محمد رؤوف حامد
الحوار المتمدن-العدد: 8448 - 2025 / 8 / 28 - 17:15
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
فى تناولين سابقين جرت الإشارة إلى وجودية "وجدان دولى جديد" كرد فعل على ما بدا من إخفاقات وانحرافات فى النظام الدولى الراهن.
عن التناول الأول، فقد تضمن طرحا للعوامل المنشئة والمجسدة لهذا الوجدان، وكذلك العدائيات المضادة له، فضلا عن الإطلال على مآلاته (الوجدان الدولى الجديد - تضاريسه ومآلاته (الشروق 10 يوليو 2025)).
وأما التناول الثانى فقد أشار إلى ظروف بزوغ ومسار التحول الوجدانى الدولى، فضلا عن مقارنة تعريفية بينه، من ناحية، والتحولات المزاجية والعولمية، من ناحية أخرى (حركيات الوجدان الدولى الجديد (الشروق 14 أغسطس 2025)).
وهكذا، يبقى الإحتياج إلى التبصر بفلسفة وتوجهات هذا الوجدان الدولى الجديد، الأمر الذى تتطلب معالجته - بداية - التعرف على "عموم خصائص ومحاذير التحولات الوجدانية"، وهو الأمر الذى يجتهد الطرح الحالى فى تناوله.
أولا - التحولات الوجدانية مابين الحاجة والرغبة:
يُقصد بالحاجة الشىء الذى لاتستقيم الحياة بدونه، كالحاجة للماء والهواء، وأما الرغبة فتختص بإنجاز شىء ما، وفقا لمصالح صاحب الرغبة.
من هنا، يأتى التحول الوجدانى كحاجة، لمواجهة الخروج عن التذبذبات التقليدية لأحوال (أو لنطاق) مايعتبر استقرارا.
وفيما يتعلق بالتحول الوجدانى كحاجة يمكن الإشارة إلى مايلى:
- يتطلب التحول الوجدانى فهم وتفاعل إيجابى من جانب السلطة، كما جرى مع انتفاضة الطلبة فى مصر (فبراير 1968)، وكما حدث باستقالة الرئيس ديجول عندما أحس بتحول وجدانى شعبى معاكسا لرؤاه.
- بزوغ التحول الوجدانى كرد فعل إستيعابى لما ينبغى من تغييرات فى الشارع السياسىى. يتجسد ذلك فى فوز ظهران ميدمانى بتمثيل الحزب الديمقراطى فى انتخابات عمودية نيويورك.
- التغيير فى نوعية القيادة، نتيجة الحاجة لإستقرار المنظومة.
- تصاعد الحاجة للمقاومة، تماما كما ظهر فى موقف الرأى العام العالمى ضد إسرائيل والتحالف الغربى معها.
أما عن التحول الوجدانى كرغبة، فله ظروفه، مثل:
- سعى السلطة إلى تحسين شكل إدارتها للأمور.
- إستخدام السلطة للحوار كموقف التفافى نتيجة تعرضها لضعف ما، أو تخطيطها لأمر تتجنب الإفصاح عنه، أو رغبة فى الإشغال عن أهداف مستترة.
- إستحداث تحول وجدانى زائف، ترتيبا لخلق أمر واقع.
ثانيا - العلاقة بالمنهجيات:
هنا، يطرأ تساؤلا محوريا:
"إذا كان من المآلات الممكنة للتحول الوجدانى زيادة ضغط الرأى العام فى اتجاه التصحيح، فهل يمكن له أن يقوم بمهمة التصحيح؟".
فى هذا الخصوص، يمكن القول بأن المهمة الرئيسية للتحول الوجدانى تتعلق بتغيير (وتثوير) الوعى والإدراكات، وليس بالممارسة التنفيذية للتغيير.
من أمثلة ذلك أن كانت 25 يناير 2011 بمثابة ثورة وجدانية كبرى، لكنها لم تكن لتصل - بذاتها- إلى إنجاز تغييرات منظومية، لابخصوص السلطة، ولا فى الشارع السياسى.
فى المقابل، فى حالة عدم قدرة الضغط الناجم عن التحول الوجدانى الدفع إلى إحداث تغييرات منظومية، فإنه إما أن يكون مغتعلا، أومنقوص المعايير، أو أن يكون للسلطة التنفيذية، أو للشارع السياسى، أو لكليهما، خصائص ومصالح تؤدى إلى ( أو تتضافرا فى) تحريف التحول الوجدانى. عندها، قد تصل الأمور إلى تخريبات منظومية فى الشأن العام.
هنا، شهد التاريخ نماذج عديدة لتحولات وجدانية داخل عقول شخصيات عسكرية تدفعهم إلى الإنقلابات، والتى تؤل - بالطبع - إلى إفسادات. من أمثلة ذلك ممارسة الإنقلاب العسكرى لفاعليات مانعة أو كاتمة للتحولات الوجدانية. فى هذا الشأن يأتى ذكر الإنقلاب العسكرى الأرجنتينى، والذى اتخذ قرارا شعبويا، باستعادة جزيرة فوكلاند من التبعية لبريطانيا، مما أدى إلى حرب إنتهت بالهزيمة (1982) وبسقوط حكومة الإنقلاب العسكرى.
أيضا، توجد تحولات وجدانية غير ناضجة (و/أو كاذبة)، والتى تظهر كنتاج لمشاعر وأحاسيس مغلوطة.
من أمثلة ذلك يأتى إندفاع البعض من المنتمين إلى المنظومة (مؤسسة أو دولة ..إلخ) فى اتجاه استنكار النقد الموجه لها، دون التفكر والتحقق، الأمر الذى يحول منظومتهم إلى "شبه قبيلة"، مما يُدعم عناصر الفساد داخلها.
ثالثا - العلاقة بالمستقبليات:
كلما اتسعت الكتلة البشرية المنتمية إلى التحول الوجدانى كلما زادت فرصتة، كقوة دفع لماينبغى أن يكون، الأمر الذى يتعلق بالمستقبليات.
]هنا، يجدر الإطلال على ظاهرة إحصائية الطابع: عند التحليل الكمى للظواهر السلوكية، نجد أن التغيير الدال على الظاهرة يبدأ بنسبة منخفضة جدا من أعضاء المجتمع، وفى المقابل، توجد نسبة منخفضة جدا، من غير المبالين بالمرة. مع الوقت، فى حالة صدقية الظاهرة، تزداد نسبة المنتمين لها، بينما تتقلص نسبة غير المبالين بها. وهكذا، تدريجيا، تملأ الظاهرة سماء الشأن العام، تماما كما حال التحول الوجدانى الدولى الجديد[.
ولأن التحولات الوجدانية تكون منصة للتغييرات فى الرؤى والمواقف، فإنها يمكن أن تؤدى إلى نشأة مسار فعلى للتغيير، أو إلى تجنب مسار تغييرى سلبى.
أيضا، يمكن للتحولات الوجدانية أن تكون مدخلا للإتجاه إلى الحوار مع السلطة.
من جانب آخر، قد تكون التحولات الوجدانية سلبية، بمعنى تجسُدها فى أوضاع غير صحية، مثلما قد يحدث مجتمعيا كنتاج لإشكاليات إقتصادية مصحوبة بمشكلات مثل البطالة، وعدم سد الحاجات الأساسية (كالغذاء والمسكن والعلاج).
وأما عن تأثير المستقبليات على التحولات الوجدانية فينبع - أساسا- كإنعكاس للتغييرات التكنولوجية، وذلك على غرار مايلى:
- تعذر انتفاع الشرائح المجتمعية الأدنى ماليا بما تحققه التطورات التكنولوجية من تحسين فى سد الإحتياجات.
- إعادة تصنيف البشر إلى مستفيدين، وغير مستفيدين، من التكنولوجيات الراقية، كالذكاء الإصطناعى.
- تدنى فاعلية الأدوار الدولية فى تجنيب البشر سوء استخدام (أو إحتكار) التكنولوجيات المتطورة من جانب من يمتلكونها ضد من لايمتلكونها.
وهكذا، يمكن لعلاقة التحولات الوجدانية بالمستقبليات أن تمضى فى اتجاهين، إتجاه يتعلق بما ينبغى أن يكون لمصلحة عموم البشر، وآخر ينبع من تعرض الشرائح البشرية الأدنى للحرمان من الإستفادة بالتطورات التكنولوجية.
رابعا - إعتبارات تتعلق بالممارسات:
عمليا، التحول الوجدانى يمثل فعلا أو أداة، وبالتالى تكون له استخدامات، وتكون لفاعلياته احتراسات ومتطلبات، على غرار التالى:
أ) التحول الوجدانى كمنصة إنطلاق للحوار:
هكذا منصة يمكن أن تستخدم فى تفاعلات الشارع السياسى مع السلطات التنفيذية، محليا ودوليا، من أجل التصحيح. ربما فى هذا السياق كانت هناك حاجة (وإمكانية) فى مصر (2017/2018) للحواربشأن قضايا عامة مثل الديون، أو التصرف فى بعض وسائل الإنتاج، غير أن التحولات الوجدانية لم تكن قد وصلت إلى مستوى الدعوة للحوار مع السلطة. ذلك بينما حدث لاحقا (2022 ) أن نظمت الدولة لقاءات، مع نشطاء الشارع السياسى، بمسمى "الحوار"، والتى كانت - عمليا- منصات لإستماع الجميع للجميع، حيث لم تكن تطبق المتطلبات التقانية المتعارف عليها عالميا بشأن الحوار ("من القلق المجتمعى إلى الحوار الوطنى" – الشروق – 2 يوليو 2022 ).
ب) النأى بالتحول الوجدانى عن الإساءة إليه:
قد يتعرض التحول الوجدانى لسوء الإستغلال، الوضع الذى قد جرى فى عديد من البلدان العربية فيما يتعلق بانتفاضات الربيع العربى، والتى جوبهت بمناورات إلتفافية تخريبية، سواء من كيانات دينية متشددة (أو صاحبة أجندات خاصة)، أو من قوى الأمن (الشرعى أو غير الشرعى)، أو جهات أجنبية.
ج- تجنب المصيدة:
ضرورة التحسب من التوجهات التى تجعل من التحولات الوجدانية فرصة (أو مصيدة) لاغتيال المجتمعات، بمعنى تفتيتها. ربما يكون ذلك هو الأقرب لأحداث جرت فى ليبيا وسوريا والسودان. هنا تجدر الإشارة إلى جريمة إختلاق مفهوم زائف بمسمى "الفوضى الخلاقة" (الثقافة العلمية بين البزنسة والتسييس والتمكين – الهلال – ابريل 2016).
د- لا للمزاجيات:
أحيانا يتعرض التحول الوجدانى إلى تأثيرات جانبية من أفراد أو جماعات متنوعة الأطياف. إشكالية هؤلاء أنهم ينحرفون عن الجوهر العام للتحول، ويُغَلِبون توجهاتهم الخاصة، دينية، أو حزبية، أو شخصية ..إلخ، الأمر الذى يرجع إلى ماسبق الإشارة إليه بالوجدانات "اللاوجدانية". هنا، يخضع التحول الوجدانى إلى فاعليات "مزاجية" تؤدى إلى إضعافه. كأمثلة، يمكن الإشارة إلى مصائر التحولات الوجدانية الثورية فى تونس (2010) وفى مصر (2011).
خامسا - متطلبات الإستفادة من التحولات الوجدانية:
الإستفادة من التحولات الوجدانية، كمنصة للتصحيح، تكون أكثر إمكانية فى وجود:
- سلطات قادرة على قبول النقد والتعامل معه معرفيا.
- أنظمة سياسية نشطة، سواء محلية أو دولية.
- مفكرون مدركون لمسؤلياتهم بشأن التصحيح وعلاج الإنحرافات.
فى هذا السياق يمكن جذب الإنتباه إلى أمرين. أولا، حاجة العالم إلى "قوة فكر" فى مقابل "فكر القوة"(المستقبل بين فكر القوة وقوة الفكر – المكتبة الأكاديمية 2006)، ممايتطلب الفاعلية الجماعية للمفكرين، وثانيا، أن النيوليبرالية قد تمكنت من جعل التقدم العلمى/التكنولوجى خادما لغاياتها (خاصة فى العسكرة)، مما زاد من تحكماتها فى استراتيجيات العلم والتكنولوجيا. ذلك إضافة إلى هيمنتها على استخدامات القيمة المضافة لمصالحها (وحلفائها) بأكثر من (وبصرف النظر عن) مصالح عموم البشر.
هذه الوضعية تستدعى وجودية الفكر إلى جانب العلم والتكنولوجيا، وبحيث يكون المشتغلون بالبحث العلمى والتطوير التكنولوجى مفكرون، وليسوا مجرد أدوات فى كيانات يمكن أن تتطرف. بمعنى آخر، ضرورة خروج نشطاء العلم والتكنولوجيا والفكر من وضعية تحولهم إلى بروليتاريا لخدمة النيوليبرالية وحلفائها واتباعييها.
ختاما، تأتى مسألة "فلسفة التحول الوجدانى الدولى الجديد وتوجهاته"، والتى تحتاج تناولا خاص.
#محمد_رؤوف_حامد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟