محمود عبد الله
أستاذ جامعي وكاتب مصري
(Dr Mahmoud Mohammad Sayed Abdallah)
الحوار المتمدن-العدد: 8470 - 2025 / 9 / 19 - 17:03
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
نصيحة لأئمة المساجد عند خطبة الجمعة
لست أعلم من أحد، فلكل منا مجاله الذي يتقنه ويتخصص فيه، ولست وصياً على أحد فكلنا عباد الله نجتهد فنصيب ونخطئ..ولكن من حق المسلم على أخيه المسلم النصيحة، وهذا يصب في مصلحتنا جميعاً..فالمنبر في الأساس هو مكان رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) ومن يعتليه عليه أن يدرك ذلك ويعلم يقيناً أنه مسؤول عن كل كلمة يتفوه بها..فلم تخلق المنابر لقدح الناس والتشكيك في أخلاقهم وتنفيرهم من الدين..فالإمام المعتدل الجيد صاحب وجه بشوش وقدوتنا في ذلك أيضاً هو رسولنا الكريم الذي كان هشاشاً بشاشاً يكثر من قول "أبشر" وقد أثنى عليه الخالق سبحانه وتعالى في ذلك في قرآن يتلى إلى يوم الدين حيث قال مخاطباً إياه: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"..لقد كان الأزهر - ولا يزال - رمزاً للوسطية والإعتدال وقبلةً لطلاب العلم من شتى بقاع الأرض..وأخرج لنا نماذج صالحة استطاعت بالحكمة والقول الحسن والسماحة الوصول إلى قلوب عامة الناس، وأفضل هذه النماذج (في رأيي المتواضع) مولانا وسيدنا الشيخ/ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله ورضي عنه) ومولانا الشيخ/ عبدالحليم محمود (رحمه الله ورضي عنه) ومولانا الشيخ/ محمد سيد طنطاوي (رحمه الله ورضي عنه) وغيرهم من أعلام الأزهر الشريف لم يختلف إثنان على حبهم واحترامهم ومكانتهم الكبيرة في قلوب الناس..ولو سمعنا أو شاهدنا أحاديثهم لمسنا فيها خلق العلماء بحق فلا تنفير ولا تشدد ولا تعالي على خلق الله أو احتقار لهم أو لكل من يخالفهم الرأي..هؤلاء العلماء الأجلاء فهموا بحكمتهم طبيعة أو سيكولوجية الإنسان، فخاطبوه بشكل مهذب ومتنور وعصري متحضر ولم يتسم خطابهم بالفوقية والتعالي، بل كان تجسيداً لتواضع العلماء ودورهم الدعوي الذي يخدم الإسلام والمسلمين..
فعلى كل إمام أو خطيب أن يعلم أن بداخل أي إنسان منا - مهما كانت عيوبه ونقائصه وهفواته ومعاصيه - نبتة صالة ونقطة مضيئة هي الفطرة السليمة التي فطره الله عليها..ومهما ضل أو تجاوز أو غرته الدنيا، فمن الممكن أن يعود إلى حظيرة الإيمان إذا ما وجد من يدله ويرشده بالرفق واللين والكلمة الطيبة (الكلمة الطيبة صدقة)..أما إذا وجد تعالياً أو جفاءً من الإمام، فقد يعاند ويكابر ويصر على موقفه ويبعد أكثر عن الدين وطريق الصلاح والخير والرشاد..وليس معنى أنك اعتليت المنبر أن تحتقر غيرك وتصغره في أعين الناس بدافع من عدم التقبل أو سوء علاقة..فالمنبر لم يكن أبداً - ولكن يكون - مكاناً للنهر والقدح وتصفية الحسابات ونشر الطاقة السلبية بين الناس لمجرد اختلاف في وجهات النظر..ولا يعني إتقان علم من العلوم أو مجال من المجالات أن نسفه من علوم أخرى كاللغات مثلاً وكأنها لغة الفرنجة التي يجب البعد عنها وعن أهلها!! مع أن رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث صحيح: "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم"..وعندما تمر بتجربة شخصية سيئة مع أستاذ جامعي مثلاً لا تعمم ولا تقدح في كل أساتذة الجامعات، فكل مجال فيه الجيد والرديء، ولذلك يقال أن التعميم منطق الأغبياء..والإنسان المهذب المعتدل ينزل الناس منازلهم ولا يتطاول على أساتذته الذين علموه وأرشدوه في فترة من أهم فترات حياته..لاحظ عزيزي حساسية موقفك وقدرتك على التأثير في خطابك هذا على المستمعين..
احرص عزيزي على لم الشمل وعليك أن تجمع ولا تفرق..وأن تبني ولا تهدم..وأن تبشر ولا تنفر..وأن تكسب قلوب الناس وتدرك الفروق الفردية بين خلق الله..وأتعجب من إمام يسفه من الأعمال الفنية فيشيطن المسلسلات والأفلام وغيرها وكأنها كلها مذمومة وكل من يشاهدها في النار!! يا عزيزي هناك أعمال فنية ارتبطت بوجدان الناس وبإرثنا الديني والحضاري وشكلت وعي الناس وساهمت في تعليم وتثقيف جيلنا وكانت ذات رسالة عظيمة مؤثرة أكثر من أي خطاب ديني متشدد ينفر الناس..فمن منا ينسى الأعمال الدينية التي تناولت سيرة الكثير من العلماء والأئمة الذين أثروا في وجدان المصريين وانتشلوهم من غياهب الظلام والضلال؟! من منا لا يحب مشاهدة مسلسل مثل "إمام الدعاة: الشعراوي" أو الشيخ عبدالحليم محمود أومشرفة (رجل من هذا الزمان) أو ...إلخ ومن منا لم يشاهد أفلاماً عظيمة مثل "فجر الإسلام" و"الرسالة" و"هجرة الرسول"؟! أرى أن من يهاجم الفن ويقول بحرمانيته مثل شخص سطحي ساذج يفتي بحرمانية "السكين" مثلاً لأنها قد تستخدم في قتل الناس!! الفن له رسالة سامية ولا تناقض مع الدين في ذلك..وربما تصل الرسالة أسرع في حوار درامي وتؤتي ثمارها أكثر من أي خطاب نظري مباشر!!
الإسلام يا عزيزي أكبر وأعمق من أن يختزله الناس في مجموعة من قوائم الحلال والحرام، وهو لا يعني الإنغلاق في بوتقة ضيقة تختزله في إطار ضيق لا ينفتح على العالم ولا يصلح لكل العصور..أرى أن الإسلام دين ودنيا في نفس الوقت..وليس فيه ما يحث على تكفير البعض أو التحامل عليهم لمجرد الإختلاف معهم في الرأي - أو حتى في الدين والعقيدة!! فالعقليات المتفتحة تعلمت علوماً كثيرة وسافرت إلى بلاد بعيدة تختلف ثقافياً وحضارياً عن بلادنا، ولكنهم تأقلموا معهم وخلقوا مجالاً للحوار المحترم دون المساس بالثوابت الدينية..ونشروا العلم بين الناس لا لغرض التفاخر والتعالي على الناس، ولكن لتقديم النفع والفائدة بكل رقي وكياسة..ولا يعني وجود صفحات أكاديمية لهم على مواقع عالمية أنهم يستعرضون أو يعانون من تضخم الأنا أو يتاجرون بعلمهم؛ فتواجدهم على الساحات الأكاديمية يفيد جامعاتهم ويساهم في رقيها في ظل تنافسية شديدة لا ترحم ولا تسمح أبداً بالإنغلاق..ولم يأمرنا ديننا بكتم العلم إنما حثنا على نشره وهناك فرق شاسع بين نشر العلم والتعالي على خلق الله..فالتواضع والحوار البناء من شيم العلماء والحضارة الإسلامية لم تظهر وتزدهر إلا عندما درس علماء المسلمين الكثير من العلوم المادية والفيزيقية مثل الطب والفيزياء والرياضيات وغيرها إلى جانب العلوم الدينية والشرعية..
فعلى كل إمام أن يتمتع بخطاب مهذب وجيد وحكيم فلا يخلق حاجزاً نفسياً بينه وبين الناس..فلا يعلم أحدنا من الأفضل عند الله، فرب إنسان أمي بسيط وصل بفطرته السوية إلى منزلة الأنبياء والصحابة والأولياء..ورب قارئ للقرآن يلعنه القرآن..ورب مصلً لا يأخذ من صلاته إلا الركوع والسجود..ورب صائم لا يأخذ من صيامه إلا الجوع والعطش..عليك عزيزي أن ترتقي بفكرك وأخلاقك ومستوى كلماتك وعباراتك فلا تجرح في أحد أو تسفه من أحد..واعلم يقيناً أننا جميعاً معيوبون وكلنا كبشر - ونحن أهل الحيف والزلل والخطأ - نجتهد، فنصيب ونخطئ..ولسنا ملائكة والكمال لله وحده، وكل إنسان منا سيحاسبه الله وحده فلا وصاية لأحد على أحد..وتذكر قول الشافعي (رضي الله عنه): "رأيي صواب يحتمل الخطأ؛ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"..وقال أيضاً في موضع آخر: "كسب القلوب أولى من كسب المواقف" ..
تحياتي
#محمود_عبد_الله (هاشتاغ)
Dr_Mahmoud_Mohammad_Sayed_Abdallah#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟