|
التحولات السياسية في بنغلاديش وآفاق النضال الطبقي
نادر عبدالحميد
(Nadir Abdulhameed)
الحوار المتمدن-العدد: 8153 - 2024 / 11 / 6 - 02:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تشابه كان هروب رئيسة وزراء بنغلاديش (الشيخة حسينة) في (٦٨٢٠٢٤) يشبه تمامًا هروب الرئيس التونسي (زين العابدين بن علي) في منتصف کانون الثاني (٢٠١١)، ليس فقط من حيث المحتوى الذي سنناقشه لاحقًا، بل وحتى من حيث المظاهر والأحداث أيضا.
لقد كان انتحار العامل التونسي (محمد البوعزيزي) أمام مبنى بلديته يوم (١٧١٢٢٠١٠) احتجاجا على رفض الشرطة السماح له بالعمل في شوارع المدينة والإذلال الذي مارسته ضده، شرارة لإطلاق حركة احتجاجية جماهيرية قوية، انتهت بتطورها إلى (الثورة التونسية) واضطرار رئيس الدولة إلى الفرار خارج البلاد.
وبالمثل، كانت هناك احتجاجات جماهيرية خاصة في أوساط طلبة الجامعات في بنغلاديش للمطالبة بإلغاء قانون ينص على حصص خاصة في التوظيف في القطاع العام لأفراد العائلات الذين قاتلوا في حركة الاستقلال عام (١٩٧١)، سرعان ما تطورت هذە الاحتجاجات وتحولت بسرعة إلى حركة سياسية تطالب بإسقاط النظام، خاصة بعد مقتل طالب يبلغ من العمر (٢٢) عامًا يدعى (أبو سعيد) وهو من عائلة فقيرة وشارك في المظاهرة بينما كان يرفع علم البلاد بيده، قُتل ( أبو سعيد) برصاص قوات مكافحة الشغب من مسافة (١٥) مترًا فقط وذلك في (١٨٧٢٠٢٤) وبالتالي تصاعدت المظاهرات وامتدت إلى العديد من المدن الرئيسية في البلاد، خاصة العاصمة وتحولت إلى إنتفاضة جماهيرية وإضطرت رئيسة الوزراء الى إنقاذ حياتها بالفرار إلى الخارج.
قبل الثورة التونسية، أشارت تقارير من (البنك الدولي) و(صندوق النقد الدولي) إلى أن اقتصاد البلاد قد نمى بشكل كبير بين عام (٢٠٠٠) و (٢٠١٠) بسبب التغيرات البنيوية التي تم إجراؤها في الهيكل الإقتصادي للبلاد، وأنه يجب علی البلدان الأخری أن تحتذي بها. وهذا يعني أن السلطة السياسية للبلد قد نفذت شروط المؤسستين الدوليتين أي تحرير أيدي الشركات الخاصة، سواء كانت محلية أو أجنبية، مع تخفيض نفقات الدولة للخدمات العامة، وتقليل عدد موظفي وعمال القطاع العام، أي التخلي عن خطة التوظيف في القطاع العام، وإسناد مهمة توفير الوظائف إلى القطاع الخاص، وما إلى ذلك.
من المؤكد أن تونس شهدت تقدما وتطوراً خلال هذه السنوات العشر، ولكن عن طريق فرض البطالة والفقر وتهميش الجماهير الكادحة والمواطنين بشكل عام في الحياة السياسية وإدارة المجتمع، وهكذا فإن الرأسمالية إلى جانب نموها وتقدمها تجلب البؤس للعمال والكادحين لأنها نظام مبني علی التناقضات الطبقية.
وفيما يتعلق بـ (بنغلاديش)، تتحدث وسائل الإعلام العالمية البرجوازية عن "نموذج المعجزة الاقتصادية" في بنغلاديش، ووصفها من قبل البنك الدولي بأنها "قصة ملهمة" للتنمية الاقتصادية. في الواقع، شهدت بنغلاديش نموًا اقتصاديًا واسعًا وأصبحت مقصدا للشركات الأجنبية ومكانًا آمنا للإستثمار، لا سيما في قطاعي المنسوجات وتصنيع الملابس، لدرجة أن مئات الشركات المشهورة عالميًا مثل (H&M) و (Gap) و (Zara) وغيرها، بدأوا بفتح مصانعهم هناك، ولكن مع خلق ظروف عمل أسوأ بكثير من ظروف عمل العمال في تونس.
يبلغ عدد سكان هذا البلد أكثر من (١٧٠) مليون نسمة، وهم يعيشون في بلد صغير المساحة حيث الكثافة السكانية عالية جدًا، أي الملايين من العمال والكادحين مكدسين في بقعة أرض صغيرة وتحت "رحمة " ارباب العمل. وفي غياب الضمانات الإجتماعية يضطر العامل لقبول العمل بأية شروط کانت، فقط من أجل البقاء، ومن امثلتها؛ ورغم طغيان الثقافة الإسلامية الأبوية الرجعية حتى النخاع ضد المرأة في هذا البلد، إلا إن الظروف المعيشية الرأسمالية والبطالة والجوع جعلت سوق الجنس سوقًا مزدهرة في هذا البلد وهذه هي إحدى مآسي هذه الطبقة.
وفقًا للإحصاءات الرسمية، يعيش (٢٠.٥%) من سكان البلاد تحت خط الفقر. هذه هي "القصة الملهمة" و"المعجزة الاقتصادية" للشركات العالمية التي تحقق أرباحًا بمليارات الدولارات سنويا وتراكم رأس المال.
إذن ليس من المستغرب أن يعمل العامل البنغلاديشي (١٢) ساعة يوميا وستة أيام في الأسبوع مقابل أجور منخفضة للغاية، لا تكفي حتى لسد حاجاته الضرورية نظرا لارتفاع أسعار السلع والإيجارات بصورة مستمرة. هذا بالإضافة إلى أن ظروف عمل العمال أشبه بظروف العبودية التي يتم فيها إغلاق أبواب المصانع أمام العمال ولا يمكنهم الخروج منها، حيث حصلت حوادث حريق داخل معامل الملابس واحترقت أجساد مئات العمال، أو دفنوا تحت أنقاض انهيار المباني. كان هناك العديد من الأفلام الوثائقية حول هذە العبودية الرأسمالية.
الطلاب والحصص المخصصة لعائلات المحاربين القدامى هناك حوالي (٦٠) جامعة حكومية و (١١٠) جامعات خاصة ودولية في بنغلاديش تقبل مليون طالب سنويًا وتخرج ثمانمائة الف (٨٠٠.٠٠٠) وتزج بهم نحو سوق العمل حيث العمل والوظائف نادرة فيه، لذا تظل نسبة كبيرة منهم عاطلين عن العمل كعبء على أسرهم العمالية، وبعضهم يهاجر إلى خارج البلاد للعثور على عمل، بينما يحاول البعض الآخر إيجاد أعمال موسمية، غير مستدامة وهشة.
أصيبت أجيال من الخريجين الذين كانوا يتطلعون إلى الحصول على وظيفة أو فرص عمل في القطاع العام بخيبة أمل من القانون المعمول به منذ عام (١٩٧٢)، حيث خصص (٥٦%) من فرص العمل والوظائف في القطاع العام كحصص لأولئك الذين ينتمون إلى أفراد الأسر التي ناضلت من أجل الاستقلال.
أصبح هذا القانون أحد ركائز الفساد في هذا البلد لأن حزب السلطة يستخدمه كوسيلة لتجنيد أشخاص قريبين منه واستخدامه كرشاوى لجذب الناس إلى جانبه والخضوع لأوامره. وقد أدى ذلك إلى الكثير من الاحتجاجات خاصة في (٢٠٠٨)، (٢٠١٣) و(٢٠١٨) ضد هذا القانون لإلغائه.
نتيجة لهذه الاحتجاجات اضطرت رئيسة الوزراء (الشيخة حسينة) في عام (٢٠١٨) إلى إجراء إصلاح، خفضت بموجبه النسبة إلی (٣٠%) وأضافت فئات اجتماعية أخرى مثل (١٠%) للنساء، و(١٠%) أخرى تم تخصيصه لبعض الأقاليم، و (٥%) للأقليات العرقية و(١%) لذوي الإحتياجات الخاصة.
ولكن في ربيع هذا العام (٢٠٢٤) ألغت رئيسة الوزراء هذا الإصلاح، واندلعت الاحتجاجات مرة أخرى وخاصة في الجامعات واستمرت بشكل متقطع حتى (١٧٢٠٢٤) وأصبحت بعد هذا التأريخ حركة موسعة من الشباب والطلاب، الذين ينتمون إلى عوائل عمالية وطالبوا بالإلغاء الكامل لنظام منح الحصص والامتيازات. في تطوره، أصبح هذا الاحتجاج انتفاضة شعبية وثورة سياسية، لعب فيها الطلاب والشباب لأول مرة في تاريخ البلاد دورًا رائدًا، وليس الأحزاب الكلاسيكية، التي سنناقشها لاحقًا.
لمحة عن تاريخ التحولات السياسية في أواخر عام (١٩٧١)، انفصلت (بنغلاديش)، التي كانت تُعرف آنذاك باسم (باكستان الشرقية)، عن (باكستان) بعد حرب أهلية دامية استمرت تسعة أشهر وبتدخل عسكري هندي ضد باكستان ولصالح إستقلال (بنغلاديش).
كان أول رئيس وزراء في هذا البلد هو (مجيب الرحمن)، زعيم (حزب العوامي البنغلاديشي) أي حزب الشعب، وزعيم حركة استقلال بنغلاديش. كان إرثه السياسي في بنغلاديش يتلخص بمحاولة إقامة دولة علمانية تسيطر على اقتصاد البلاد، بعبارة أخرى، تبني رأسمالية الدولة، أو حسب المفهوم المتداول آنذاك بناء "الاشتراكية الوطنية"، فبدأ بتأميم (٧٠%) من مصانع وشركات القطن والألبسة والجوت (Jute) والسكر والشاي، وكذلك تأميم البنوك.
في مارس (١٩٧٤)، ارتفعت أسعار الأرز والمواد الغذائية بشكل حاد، بسبب الفساد وسوء الإدارة من جانب مديري الدولة وموظفيها، إلى جانب الأمطار الغزيرة والفيضانات على طول نهر (براهما بوترا)، حيث غطت مساحة كبيرة من الحقول المنتجة للأرز، وتسببت في مجاعة شديدة حتى نهاية العام حيث مات مليون ونصف مليون إنسان في هذا البلد، وأصبح الكثير من الناس ضحايا للجوع والمرض، وبعدها اندلعت الاحتجاجات الشعبية ضد السلطة.
هذا واتجه النهج السياسي والاقتصادي لـ(مجيب الرحمن) بشكل متزايد نحو قمع الحريات السياسية، وحظر الأحزاب الأخرى وفرض سياسة الحزب الواحد. كل هذا أدى في نهاية المطاف إلى انقلاب عسكري ضده في آب/أغسطس (١٩٧٥) وقتله مع زوجته وأطفاله الثلاثة، باستثناء ابنتين كانتا في رحلة إلى أوروبا في ذلك الوقت، وهما (الشيخة حسينة) و(شقيقتها الصغرى).
بالإضافة إلى هذه الأسباب الداخلية للانقلاب، لعبت (وكالة المخابرات المركزية) الأمريكية أيضًا دورًا، ضمن الصراعات الجيوسياسية العالمية في ذلك الوقت ضد (الكتلة السوفيتية)، في إسقاط (مجيب الرحمن) في بنغلاديش، وكذلك في الانقلابات العسكرية الباكستانية، وخاصة ضد (ذو الفقار علي بوتو) من قبل الجنرال (ضياء الحق) في عام (١٩٧٧) وأخيرا في عام (٢٠٢٢) في الإطاحة برئيس الوزراء (عمران خان) عن طريق الأحزاب الإسلامية، هذا ولا تستبعد دورها في الأحداث الجارية في بنغلاديش لأنها جزء من منطقة تتنافس عليها الصين والهند وأمريكا.
من عام (١٩٧٥) إلى عام (١٩٩٠)، كان هناك (٢٩) انقلابًا وانقلابًا مضادًا في بنغلاديش، وتم تعليق النظام البرلماني. لكن نهاية الحرب الباردة أدى الى ظهور وضع عالمي جديد، حيث أجبر الجنرالات على تسليم السلطة للأحزاب، خاصة بعد تشكيل تحالف بين الحزبين الرئيسيين (حزب العوامي البنغلاديشي-Bangladesh Awami League) و[الحزب الوطني البنغلاديشي-Bangladesh Nationalist Party) للضغط على الجنرال (محمد حسين إرشاد) للاستقالة، واستقال هو في كانون الأول/ديسمبر (١٩٩٠). وجرت أول انتخابات برلمانية في أوائل عام (١٩٩١) وفاز (الحزب الوطني البنغلاديشي)، وهو حزب قومي ليبرالي محافظ، بأول انتخابات وزعيمته (خالدة ضياء) أصبحت أول رئيسة وزراء في بنغلاديش من عام (١٩٩١) إلى (١٩٩٦).
أما في الدورة الثانية في الانتخابات البرلمانية لعام (١٩٩٦)، فقد فاز (حزب العوامي) وأصبحت زعيمته (الشيخة الحسينة) ثاني امرأة رئيسة للوزراء في البلاد.
الا أن (خالدة ضياء) رئيسة (الحزب الوطني) فازت مرة ثانية في انتخابات عام (٢٠٠١)، وأصبحت رئيسة للوزراء حتى (٢٠٠٦).
وهكذا، على الرغم من تحالف هذين الحزبين وهاتين المرأتين في البداية ضد حكم الجنرالات في التسعينيات، إلا أنهما لم يتمكنا من أن يصبحا حليفين في الانتخابات وتشكيل حكومة مشتركة ائتلافية لأن لديهما نهجين سياسيين واقتصاديين مختلفين لإدارة البلاد.
فازت (الشيخة حسينة) مرة أخرى في الانتخابات في ديسمبر (٢٠٠٨) وأصبحت رئيسة للوزراء في بداية عام (٢٠٠٩). وفازت في الدورات الثلاثة اللاحقة (٢٠١٤)، (٢٠١٨) و(٢٠٢٤) وكانت رئيسة للوزراء لمدة (١٥) عامًا متتالية حتى سقوطها في (٥٨٢٠٢٤).
تطور الإسلام السياسي خلال (١٥) عامًا في السلطة، تمكنت (الشيخة حسينة) من السيطرة على جميع مفاصل السلطة الرئيسية، وتفويض جميع المسؤولين رفيعي المستوى في الجهاز الإداري والعسكري والأمني والقضائي للدولة، إلى أشخاص مقربين من عائلتها وتقييد الأنشطة السياسية للمعارضة، بما في ذلك [الحزب الوطني البنغلاديشي-BNP)، التي حوكمت زعيمته (خالدة ضياء) في عام (٢٠١٨) بالسجن (١٧) عامًا. بالإضافة إلى ملاحقة الإسلاميين والقبض عليهم وإعدام بعض من قادتهم.
هذا الضغط على المعارضة البرجوازية، على عكس التفسيرات الليبرالية التي تنسبها إلى الثقافة والعقلية القبلية المتخلفة أو إلى السمات الشخصية، أو التربية أو العقد النفسية وما إلى ذلك، إلا إنه انعكاس لميل السلطة البرجوازية بشكل عام إلى خلق جو من الاستبداد الفكري والسياسي، من أجل خنق السخط الشعبي لمختلف أقسام وشرائح الطبقة العاملة وقمعها.
كما سبق ذكره، فقد نمت الرأسمالية في هذا البلد وتطورت وفرضت معها الكثير من البطالة والفقر والقمع على الطبقة العاملة والتي كانت مصدر استياء شعبي واسع النطاق، وقامت سلطة (الشيخة الحسينة) بقمعها بلا "رحمة". وهذا في حد ذاته خلق أرضية مواتية لنمو وتطور الإسلام السياسي في البلاد. هذا ومن الجدير بالذكر فأن الحزب الليبرالي المحافظ (الحزب الوطني) تحالف مع الأحزاب الإسلامية السياسية ضد حكم (الشيخة الحسينة)، وقد منحهم ذلك ميزة إدخالهم إلى ساحة الصراع السياسي ومنحهم الفرصة لتقاسم السلطة في المستقبل مع (الحزب الوطني).
وهكذا، فإن الأحزاب الإسلامية السياسية التي عارضت في البداية استقلال (بنغلاديش) والانفصال عن (باكستان)، والذين ساعدوا الجيش الباكستاني في ذلك الوقت في مذبحة حركة استقلال بلدهم واحتقرهم شعب بنغلاديش، لكن الآن وخلال حكم (الشيخة الحسينة)، نشطوا وتوسعوا وكسبوا نفوذا داخل المجتمع بحيث أصبحوا عقبة حقيقية أمام التنمية الاجتماعية والثقافية وأي نوع من الليبرالية الإجتماعية أو أي صوت علماني وحداثوي، هم يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة دولة إسلامية، وكثير من الشعراء والكتاب فروا من البلاد إلی الخارج بعد تهديدات لهم من قبل الإسلاميين.
الحركة طلابية؛ الثوروية في الأسلوب والرجعية في الآفاق في مجتمع رأسمالي مثل بنغلاديش، تنتمي نسبة صغيرة من الطلاب إلى عائلات مرفهة برجوازية أو عائلات طبقة متوسطة، وينتمي معظمهم إلى أسر الطبقة العاملة، فهم جزء من الطبقة العاملة قبل استكمال دراساتهم، وحين تخرجهم ينتمون إلى مختلف شرائح وفئات وأقسام الطبقة العاملة، لذا فإن قضية الطلاب هي قضية الطبقة العاملة.
للاحتجاج الطلابي جذور عميقة وطبقية، تبرز في فترات مختلفة حول مسائل ومطالب معينة لكن لا يمكن حصرها فقط داخل تلك المسائل والمطالب، إن معارضة (قانون الحصص) والمطالبة بإلغائه هي مجرد وسيلة تبلورت خلالها الحركة بسرعة قياسية.
كانت جميع ميول الطلاب وإتجاهاتهم الفكرية والسياسية والحزبية متحدة بشكل عفوي في حركة جماهيرية عامة، حول مطالب معينة علی رأسها إلغاء (نطام الحصص الممنوحة) وخلال تطورها برزت كحركة سياسية جماهيرية لإسقاط السلطة.
كانت المنظمات الطلابية جميعها منخرطة في هذا الحراك، من المنظمة الطلابية التي تنتمي إلى حزب المحافظين (الحزب الوطني البنغلاديشي) والمنظمات الطلابية التابعة للأحزاب والجماعات الإسلامية، إلى العديد من الحلقات والمجاميع المستقلة للطلاب الليبراليين والتحرريين واليساريين، والإشتراكيين، جميعهم كانوا نشطين في هذا الحراك الجماهيري.
أما بالنسبة للتنظيم الطلابي التابع للحزب الحاكم (حزب العوامي)، فقد كان هذا التنظيم عصا في أيدي السلطات لقمع الطلاب، وفي العديد من الاحتجاجات نفذوا أعمال عنف وبلطجية ضد الطلاب المحتجين.
والآن نجحت هذه الحركة على الأقل في الإطاحة بحكومة (الشيخة الحسينة) وإلغاء هذا القرار، فخسرت ما جمعته ككتلة متجانسة، وكل تيار فكري-سياسي وأيديولوجي أو حزبي يحاول طرح أجندته وكسب أكبر قدر من المكاسب.
اتضح في اليوم الأول من سقوط حكومة (حزب العوامي) أن هذه الحركة، على الرغم من أسلوبها الثوري في المقاومة والمواجهة مع السلطات، إلا إن أفقها السياسي والاجتماعي أفق رجعي بامتياز وخدم مصالح الثورة المضادة وساعد على جمع قواها.
أعلن زعماء هذه الحركة فور فرار رئيسة الوزراء، عن معارضتهم للجنرالات بعدم الاستيلاء على السلطة، وهو أمر جيد، لكنهم أعلنوا رغبتهم في تشكيل حكومة مؤقتة من قبل (محمد يونس) صاحب (بنك الفقراء) والحائز على جائزة نوبل، وهو خبير إقتصادي ورجل مصرفي، وشخصية موثوقة في دوائر المؤسسات الدولية الإمبريالية. لقد فضلوا جناحا واحدا من الثورة المضادة على الأجنحة الأخرى. هذا الأفق الذي يهيمن على الحركة الطلابية اليوم هو أفق (الحزب الوطني البنغلاديشي) أي الحزب البرجوازي المعارض والمحافظ بزعامة (طارق رحمن) ابن (خالدة ضياء).
آفاق الصراع الطبقي كل هذه التضحيات والبطولات في مواجهة المؤسسات القمعية للدولة البرجوازية من قبل الشباب والشابات الذين ينتمون في الغالب إلى العوائل الكادحة في بنغلاديش، وكل هذه التضحيات التي قدموها حيث فقد ما يقرب من (٥٠٠) شخص حياتهم، والنتيجة هي إزالة النخبة الحاكمة واستبدالها بنخبة أخرى في نفس المؤسسة، أمر مؤسف حقًا وواقع مؤلم.
وهذا يعكس غياب الوعي الطبقي والتحزب الشيوعي داخل الطبقة العاملة وغياب هيمنة الآمال الاشتراكية والمساواتية علی صعيد المجتمع، وإن هذا ليس فقط مشكلة (بنغلاديش)، بل مشكلة كل بلدان العالم، إن الشيوعية أمامها تحديات كبيرة ومصيرية.
ما جرى في بنغلادش مشابه للعملية السياسية والصراع الطبقي في (تونس) الذي ذكرناه في بداية هذا المقال. ففي هذا البلد، أطاحت ثورة جماهير العمال والكادحين بالحكومة وانهارت البنية الفوقية للمجتمع. ومع ذلك، فإن غياب حركة شيوعية متحزبة داخل الطبقة العاملة جعل الثورة ساحة لنضال التيارات المناهضة للثورة من القوميين والإسلاميين والليبراليين للاستيلاء على السلطة وإعادة تشكيل البنية الفوقية للمجتمع الطبقي كي تمنع الطبقة العاملة والشيوعيين من المساس بالبنية التحتية الإقتصادية والإجتماعية الطبقية. وفي نهاية المطاف، ومن خلال صراعات كل هذە الأجنحة المختلفة للثورة المضادة، تمكنوا من إعادة إنتاج نفس النظام السياسي السابق، وإن كان ذلك بوجه جديد، وهو (قيس سعيّد)، الذي يواصل طريق (زين العابدين بن علي). إن قيس سعيّد هو نتاج إعادة إنتاج البرجوازية للنظام السابق، كما هو الحال بالنسبة لمصر حين أستولى الجنرال (عبد الفتاح السيسي) على السلطة وهو نتاج إعادة نظام (حسني مبارك) من قبل البرجوازية المصرية بعد (ثورة ٢٥ کانون الثاني -٢٠١١).
إن ما حدث في بنجلاديش كان تكرارًا لنفس تداول السلطة طوال الثلاثين عامًا الماضية بين جناحي البرجوازية القومية النيو- الليبرالية الرجعية، أي بين (حزب الشعب) و(الحزب الوطني)، وهذه المرة مع إختلافين؛ الأول هو ليس من خلال الانتخابات المباشرة، بل من خلال انتفاضة شعبية تعقبها إنتخابات للتداول السلمي للسلطة، وثانيًا، على عكس تاريخ البلاد السابق، حيث كانت الحركات الإسلامية بغيضة وقبيحة في نظر الجماهير، فقد أصبحت الآن قوة اجتماعية وسياسية في البلاد، ومن المرجح أن ينعكس ثقلها في عملية نقل السلطة السياسية هذه المرة في البلاد.
إن هذە العملية التأريخية واضحة في إطارها العام وهي قيام انتفاضة وثورة شعبية أطاحت ب(حكومة بنغلاديش)، وسرعان ما قامت البرجوازية المحلية وبمساعدة البرجوازية الإمبريالية العالمية، في إخماد الوضع الثوري وإعطاء الجماهير المضطهدة، العاطلة والجائعة في البلاد، توقعا بأن الحكومة المؤقتة لـ(محمد يونس) ستمهد الطريق لحل جميع مشاكلهم ومصائبهم وذلك خلال إنتخابات مبكرة في الأشهر الثلاثة المقبلة كي ينتخبوا بنفسهم، وفي إنتخابات "حرة ونزيهة"! حكومة جديدة من حزب آخر أو من ائتلاف من الأحزاب، أو من مجموعة من التكنوقراط الذين يخدمون المؤسسات الإمبريالية العالمية، لمواصلة نفس النظام الاقتصادي والسياسي الذي جلب لهم البؤس والمصائب حتى الآن!
هناك ثلاثة أشهر من المناخ السياسي المفتوح نسبيًا للطبقة العاملة والشيوعيين لتنظيم أنفسهم وحشد قوتهم لتشكيل قطب طبقي لمواجهة وتعطيل كل هذه الدراما المعروضة على المسرح البرجوازي، وإنها ليست بمهمة سهلة في فترة الثلاثة أشهر القصيرة التي حددتها الحكومة المؤقتة لإجراء انتخابات برلمانية، لصعود من كانوا في المعارضة إلی السلطة لحماية نفس النظام السياسي الطبقي، إلا إن الشيوعيين والطبقة العاملة في بنغلادش ليس لديهم حل جذري آخر غير العمل بجد على هذە الإستراتيجية.
اليوم، وفي جميع بلدان العالم الرأسمالي، تجري يوميا وباستمرار إعتراضات مختلف شرائح الطبقة العاملة والكادحين، وتتصاعد نضالاتهم في بعض البلدان إلى أن تصل، في ظروف معينة، إلى الإنتفاضات والثورات والإطاحة بالسلطة السياسية هنا وهناك، لكن النتيجة في التحليل النهائي هي الإطاحة بجناح سياسي معين أو تيار معين من البرجوازية الحاكمة واستبدالها بتيارات وميول برجوازية أخرى.
لن تنتهي هذه الحلقة المفرغة ما لم تنهيها الحركة الشيوعية البروليتارية بتنظيم الطبقة العاملة حول أفق اشتراكي ثوري في الاستيلاء على السلطة وفرض الإرادة الطبقية للعمال والكادحين (أي فرض دكتاتوريتهم الطبقية) ضد الطبقة البرجوازية والنظام الرأسمالي.
في العراق، واجهنا نحن الشيوعيون في (منظمة البديل الشيوعي) انتفاضة الشباب والشابات في عام (٢٠١٩)، قمنا بالتحليل الطبقي لهذە الظاهرة في وسائل الإعلام والمنشورات الخاصة بنا، وحددنا قوى الثورة المضادة داخل صفوفها، ليس هذا فحسب، بل ورفعنا أيضًا شعار النضال المتمثل في ( كل السلطة للجماهيرالمنتفضة) وطرحنا نهجا في خطوط عامة لانتصارها، وعملنا داخل الإنتفاضة بجد لتثبيت هذا الخط والنهج السياسي الطبقي.
هنا نحن لسنا بصدد تقييم ما قمنا به وما لم نتمكن من القيام به داخل إنتفاضة أكتوبر (٢٠١٩)، بل بصدد إثارة فكرة وهي: ما إذا كانت هناك قوة يسارية وشيوعية واضحة في افقها الفكري والسياسي داخل هذا الحراك الثوري في بنغلاديش، لتقييم طبيعتها الطبقية وطرح سیاسة طبقية إشتراكية وشعارات نضالية ثورية، وأن تعمل بجد خلال تكتيكات ثورية على دفعها نحو الأمام والانتصار؟ أواخر أيلول/سبتمبر ٢٠٢٤
#نادر_عبدالحميد (هاشتاغ)
Nadir_Abdulhameed#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحرب في أوكرانيا والحفاظ على الاستقلال الطبقي
-
جذور الفاشية المعاصرة في إسرائيل
-
ربيع کوردستان، تلاحم المأساة والهبات الثورية
-
إقليم كوردستان، إفلاس السلطة وعجز الحركات الاحتجاجية
-
إقليم كوردستان العراق، إفلاس السلطة وبديلان واقعيان
-
الدرس الأهم، في الذكرى الثانية والثلاثين للحركة المجالسية في
...
-
كيف ننظم الحركة الإحتجاجية الطلابية في إقليم کوردستان العراق
-
كوردستان العراق، إطالة عمر البرلمان ومتاهات المعارضة
-
الصراع الأصلي في كوردستان العراق، صراع بين الحركة الشيوعية و
...
-
مكانة تيار الإسلام السياسي في إقليم كوردستان العراق
-
مكانة البرجوازية القومية الكوردية والإقليم الخاضع لها في إعا
...
-
تجربتان من افغانستان
-
إقليم کوردستان العراق، موقفان متضادان تجاه الانتخابات المبكر
...
-
حول النهضة الإسلامية وظهور الإسلام السياسي
-
هامش الحرية والجو السياسي المنفتح في العراق
-
قضية المرأة في العراق، الحرية والاشتراكية
-
كوردستان العراق، العقدة التأريخية الواجب فكها. (في الذكرى ال
...
-
الحركة الإحتجاجية في کوردستان محدودة القدرة، عليها ان تتخط
...
-
تجسید الإشتراكية كبديل واقعي لإقليم كوردستان العراق، م
...
-
الأوضاع السياسية في كوردستان العراق واربعة بدائل سياسية
المزيد.....
-
ترأس سجنا بنظام الأسد.. أمريكا تعتقل سمير عثمان الشيخ وهذا م
...
-
-بداية شرق أوسط مختلف-.. مستشارة سابقة بالبنتاغون تعلق لـCNN
...
-
روسيا.. اعتماد جلد بشري اصطناعي لعلاج الجروح والحروق
-
إعلام سوري: غارات إسرائيلية تستهدف جبل قاسيون في دمشق (صور)
...
-
ماذا يفعل -نظام الوجبة الواحدة- بأجسامنا؟
-
الأزمة السورية وفرص الحل
-
مأساة ديمغرافية تنتظر أوكرانيا
-
تقرير يكشف عن وثيقة عسكرية قبيل أيام من سقوط الأسد
-
البنتاغون يعلن عن اختبار ناجح لصاروخ فرط صوتي
-
3 حبات في اليوم كافية.. لماذا يجب عدم الإكثار من تناول اليوس
...
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|