نادر عبدالحميد
(Nadir Abdulhameed)
الحوار المتمدن-العدد: 8347 - 2025 / 5 / 19 - 02:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقدمة
رسالة (عبد الله أوجلان) زعيم (حزب العمال الكردستاني -PKK) والسجين السياسي في تركيا منذ (شباط ١٩٩٩)، التي نشرتها وسائل الإعلام العالمية في (٢٧) شباط (٢٠٢٥)، والذي خاطب فيها الحزب إلقاء السلاح وحل نفسه، أتت بعد أربعة أشهر من تصريح (دولت باخجلي)، وهو زعيم [حزب الحركة القومية -MHP] التركية، حليف حزب (اوردغان) الحاكم [العدالة والتنمية-AKP]، في آواخر تشرين الأول (٢٠٢٤)، حيث قال باخجلي: "إذا تم رفع العزلة عنه (أوجلان)، فعليه أن يأتي إلى البرلمان ويعلن حل حزب العمال الكردستاني وإنهاء الإرهاب في تركيا". ثم أكد كلامه هذا في سلسلة من اجتماعات كتلة حزبه البرلمانية.
من الواضح إن هناك تشاورا وتبادلا للآراء وبمعنى ما حِوارًا ومفاوضات خفية جرت خلف الستار خلال الأشهر الأربعة الماضية، وان رسالة أوجلان هذه هي نتيجة تفاهم وتوافق معين ضمن إطارها العام بين التيار الاسلامي القومي التركي الحاكم والمكون من الحزبين؛ حزب أردوغان (AKP) وحزب باخجلي (MHP) مع التيار القومي الكردي المعارض في تركيا؛ أي مع (حزب الشعوب للمساواة والديمقراطية -DEM Party) مباشرة، وهو حزب في البرلمان التركي، وعن طريقه وبصورة غير مباشرة مع الـ(PKK) المحظور بتهمة الإرهاب.
إن عمر هذە العملية التفاوضية بين تياري السلطة والمعارضة القومية الكوردية، ربما تعود لأكثر من أربعة أشهر، وتصريحات بهجلي نفسها، باعتبارها المبادرة لإعلان العملية للرأي العام في تركيا والعالم، هي نتيجة تفاهمات وتوافقات سابقة وسرِّيَّة بين الجانبين.
المفاوضات وتقوية القمع السياسي الأردوغاني
لنبدأ الموضوع بسؤال وجيه، هل هذه المفاوضات هي نتيجة لتبني سياسات واستراتيجيات من قبل الحزبين الحاكمين (AKP) و(MHP) لتعزيز الحرية وإنتعاش الديمقراطية داخل المجتمع وداخل مؤسسات الدولة في تركيا؟
لمعرفة ما إذا كانت عملية التفاوض هذه جزءًا من عملية تحول ديمقراطي أشمل وأكثر عمومية في تركيا، أم هي جزء من عملية واستراتيجية سياسية أخرى، لسنا بحاجة للعودة إلى تاريخ العقدين الماضيين من حكم أردوغان الذي طور مركزية السلطة والقمع السياسي وإنتعاش الارتجاع الديني والإرهاب الحكومي والعسكرتارية، والقيام بحملات قمع ضد الإعلام، والمعارضة، والنقابات، وسجن الآلاف بتهم سياسية، ... بل يكفي أن نرى أيضا، حاليا وخلال فترة هذه المفاوضات كيف يقوم بإقالة مديري البلديات المنتخبين لأحزاب المعارضة، خاصة لـ(DEM Party) بشكل يومي واستبدالهم بالقيّوم (أي تعيين الأوصياء من قبل الحكومة).
ليس هذا فحسب، بل وفي الآونة الأخيرة كيف قام برفع دعاوی قانونية ضد رئيس بلدية إسطنبول (إمام أوغلو) بتهمة الفساد ودعم الإرهاب، وهو مرشح قوي من جانب (حزب الشعب الجمهوري-CHP) المعارض لتحدي أردوغان في الانتخابات المقبلة في (٢٠٢٧)، وقد اعتقلوه في (١٩٣٢٠٢٥) بهذه التهم ووضعوه في السجن، كما فعلوا في عام (٢٠١٦) ضد (صلاح الدين دميرتاش) المسجون لحد الآن، هذا بالإضافة إلى القصف اليومي لكوردستان العراق بذريعة محاربة (PKK) والإرهاب وكذلك قصف المناطق الكوردية في شمال شرق سوريا (روزافا) ودعمه لميليشيات الإسلام السياسي الإرهابية ضد (حزب الاتحاد الديمقراطي-PYD) الكوردي في سوريا تحت نفس الذريعة.
هكذا يبدو واضحا جدا أن هذه المفاوضات لا علاقة لها بالانفتاح السياسي في تركيا، ولا بأي عملية لترسيخ الديمقراطية وتوسعتها داخل المجتمع ومؤسساته الحاكمة في هذا البلد، بل على العكس من ذلك، هي جر قسم من المعارضة في تركيا، وهي المعارضة القومية البرجوازية الكوردية المتمثلة بالتيار الأوجلاني، للالتحاق والانضمام إلى عملية صيانة وديمومة النهج السياسي المتبع لحد الآن من قبل السلطة الحاكمة، كي تحد من أزماتها الداخلية، وتفرض التراجع على المعارضة التركية بأكملها، وتضمن فوز أردوغان وتياره السياسي في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في (٢٠٢٧).
أي أن هذه المفاوضات لا تشكل انقطاعاً ولا انقلاباً على النهج السياسي المتبع حتى الآن من قبل الحزبين الحاكمين (AKP) و(MHP)، بل تخدمه بموضوعية وتهدف إلى تعزيزه وتوطيده.
إن نمو وتطور الرأسمالية في تركيا، كما هو الحال في جميع البلدان الأخرى، بما في ذلك أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، لا يتطلب تحدي الديمقراطية فحسب، بل يتطلب أيضا إعطاء الفرص والمساحات السياسية لميول النازيين الجدد والفاشيين لتمرير اجنداتهم، إن نزوح الميل السياسي لدى السلطة في تركيا نحو الفاشية، هو جزء من عملية عالمية تجري الآن بدرجات متفاوتة في جميع دول العالم، بما في ذلك في البلدان الواقعة في قلب الديمقراطيات العالمية؛ في أوروبا وأمريكا، وهي تعكس مدى تفسخ النظام الرأسمالي العالمي وهمجية السلطة البرجوازية.
إن عملية التفاوض هذە، رغم ما توحي مظهرها الخارجي بالانفتاح السياسي وبسط الديمقراطية، لكن جوهرها على العكس تماما تخدم تقوية الارتجاع السياسي والميل الإستبدادي لدى التيار السياسي الحاكم حاليا.
المفاوضات ورؤية اوجلان لـ"المجتمع الديمقراطي"
إن الحركة الأوجلانية داخل تركيا، بجميع منظماتها المدنية والثقافية والحزبية (DEM Party)، وكذلك كل إنسان عادي في كوردستان تركيا، يشعرون بالقمع السياسي وتضييق الحريات ويعانون يوميا من الممارسات الشوفينية من قبل القوميين الأتراك والسلوك الفاشي للجيش والشرطة. لا أوجلان ولا أي شخص ينتمي إلى الحركة الأوجلانية يعتبر هذا الاستبداد الذي يمارسه نظام أردوغان- باخجلي نظاماً ديمقراطياً، حتی في رسالته يؤكد اوجلان للقوميين الأتراك والسلطة السياسية الحالية بأن: "الجمهورية التركية بعد مائة عام، إذا أرادت أن تبقى موحدة وأن تكون لها اتحاد مستدام في الألفية الثانية، فلا يمكن تحقيقها إلا من خلال تتويج الديمقراطية". هذا من جانب.
ومن جانب آخر تصر نظريات أوجلان وأطروحاته الفكرية والسياسية على النضال من أجل تحقيق "مجتمع ديمقراطي" يتم فيه ضمان الحقوق القومية والدينية والثقافية للأمم والأديان والمجاميع العرقية، وما إلى ذلك، ويتم تحقيق وحدة وأخوة الأمم والأديان والطوائف في هذا "المجتمع الديمقراطي"!
والسؤال هنا هو، هل سينظر أوجلان وحركته إلى هذه المفاوضات على أنها عملية تحقق من خلالها، إن لم نقل "المجتمع الديمقراطي" المنشود في أطروحاته الفكرية، فعلى الأقل تحقق خلالها نوع من "الديمقراطية التي تبقي تركيا في ظلها متحدة ضد أعدائها" الذين هم قوى "الحداثة الرأسمالية" الغربية المهيمنة على العالم، والتي دمرت الوحدة بين الأكراد والأتراك والشعوب الأخرى في الجمهورية التركية في المائة عام الماضية؟ حسب ادعاء أوجلان.
على النقيض من اشتراكية الدولة والتخطيط المركزي للاقتصاد من الأعلى إلى الأسفل، يؤكد أوجلان في أطروحاته الفكرية السياسية استنادا إلى نظريات (مورای بوكجين-Murray Bookchin) اللاسلطوية (Anarchism)، على دمقرطة المجتمع عن طريق تنظيم الاقتصاد والعلاقات الإجتماعية السياسية من الأسفل، دون الدعوة إلى ثورة من الأعلى ضد السلطة السياسية الرجعية والمعادية للحرية والديمقراطية في الدولة التركية، (وبطبيعة الحال، فإن الأمر نفسه ينطبق على جمهورية إيران الإسلامية والعراق وسوريا ودول أخرى).
يمكن اعتبار هذا التنظير من قبل أوجلان الأساس الأيديولوجي لهذه التسوية مع حكومة أردوغان-باخجلي الحاكمة في تركيا وتسوية (حزب الاتحاد الديمقراطي-PYD) في سوريا مع حكومة أحمد الشرع المنشأة حديثا و(حزب الحياة الحرة. Pzhak) مع جمهورية إيران الإسلامية.
لا يتطلب الأمر الكثير من التفكير العميق لندرك أنه في ظل الأنظمة البرجوازية القومية والإسلامية الرجعية والاستبدادية؛ في تركيا وجمهورية إيران الإسلامية، ونظام أحمد الشرع في سوريا الذي تأسس حديثاً، لا يمكن لمجتمعات هذه البلدان أن تتحول إلى الديمقراطية من الأسفل وتحقيق الحريات المدنية والسياسية. إن الشرط الأساسي لمثل هذا التغيير والتحول بصورة جذرية وثابتة هو الإطاحة بهذه الأنظمة السياسية البرجوازية وسلطة الطبقة الرأسمالية من خلال النضال الطبقي الثوري لجماهير العمال والكادحين.
هناك حالة وهي الإزاحة المؤقتة للسلطة المركزية في ركن من أركان البلاد، التي تخلق فراغا سياسيا وتوفر الفرصة للحركات والقوى المنظمة سياسيا في تلك الزاوية من البلاد لتنفيذ أجنداتها. مثل تجربة إقليم كوردستان العراق بعد (١٩٩١)، وتجربة (PYD) في كوردستان سوريا بعد عام (٢٠١١)، في كلتا الحالتين تم فرض اجندات سیاسية إجتماعية وإقتصادية على المجتمع من الأعلى من قبل سلطة مركزية محلية أي من قبل (حكومة إقليم كوردستان العراق) و(الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا).
يستطيع أوجلان وحركته أن يزعموا أن هذه المفاوضات هي صراع يمكن من خلاله فرض واقع "المجتمع الديمقراطي" من الأسفل على هذه السلطات ضد إرادتها. إن هذا التحليل الفكري لكيفية إنشاء "مجتمع ديمقراطي" مزدهر وفرضه من الأسفل على السلطات المركزية ضد إرادتها، هي تبرئة أيديولوجية لسياسة طبقية واقعية وعملية. إن سر عملية الحوار والتفاوض والتفاهم السياسي هذه الآن مع السلطات في تركيا وسوريا، وربما في المستقبل مع السلطات في إيران، يكمن في جوهرها العملي، وهو المحتوى الطبقي والقومي لهذا التيار الأوجلاني المستعد ليكون جزءا من عملية تعزيز السلطة السياسية المركزية لهذه الدول مقابل الحصول على بعض الحقوق القومية والثقافية، أي تكرار تجربة الأحزاب القومية الكوردية لكوردستان العراق في تركيا وسوريا وإيران أيضاً.
إن هذا الحوار والتفاوض الذي يفتح الباب أمام تحقيق الحقوق القومية لشعب ظل تحت الاضطهاد القومي جيلا بعد جيل وتحت إنكار الوجود واللغة والثقافة منذ مائة عام من تأسيس جمهورية تركيا الحديثة، يبدو أنه فتح آفاقا للتخلص من القمع والإضطهاد وهو مصدر فرحه وشعوره بالحرية، وهذا ما نراه هذه الأيام وبمناسبة احتفالات عيد النوروز، لكن على المدى الطويل، ومن خلال ترسيخ أركان الاستبداد والرجعية السياسية للتيار القومي الإسلامي التركي، فإن ثمن هذا الشعور بالحرية المؤقتة سيصبح قيدا أكثر صرامة على حياة ومصير الغالبية العظمى من هذا شعب وهم العمال والكادحين في المستقبل، كما نشاهده في إقليم كوردستان العراق هذە الأيام.
-يتبع-
اواخر مارس ٢٠٢٥
#نادر_عبدالحميد (هاشتاغ)
Nadir_Abdulhameed#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟