حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)
الحوار المتمدن-العدد: 8460 - 2025 / 9 / 9 - 18:11
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
في خضم أزمة غزة ومشروع طرد الفلسطينيين وتهجيرهم، يتردد صدى سؤال واحد بإلحاح: لماذا يبدو العالم العربي والإسلامي عاجزًا عن تقديم إسناد سياسي حقيقي وفعّال للقضية الفلسطينية؟ الإجابة ليست بالبساطة التي قد تبدو عليها إذ أنها لا تكمن في غياب النوايا الحسنة، بل في "الانسداد السياسي" الضعيف الذي فرضته علينا سنوات من الاستقطاب، وأجندات دولية متناقضة، ومشاريع مهيمنة تسعى لإعادة صياغة المنطقة وفق تصوراتها.
هذا المقال العلمي يطرح مقاربة مختلفة، تتجاوز التحليلات التقليدية للعلاقات الدولية وتُقدم إطارًا نظريًا جديدًا يُسمى "الجيوثقافي"، يرى أن الصراع الدائر في المنطقة ليس مجرد تدافع جيوسياسي تقليدي كما كان في القرن الـ21، بل هو صراع سرديات ومشاريع ثقافية وحضارية، يهدف إلى استبدال الهوية العربية الإسلامية بأخرى بديلة واداته الأساسية لذالك هي تفجير التناقضات في مستودع الهوية العربي الإسلامي بينيّا أو داخليا، وخارجيا مع مستودعات الهوية الأخرى القريبة منه.
ولحل هذا الانسداد السياسي القائم، نقترح فكرة غير مألوفة: "تجمع الدول الست من أجل غزة"، وهو تحالف يضم دولًا رئيسة مثل مصر والسعودية وتركيا وإيران وباكستان والإمارات، يهدف إلى تفعيل "المشترك الجيوثقافي العربي الإسلامي" وفق حد أدنى من التوافق، لتشكيل قوة ضغط سياسية قادرة على وقف مشروع تهجير أهل غزة ودعم صمودهم، فهي دعوة لإعادة النظر في التحالفات، والبناء على المشتركات، لتحويل التناقضات إلى شراكة في الهدف، مع حق الجميع في التدافع والتنافس على الصدارة.
الإسناد السياسي والاستقطاب الدولي
بداية علينا الاعتراف أن الاستقطاب الدولي في منطقتنا العربية شديد التأثير على مصير الذات العربية، إذ تتعرض المنطقة لعملية فك وتركيب قاسية بالحديد والنار لتتوافق مع البعض التصورات الجيوثقافية الدولية وهيمنتها، خاصة وأن محور التدافع لكثير من هذه التصورات الجيوثقافية يتركز في ملف فلسطين وحرب غزة الدائرة حاليا، التي يتكشف من خلالها شيئا فشيئا مشكلة الحاضنة العربية الإسلامية وقدرتها على توفير إسناد سياسي فاعل للقضية الفلسطينية، بعدما سار مشروع طرد سكان غزة إلى سيناء علنيا ويوجد إصرار إسرائيلي أمريكي عليه.
إن معنى "التصورات الجيوثقافية" التي ذكرناها في الفقرة السابقة يرتبط بنظرية أطرحها منذ فترة ليست بالقصيرة تحديدا منذ سنوات عدة، حينما عملت على مشروع "المشترك الثقافي العربي" وطورت منه فكرة "الجغرافيا الثقافية"، وكيف أن الجغرافيا المعاصرة في القرن الـ21 لا تحمل طابعها المحدد إلا حينما ترتبط بجوهر ثقافي لجماعة بشرية ما، وقدرته على الصمود في وجه تصورات ثقافية أخرى قد تنافسه على الجغرافيا نفسها.
وفي حرب غزة صرت أستخدم مفهوم "الجيوثقافي" نظيرا لمفهوم "الجغرافيا الثقافية"، وأن العامل الاستراتيجي الرئيس في القرن الـ21 انتقل من "الجيوسياسي" إلى "الجيوثقافي"، أي أن الصراعات والتدافعات في جغرافيا العالم وعلى المستوى الإقليمي أصبحت ترتبط بسرديات ومشاريع ثقافية متدافعة.
من ثم أقصد بتأثير "التصورات الجيوثقافية" الدولية على منطقتنا العربية؛ مشروع أمريكا و"إسرائيل" لاستبدل "الجغرافيا الثقافية" العربية بـ"جغرافيا ثقافية" بديلة، تطرح مفهوم "الشرق الأوسط" وسردية "الاتفاقيات الإبراهيمية" وتعتبر رواية الصهيونية المسيحية وسيادتها، مشروعا للهيمنة على الذات العربية الإسلامية وبديلا يستلب تلك الهوية ويعتبرها الانتصار الأكبر لنظريات الصدام الحضاري بعد تعطل في الملفين الآخرين (أي الملف الروسي والملف الصيني).
وأثر هذه التصورات الجيوثقافية الدولية على تأجيج الاستقطاب السياسي لدى الذات العربية الإسلامية وبلدانها، وتأثير هذا الاستقطاب بتعالقاته الدولية على قدرة الحاضنة العربية الإسلامية على تقديم إسناد سياسي فاعل للقضية الفلسطينية ووقف مشروع طرد السكان العرب خارج فلسطين التاريخية.
مشكلة الانسداد السياسي
وعلّ الهدف من هذه المدخل يرتبط بموضوعها وطرحها البديل الذي تقدمه مقترحا قد يساهم في حل الانسداد الراهن إسنادا للقضية الفلسطينية ودفعا لسيناريو التهجير للوراء، ونحن على مشارف أكتوبر 2025م ومرور عامين على عملية طوفان الأقصى، وفي ظل نبرة التصعيد شديدة الوضوح في خطاب دولة الاحتلال ورئيس وزرائها بنيامين نتانياهو، والإصرار على طرد/ تهجير الفلسطينيين إلى سيناء وتصريحاته الأخيرة التي يتبجح فيها ويقول إن مصر تمنع رغبة الفلسطينيين الذين يريدون الخروج عبر معبر رفح!
والمشكلة موضع البحث والنقاش في هذه المقالة هي تفجر التناقضات في المشروع الجيوثقافي للذات العربية الإسلامية في القرن الحادي والعشرين، وتشرذم المحصلة العامة للقوة الاستراتيجية للبلدان التي تنتمي للذات العربية الإسلامية، والإشكالية أو المعضلة التي ترتبط بهذه المشكلة تنقسم لشقين، أولا: غياب البديل الجامع المشترك، وتمترس كل بلد مع فضائها التاريخي حول عزلتها أو خلافها مع البلدان العربية الإسلامية الأخرى، وثانيا حضور تعالقات وعلاقات شراكة متنوعة ومتفاوتة بين هذه البلدان العربية الإسلامية وبين السرديات الدولية المهيمنة، وعلى رأسها سردية الهيمنة الأمريكية ومشروعها للصدام الحضاري، خاصة وأن هذه الشركات ترتبط بتفجير التناقضات البينية بين الدول العربية والإسلامية.
الفرضية البديلة: المشترك الجيوثقافي العربي الإسلامي
وتفعيله وفق الحد الأدنى
وستقدم هذه المقالة فرضية بديلة لمسألة الانسداد السياسي في دعم قضية غزة ووقف مشروع التهجير ودفعه للوراء، وهذه الفرضية ترى أن اجتماع الفرقاء هو الحل، وأن تفعيل المشترك الجيوثقافي العربي الإسلامي وفق "الحد الأدنى" بديلا يكاد يمثل فرصة وحيدة لتحقق الإسناد السياسي في حرب غزة ودفع مشروع طرد الفلسطينيين للوراء، وتقوم هذه الفرضية على شكل تطبيقي يكون العمود الفقري أو الهيكل الأساسي لهذا المشترك الجيوثقافي العربي الإسلامي، يقوم على ست دول هي مصر والسعودية وتركيا وإيران وباكستان والإمارات.
تجمع الدول الست من أجل غزة
هذه البلدان الست يمكن أن نسميها "تجمع الدول الست من أجل غزة" ويمكن لهذه الدول أن تعقد اجتماعا على مستوى القمة في أقرب فرصة، تأسيا لمشروع إسناد سياسي عاجل لغزة ووقف مشروع طرد/ تهجير الفلسطينيين خارج أرضهم وباتجاه فلسطين تحديدا، هذه البلدان الست تملك أدوات سياسية متعددة للضغط على أمريكا وإسرائيل، ولكنها فقط تحتاج إلى أفق جيوثقافي جديد يجمع كل هذه البلدان ومشاريعها المتباينة وفق حدود دنيا ومشتركة، تفعيلا للفرضية البديلة التي تطرحها هذه المقالة حول المشترك الجيوثقافي العربي الإسلامي، سعيا لحل مشكلة الإسناد السياسي لغزة ومسألة طرد الفلسطينيين منها، وكذلك إسنادا سياسيا لمصر في مواجهتها لمشروع طرد الفلسطينيين إلى سيناء.
فيمكن لهذه الدول ان تتفق على ورقة عمل أو "إعلان مبادئ" في لقاء قمة، يتكون من عدة نقاط تشمل:
- وقف استخدام التجويع سلاحا ضد الفلسطينيين
- مكاتبة المؤسسات الأممية ذات الصلة لضمان نفاذ المساعدات ووصولها للفلسطينيين
- التأكيد على حل الدولتين
- رفض مشروع الطرد والتهجير
- مساندة مصر سياسيا في كل خطوة تخطوها مواجهة لعملية الطرد والتهجير
- تبني رؤى مشتركة لإعمار غزة ما بعد الحرب
وعلى المستوى التطبيقي يمكن لهذه الدول التأثير في مختلف الفضاءات الجيوثقافية؛ فيمكنها التأثير في المؤسسات الآسيوية من خلال باكستان وإيران، ويمكنها التأثير على المؤسسات الأوربية من خلال تركيا، و التأثير على الاتحاد الافريقي من خلال مصر، والضغط على أمريكا من خلال السعودية والإمارات؛ إضافة إلى العديد من الفضاءات الأخرى التي يمكن لهذا السداسي أو "تجمع الدول الست من أجل غزة" التحرك فيها وتفعيها لصالح بناء هذا الإسناد السياسي.
دفع مشروع التهجير سياسيا للوراء ومن خلال تشكيل قوة ضاغطة عالمية؛ قد يتوقف على هذا السداسي وقدرته على بناء تكتل جيوثقافي جديد يدافع عن الوجود الحضاري والهوياتي للعرب والمسلمين، وتحديداً في قضية فلسطين التي يعتبرها ترامب محور الصدام الحضاري في منطقة الشرق الأوسط، وفرصته لإثبات تفوقه في ظل تعطل مشروع الهمينة الحضارية في ملف روسيا وحرب أوكرانيا، وملف الصين وموضوع تمرد تايوان عليها.
شراكة التدافع والتنافس وفق الهداف الجامع
وحقيقة يجب الوعي بمبادئ سياسية مهمة في خلال طرح مثل هذه الفرضية التي تقدمها هذه المقالة العلمية؛ وهي أن المشترك الجيوثقافي العربي الإسلامي وتفعيله وفق تصورات لحد أدنى و"إعلان مبادي"، لا يمنع أنها شراكة ستقوم على التدافع والتنافس في الهدف الجامع، وأن فرضية المشترك الجيوثقافي العربي الإسلامي وفق حده الأدنى، لابد أن تعي وتدرك أن هناك سردية شيعية ستنافس السردية السنية على الصدارة، وان هناك تنافسا عربيا تركيا سيحضر على تصدر السردية الإسلامية ذاتها، وانه على المستوى العربي سيكون هناك تنافس بين المراكز التاريخية القديمة التي تمثلها مصر وبين القوى الخليجية الصاعدة التي تمثلها السعودية والإمارات، وكذلك أنه سيحق لباكستان أن تفخر بأن لها مكانة قوة عسكرية كبرى داخل هذا التجمع السداسي من أجل غزة.
خاتمة: من التوافق الكامل إلى المشترك الممكن
في نهاية المطاف، إن مقترح "تجمع الدول الست من أجل غزة" بوصفه مقاربة في الإسناد السياسي، ليس مجرد حل تكتيكي لأزمة عابرة، بل هو دعوة لتأسيس نظام جيوثقافي جديد يدرك أن الصراع الحقيقي لم يعد على الحدود السياسية فقط، بل أصبح صراعا على الهوية والسردية السائدة خاصة بعد سيطرة مشروع الصدام الحضاري على السياسات الخارجية الأمريكية.,
إن الانسداد السياسي الحالي يثبت أن الأدوات التقليدية قد فقدت فعاليتها، وأن التشرذم والتناقضات قد أصبحا الخطر الأكبر على الوجود الحضاري للذات العربية الإسلامية، وقد تبدو فكرة العمل سويا من أطراف متنافسة مثل مصر وتركيا وإيران والسعودية وباكستان والإمارات ضربًا من الخيال، لكنها قد تكون الفرصة الوحيدة لإعادة تشكيل موازين القوى الجيوثقافيثة في عالم القرن الـ21، ووفق فرضية حضارية جديدة لن أملّ من تكرارها والتأكيد عليها.
إن التحدي الحقيقي ليس في تحقيق توافق كامل فهذا ليس من طبع البشر ولا سنن الحياة أصلا، بل في طرح الحد الأدنى المشترك الذي يمكن أن يوحد الجهود في معركة مصيرية لا تحتمل التأجيل، فهل يمكن لهذا التكتل أن يثبت للعالم أن الهوية قادرة على بناء تحالفات تفوق الاعتبارات السياسية الضيقة، وأن فلسطين هي البوصلة التي يمكن أن تعيد رسم خريطة الشرق الأوسط من جديد؟
وفي إجابة السؤال يبقى الأمل..
#حاتم_الجوهرى (هاشتاغ)
Hatem_Elgoharey#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟