نادر عبدالحميد
(Nadir Abdulhameed)
الحوار المتمدن-العدد: 8469 - 2025 / 9 / 18 - 00:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تمهيد
في أعقاب العقد البالغ (١١٠) مليار دولار الذي وقعه رئيس وزراء حكومة إقليم كوردستان في واشنطن في (١٩) آيار/مايو (٢٠٢٥)، أوقفت وزارة المالية العراقية إرسال حصة الأقليم من الميزانية والرواتب الشهرية لموظفي إقليم كوردستان. وصرحت وزيرة المالية (طيف سامي)؛ بأن الحكومة المركزية أرسلت كامل الميزانية لهذا العام (٢٠٢٥) ولن ترسل أي أموال إضافية حتى العام المقبل (٢٠٢٦).
وهذه ليست المرة الأولى، بل ومنذ عام (٢٠١٤) قطعت الحكومات المتعاقبة في بغداد مرات عديدة حصة الإقليم من الموازنة، وبعد مفاوضات بين الطرفين تم إرسال الحصة مرة أخرى ومن ثم قطعها فيما بعد. وهكذا أصبحت حياة الجماهير الكادحة ومصيرها في الإقليم رهينة للصراعات بين السلطات المركزية والمحلية في الإقليم، فكل طرف يحاول استغلال سبل عيش هذه الجماهير واستخدامها كورقة ضغط ضد الآخر لتحقيق مصالحه الاستراتيجية الخاصة.
بوادر تكوين حركة إحتجاجية جديدة
حدث التفاقم الحالي في العلاقة بين الحكومة المركزية وحكومة الإقليم في الوقت الذي لم تُدفع فيه رواتب الشهرين الخامس والسادس لسنة (٢٠٢٥) لعمال وموظفي الإقليم، ولم يكن هناك أمل في دفع رواتب الشهر السابع وما بعده أيضًا، وعلى أثره تعمق الركود في السوق وتوسعت البطالة والفقر والبؤس الاقتصادي للمواطنين بشكل فظيع، مما أثار غضب وإستياء الجماهير ضد السلطات في الإقليم، فظهرت بوادر حركة إحتجاجية في منتصف شهر تموز/يوليو (٢٠٢٥)، حيث انطلقت عدة مظاهرات تمهيدية في عدد من المدن والبلدات؛ منها مظاهرة ليلة (١٣٧٢٠٢٥) في بلدة (وەرتی) التابعة لقضاء (رەواندز) في محافظة أربيل، حيث احتجت الجماهير ،علاوة على عدم صرف رواتب العمال والموظفين، على نقص خدمات الكهرباء والماء في هذا الصيف اللاهب. وبدلا من الإصغاء لمطالب الجماهير، قامت قوات الأمن التابعة لـ(الحزب الديمقراطي الكوردستاني) بقمع المتظاهرين دون "رحمة"، حيث أطلقوا النار على المواطنين مما أدى إلى مقتل أحدهم.
أما في السليمانية فقد اعتقلت قوات الأمن التابعة لـ(الإتحاد الوطني الكوردستاني) يوم (١٤٧٢٠٢٥) عددًا من النشطاء واستخدموا العنف ضدهم، وكانت آثار التعذيب واضحة في شكل جروح على وجوه المعتقلين، لمجرد كون هؤلاء النشطاء أعلنوا سابقًا في مؤتمر صحفي بأنهم سينظمون في الأيام القليلة القادمة مظاهرة في المدينة ضد عدم دفع رواتبهم. هذا وقد تعرض ناشط آخر في أربيل للاعتداء الجسدي، وأصيب في جميع أنحاء وجهه، وهُدد بقطع لسانه إذا لم يتوقف عن انتقاد السلطات والأحزاب الحاكمة!
هكذا، أصبح من الواضح أن هناك حركة إحتجاجية ثورية للجماهير الكادحة في طور التكوين والتبلور مجددا في رحم هذا المجتمع للخلاص من الوضع الحالي، كمثيلاتها في السابق في (١٧ شباط ٢٠١١) و(أكتوبر ٢٠٢٥) و(كانون الأول ٢٠١٧)، و(آب ٢٠٢٠) وأن حكومة الإقليم والحزبين الحاكمين، كقوة منظمة ومضادة للثورة، قد وضعت نفسها بالفعل في حالة استعداد لإجهاضها وقمعها.
إلا ان صرف رواتب الشهر الخامس (آيار/مايو) في آواخر شهر السابع (تَمُّوز/يوليو ٢٠٢٥)، بعد مفاوضات ماراثونية بين الحكومتين المركز والإقليم والتوصل إلى إتفاقية أولية، خلق جواً من التفاؤل في دفع الرواتب من الآن فصاعدا والتخلص من الضائقة المالية، وبالتالي حصل التراخي في استعداد الجماهير للولوج إلى ساحة المعركة لنيل حقوقها.
الضربات الاِستباقيّة
لكن الأمر سرعان ما انكشف في أقل من أسبوعين، وتبين أن الاتفاق بين الحكومتين لم يكن سوى مُسَكِّن للألم وحل مؤقت للخروج من المأزق الذي وصلت إليه علاقتهما. وعادت الخلافات لتظهر من جديد، وبدأت حكومة الإقليم بإرسال الوفود للمفاوضات إلى بغداد مرة أخرى، ومعها عاد خوف الجماهير وقلقها من مصير الرواتب وكساد السوق والبؤس المعيشي الذي ينتظرها، من هنا بدأ نشطاء الحركات الاجتماعية والاعتراضية بالتحرك مجددا نحو لملمة الصفوف وما يجب القيام به في الوضع الراهن.
في هذا الجو المشحون بخوف السلطات من إنفجار غضب الجماهير بوجهها، بادر حزبا السلطة في الإقليم بضرباتهم الاِستباقيّة في شهر آب/أغسطس ضد نُشَطَاء الحركات الإحتجاجية والسياسيين من المعارضة البرلمانية، وكل ذلك باسم سيادة القانون وتطبيق أمر القضاء لـ"حكومة الإقليم". فقد أدانت محكمة في أربيل وبتهم مُلَفَّقة، الصحفي والناشط السياسي لمدينة دهوك (شيروان شيرواني) بأحكام قاسية، أربعة سنوات وخمسة أشهر اضافية، وأثناء إجراء المحاكة امتلأت قاعة المحكمة بمسلحي قوات الأمن التابعة لـ(الحزب الديمقراطي الكوردستاني) وعناصره من البَلْطجِيَّـين، حيث قاموا بالإعتداء على عائلة (شيرواني) وأقاربه الذين اعترضوا على قرار المحكمة التعسفي بالإضافة الى تعرضهم لأبشع أنواع الاهانات.
هذا وقامت قوة ملثمة من شرطة السلمانية ليلاً وبأسلوب من التظاهر العسكري المسلح القمعي، وبحجة تطبيق أمر قضائي بمداهمة بيت (شاسوار عبد الواحد) وإعتقاله، وهو رئيس حزب (الجيل الجديد) الحاصل على (١٥) مقعدا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في الإقليم. ليس هذا فحسب، بل وقامت قوات الأمن التابعة لـ(الإتحاد الوطني الكوردستاني) بعسكرة مدينة السليمانية بأكملها وتطويق مقر (لاهور شيخ جنكي) رئيس حزب (جبهة الشعب) الحاصل على مقعدين في برلمان كوردستان، وبعد ساعات من المواجهة المسلحة ومقتل وجرح عدد من أفراد الفريقين المتقاتلين، تم اعتقاله. كل هذه العُنْجهِيَّةُ والعنترية من قبل الحزبين هي بمثابة ضربات إستباقية ومن أجل خلق جو من العسكرتارية وإرهاب الجماهير لترويعها واخافتها من النزول للشوارع والإنتفاضة بوجهها.
المعارضة البرلمانية كـكبش فداء
وكما اكتسبت الحركات الاحتجاجية للجماهير الكادحة خبرة في مواجهة السلطات، كذلك قوات الأمن وأجهزة المخابرات في كلا الحزبين الحاكمين اكتسبت خبرة في القمع والبطش على مدى العقدين الماضيين، وهي الآن جاهزة كقوة قمعية محترفة للثورة المضادة لإجهاض الحركات والإنتفاضات الجماهيرية، ومن ضمن اِستِعداداتها كبح جماح المعارضة البرلمانية، تحجيمها وإسكاتها حتى تتمكن من تكريس نفسها بحرية لأداء دورها كقوى الثورة المضادة دون ثرثرة من المعارضة البرلمانية. هكذا تصبح المعارضة البرلمانية كبش فداء من أجل الحفاظ على سلطة الحركة القومية البرجوازية في كوردستان وبقاءها طوقا في رقاب الجماهير الكادحة.
غلق باب الإصلاحات البرلمانية وعودة الشبح
إذا كان هناك توقعات وآمال واهية بين شرائح وقطاعات معينة من الجمهور لإحداث تغيير إيجابي في حياتهم من خلال البرلمان قبل انتخابات الدورة السادسة للبرلمان (٢٠١٠٢٠٢٤)، فإن هذا الحلم والتفاؤل سرعان ما تلاشى، والآن، بعد عشرة أشهر من تلك الانتخابات، لم يتم تشكيل البرلمان ولا الحكومة العاشرة الجديدة. ليس ذلك فحسب، بل إن أحزاب المعارضة التي شاركت في هذه الانتخابات وفازت بمقاعد برلمانية أصبحت الآن تحت "رحمة" ميليشيات حزبي حكومة تصريف الأعمال في الإقليم.
وبناء على ذلك، فإن هذه الجماهير التي تعرضت للفقر والبطالة وعدم دفع الرواتب والحرمان من العديد من الخدمات الأساسية من قبل الأحزاب الحاكمة وحكومة إقليم كوردستان، تواجه الآن واقعًا لا مجال فيه للإصلاحات البرلمانية.
رغم إن عقد اتفاقيات مرحلية مع الحکومة المركزية، يعطي حكومة الإقليم والأحزاب الحاكمة فرصة على المدى القصير لابعاد شبح الاحتجاجات الجماهيرية وكابوس الثورة ضدهم، إلا أن هذا لن يحل مشكلة البطالة والجوع والحرمان من الحقوق، لأن القضية مرتبطة أساسًا بالنهج الاقتصادي للنظام السياسي الحاكم في الإقليم، وإن مشكلة قطع رواتب عمال وموظفي إقليم كوردستان وقطع حصة الإقليم من الميزانية العمومية للعراق من قبل الحكومة المركزية هي، في أحد جوانبها الأساسية، نتيجة لهذا النهج الاقتصادي الذي تتبعه حكومة الإقليم واحزابها الحاكمة. لذا فان شبح إقدام هذە الجماهير إلى ميدان المعركة ضد النظام ستظهر عاجلا أم آجلاً.
الليبرالية الجديدة، النهج الاقتصادي الطبقي لحكومة الإقليم
بتوجيهات من مستشاريها الأمريكيين والأوروبيين، وباتباع خطط وتعليمات (البنك الدولي)، قامت حكومة إقليم كوردستان، بوعي وبشكل مدروس بدفع القطاع العام إلى الانهيار من خلال سياسات الخصخصة، أي التخلي عن مسؤولية توفير الخدمات العامة والتوظيف والتشغيل في القطاع الحكومي. وفي المقابل، احتكرت قانونياً كل الثروة العامة للمجتمع لصالح المستثمرين ورجال الأعمال؛ أصحاب الشركات والمشاريع الاقتصادية والعقارات والبنوك، الذين غالبيتهم إما من كبار المسؤولين الحكوميين أو الحزبيين أو المرتبطين بالأحزاب في السلطة بألف خيط وخيط، حيث استولوا على ملايين ومليارات الدولارات. هكذا وفرت الحكومة مائدة دسمة مليئة بـ "النعمة والبركات" للرأسماليـين كأقلية في المجتمع وفي السلطة، وفرضت وضعًا مأساويًا من البطالة والفقر والجوع على الجماهير الكادحة أي الأغلبية في مجتمع الإقليم، قمعت وما تزال تقمع احتجاجاتهم بالنار والحديد.
أين المشكلة وما العمل؟
على مدى العقدين الماضيين، ومع تطور الرأسمالية وتراكم الأرباح والرأسمال لدى الشركات في إقليم كوردستان العراق، ومع الأزمة المالية التي تواجهها حكومة الإقليم، وفرضها سياسات قطع الرواتب بين حين وآخر لعدة أشهر على العاملين في القطاع العام، تجلى وبشكل أكثر وضوحا الطابع الطبقي للإحتجاجات الإجتماعية ضد حكومة الرأسمال ورجال الأعمال، وأصبح المحتوى الطبقي لهذا النظام المعادي للجماهير الكادحة واضحا.
هذا وخلال تجربة تاريخية، تبدد تفاؤل هذه الجماهير بالوعود الإصلاحية الفارغة لحكومة إقليم كوردستان والأحزاب الحاكمة وخطابها القومي، ومع كل ذلك، لم تستطع فرض التراجع عليها وإخضاعها لتحقيق مطالبها ونيل حقوقها، رغم كثرة الاحتجاجات والاعتصامات والإضرابات والمظاهرات.
ويعود ذلك أساسًا إلى غياب التنظيم المهني الحر لمختلف الشرائح وتوحيد تنظيماتها في اتحاد عمالي عام على صعيد الإقليم وبأفق يُواجه جذر المشكلة، ألا وهو النهج الاقتصادي والاجتماعي الطبقي لحكومة الإقليم، أي الرأسمالية النيوليبرالية. هذا الأفق هو ما يحفظ استقلالية الطبقة العاملة، واستقلالية صفوف الحركات الاحتجاجية المختلفة للشرائح والفئات المحرومة من مختلف أجندات الأحزاب والحركات السياسية البرجوازية، الحاكمة والمعارضة، المدافعة عن السلطة والناقدة لها. وبقدر ما يكون أفق الاشتراكية داخل الطبقة العاملة ومنظماتها المهنية قوياً ومنبسطاً، وبقدر ما تتحزب الشيوعية داخلهما، تصبح حركة الطبقة العاملة متينة وقادرة ليس فقط لفرض التراجع على السلطة القائمة وتحقيق مطالبها، بل أيضا المضي قدما لتحديها وإزاحتها وإقامة سلطتها العمالية مكانها.
إن قوة الطبقة العاملة وصلابة إرادتها تكمن في تنظيم مختلف الشرائح الاجتماعية من الكادحين والمحرومين، وتوحيد حركتها على مستوى المدن والبلدات في حركة جماهيرية على مستوى الإقليم، ودمجها مع حركة الاحتجاج الجماهيري على مستوى العراق ضد النظام السياسي الطبقي البرجوازي ككل. هذا هو الطريق البروليتاري لإخراج قوت ومصير الجماهير الكادحة من بين فكي كماشة الحكومة المركزية وحكومة الاقليم. وإن هذا هو أمر الشيوعيين وقادة العمال ونشطاء الحركات الاحتجاجية الجماهيرية.
أواخر آب/أغسطس ٢٠٢٥
#نادر_عبدالحميد (هاشتاغ)
Nadir_Abdulhameed#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟