة، فكرة لم تُصنَع، خاتمة لم تُحدَّد، وتظل تحوم حول النص كما يظل السؤال معلقاً في ذهن الإنسان منذ وُجد على هذه الأرض.
لاتظن أن اكتمال الجملة يعني الوصول إلى المعنى النهائي، لكن الحقيقة هي أن النقص هو ما يحركنا، هو ما يجعلنا نواصل البحث، نسافر، نجرّب، نخطئ، نُعيد الكتابة من جديد. لو كانت الجملة مكتملة، لما كان في داخلنا شغفٌ بالسؤال ولا توقٌ إلى الغد. الاكتمال موت، والنقص حياة.
الحياة كجملة ناقصة تعني أن وجودنا مرهون بالمحاولة المستمرة للعثور على كلمة مفقودة. إنها دعوة للخلق والتجديد، لا للإكتفاء بما هو حاضر. في الجملة الناقصة مساحة للحرية، لأنها تسمح لكل فرد أن يختار كلمته الخاصة ليضعها حيث يشاء. بعضنا يختار أن يملأها بالمحبة، آخرون يملأونها بالعلم أو بالثورة أو بالصمت العميق. كل كلمة تُكتب تختلف عن الأخرى، لكنها جميعاً تتشارك خاصية جوهرية: أنها ليست الأخيرة.
ولعل أكثر ما يثير في هذا التصور أن النقطة النهائية ليست بأيدينا. نحن نكتب ونضيف، لكن النهاية قد تأتي فجأة، لتضع النقطة حيث لم نتوقعها. عندها تتجمد الجملة كما هي، ناقصة أو مكتملة وفق ما تركناه نحن من أثر. قد يتولى الآخرون مهمة قراءة هذه الجملة وتفسير فراغاتها، وقد يجدون فيها ما لم نرَه نحن أثناء حياتنا.
بهذا المعنى، تصبح الحياة تجربة لغوية وجودية في آن. إذ أن الكلمات والفراغات وعلامات الاستفهام التي تتوالى والحروف، قد تُمحى أو تُستبدل، مع كل لحظة وقرار وخطوة، لأنها ليست نهائية محفوظة في كتابٍ مقدس.
ومن هنا تنبع قيمة الحياة: في أنها مفتوحة. فالجملة الناقصة لا تعني نقصاً في القيمة، بل تعني وفرة في الاحتمال. فهي الباب الذي يظل نصف مفتوح. إنها تذكير دائم بأننا لسنا أسرى للنهايات بل صنَّاع بدايات متكررة.
قد تكون الحياة جملة ناقصة، لكننا نحن منْ نقرر إن كانت هذه الجملة ستظل صامتة ومبتورة، أم أنها ستتحول إلى سطرٍ يضئ للآخرين. النقص لا يُلغى، لكنه يُؤنسن الوجود، يجعلنا كائنات تبحث وتسعى وتخطئ وتتعلم. وفي النهاية، حين توضع النقطة الأخيرة رغماً عنَّا، لن يكون السؤال: هل اكتملتْ الجملة؟ بل: هل تركتْ الجملة أثرها؟.
في كتابها حضور قوي لقساوة الغربة، تلك الكلمة التي تختصر عالماً واسعاً من المشاعر. فهي ليست فقط بُعداً عن الوطن، بل عن افتقاد الدفء الذي يصنعه الأهل، وللغة التي نفهمها بلا جهد، وللأمكنة التي حفظت خطواتنا.
قساوة الغربة تظهر حين يصبح الصمت رفيقك في مقهى مليئ بالناس لأن لغتهم ليست لغتك الأم، وحين تضطر لابتلاع حنينك كي لا تبدو ضعيفاً. فالغربة مدرسة قاسية، تحمل في طياتها أثقالاً من المشاعر التي لا يقدرها إلا من عاشها. هي قساوة صامتة، تبدأ حين تبتعد الأقدام عن أرض الأهل والذكريات، وتكبر حين تفتقد تفاصيل الحياة البسيطة: رائحة الخبز في بيت الأم، صوت صديق الطفولة، أو ضوضاء الشوارع التي كنَّا تشكوها، أو لهجة الناس في السوق.
وفي قصائدها إشراقة شمس جديدة، تبدو كأنها تكتب على صفحة السماء وعداً للحياة. ضوءٌ يتسلل إلى روحها المثقلة بالهموم ليوقظ فيها بذور الأمل، مؤكداً أن لا ليل يدوم، وأن فجر التفاؤل آتٍ لا محالة.
هديل كامل تبحث عن بغداد في مغتربها البارد. تمشي مثقلة بالحنين بين جدران غريبة، تبحث في الثلج والضباب عن دفء مدينتها الأولى، بعضاً من دفء بغداد، وتسأل الريح: هل يمرُّ بي نهرٌ شبيه بدجلة؟. وتنقّب في وجوه الغرباء عن ملامح من شارع المتنبي.
لكن كل خطوة تقودها أبعد عن جسد بغداد وأقرب إلى روحها. تفتش في المقاهي عن رائحة الهيل، وفي أصوات المارة عن نبرة بغدادية ضائعة، كأنها تمارس طقساً يومياً من مطاردة مدينة لا تأتي. فهي ليست مجرد مغتربة، بل روحٌ معلَّقة بين جليد المنفى ولهيب الذاكرة. تبحث عن بغداد في تفاصيل حياتها اليومية، لكن المدن الباردة لا تعطي إلا صدى الغياب.
تقف الكاتبة على عتبة الحب والفقدان بقلبٍ عارٍ، كطفلة تمدّ يدها الأولى نحو المعجزة. الحب عندها ليس مجرد شعوراً عابراً، بل هو وعدٌ غامض بالحياة، ضوءٌ يتسرَّب إلى الروح ليغيّر ملامحها.
لكنها تدرك أن الحب والفقدان وجهان لتجربة واحدة؛ نحب بكل طاقتنا ونحن نعرف أننا سنفقد يوماً ما. تمد يدها نحو ما كان، وتلتمس آثار خطواتها على أرض لم تعد لها. فالحب يمنحها معنى الوجود، والفقدان يعلّمها هشاشته.



#جورج_منصور (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق: المنصب الدبلوماسي مكافأة لا استحقاق
- المثقف العراقي: مرآة لخيبة نظامين
- في اليسار العراقي.. مجرد رأي
- العراق: حين يُستهان بالعلم ويُحتفى بالخرافة
- -الرحلة-: لم تكن كأي رحلة
- طهران.. ما أشبه اليوم بالبارحة
- -وادي الفراشات- .. حين ضاقت السماء على الأرض
- جولة حرة في الموصل.. الطيور الهاربة لم تعد إلى اعشاشها بعد
- شكرا لهذا الاحتفاء المُبهر
- (ذاكرة يد).. مدخلٌ إلى جحيم أقبية الموت
- عروض التعازي طقوس درامية
- حوار لم يُنشر مع شيركو بيكه س
- لقاء في قم
- بغداد 2003: عندما كشّر الموت أنيابه*
- الفنان الآشوري هانيبال ألخاص كما عرفتهُ
- حكايتان من الجبل: الساقية والبغل
- عن الهجوم الكيمياوي على حلبجة كًلستان*
- مشياً على الأقدام بإتجاه الوطن: من موسكو الى قرية نائية .. ه ...
- هل رفع خيم المتظاهرين تفكيك لإنتفاضة تشرين؟
- حكاية لقائي مع غائب طعمة فرمان وزهير الجزائري في موسكو


المزيد.....




- جان بيير فيليو متجنياً على الكرد والعلويين والدروز
- صالة الكندي للسينما: ذاكرة دمشق وصوت جيل كامل
- وزارة الثقافة اللبنانية تنفي وجود أي أسلحة تعود لأحزاب في قل ...
- في النظرية الأدبية: جدل الجمال ونحو-لوجيا النص
- السينما مرآة القلق المعاصر.. لماذا تجذبنا أفلام الاضطرابات ا ...
- فنانون ومشاهير يسعون إلى حشد ضغط شعبي لاتخاذ مزيد من الإجراء ...
- يوجينيو آرياس هيرانز.. حلاق بيكاسو الوفي
- تنامي مقاطعة الفنانين والمشاهير الغربيين لدولة الاحتلال بسبب ...
- من عروض ايام بجاية السينمائية... -سودان ياغالي- ابداع الشباب ...
- أحمد مهنا.. فنان يرسم الجوع والأمل على صناديق المساعدات بغزة ...


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جورج منصور - الفنانة هديل كامل: الحياة.. كجملة ناقصة