حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)
الحوار المتمدن-العدد: 8468 - 2025 / 9 / 17 - 20:12
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
العلم والمعرفة والنظريات الإنسانية ودراساتها ليست رطانة أو لغوا يمارسه البعض رفاهية أو ترفا أو استعراضا، بل هي أدوات ومدخلات أساسية للتعامل مع تعقد الواقع الإنساني المعاصر، خاصة على مستوى السياسات الخارجية للدول وتحولها في القرن الـ21، مع سيطرة نظريات الصدام الحضاري والفكر الامبراطوري الاستباقي ضد الآخر على العقلية الأمريكية، وحضور هذه النظريات في خلفية القرار الغربي في معظم تمثلات السياسة الدولية.
اسبرطه الشرق الأوسط
والعسكرة الدائمة
ومؤخرا تحدث رئيس وزراء الاحتلال "الإسرائيلي" عن "إسرائيل" بوصفها اسبرطة الشرق الأوسط، وتحول مفهومها نحو "العسكرة الدائمة"، وهو المسار الذي طرحته بنفسي في بعض قراءاتي الأخيرة حيث ذكرت إن "إسرائيل" كشفت عن وجهها الحقيقي، وتخلت عن الصور النمطية للحروب القصيرة والهشاشة الاقتصادية التي مررتهم عالميا وإقليميا.
حقيقة يحتاج الأمر لرجال شجعان لا يفتقدون للجرأة والحكمة معا عند تناول مصائر الأمم في لحظات التحول التاريخية، وكررتها مرارا وأكررها الآن.. تحتاج الذات العربية لإعادة تأسيس وجودها الجيوثقافي، لأن لدينا أزمة في النظرية المعرفية التي تحكمنا وتحكم مصر تحديدا منذ سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، الأزمة هي تجمد نظريتنا المعرفية ووقوعها في منطقة التناقضات والعجز.
وقبل أن نتطرق لدلالة استخدام نتانياهو واستحضاره لمدينة "اسبرطه"، هناك وقفة لابد منها وحان وقتها الآن مع النظرية المعرفية التي تحكم البلاد وتحدد مساراتها رغم أنف الجميع..، فمهما حاولنا الإشارة تلميحا إلا أنه لم يعد هناك من بد سوى التصريح.
أزمة النظرية المعرفية المصرية
إن الأزمة وتجمد نظريتنا المعرفية ووقوعها في منطقة التناقضات والعجز، يرجع إلى أن نظريتنا المعرفية انقسمت إلى قسمين كل منهما يتحرك في وجهة غير الأخرى دون علاقة عضوية جامعة، أو دور واضح، القسم الأول يمكن أن نسميه القسم الثقافي العام الذي بعد اتفافية كامب دافيد اتجه نحو تصورات ما بعد الحداثة ونهاية السرديات الكبرى، وتعامل مع الفنون على المستوى الشكلي دون اهتمام بالمضمون والبعد الاجتماعي، وتمثل هذا القسم في السياسة الثقافية المصرية الثانية في العهد الجمهوري التي تبلورت في تسعينيات القرن الماضي مع الثنائي فاروق حسني/ جابر عصفور (بينما كانت السياسة الثقافية الأولى للجمهورية مع ثروت عكاشة في العهد الناصري).
أما القسم الثاني من النظرية المعرفية المصرية يمكن أن نسميه القسم الاستراتيجي المؤسسي، الذي ارتبط بمؤسسات الدولة السيادية في الفترة نفسها، والذي تعرض لعملية التناقضات ذاتها لوجود التناقض في صميم ماكينة عمله، لأنه تم تقييده بالعمل في ظل قيود اتفاقية السلام بالتركيز على الملفات الإجرائية والتكتيكية، وإبقاء النظرية الاستراتيجية المصرية في هيمنة أبنية غير متجددة معرفيا، يسيطر عليها البعض –أو الحقيقة يسيطر على مدخلاتها ومواردها البشرية- بحجج تتعلق بالسياسات الداخلية.
وهذا كان موضع عجز النظرية المصرية الجيوثقافية؛ أن القسم الثقافي العام اتجه على مستواه الرسمي لتصورات ما بعد الحداثة ونهاية السرديات الكبرى، والقسم الاستراتيجي المؤسسي تم تقييده بالإجرائي والتكتيكي ... وشيئا فشيئا افتقدت النظرية المعرفية المصرية بشقيها (العام والاستراتيجي) للقدرة الفاعلة على الاستجابة للمتغيرات النظرية المعرفية الدولية، خاصة وتحديدا في فترة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وظهور نظريات الصدام الحضاري والعولمة الثقافية.
الانفصال عن الواقع التاريخي
وغياب الاستجابة لـ:"العولمة الثقافية" و"الصدام الحضاري"
ونعني تحديدا عدم تقديم القسم الثقافي المصري العام لرؤى ثقافية ردا على ظهور مشروع العولمة الثقافية، وعدم تقديم القسم الاستراتيجي المصري المؤسسي لرؤى استراتيجية ردا على ظهور مشروع الشرق الأوسط ونظريات الصدام الحضاري.. وهذه هي لحظة الأزمة المعرفية المصرية، لأنه تواكب منذ نهاية التسعينيات ظهور مشروع ثقافي عام للهيمنة عالميا باسم "العولمة الثقافية"، وظهور مشروع استراتيجي للسيطرة الأمريكية باسم "الصدام الحضاري" مستهدفا ثلاثة نطاقات بعينها (الروسي- الصيني- العربي/ الإسلامي).. ولم تكن هناك استجابة مصرية/ عربية فاعلة لأي منهما لا على المستوى الثقافي العام، ولا على المستوى الاستراتيجي المؤسسي.
وإذا أردنا أن نجمل فإن مصر في حاجة إلى تحديث شامل لنظريتها المعرفية (العامة والاستراتيجية)، مع استعادة الصلة بينهما في سردية جيوثقافية جديدة يبدو تأخرت كثيرا، لتكون هي السردية/ السياسة الثقافية الثالثة لمصر في نظامها الجمهوري.
عودة إلى إسرائيل الجديدة
من سردية أثينا الديمقراطية إلى سردية اسبرطه العسكرية
فيما يخص المتغير الجديد الذي أعلن عنه رئيس وزراء الاحتلال نتانياهو، وتوصيفه دولة الاحتلال بأنها أصبحت تمثل روح اسبرطه القديمة في اليونان، لا يمكن النظر لذلك بمعزل عن السياق العالمي لنظريات الصدام الحضاري وتوظيف أوكرانيا ضد روسيا، وتوظيف تايوان ضد الصين.
بداية نحن أمام تحول رئيس في السرديات الجيوثقافية لمشروع دولة الاحتلال؛ وانتقالها من سردية أثينا واحة الديمقراطية والليبرالية في الشرق الأوسط، إلى سردية اسبرطه المجتمع العسكري المغلق والعدواني (حيث كانت كل من أثينا واسبرطه ترمز لفكرتين مختلفتان في الفكر اليوناني القديم، الأولى ترمز للحوار والديمقراطية والفلسفة والفنون، والثانية ترمز للحكم المؤسسي العسكري المنغلق واحتكاره المجال العام، وشكل المجتمع الشمولي أي الذي يحكمه نمط واحد شامل لكل جوانب الحياة).
نهاية دور اليسار وبزوغ دور اليمين
منذ ظهور المستوطنات الصهيونية في أرض فلسطين العربية وهي تقوم على فكرة المؤسسات؛ بداية ظهرت الدولة على يد مؤسسات اليسار اليهودي الروسي وتنظيماته الحزبية (ومن أهمها منظمة الهيستدروت)، وبعد انتصار أمريكا في الحرب العالمية الثانية وحرب الإرهاب الأولى المسماة باسم حرب النكسة عام 1948م، بدأ دور اليسار اليهودي الروسي وتنظيماته التاريخية في الأفول لأن مشروعه كان يقوم على دولة واحدة بين العرب واليهود، وهو ما قضى عليه قرار تقسيم فلسطين عام 1947م.
وشيئا فشيئا تحولت الضفة إلى اليمين القومي والديني، الذي حرصت أمريكا على أن تقدمه في صورة واحة الديمقراطية ومؤسساتها في صحراء الاستبداد الشرقي (كما يسمونه)، وروجت له كثيرا وسط الليبراليين العرب الذين زاد عددهم بعد هزيمة مشروع الاشتراكية القومية العربية عام 1967م، وبعضهم تحول وارتد من الاشتراكية العربية إلى الليبرالية المنتصرة والمهينة.
اسبرطة ونظرية الصدام الحضاري
ولكن الآن انتهى دور سردية واحة الديمقراطية التي تشبه نموذج أثينا بديمقراطيتها وفلاسفتها وجدلها في اليونان القديمة، وتحتاج نظريات الصدام الحضاري -التي تعد "إسرائيل" وكيلها في المنطقة- إلى سردية جديدة تتوافق مع الدور الجديد، وهي سردية اسبرطه ومجتمع العسكرة الدائمة، حيث كانت مدينة اسبرطه تمثل النقيض من مدينة أثينا في اليونان القديمة.
ما قاله نتانياهو ليس مجرد تعبير بلاغي بل هو تبدل حقيقي في السرديات؛ رصدته منذ شهر أو أكثر بقليل حينما قلت إن إسرائيل تتجه نحو مشروع للعسكرة الدئمة، وأنها تجاوزت صورتها النمطية عن الحروب القصيرة والهشاشة الاقتصادية.
مأزق الذات العربية
إن الذات العربية في وقت صعب للغاية لأنها على مستوى النظرية المعرفية وتوظيف الموارد العامة في سردية فاعلة وواعية؛ تبدو متخلفة بمقدار ربع قرن من الزمان تقريبا عن القوى العالمية الأخرى، وتحديدا عن الثنائي الروسي والصيني لأن كل منهما طور منذ بداية الألفية الجديدة مشروعه الذي ينضج على مهل، روسيا طورت سردية "الأوراسية الجديدة" والصين طورت سردية "الحزام والطريق".
مشكلة الذات العربية/ المصرية المباشرة أنها تتعامل مع الاستراتيجي بتصورات تكتيكية وإجرائية؛ وما زلنا نعيش في وهم التسعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، منفصلين عن الواقع تماما، وندير سياساتنا الخارجية بالقطعة ووفق المستجدات اليومية وتحديثاتها دون تصور سياسي كبير ومشروع جيوثقافي راسخ للوجود على المستوى الدولي كقوة فاعلة، وهذا النمط في إدارة السياسات الخارجية لا مكانة له أبدا في الصراع الجيوثقافي الدائر حاليا في منتصف العقد الثالث من القرن الـ21.
الخاتمة: إما المواجهة والتغيير أو الكارثة
مشكلة الذات العربية/ المصرية أن مشروعها الحضاري/ سرديتها الكبرى/ نظريتها المعرفية في حالة غياب وعجز تام؛ ولا تريد الاعتراف بذلك، ويعتقد البعض أنه يمكن للعمل الإجرائي والتكتيكي أن يعالج الخلل الحضاري والاستراتيجي البين والمميت!
طريق النجاة يبدأ بالاعتراف بالمشكلة والشروع في البحث عن سردية جديدة تواجه الوضع الراهن، لكن ستصبح المشكلة كارثة موقوتة حتمية الانفجار إذا لم نعترف بها، وأغرقنا أنفسنا في المزيد من التفاصيل والإجراءات، والعمل التكتيكي -ومستجداته اليومية- الذي يغمض عينيه عن الهزيمة الحضارية ومتطلباتها، والإرث الثقيل الذي على الذات العربية أن تختار إزاءه ما بين طريقين لا ثالث لهما، أما أن تواجهه وتعترف بالمشكلة، أو تواجه الكارثة والمزيد من الاضمحلال والتراجع الحضاري لصالح الآخر.
ويبقى الأمل...
#حاتم_الجوهرى (هاشتاغ)
Hatem_Elgoharey#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟