محمد رؤوف حامد
الحوار المتمدن-العدد: 8469 - 2025 / 9 / 18 - 02:26
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
من داخل، أو من باطن، أو من "جُوّا" الناس، مئات الملايين، أفرادا وجماعات، فى كل مكان على سطح الكرة الأرضية، بزغ (أو وَلُجَ) إلى العالم هذا "الوجدان الدولى الجديد" بتضاريس وحركيات خارجة عن التوقعات (الوجدان الدولى الجديد .. تضاريسه ومجالاته – الشروق 10 يوليو 2025).
ربما لم يكن ذلك واردا عند أصحاب الهيمنة، الراعين والموجهين لعمليات التطرف فى العالم، والذين جرت الإشارة إليهم من قبل [فى مقال بعنوان" مستقبل جديد للثورات"، والذى صدر فى 2 فبراير 2013 (الحوار المتمدن – العدد 3991 ), وبعدها صدر ضمن محتويات كراس فى المستقبليات، حمل نفس عنوان المقال – المكتبة الأكاديمية – 2019 – ص 13 ]، هؤلاء المُنشئين للعهر الدولى، والذى انكشفت تجلياته وآثامه مع أحداث غزة ( جريدة الشروق// "المقاومة الفلسطينية والنظام الدولى .. أيهما قدرُ الآخر- ديسمبر 2023" – "غزة نقطة إنعطاف النظام الدولى - 30 يناير 2024" - "ماذا بعد استيقاظ العالم على إيقاع أحداث غزة- 13 سبتمبر "2024 – "من غزة إلى إعادة حوكمة العالم – 8 أكتوبر "2024 ).
الإشتداد المتواصل للوجدان الدولى الجديد يقود العالم إلى لحظة تاريخية مفصلية، حيث صار النداء العالمى الأعظم يطالب بتجريم الكيان الإسرائيلى، وتحرير فلسطين، وإيقاف الإبادة العرقية لغزة، بشرا ومكانا.
لقد صارت الجِدّة Novelty الخاصة بهذا التحول الوجدانى الهادر بمثابة منصة إبداعية جماهيرية عالمية.
كان ذلك مدعاة لضرورة تفحص عموم خصائص التحولات الوجدانية وما يتوجب التحسب له بشأنها (التحولات الوجدانية المجتمعية – خصائص
ومحاذير – الحوار المتمدن – العدد 8448 – 28 أغسطس 2025 ).
وهكذا، التحول الوجدانى الجديد يمثل عند القوى البشرية المساهمة فى ولادته واستمراريته، أملا (ومدخلا) لتصحيح وتأمين حال الإنسانية مما تتعرض له من غوغائيات النظام الدولى القائم.
التحقق العملى لهذا الهدف يتطلب الإجتهاد فى التعرف على الأبعاد الفلسفية لهذا الوجدان العالمى.
بمعنى آخر، فى استيعاب فلسفة الوجدان الدولى الجديد مكانة جوهرية بشأن طريقة إنجاز مهامه ووظائفه (الوجدان الدولى)، باعتباره معبراً (أو جسراً) لإعادة انضباط النظام (أو الوضع) الدولى.
من هذا المنظور يمكن اكتشاف عمليات ومعالم معرفية و/أو فكرية، لم تكن لتتبدى كمعان وممارسات وضرورات بعيدا عن الظروف التى أوجدت الوجدان الدولى الجديد. فى نفس الوقت، من الطبيعى أن يكون لهذه العمليات والمعالم المعرفية / الفكرية أدوارها ومساهماتها فى صناعة المستقبليات الأحسن لجموع البشر.
وهكذا، يجتهد الطرح الحالى فى الإطلال على هذه العمليات والمعالم المعرفية / الفكرية، من خلال تناول مايلى:
- الظواهر العالمية الغالبة فى زمن بزوغ الوجدان الدولى الجديد.
- تاريخيات عراقة وضخامة العهر الدولى الجارى.
- الأنبياء الجدد.
- مكانة بلدان الشمال والجنوب من الوجدن الدولى الجديد.
- ضرورات فكرية لم تطرأ على العالم من قبل.
[[هذا، ونظرا للطول النسبى لهذا الطرح فهو يُعرض فى ثلاثة أجزاء (3/3) يمثل المقال الحالى الجزء الأول منها]].
أولا - الظواهر العالمية الغالبة فى زمن بزوغ الوجدان الدولى الجديد:
الظاهرة الأولى – عملقة الديكتاتورية الدولية واشتداد خنق الديمقراطية:
بدأت هذه الظاهرة مع سقوط سور برلين (9 نوفمبر 1989) ونَحْت ماعرف بالعولمة (الحديثة)، والتى تمثلت أكثر تداعياتها شراسة فى فقدان التوازن الدولى، وبروز تسلطات النيوليبرالية، وتعاظم هيمنة توجهاتها.
لقد قاد ذلك إلى اشتداد حمية التضافر بين القطب الأوحد (وأتباعه) من جانب، مع الصهيونية العالمية من جانب آخر، الأمر الذى تجسد ليس فقط فى تعظيم الدعم للكيان الإسرائيلى، وإنما فى التصعيد لعموم سلوكيات التطرف والصراع فى العالم.
فى هذا السياق لاتمثل مشكلات وإشكاليات "الفوضى الخلاقة"، و "سد النهضة"، والحرب الروسية / الأوكرانية، فضلا عن إتلافات البيئة والمناخ، إلا بعض النماذج.
مع هكذا أوضاع صارت الديكتاتورية الدولية آلية مهيمنة على العديد من الحكومات، شمالا وجنوبان و- إلى حد كبير- على الأمم المتحدة والكيانات التابعة لها.
فى هذا الإطار نشطت عمليات تحجيم الممارسات الديمقراطية كضرورة لسلامة واستمرارية أنظمة الحكم المتوافقة (فى وجودها ومصالحها) مع صناع الديكتاتورية الدولية.
الظاهرة الثانية – صراع طبقى عالمى من نوع جديد:
بالضبط، كما أن مسألة "عملقة الديكتاتورية وخنق الديمقراطية" تمثل منهجا لإدارة ودعم التضافريات بين النيوليبرالية (أو الرأسمالية الشرسة) والصهيونية العالمية وقوى التطرف فى العالم، فإنها أيضا، ترتيبا على ذلك، وبنفس القوة تقريبا، تمثل منصة لإعادة تشكيل الشرائح الطبقية للبشر فى كل مكان فى العالم، الأمر الذى ينعكس تلقائيا على وجدانات الناس، حسب ماينتمون إليه من احتياجات و/أو مصالح، وما يترسخ داخلهم من معانات وتخوفات ورغبات.
وهكذا، تحول العالم من بنية الشرائح الطبقية الكلاسيكية (الرأسمالية والعمال .. إلخ ) إلى شرائح جديدة يمكن الإشارة المبدأية لها كالتالى:
- الرأسمالية الشرسة، والتى صارت تتحكم – إلى حد كيير- فى مستقبليات العالم، خاصة من خلال الهيمنة على أنشطة التسلح والتطوير التكنولوجى.
- شريحة العلماء والتكنولوجيين، والذين يكادوا يكونوا بروليتاريا الزمن الجارى.
- شريحة خُدام الرأسمالية الشرسة، وتضم من يعملون لصالحها من مفكرين وخبراء فى شؤن المال والأمن والسياسات ...إلخ.
لقد جاء المدخل غير المباشر لهذ التحول فى الشرائح الطبقية من خلال تأثيرات العولمة على الإدارة (على غرار الخصخصة وتخلخل إنتماءات الأفراد للمؤسسات التى يعملون بها)، الأمر الذى أدى إلى (أو ساهم فى) تغيير فى علاقات الإنتماء للمؤسسات، وللأوطان. ومع هذا التغيير إزدادت الشواشات Chaos فى علاقة المواطنين بكيانات العمل, وتفاقمت تسيُدات المستويات الإدارية الأعلى على الأدنى، الأمر الذى جاء كإمتداد لتعاظم شراسة توجهات أصحاب رؤس الأموال، والإتباعيين لهم ( الإدارة التحجيمية .. "جن" يكتم التقدم – االشروق 26 أغسطس – 2021 ).
هكذا متغيرات كانت بمثابة مداخل ومنطلقات Triggers لتحولات أساسية فى الوجدانات، الأمر الذى تشهد عليه بزوغات لظواهر مرضية، نفسية / إجتماعية لكثيرين ممن عانوا من المتغيرات التى طغت على مجالات العمل، والتى أنتجت، على وجه الخصوص، ظاهرة التردى فى الإنتماء للكيانات والمؤسسات.
الظاهرة الثالثة – تغير فى حساسية الحكومات تجاه وجدانات شعوبها:
فيما قبل تنامى الممارسات النيوليبرالية، والتى تصاعدت على حس (أو على وتر) العولمة، كانت الحكومات، شمالا وجنوبا، على قدر من الحساسية لوجدانات الشعوب. حاليا، فى ظل مسارات "خنق الديمقراطية"، وبالتزامن مع تصاعد إيقاعات الوجدان الدولى من منصة أحداث غزة، تجاسرت عديد من الحكومات، شمالا وجنوبا، فى منع الناس من التعبير عن رؤاها ومواقفها، الأمر الذى يتجسد ، وبوضوح كبير، فى ممارسات المنع والتنكيل للتضامنات مع الحق الفلسطينى.
الظاهرة الرابعة: نشأة حوكَمَات تسلطية لقمع الحريات الأكاديمية وتحجيم أنشطة البحث العلمى:
لقد بزغت هذه الظاهرة بشكل حاد فى ممارسات الإدارة الأمريكية ضد بعض الجامعات. ذلك فضلا عن ممارسات مشابهة بدأت تغزو الكيانات الأكاديمية فى بلدان الجنوب.
هنا، ربما يستحق الأمر قراءة هكذا متغيرات فى سياق رغبة الحكومات (وتوجهاتها) بشأن ضمان تحكماتها فى مسارات (وأوضاع) الشأن العام، الأمر الذى تتجه معه هذه الحكومات إلى إضعاف الكيانات الأكاديمية من خلال التحكم فى قدراتها، والتى تعتمد – أساسا – على الحرية الأكاديمية.
ربما، كإستنتاج، يمكن القول بأن الظواهر العالمية الغالبة، فى زمن بزوغ الوجدان الدولى الجديد، تشير جميعها إلى تعاظم "فكر القوة".
عمليا، فى وجودية هذه الظواهر دلالة قاطعة على قيام النيوليبرالية، والصهيونية، وأتباعهما (شمالا وجنوبا)، بممارسة الإرهاب، وليس بمجرد الدعم الفكرى والفيزيائى للتطرف.
هذا التعاظم فى ممارسة فكر القوة (بالتطرف والإرهاب) يتجسد، وبشكل مطلق، فى أحداث غزة.
حاليا، يكاد هذا التعاظم أن يكون قد وصل إلى (أو اقترب من) منتهى قمته، الأمر الذى يكاد - جليا- أن يوصل الشأن العام العالمى إلى نقطة انعطاف تاريخية. ذلك أنه فى ظل قمة الممارسات السائدة حاليا لفكر القوة تبدأ تدريجيا متجهات سعى الشعوب، ممثلة فى وعى أبنائها ومثقفيها، إلى اكتشاف المسار(ات) الخاصة بممارسة "قوة الفكر"، الوضع الذى يتبدى فى انطلاقة الوجدان الدولى الجديد.
ثانيا – تاريخية عراقة وضخامة عُهر التظام الدولى:
نخطىء جدا بالتصورات المعرفية التقليدية التى تقول بأن أحداث غزة (2023- ...) تُعد امتدادا لهزيمة 5 يونيو 1967، أو للنكبة (1948)، أو حتى لوعد بلفور (1917). الحقيقة والتى اكتُشفت مؤخرا عبر تنقيبات بحثية علمية جادة فى التاريخ والسياسة، والتى تستحق عرضا تفصيليا قائما بذاته، أن هذه الأحداث هى مجرد امتداد عصرى، جزئى (أو فرعى)، لطمع استعمارى كلاسيكى يختص بالهيمنة على الآخرين فى العالم ومنعهم من التقدم. لقد بدأ هذا الطمع على أيدى الإمبراطورية البريطانية فى ثلاثينات القرن التاسع عشر، أى على أيدى القطب العالمى الأوحد حينئذ، والذى كانت الشمس لاتغرب عن مستعمراته.
لم تكن منطلقات الطمع تتعلق بالذات بفلسطين، والتى كانت مجرد المدخل، وإنما كانت تتعلق (أولا) بإخضاع مصر (فى زمن محمد على) ومنع انطلاقاتها لبناء امبراطوريتها فى المنطقة العربية و/أو الشرق أوسطية ..إلخ، ثم هى تتعلق (ثانيا) بالتخطيط للإستيلاء على فلسطين وتسليمها ليهود أوروبا، بغرض بناء كيان تابع للإمبراطورية البريطانية، وذلك بهدف التخديم على المصالح التجارية للإمبراطورية، ولعرقلة أية محاولات إستنهاضية لأهل هذه المنطقة.
وربما ممايؤكد هكذا استهدافات استعمارية أنه فى الزمن المشار إليه لم تكن فى العالم أية بلدان تملك طموحات نهضوية/توسعية مثلما كان لمحمد على (أو لمصر) وقتها.
وهكذا، يمكن القول بأن القصد الإستعمارى لم يكن بالذات فلسطين، بل كان مصر. ومع قليل من التنبه يمكن القول بأن أصل القصد لم يكن بالذات مصر، وإنما كان المنطقة. ثم مع مزيد من الإنتباه يتبين أن جذور القصد ومنتهى أهدافه يتمثل فى عدم السماح لآخرين (غير الإمبراطورية البريطانية) بالهيمنة على العالم. وهنا، يرجع التخوف الرئيسى من المنطقة العربية، أساسا بسبب ماتتفرد به - بين مناطق العالم - بكونها منبع الحضارات ومهبط الديانات (نحو فهم أعمق لخلفيات العداء الأجنبى للمنطقة العربية – الحوار المتمدن – العدد 5698 – 14 نوفمبر 2017).
لقد بزغت معالم هذا الطمع الإستراتيجى البريطانى عام 1840 ، زمن ولاية بالميرستون Palmerston لوزارة خارجية الإمبراطورية البريطانية. بعدها، تطور المسار التنفيذى للطمع، مع مرور الزمن، ليصل إلى ماهو معروف أن قد جرى بعد ذلك من محطات وأحداث، مرورا بوعد بلفور (1917)،.. ووصولا إلى طوفان الأقصى (2023) وأحداث غزة.
هذا، ومع الوقت جرى تحول كافة المهام (أو الأطماع) الإستعمارية والولاية عليها إلى الولايات المتحدة الأمريكية (ومعها حوارييها فى الغرب وعلى رأسهم بريطانيا).
لقد تحولت الهيمنة على المنطقة إلى هذا القطب الجديد، مع استمرارية التضافر الكلى مع الصهيونية العالمية ممثلة - تنفيذيا- فى الكيان الإسرائيلى و"لامشروعية" حركياته.
من جانب آخر، لم تكن الممارسات الإستعمارية (البريطانية وغيرها / أمريكية وغير أمريكية) بعيدة عن الهيمنة على مناطق أخرى من العالم، ولاهى سعيدة بما تصل إليه بعض البلدان من وضعيات تقدم وتنافسية، كما يحدث الآن بشأن بلدان مثل الصين وروسيا والهند وإيران وجنوب أفريقيا والبرازيل ...إلخ.
وعليه، لم تكن عدائيات الإستعمار أيا كان شكله، كلاسيكى أو حديث، لتسمح لطوفان الأقصى بوجوديته، وذلك صونا لمسارات عراقة وضخامة التوجه الإستعمارى الغربى المتسلسل. وبينما يفسر ذلك تضافرية حكومات الغرب مع الصهيونية فى الإصرار على إبادة غزة، كرد فعل على طوفان الأقصى، فضلا عن محاولت مزمنة مستميتة لإبادة كامل الحق الفلسطينى، فإن هذه الممارسة الصفرية (بمعنى الإستكمال الكلى لإبادة الآخر) قد أدت إلى إيقاظ وجدانات الناس فى مختلف أقاليم العالم، وعلى رأسها بلدان الشمال، والتى انتبهت شعوبها إلى التوجهات اللاإنسانية الحادة (واللانهائية) لحكوماتها، وإلى خطورة سوء استخدام ماتملكه هذه الحكومات من إمكانات تتعلق بتوجيه واستخدامات التسليح، والإعلام، والأدوات التكنولوجية / العلمية والأموال ...إلخ.
من هنا قادت نقطة الإنعطاف إلى نشأة الوجدان الدولى الجديد وتعاظمة.
#محمد_رؤوف_حامد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟