حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)
الحوار المتمدن-العدد: 8373 - 2025 / 6 / 14 - 10:29
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
لم تحمل الضربة "الإسرائيلية" الجديدة لإيران فجر أمس الجمعة مفاجآت كثيرة حقيقة؛ سوى على مستويين فقط، الأول هو التوقيت ومدى الاستخفاف الشديد من دونالد ترامب والوزن النسبي الذي يمنحه لدول الخليج بعد زيارة خارجية صاحبها صخب إعلامي شديد، وصفها البعض بأنها تدشين لميلاد شرق أوسط جديد، والثاني هو التقارير الإخبارية التي أعلنت قرب تخطي إيران عتبة السلاح النووي.
المستوى الأول؛ كان من المفترض بعد زيارة ترامب أن يحاول وضع حد أدنى من إدارة التناقضات الإقليمية، بما يحافظ على ما وجه المركز العربي الخليجي الجديد الذي يروج له (وما تلاه من دعاوي لنقل مقر جامعة الدول العربية وتغيير بروتوكول تعيين أمينها العام)، لكن يبدو أن دونالد ترامب أراد أن يكون واضحا في سياساته الخارجية، التي يليق بها تماما أن نصفها بالتصور "الامبراطوري" لرئيس دولة يرى أنه يرأس امبراطورية تهيمن على الكوكب برمته، من ثم أراد أن يقول لدول الخليج/ المركز الجديد الذي يرعاه، نعم أتيت وحصلت منكم على أموال طائلة، ولكن وزنكم النسبي عندي يعني أنكم وغيركم تأتون في ذيل القائمة للمركز الحقيقي للشرق الأوسط الجديد، الذي تمثله "إسرائيل" وليس غيرها وكيلا حصريا عن الامبراطورية الأمريكية.
هذا كان مستوى المفاجأة الأول حقيقة عندما أراد دونالد ترامب أن تكون الرسالة واضحة وقاسية؛ أراد القول: نعم أنا السيد الامبراطور وكلكم أسرى لقوتي وبطشي ولا أعطيكم وزنا أكبر من حجمكم.
أما المستوى الثاني؛ والذي يبدو أنه كان هو السبب الحقيقي لتنفيذ الضرية الجديدة في موعدها، فهو العتبة النووية للشرق الأوسط الجديد، إذ خرجت العديد من التقارير تفيد بأن إيران كانت على وشك الوصول لمرحلة اللاعودة في برنامجها النووي، وإنتاج رؤوس عدة من الأسلحة النووية.
إجمال ما حدث وإطاره العام، أنه تفاهمت أمريكا الامبراطورية مع "إسرائيل" وكيلها في بلاد العرب والمسلمين على الخطة؛ أمريكا توهم إيران بأنها تشترى منها استراتيجية طول النفس وكسب الوقت في المفاوضات، التي توسطت فيها سلطنة عمان وعقد منها جولات عدة وكانت هناك جولة مقررة يوم غد الأحد، بينما "إسرائيل" تتجهز بالسلاح الأمريكي لضرب المنشآت النووية الإيرانية الكفيلة بإبعاد إيران عن العتبة النووية، لتظل "إسرائيل" هي الكيان السياسي الوحيد في بلاد العرب والمسلمين التي حازت العتبة النووية ممثلة عن الحضارة الغربية المسيحية في المرحلة الإمبراطورية الأمريكية (مع الإشارة للظروف الخاصة للقنبلة النووية الباكستانية).
هذا بالضبط هو الإطار العام والمحددات الاستراتيجية للضربة الواسعة التي شنتها "إسرائيل" على إيران، بمساعدة القوى الغربية المختلفة، والذي تواكب مع إعلان فرنسا وتأجيل ماكرون –وربما إلغاء- المؤتمر الدولي الذي كان سيعقد في الأمم المتحدة في غضون أسبوع للتأكيد على حل الدولتين وبحث الاعتراف بدولة فلسطينية، في الوقت نفسه الذي أعلن فيه الرئيس ماكرون وشدد على أنه "إذا تعرضت إسرائيل لهجوم كجزء من رد إيراني، فإن باريس ستشارك في عمليات الحماية والدفاع عن إسرائيل"...!
من ثم يمكن وصف المشهد العام للشرق الأوسط الجديد وتقدير الموقف الراهن كما يلي؛ ترامب عاد بكل وضوح لاستكمال مخطط "صفقة القرن" "والاتفاقيات الإبراهيمية" ومشروع السلام الاقتصادي (السلام من أجل الازدهار) دون أي حقوق سياسية لفلسطين/ العرب، معتبرا أنهم مجرد بشر منزوعي الهوية يجب أن يكونوا حطبا في السردية الأمريكية الامبراطورية الجديدة ووقودا لها.
أما مشروع القومية العربية؛ فقد تفككت الدولة الثانية التي كانت حجرا للزاوية فيه، وهي سوريا، بعد تفكيك العراق، ويتم حصار مصر من كافة الاتجاهات بعدما استنفذت أمريكا و"إسرائيل" كافة أغراضهما من مرحلة "كامب دافيد"، والجزائر يتم تجهيز العدة لها لشغلها بالتناقضات الإقليمية وإرث المرحلة الاستعمارية القديم مع دول الجوار.
ليصبح الأمر واضحا؛ مشروع الشرق الأسط الجديد لا تريد أمريكا أن يكون فيه لاعبين تجاوزوا العتبة النووية سوى "إسرائيل" وكيل الامبراطورية الأمريكية، الغرب عموما يريد دولة فلسطينية صورية تخضع للهيمنة الحضارية له مع وجود حقوق فردية في إطار ما يسمى "دولة الليبرالية الديمقراطية"، بالتوازي مع كبح جماح نتانياهو نسبيا وضبط تصريحاته التي تكرر علانية مشروع الإبادة والتهجير كي لا يحرج الغرب، والصين وروسيا تعتبران الشرق الأوسط جبهة عسكرية مفتوحة لتخفيف الحمل الاستراتيجي والعسكري عليهما في ملفي أوكرانيا وتايوان.
والدول العربية والإسلامية لم تتخط بعد الأزمة الحضارية لتفكك الدولة العثمانية الرمز السياسي للشرق المسلم وآخر تجلياته قبل زوالها، ولم تفلح تلك الدول بعد في التوصل إلى سردية جديدة تتجاوز التناقضات التي تسببت لها بها مرحلة الحداثة والعلمانية والدولة الوطنية، والاشتباك مع مشروع الحضارة الشمولية المطلقة الغربية، سواء في تمثلها المسيحي الليبرالي أو في تمثلها العلماني الماركسي.
والنخب العربية أسيرة لكل التناقضات السابقة تجمع ما بين رفع الصوت بالاحتجاج، لكن مع غياب رؤية حضارية لتخطى الأزمة، واكتفاء معظمها بإلقاء اللوم السياسي على البنية السياسية لدولة ما بعد الاستقلال عن الاحتلال منذ أوسط القرن الماضي، ذلك إلى جوار الظاهرة الجديدة لمنصات اليوتيوب والفيس بوك التي تحمل تراشقا صفريا بين أنصار دولة ما بعد الاستقلال وبنيتها السياسية، وبين الذين يلومونها ويصفونها بالجمود والعجز.
أما عن مستقبل اللحظة الراهنة للشرق الأوسط الجديد فسيتحكم به عامل رئيس؛ هو هل تخطت إيران العتبة النووية بالفعل وتستطيع أن تفاجئ العالم بتجربة نووية، لتحقق انتصارا استراتيجيا ويتم الاعتراف بها كقوة عظمى في الشرق الأوسط الجديد، وتنتهي لاعبة عض الأصابع وسياسة "حافة الهاوية" بينها وبين أمريكا و"إسرائيل"، أم لا..!
إذا تمكنت إيران من إجراء تجربة نووية سيكون الأمر قد حسم في مفاجأة كبرى، أما إذا لم تتمكن إيران من ذلك، فسيعود التراشق بينها وبين "إسرائيل" إلى مرحلة الوزن النسبي التقليدي، وسينتهي التراشق بعدما تتأكد "إسرئيل" وأمريكا بأن إيران لن تعود إلى عتبة البوابة النووية قريبا أو بشكل نهائي.
ويبقى السؤال؛ هل من أفق قريب لاسترداد المبادرة الحضارية في بلاد العرب والمسلمين ومواجهة التمدد الغربي بمشروعه عن الحضارة المسيحية المطلقة والمهيمنة التي أسس لها هيجل الفيلسوف الجرماني؟
والإجابة شديدة البساطة: لا توجد سردية حضارية وجيوثقافية استطاعت تجاوز تناقضات الذات العربية الإسلامية؛ خاصة بعد انسداد مشاريع القرن العشرين المتمثلة في القومية الاشتراكية العربية والخلافة العثمانية، وغياب الوعي الحقيقي عند سرديات المعارضة العربية بتأزم موقفها التاريخي أو الفكري أو السياسي..
بمعنى عجز اليسار العربي وغياب الوعي الثقافي والعلمي الحقيقي بأن الماركسية كانت جزء من المركزية الأوربية وتمثل مشروعا شموليا ثقافيا مطلقا ينفي كافة التمثلات الحضارية للآخر، بحجة مواجهة مشروع المثالية المسيحية الشمولية التي أسس لها هيجل، والتي تعد الأب التاريخي لدولة الديمقراطية الليبرالية والامبراطورية الأمريكية الحالية... كما أن فرق الدين السياسي في بلاد العرب والمسلمين (وفي مركزها الإخوان) لم تستطع أن تطور مشروعا حضاريا أبعد من رد الفعل المضاد وطرح سردية دينية شمولية مطلقة ردا على الشمولية الغربية المادية الماركسية أو المثالية الهيجلية.. والليبراليون العرب يتجاهلون بشدة المحمول الثقافي العنصري لليبرالية الغربية الذي ارتبط تاريخيا بالمسيحية وتفوق الرجل الأبيض ومركزيته..!
وهكذا لا أفق استراتيجي حضاري أو جيوثقافي حقيقي لمواجهة الامبراطورية الأمريكية ووكيلتها "إسرائيل"؛ في ظل انسداد السرديات العربية والإسلامية البديلة، وتمترس كل منها حول وهم نضاله التاريخي أو إرثه السياسي أو سلطته السياسية المستقرة وتراتباتها الاجتماعية، وما قضية فلسطين سوى رمز للصراع بين السردية الغربية الامبراطورية الأمريكية في القرن الـ21 والسرديات العربية والإسلامية المنسدة وإرث القرن الماضي سلطة ومعارضة.
لكن يبقى الأمل؛ نعم يبقى الأمل في القدرة على الحل وتغيير العالم ومواجهة السردية الامبراطورية الأمريكية، إذا خرجت كتلة عربية جامعة تدافع عن "مستودع هويتها" بمختلف مكوناته المتراكمة، وتتجاوز المحاصصة الهوياتية والتناقضات الأيديولوجية التاريخية، وقدمت سردية جديدة تتحول إلى تمفصل ثقافي يؤدي إلى ظهور تراكم حضاري ممكن عبر الزمن، بما يغير من معادلة القوى الراهنة ويستعيد المبادرة الحضارية ويؤكد على الحق في التنوع الثقافي الحقيقي، بعيدا عن وهم المسألة الأوربية ومتلازماتها الثقافية المادية والمثالية..
وهكذا يبقى الأمل حقيقة
في تغيير العالم للأفضل
وتقديم نموذج حضاري جديد قائم على التعايش والوجود المشترك وما بعد المسألة الأوربية ووهم الحضارة الشمولية المطلقة
يبقى الأمل لتغيير العالم.
#حاتم_الجوهرى (هاشتاغ)
Hatem_Elgoharey#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟